كارثة حقيقية.. تلك التي تشهدها قرية "هرم ميدوم" التابعة لمركز "الواسطى" بمحافظة بني سويف؛ حيث تجرّد عدد من المواطنين من مشاعرهم، وانتهكوا حُرمة الموتى، وباعوا عظام وجماجم أجدادهم، من أجل بناء البيوت على أنقاض مقابرهم، وقد تحوّلت القرية من "الهدوء" إلى "الصراعات" العنيفة والدائمة بين العائلات للحصول على أكبر مساحة ممكنة من المدافن الملاصقة للقرية. أردتُ الذهاب إلى هناك للبحث، والكشف عن هذه الكارثة وأسبابها وأبعادها، وبمجرد وصولي إلى مدينة "الواسطى"، وجدت أن الوصول إلى القرية يتطلّب عُبور طريق ترابي بمسافة 2 كيلو متر سيراً على الأقدام أو المخاطرة بركوب سيارة نصف نقل مكشوفة. شوارع خاوية ووجوه جافة المهم.. وصلت للقرية -بسيارة غير آدمية- وبمُجرد أن وطئت قدماي هناك، وجدت المنازل مُتهالِكة، والشوارع خاوية, وأطفال يبدو عليهم الهزال، وعدد من السيدات -بملابس سوداء- والقليل من الرجال بجلابيب وعِمامات ووجوه جافة. تجوّلت في شوارع القرية، والأهالي يتفحصونني باستغراب شديد وحذر، وكلما حاولت الاستفسار حول كارثة "الصراع على المقابر" لا أجد سوى الريبة، وهكذا استمر الوضع لأكثر من ساعتين، حتى قابلت الحاج "حلمي أمين" أحد أهالي القرية، ويُقيم في القاهرة ويذهب على فترات متباعدة لزيارة أهله، وقد بدأ كلامه مُحذّراً من خطورة التطرّق للموضوع، ومع إصراري شرح لي التفاصيل بهدوء، قائلاً: "قبل أربعة أعوام كانت القرية تعيش في هدوء، تحسدها عليه القرى المجاورة، ولم يكن بها مشاحنات أو صراعات حتى بدأ زحف الأهالي نحو "الجبل" المجاور للقرية؛ حيث توجد المدافن بالقرب من الهرم الأثري "هرم ميدوم"؛ بسبب زيادة عدد السكان إلى 50 ألف نسمة، وعدم إجازة البناء على الأراضي الزراعية، وضرورة البحث عن مساكن للأجيال القادمة". نبش واضح في القبور بيع عظام الموتى بصابون الغسيل! أضاف: لم يجد الأهالي أمامهم سوى البناء على المقابر -التي تضمّ عظام أجدادهم من قديم الزمن- والتي يوجد بينها مقابر أثرية، خاصة أن المنطقة قريبة من مناطق الآثار (هرم ميدوم).. وبدأ الزحف العشوائي للحصول على أكبر مساحة من الأرض، وبدأ البناء ليصل عدد البيوت بالمنطقة لأكثر من 700 منزل تم بناؤها بالطوب الجيري الكبير، وتكون البداية بالتعدي على حُرمة الموتى، بعد التخلّص من الجُثث المدفونة، وبقايا العظام والجماجم، سواء بإلقائها في الجبل أو تعبئتها في أجولة، وبيعها لتجار "الروبابيكيا" الذين يشترون كيلو العظام من الأهالي مقابل قطع من صابون الغسيل، وهناك عدد من المجرمين تخصصوا في نبش القبور ليلاً وبيع الجثث لطلاب الطب. تهريب الآثار وصعود الأهالي للبناء على المقابر أوجد عدداً من تُجار ومُهربي الآثار، والذين يتخفون في بعض المنازل ويتعاملون مع الأهالي؛ للسماح لهم بالنبش في المقابر الموجودة أسفل منازلهم بحثاً عن الآثار، بعيداً عن الأعين، ومنذ عامين شهدت القرية حادث تهريب تمثال أثري ذهبي وأُلقي القبض على المتهم أثناء خروجه من القرية. لم يقتصر الأمر على بناء المنازل فقط، ولكن اتجهت بعض عائلات القرية إلى الجبل، وأزالوا المدافن؛ ليحولوها لمحاجر للرمل والزلط، أو إعدادها للزراعة، وكل ذلك بنظام وضع اليد.. ويقوم الأهالي ببيع الأرض بعد ذلك، ليصل سعر القيراط الواحد