حقيقي أنا زهقت.. التعامل مع كل من حولي صار صعباً.. عسيراً.. عنيفاً.. شرساً.. مرهقاً.. في البداية، ومنذ حداثتي، لم أكن -ولا أزال- أنشد شيئاً واحداً.. الحرية.. والحرية من وجهة نظري، وحتى منذ حداثتي، هي أن أفعل ما أشاء، ما دام لا يؤذي أحداً.. الحرية هي ألا أكون مبتذلاً.. أو أنانياً.. أو عدوانياً.. أو ناقماً.. أو متحفزاً.. الحرية تعني حتى ألا أفرض آرائي وأساليبي ومعتقداتي على من حولي، مهما كان إيماني بها.. ربما أدعوهم إليها.. أو أفسّرها لهم.. أو حتى أحببّها لقلوبهم وأذهانهم.. ولكن كل هذا بالرفق.. باللين.. بالحكمة.. وبالموعظة الحسنة.. هذا لأن إيماني بالحرية لا يعني إيماني بحريتي وحدي، ولكن بحرية الآخرين أيضاً.. بل وربما في المرتبة الأولى.. حرية أن يعتنقوا ما يشاءون.. ويحبوا ما يشاءون.. ويكرهوا ما يشاءون.. بإرادتهم وحدها.. المهم، ألا يدسوا أنوفهم في شئوني، إلا بالوسيلة نفسها.. الحكمة.. والموعظة الحسنة.. منذ بدايات حياتي، وعلى نحو غريزي تماماً، كنت أؤمن بهذا.. ولكن من حولي لم يؤمنوا به أبداً.. في طفولتي كانوا يرون أنني مجرد طفل، لا يعلم عن صالحه شيئاً، وكانوا يرون أهمية تقويمي، وإرشادي، والتدخل في كل شأن من شئوني، مهما صغُر أو ضَؤُل.. ولأنني طفل، كنت مضطراً لأن أحتمل.. وأصبر.. وأصمت.. وعلى الرغم من أنني كنت في الوسط المدرسي طفلاً اجتماعياً جداً، إلا أنني في منزلي كنت طفلاً منعزلاً للغاية، واقتصرت كل اهتماماتي على أمور فردية، يمكنني أن أمارسها وحدي.. القراءة.. والرسم.. وعزف الموسيقى.. وحتى جمع الطوابع والسباحة.. لم ألعب يوماً كرة قدم؛ لأنها لعبة جماعية، لو أنك أخطأت فيها، ولو بدون قصد، فسيهاجمك الكل، وينهالون عليك بالنصح والإرشاد.. وهذا ينطبق على كل الأمور الجماعية.. ولذلك، شغلت نفسي بهواياتي الفردية، واعتاد والدي رؤيتي معظم الوقت منهمكاً في أمر ما، ورأوا أنني موهوب في الرسم، وربما في الحكايات، إلا أن الأخيرة بدت لهم مجرد خيال جامح لطفل.. وفي عامي الخامس، من المرحلة الابتدائية، رويت "حدوتة" لمدرّسة الألعاب أبلة "سهير"، وفوجئت بها تستمع إليّ في اهتمام شديد، ثم تطلب مني أن أكتب هذه القصة، وأعرضها عليها مكتوبة.. كانت تجربتي الأولى، في كتابة ما أرويه.. ولم تكن بالتجربة السهلة، أو البسيطة، أو الهيّنة.. لقد حِرْت كثيراً، كيف أبدأ، وكيف أواصل، وكيف تكون النهاية.. وأيضاً في هذا، ساعدتني أبلة "سهير".. لقد طلبت مني أن أكتبها تماماً كما أرويها.. في بساطة.. ومرح.. وانسيابية.. وفعلت.. كتبت تماماً كما أروي، وملأت قصتي صفحات كاملة، بخطّ طفل في السنة الدراسية الخامسة من عمره، وأعطيتها القصة.. ولأن الزمن كان غير الزمن، حملت أبلة "سهير" قصتي إلى مديرة المدرسة، وتطوّر الأمر بسرعة يستحيل أن تجدها في أيامنا هذه.. مديرة المدرسة أعطت السكرتير القصة؛ ليكتبها على الآلة الكاتبة؛ لأن أجهزة الكمبيوتر كانت خيالاً علمياً في ذلك الوقت، وهو أعطاها بعد كتابتها إلى مدرّس التربية الفنية، وكانت مفاجأة لي.. قصتي أصبحت في ركن خاص من مكتبة المدرسة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ولها غلاف ملوّن، ويتم عرضها على كل مسئول يزور المدرسة.. ولأوّل مرة في حياتي، شعرت أنني كاتب.. وامتلأت نفسي بالفخر والحماس.. ومن لحظتها وأنا أكتب.. وأكتب.. وأكتب.. وكان هذا يعني مزيداً من العزلة؛ خاصة وأن بعض من حولي بدأوا في السخرية من طفل يتصوّر نفسه كاتباً.. لم توضع أي من كتاباتي مرة أخرى في المدرسة، ولكن ظلت في كراسات صغيرة، فوجئت بأن والدتي لا تزال تحتفظ بها، حتى لحظة كتابة هذه السطور القليلة.. وفي الكتابة، وجدت متنفساً لشرح مشاعري وانفعالاتي، وشعوري بالعزلة والوحدة، على لسان أبطال قصصي.. ولكن سخرية الآخرين، جعلت من الكتابة أمراً أحاول أن أخفيه عنهم.. أمر شبه محظور -بقرار من نفسي.. وعندما تعشق أمراً محظوراً تسعى لإخفائه، ويورثك هذا المزيد والمزيد من العزلة الطويلة.. وبالذات في مرحلة الشهادة الابتدائية.. ولأنني أكبر أفراد جيلي من الأسرة، كنت بالنسبة لهم أوّل من يخوض امتحانات شهادة ما، مما وضع عليّ ضغوطاً رهيبة.. أنا الذي يكره التدخّل في شئونه، وينشد الحرية، صرت هدفاً لكل أفراد العائلة بلا استثناء، وحتى للأقارب من الدرجة العاشرة، والجيران والمدرسين.. أصبح الكل ينصح، ويرشد، ويحدد ساعات الاستذكار، ولحظات الراحة والاسترخاء، ومتى أنام وأصحو وآكل وأشرب.. وزهقت.. زهقت، وقررّت أن أحتمل ذلك العام بالطول والعرض، حتى أتجاوز هذه المحنة.. وبالفعل، نجحت في الشهادة الابتدائية بمجموع كبير أراح الكل.. وتصوّرت أنه سيريحني أيضاً.. ولكن هذا لم يحدث.. ولأسباب عديدة، تحتاج إلى شرح طويل.. في مقال قادم إن شاء الله،،،