لم يفُت أحداً متابعة المظاهرات العارمة التي دوّت هتافاتها بدير مواس بالمنيا ثم بالكاتدرائية الكبرى بالعباسية خلال الفترة الماضية؛ احتجاجاً على ما وصفه بعض الأقباط ب"اختطاف" زوجة كاهن الدير "تادرس سمعان" السيدة "كاميليا شحاتة"، وتردد إشاعات عن إكراهها على الإسلام كنوع من أنواع الإساءة لسمعة الكنيسة. وبعد مرور خمسة أيام على اختفاء السيدة "كاميليا"، نجحت قوات أمن الدولة في العثور عليها بصحبة ابنة خالتها -التي سبق وخلعت زوجها "الكاهن" قبل عام- حيث تبيّن أن خلافات عائلية قد ضربت بين الطرفين استدعت رحيل الزوجة عن بيت زوجها، وأن الأمر لم يكن فيه أية شبهة طائفية أو جنائية على الإطلاق. فكرة التظاهر بصفة عامة، فكرة باتت مألوفة في مصر خلال السنوات الخمس الماضية، كخيار أول ووحيد لحل أي مشكلة مهما كانت، على الرغم من أنه ليس الخيار الأول ولا حتى الوحيد، ولكن التأخر، وأحيانا العزوف الحكومي عن التعامل مع الأطراف المعنيّة بالمشكلة هو ما يدفعهم للجوء لهذه الخطوة. وقد يكون من الوارد أن يسرع العمال باللجوء إلى التظاهر لحل مشكلاتهم وكذلك النشطاء السياسيون والموظفون وغيرهم من فئات الشعب، وهو حق أصيل أيضاً للإخوة الأقباط في التعامل مع مشكلاتهم الكنسية ولكن.. بات واضحاً من لجوء الأقباط إلى التظاهر في أي وكل مشكلة تتعرض لها الكنيسة؛ بحيث يكون التظاهر سابقا على التفاوض أو إثارة الموضوع إعلاميا، فضلا عن عدم تفويت الفرصة في أي مناسبة للجوء إلى التظاهر، بات واضحا من كل هذه الدلالات أن هناك حالة من الاحتقان والتحفز دائما في انتظار البدء من أجل الانفجار ولكن أيضا تبقى المشكلة. المشكلة هي في الانطباع الذي بدأ يتسرب داخل نفوس البعض من أن هذه المظاهرات المتكررة بهذا الشكل تحمل رسالة بين السطور مفادها أن هناك حالة من الاستقواء يمارسها الأقباط ضد الفئات الأخرى وليس الحكومة -حتى وإن كان ذلك غير صحيح- وهذه هي المشكلة، فأكبر كارثة يمكن أن نقع فيها هي أن تتحول حالة الاحتقان القائمة حاليا بين الأقباط والحكومة إلى احتقان بين الأقباط وباقي طوائف الشعب، فيكون إلقاء الاتهامات بالخطف والأسلمة الجبرية هي دائما التخمينات المبدئية لأي حالة اختفاء تحدث هنا أو هناك. ورغم أن إخوان الأقباط في هذا الوطن (أي المسلمين) على علم بأنه لو كان هناك اضطهاد فِعْلي يُمارس في هذا البلد، فهم شركاء فيه أيضا بقدر ما هم شركاء في الوطن نفسه، إلا أنه كما ذكرنا بدأ يتسرب إليهم إحساس بأن هناك حالة من الاستقواء المتعمّدة، فما لبث أن انتهت مشكلة زوجة الكاهن حتى بدأت مشكلة جديدة حول مطرانية مغاغة، والخلاف الدائر حاليا بين الكنيسة ومحافظ المنيا اللواء "أحمد ضياء الدين داوود" بسبب ادّعاء الأخير إخلال الأنبا "أغاثون" أسقف المطرانية بشروط العقد الموقّع بين الطرفين من أجل إنشاء كنيسة جديدة. الحكومة في حد ذاتها مسئولة عن هذا الإحساس الموجود لدى الطرفين (إحساس الأقباط باضطهاد المسلمين لهم، وإحساس المسلمين باستقواء الأقباط عليهم باستخدام كارت الأقلية الرابح دائماً). فالشروط والإجراءات المعقّدة التي كانت تضعها الحكومة في الماضي على سبيل المثال فيما يتعلق ببناء الكنائس، وكمّ العراقيل التي كانت تواجه أي مؤسسة دينية مسيحية في إقامة الكنائس جعل الأقباط يتلقفون إحساس الاضطهاد وينسبونه للمسلمين.. استمرت مسئولية الحكومة عن توتر الوضع بين الطرفين عندما تخلّت عن تحكيم القضاء العادل في القضايا الخلافية التي كانت تنشب بين "أفراد" مسيحيين و"أفراد" مسلمين سواء كانت خلافات اجتماعية أو مالية، وتلجأ في ذلك إلى الجلسات العرفية والصلح الزائف على شاشات التليفزيون دون مراعاة أي تعويض فعلي لخسائر الجانب المتضرر، أو جزاء حق على الجاني؛ لتنتقل النيران من العلن إلى الخفاء أسفل الرماد لبعض الوقت؛ لتشتعل من جديد مع أقرب فرصة. أخطأ أيضاً أسقف دير مواس عندما سمح للوضع بأن يشتعل رغم أنه أكثر من يعلم بالخلافات العائلية الموجودة بين الزوجين.. فبحق الإله الذي نشترك سويا (مسلمين ومسيحيين) في عبادته؛ إلى ماذا كان يرمي من وراء هذا الصمت الرهيب؟ أخطأ خطباء مساجدنا في تناسي آيات قرآننا الكريم التي تحثّ على التسامح والتآخي مع ورثة السيد المسيح.. بسم الله الرحمن الرحيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون}، ودعوة البعض الآخر لعدم معاملة الأقباط أو العمل تحت إمرتهم... إلخ. أخطأت بعض الكنائس عندما صنعت "جيتو" (مجتمعات مغلقة) للمسيحيين رفضوا من خلاله دمج الأقباط داخل المجتمع، وكوّنوا عوضا عن ذلك خلايا مسيحية متقاربة بعضها مع البعض للغاية، ومتباعدة عن إخوانهم المسلمين للغاية، حتى بات كل طرف ينظر للطرف الآخر على أنه كائن فضائي لا يعرف عنه سوى ما يسمعه من مصادر لا تعلم أصلا عمن تتحدث، ولمن يعترض على ما أقول فليراجع الوضع الحالي للإخوة الأقباط في جامعاتنا، وسوف يعرف عمّ أتحدّث. في تقدير البعض أن الوضع الذي آلت إليه العلاقة بين المسيحيين والمسلمين هو وضع تسببت فيه الحكومة بالأساس، وتسبب فيه من الطرفين رجال دين لم يتعلموا من تسامح السيد المسيح ولا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، وتوارثوا تعصباً تبرأت منه الديانتان، فأشعلوا نيراناً هم أنفسهم سوف يصبحون جزءًا من حطبها لو لم يتعظوا.