إلى 20 ألف جنيه، وهو ما زاد من الصراعات التي أضاعت الروابط الاجتماعية بين العائلات، وبين أفراد العائلة الواحدة، واعتاد الأهالي على سماع أصوات الأسلحة النارية كل يوم؛ بسبب المُشكلات الناتجة عن مثل هذه الصراعات، التي نتج عنها استقطاع نحو 500 فدان من أراضي الجبل، وامتد الزحف ليصل إلى المناطق الأثرية الموجودة، وإزالة أكثر من عشرة آلاف مقبرة.. وتناثرت الجثث والعظام في الجبل، دون أي اعتبارات؛ لأن الصراعات على الأرض أكبر من كل شيء! الجثث تطفو على السطح الصعود إلى جبل الرعب طلبت من "الحاج حلمي" أن أصعد إلى الجبل، فكرر تحذيره بخطورة ذلك، ولكنه وافق أمام إصراري، وأحضر سيارة -نصف نقل- اعتادت الصعود بأهالي الجبل، ورافقني شخص موثوق به عند سكان الجبل، وقد طلب هذا الشخص -الذي رفض ذكر اسمه- من أربعة من أقاربه -من سكان الجبل- مرافقتي، بعد أن نصحني بعدم الإفصاح عن هويتي لأي شخص؛ خاصة أن إحدى موظفات الآثار -التي حضرت للمنطقة قبل أسبوع- تعرّضت للضرب من قِبل الأهالي، خوفاً من أن تطردهم من بيوتهم. وبدأت رحلة الرعب والصعود، بعد عبوري الطريق الأسفلتي الذي يَقسم القرية إلى جُزأين، وفي طريق غير ممهد كانت السيارة تسير، وبدت أمامي المنازل مُتراصة، بعدد طوابق لا يزيد عن اثنين، وكانت أعين الأهالي تُراقبني بشدة؛ خاصة أن وجهي غير مألوف لهم, تجوّلت السيارة بين المنازل، ولاحظت عدم وجود أي مشروعات خدمية، وأغلب المنازل دون كهرباء، وبلا صرف صحي. فجأة همس أحد الشباب لي قائلاً: "إن الفرصة الآن سانحة للترجل في المنطقة، خاصة أن معظم الأهالي مُتجمعون حول حملة روتينية للإزالة"، وأضاف أنه بمجرد الانتهاء من الإزالة يقوم الأهالي بإعادة بناء ما تهدّم مرة أخرى. جثث وموتى في الرمال شاهدت جثثاً مُلقاة على الرمال، وكميات كبيرة من العظام والجماجم البشرية المُعبأة داخل أجولة بلاستيكية، حتى أن الأطفال يعبثون بها كأنها دُمى! الغريب.. أن الأهالي هناك لا يجدون أي مشكلة في ذلك، ويتعاملون بمنطق أنهم أحق بمقابر أجدادهم، والمثل الشائع بينهم أن "الحي أبقى من الميت".. الأمر لا يقتصر فقط على المدافن القديمة، ولكن المقابر التي تستقبل الجثث بشكل يومي تَلقي نفس المصير، حتى أن أحد الأهالي قام بدفن ابنته الصغيرة قبل أسبوعين، ثم عاد بعد يوم واحد من دفنها، فلم يجدها، وبحث عن جثة ابنته فوجدها في إحدى المناطق البعيدة بالجبل، وسط عشرات من الجثث الأخرى. الإزالات روتينية والبناء يعود مرة أخرى تجريف القبور والبناء عليها "راشد عبد الله" -أحد سكان المنطقة- تكلّم بصعوبة قائلاً: "حضرت للسكن في الجبل، وبناء بيت على مقبرة أجدادي بعدما ضاقت بي الحياة داخل القرية، ولم يعد منزلي القديم يسع أولادي الخمسة، وكان علينا تجريف القبر، واستخراج ما به من عظام وجثث -مثلما يفعل الناس- وقد بادلنا العظام والجماجم بصابون غسيل، وقبل شهرين قُمت بتمهيد قطعة أرض خلف المنزل وزرعتها، بعد الاستعانة بماكينات رفع المياه من الترع والمصارف". وأضاف: "نشتري مستلزماتنا من داخل القرية؛ لعدم وجود محلات هنا، أما التيار الكهربائي فيتم سرقته من أسلاك المسجد الوحيد الموجود في المنطقة، وبالطبع لا يوجد شبكات صرف صحي، ونستبدل ذلك بحفر "طرنشات" أو بيارات أسفل المنازل، أو