مع تطور الحياة وظهور اكتشافات جديدة ودخول أمور كثيرة لم نعتدها سابقًا إلى حياتنا، تنشأ دائمًا معضلات أخلاقية ودينية جديدة تحتاج إلى فتاوى وآراء؛ لتقنن هذه الأمور التي جدت على الحياة.. لذا فمع انتشار الإنترنت في دولنا العربية بدأ فرع جديد من الفتاوى يتحدّث عن التعاملات عبر الإنترنت ويحاول القياس والتقنين لهذه المعاملات، ومن أكثر المعاملات عبر الشبكة العنكبوتية التي أخذت الكثير من الأخذ والرد اجتماعيًا ودينيًا هي المحادثات أو "الشات"، وخاصة عندما تكون هذه المحادثة بين شاب وفتاة.. وقد ظهر العديد من الآراء الدينية حول هذا الأمر وكان آخرها هو أهمها؛ لأنها فتوى لم تصدر كمجرد رأي لأحد المشايخ، ولكنها ظهرت كفتوى من دار إفتاء لها ثقلها وهي دار الإفتاء الأردنية، وقد صدرت الفتوى بناء على طلب دائرة القضاء الشرعي في الأردن تحت رقم 310 وكان نصها الآتي: "تُحرّم المحادثة الخاصة بين الشاب والفتاة عبر ما يُسمى ب"الشات"، ولو في أمور عامة ومباحة، وذلك لما يترتب على هذه المحادثات من تساهل في الحديث، يدعو إلى الإعجاب والافتتان غالباً، ويفتح للشيطان بابا للمعاصي، فيبدأ الحديث بالكلام المباح، لينتقل بعد ذلك إلى كلام العشق والغرام، وبعدها إلى المواعدة واللقاء، وقد جَرّت بعض هذه المحادثات على أهلها شراً وبلاءً، فأوقعتهم في العشق المُحرّم، وقادت بعضهم إلى الفاحشة الكبيرة، والله عزّ وجلّ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. ولما رأى النبي "صلى الله عليه وسلم" ابن عمه الفضل بن العباس يحدّ النظر إلى إحدى النساء، لوى عُنُقَه ليصرفه عن النظر إليها، وقَالَ: "رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا" [رواه الترمذي (885) وقال: حسن صحيح]. كما جاءت الشريعة بسد الأبواب المفضية إلى الفتنة، فحرمت الخضوع بالقول في محادثة النساء للرجال، ومنعت الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية في مكان واحد، بل ونص الفقهاء على المنع من إلقاء الشاب السلام على المرأة الشابة في الطريق؛ لما يخشى من وقوع الفتنة. كل ذلك دليل على المنع من هذه المحادثات الخاصة، والمشاركة فيها، فليكن حديث الفتاة مع الفتيات فقط، وحديث الشاب مع الشباب فقط. والله أعلم".
وكما نرى فإن الفتوى حرمت المحادثات بين الجنسين تحريما قطعيًا بحجة سد الذرائع وعدم الوقوع في الفتنة، وقد اعترض على هذه الفتوى عدد من رجال الدين بالأردن؛ ومنهم أستاذ الشريعة الإسلامية الدكتور أمجد قورشة الذي وضح: "أن أصل الكلام بين الرجل والمرأة ليس محرما وأن التحريم جاء على خضوع المرأة بالقول، ولم يأتِ النص الشرعي بتحريم الكلام وأن "الشات" هو نوع من أنواع المحادثة، وبما أنه لا يوجد له أصل فإنه يقاس إلى أقرب قريب له وهو المحادثة والمخاطبة بين الرجل والمرأة، وأن أصول المخاطبة الشرعية أن المرأة لا يجوز أن تخاطب الرجل إذا لم تكن متحجبة، أو إذا كانت متعطرة، أو في حال الخلوة مع الرجل الأجنبي وأن كل هذه الضوابط منتفية من التحدث عبر الماسنجر وطرق التواصل المختلفة عبر الإنترنت، باستثناء المحادثات المصورة التي اتفق على تحريمها بين الشاب والفتاة، وأن الشرع الحنيف حدد التواصل بين الرجل والمرأة بالقول المعروف الذي ينطبق عليه فقط ما هو متعارف عليه على أنه ليس حراماً أو عيباً أو ما يخرج عن الحياء أو أي نوع من أنواع الإيحاء بالخصوصية وأن أي ذكر للخصوصيات بين الشاب والفتاة خلال التواصل عبر الإنترنت هو الخلوة بعينها". أما عن آراء الشباب حول هذه الفتوى وحول فكرة الشات نفسها ومدى تأثير الفتوى عليهم فلقد أجرينا بعض الحوارات مع شباب مختلفين، فكان هناك تباين في الآراء وإن غلبت الآراء التي ترفض الفتوى، وقد تركز الحوار حول ثلاثة أسئلة.. رأي الشباب في الشات بين الشاب والفتاة؟ ورأيهم بما قيل بالفتوى؟ هل تأثرت آراؤهم بهذه الفتوى؟ أي هل سيستمرون في إجراء محادثات بعدها أم سيتوقفون؟ علاء محمد رضوان 18 سنة من مصر وطالب بكلية العلوم، رأى أن الشات وسيلة للتعارف وقتل الملل ليس إلا، ولا يجب أن تأخذ هذه المساحة من الاهتمام، طالما الشاب لا يعطيها أكثر من وقتها الطبيعي ولا يتجاوز في التعامل معها.. ورفض الفتوى جملة وتفصيلاً وأكد أن بعض الفتاوى التي تصدر -للأسف- لا تراعي مقتضيات العصر ولا تكون واقعية في عرضها، وذلك يجعل الجميع لا يلتفت لتنفيذ ما ورد بها. ولا يرى أن الفتوى قد فرقت معه فلقد سمع أقوالا مشابهة لها من بعض المشايخ في السابق، ولكن ذلك لم يؤثر فيه فهو لا يتجاوز في الأصل، فلماذا يلتفت لما يضيق الحياة على الآخرين؟ أما محمد سليم 20 سنة من مصر وطالب بكلية الهندسة، فهو أيضًا مختلف مع نص الفتوى ويرى أنه لا يصح إطلاق الأحكام على المطلق، فالشات مثله مثل أي شيء مثل أي مجال اختلاط آخر.. ويرى أن المفترض أن يكون تدخل الدين في هذه النقطة هو وضع الضوابط وليس التحريم في المطلق؛ لأن هذا غير واقعي وغير قابل للحدوث. وعن كون الفتوى فرقت معه وجعلته يُغيّر رأيه؟؟ قال إن الفتوى جعلته يفكر في الأمر ويبدأ في وضع الضوابط لنفسه، ولكن بدون تعميم أو إطلاق. على النقيض تمامًا محمد علي 23 سنة من السعودية ويعمل صيدليا، يرى أن الشات بين الشباب والفتيات حرام شرعًا، وأنه تضييع للوقت حيث يمكن أن يستفاد منه فيما هو أهم، ويؤكد على اقتناعه بعدم وجود حاجة لمثل هذه الحوارات، وأنه يجب أن تقتصر الحوارات بين الشباب والفتيات في الأمور المُلحة فقط. ويتفق مع الفتوى بشكل كامل، ويرى أنه يجب تعميم مثل هذه الفتاوى النافعة، ويتمنى أن يستمع الشباب لصوت الدين والعقل.. ويقول إن الفتوى قد أثرت به رغم إنه لم يكن من مستخدمي الشات، ولكنها أفادته في عرضها على أخيه الأصغر ليقنعه بوجهة نظره.
أيضًا عندما سُئل عمر محمد الأمين 25 سنة من السودان ويقيم بكرواتيا، قال إنه لا يجد أي مشاكل من أي نوع في الشات، مثله مثل أي محادثة بين شاب وفتاة في الجامعة مثلا.. وقد يكون هناك من يستغل هذه المحادثات ليتجاوز حدوده، ولكن هذه أقلية ويمكن دائما للطرف الذي يجد أن الطرف الآخر بدأ يستسهل الحديث أن ينهي المحادثة. وأوضح أنه مختلف مع الفتوى، ويرى ما جاء بها افتراضات قد تحدث وقد لا تحدث.. وأن هذه أشياء لا يمكن لأحد الجزم بها. وعن تأثير الفتوى عليه قال إنه لا يمارس الشات أصلا منذ زمن لضيق الوقت، ولكن هذا لا يعني إنه سيتوقف عنه، فالتوقف الحالي سببه ضيق الوقت ليس أكثر وأن الفتوى لم تؤثر على فكره هذا. وعن رأي الفتيات فقد رأت عزيزة سعود العذوبي 26 سنة من سلطنة عمان طبيبة بيطرية أن الشات بين الشاب والفتاة كغيره من المحادثات المباشرة بينهما.. عدا أن الفارق الوحيد أن كليهما لا يستطيعان رؤية بعضهما إلا بأدوات إضافية.. وهذه المحادثات لا تفرق شيئا عن المحادثات التي تتم بين فتاة وأخرى أو ذكر وآخر، ورأت أنه على العكس غرف الشات قد تمثل أحد التحديات التي تواجه بعض المراهقين خلال تجاربهم الأولى في عالم الشات، وأن هذه التحديات لا تتمثل بشكل قاطع بين الجنسين، ولكنها متنوعة