تحويل أي مقبرة إلى بئر، لقضاء حاجاتنا". وأشار إلى أن حُرمة المقابر تراث أصبح من الماضي، بعد أن سَكن الأهالي المنطقة، بعد ما اعتادوا على رؤية الجثث، وهناك بعض السُكان ينبشون ليلاً أسفل المقابر؛ بحثاً عن الكنوز الأثرية، ومُنذ أيام وجدنا مومياء لطفل داخل مقبرة مفتوحة، باعها صاحب المنزل لأحد الغرباء عن القرية. لعنة الموتى تصيب الأهالي أكملت جولتي في المنطقة والمقابر تحاصرني من كل اتجاه، وبجوار المنازل وفي الطريق قابلت أحد كبار السن (عم مرسي) نائماً على كوم زلط؛ حيث يحرص على التواجد في هذا المكان باستمرار لحراسة قبر أبيه وأجداده من نبش الأهالي الذين أصيب بعضهم بلعنات الموتى -كما قال عم مرسي- وعلى سبيل المثال أصيب شاب أثناء انتشاله جثة كانت مدفونة بجوار منزله بكسر مضاعف في إحدى يديه وآخر مسه الجنون، ورغم هذا فالنبش لا يتوقّف! بجوار حفرة كبيرة ممتلئة بالجثث العائمة في بركة من مياه الصرف الصحي.. تحدّثت مع "شعبان"، الذي أوضح طبيعة ما يفعله قائلاً: "هذه الحُفرة هي مقبرة عائلتي، وقد امتلأت بمياه الصرف الصحي، بعد أن سكن الأهالي بجوارها، وقد حاولت منذ شهرين ردم آبار الصرف الصحي، فتصدّى لي الأهالي بالأسلحة النارية، وطردوني من المكان". عظام الموتى في الجبل انتشار الأمراض بين السكان توجّهت في رحلة العودة من الجبل إلى الوحدة الصحية الخاصة بالقرية؛ حيث قابلت الدكتور "كامل عبد الرحمن" الطبيب المسئول، فقال: "دور الوحدة يقتصر على الرصد والإبلاغ؛ لأننا لسنا جهة تنفيذية، وكل ما علينا أن نقوم بتوعية المواطنين بخطورة ما يقومون به، والمشكلة أن الوحدة الصحية لا تمتلك الخرائط التي توضّح حدود المقابر والمساكن؛ ومع ذلك فالأهالي يرفضون أي نصيحة ويشتبكون معنا، ويرفضون تنفيذ أي قرارات"، وحذّر من أن المنطقة المقامة أعلى المقابر مُعرضة لانتشار الأمراض نتيجة البكتيريا، التي تنتشر من الجثث المكشوفة. سيطرة أصحاب النفوذ "محمد أبو فهمي" عضو مجلس محلي قرية "هرم ميدوم" أشار إلى أنه يتم تحرير المحاضر بصفة دائمة ضد أصحاب المنازل المقامة على المقابر، ولكن تكمن المشكلة في سيطرة أصحاب النفوذ، الذين يقومون بالبناء على المقابر ليلاً، ولا يهتمون بالمحاضر أو قرارات الإزالة. "رياض محمد" مفتش الآثار بالمنطقة أكّد أن قرب المقابر من الهرم الأثري "ميدوم" أو هرم الملك "سنفرو"، يجعلها محط اهتمام الأثريين؛ خاصة أننا اكتشفنا عدداً من المقابر في الأماكن المُحيطة بالهرم، ولذلك فمن المُحتمل أن تكون هناك آثار أسفل المنازل، التي تم بناؤها على أنقاض المقابر، ونحن بدورنا نذهب للتنقيب والمعاينات.. ولكن الأهالي يسمحون لنا بصعوبة، وقد يصل الأمر بهم إلى حد الاشتباك معنا، محاولين تعطيلنا عن العمل. من المعروف أن المصريين يحترمون موتاهم إلى حد التقديس، ولكن ما يحدث في قرية "هرم ميدوم" شيء بشع وبعيد كل البُعد عن أخلاقيات الإنسان المصري، ولكن الكارثة حدثت وتحدث، وسوف تحدث؛ طالما غابت القيم والتقاليد، التي كانت جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع بصفة عامة والريف بصفة خاصة، واللوم لا يقع فقط على الأهالي هناك، ولكن أيضاً على المسئولين، الذين تركوا الوضع يتفاقم حتى انفجر، كما هي العادة مع أي كارثة في هذا البلد!