ومختلفة باختلاف المتعاطين لهذه المحادثات وميولهم الشخصية.. وأنها لا تتفق مع من يضع اللوم كله على الشات أو يضعه شماعة لمجموعة من المواقف الشاذة الناتجة عن بعض المحادثات بين الشاب والفتاة في غرف الشات. ولا تتفق عزيزة مع الفتوى بل تقول إنه عن تجربتها الشخصية والوقت الذي أمضته في غرف الشات وما زالت تمضيه فإن لديها الكثير من الأصدقاء الذكور، وأن محاور الحديث بينهم تتحدد بفكر الشخص والغاية التي يسعى إليها.. وأنها استفادت كثيرًا من الشات مع الجنسين في تحسين وتسريع طباعتها على الحاسوب وكذلك التحدث والتعرف على مجموعة مختلفة من البشر على اختلاف أجناسهم والتحاور في الكثير من الأمور التي استفادت منها. وعن تأثير الفتوى عليها فقد أكدت أنها لم تتأثر بالطبع.. وأن استمرارها من عدمه منوط بها أولا وأخيرا.. وكإجابة صريحة منها أنها لن تتوقف عن الشات. وكان آخر رأي هو أمل علي الجزواني 21 سنة من الأردن طالبة طب، وترى أن الشات وسيلة جيدة جدًا لتعارف والتحادث عن الأمور المختلفة دون أي نوع من الاحتكاك أو الحرج بين الفتى والفتاة، وتتفق مع طبيعة الفتاة الخجولة في المواجهة، وتتساءل: طالما أن الكلام في نطاق المباح فما المانع؟ وتختلف أيضًا مع الفتوى وتشعر أنها تسيء لها بالأخص لكونها أردنية، فهي لا تتفق مع روح العصر، فالشباب الآن بالفعل يتحدثون ويتحاورون ويُلقي بعضهم السلام على بعض، وطالما هذا الأمر بلا أي تجاوزات.. فلماذا فرضت الفتوى أن الشباب والفتيات مجموعة من المرضى المنتظرين فرصة ليتكلموا في الأمور الشائنة وأنه لا ضابط لهم إلا المنع؟!! وترى أمل أن مَن يتحدث باحترام في الحياة العادية مع الجنس الآخر سيلتزم بذات الاحترام في الشات ومن يتجاوز سيتجاوز، وهذا لا يحتاج إلى فتوى مخصصة لشات بل يحتاج إلى من يعرفه بأن أفعاله كلها في هذا الصدد خاطئة. وأكدت أن الفتوى لم تؤثر بها من قريب أو بعيد، وأنها لن تغيّر من رأيها حول الشات. والحقيقة كما نرى فإن أغلب الشباب كان رافضا للفتوى، ويرى فيها تعميما غير محبب وإطلاقا للإحكام، بل لقد دعا بعض المشايخ لتوضيح الحدود المسموح بها والضوابط التي يجب أن يتبعها الشباب عند التحاور، فهذه الفتاوى التي تقنن وتنظم الأمور أكثر قدرة على الوصول إلى الشباب، ووضع قواعد جيدة تنظم فوضى الشات التي نعترف بأنها متواجدة، ولكنها لا تحتاج إلى المنع المطلق باسم الدين خاصة مع اختلاف الكثير من العلماء الثقات مع هذا الرأي كفتوى مفتي جمهورية مصر العربية د.علي جمعة ردًا عن سؤال حول حكم الدردشة بين الشاب والفتاة حيث قال: "الشات باعتباره تواصلا بين فريقين حتى لو كان الفريق شخصا واحدا -بغض النظر عن جنس هذا الفريق ولدا أو بنتا وبغض النظر عن العدد وعن البلد والدين- ليس إلا شكلا من أشكال الكلام، والكلام عموما ينقسم إلى قسمين: قسم قبيح وقسم صحيح، الفارق بينهما تحدده معايير ومقاييس نقيس بها القبيح من الصحيح.. وحدد هذه المعايير في: النية: وهي تتمركز في الغرض من المحادثة والهدف من ورائها. وصف الواقع على ما هو عليه: بمعنى عدم الكذب بادعاء شخص لشيء ليس فيه أو تغيّر نوعه أو إيهام الآخر بشيء غير موجود. المعاونة: وهي باتباع قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بألا يكتفي بأنه لا يكذب بل عليه النصيحة لمن يراه يفعل ذلك فينهي عن المنكر ويأمر بالمعروف. وعامة في النهاية، فإن في اختلاف العلماء رحمة لنا لنختار ما يتفق مع عقولنا وترتاح له قلوبنا مما ورد لدى علماء ثقات.