ليس خافياً أن رئيس الوزراء الإثيوبى "ميليس زيناوي"، يفتح عينيه صباحاً على مانشيتات الصحافة المصرية، ويقرأ تقريراً وافياً عما نُشر عن بلاده وعنه شخصياً، يتعكر يوم ميليس إذا لم تتعرض صحيفة مصرية على الأقل لأخباره، أو تردد أقواله أو ترد على تهجماته على مصر. ربما كان ذلك تفسيراً للحالة العصبية التي ظهر عليها ميليس في حوار الأسبوع الماضي على فضائية "الجزيرة" القطرية، حيث هاجم مصر بعنف ساخراً: "أعرف أن البعض في مصر لديهم أفكار بالية تستند إلى أن مياه النيل هي ملك لمصر وهي تمتلك الحق في كيفية توزيع مياه النيل، وأن دول المنبع غير قادرة على استخدام المياه؛ لأنها غير مستقرة وفقيرة"، وأضاف: "مصر لا تستطيع منع إثيوبيا من بناء سدود على النيل". ميليس، (55 سنة) المولود في 8 مايو 1955 في مدينة "أدوا" شمالي إثيوبيا، يعرف منذ نعومة أظافره، وبحسب تعليمه العالي -حاصل على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة بريطانية، وشهادة ماجستير أخرى في الاقتصاديات من جامعة هولندية في عامي 1980 و1990 على التوالي- أن مصر قادرة على منع إثيوبيا من بناء سدود على النيل طوعاً بالدبلوماسية الهادئة العقلانية، أو كرهاً، هناك في الشارع المصري من يقرع طبول الحرب. ويعلم أيضاً أن التاريخ الذي وقعت فيه اتفاقيتا 1929 و1959 ليس في صالحه، كما أن الجغرافيا، وتلك حكمة الله، تعانده، وتقف حجر عثرة في طريق أحلام ميليس، المقاتل في جبهة تحرير شعب التيجراي ليتوج إمبراطورا على الحبشة في عصرها النيلي. أولاً: صحيح أن الهضبة الإثيوبية تمد النيل ب86% من مياهه، إلا أنها نسبة تحميها الطبيعة وتعينها على الجريان السريع الذي يجرف ما يقابلها من سدود خفيفة الوزن والحجم مثل سد "تاكيزي" وسعته التخزينية فقط 9 مليارات متر مكعب من الماء. "تاكيزي" مصمم على توليد الكهرباء دون أن يروي مزارع؛ لأن الطبيعة الصخرية الجبلية لا تنمو فيها أشجار، وإن حدث فستجرفها الأمطار، فالهضبة مائلة بزاوية لا يستقيم معها بناء أحلام من خلف السدود التي يخطط لإقامتها "ميليس"، السدود الإثيوبية لا تحجز ماء بل تولد كهرباء، كيف تحتجز الماء فوق المنحدر.. الجغرافيا تقول لا يا "ميليس".. "ميليس" الذي يواجه اتهامات معارضة عنيفة بتزوير انتخابات الإثنين الماضي، يحاول لفت الأنظار في بلاده عن الانتخابات ومجرياتها، وكسب شعبية تعينه على البقاء في سدة الحكم، وهو المنحدر من الأقلية التجرينية. يعلم "ميليس" جيداً أن القاهرة تعلم أن لديه ثلاثة سدود أخرى يخطط لإقامتها على النيل الأزرق، وتلك معضلة إثيوبية قبل أن تكون مصدر تهديد للقاهرة التي لديها بدلاً من البديل ثلاثة لتسلك الطريق إلى مياه النهر التي يخطط لاحتجازها "ميليس". معلوم أن النظام الإثيوبي يخطط لإقامة سدود (كرادوبي، وموندايا، وبيكووابو)، وهي سدود من الحجم الكبير مثل السد العالي، وتحتاج إلى تمويلات ضخمة تقدر بحوالي 100 مليار دولار، وتحجز ما بين 50 و70 مليار متر مكعب من إجمالي ما يجري في النيل، ويستغرق بناؤها من 10 إلى 15 سنة إذا توفر التمويل ووافقت الدول المانحة للقروض. ما يخطط له "ميليس" يخصه، فقواعد البنك الدولي تطلب إلى جانب المؤشرات الاقتصادية التي تشي بقدرة الدولة المقترضة على السداد والوفاء بالدين وخدماته، أن توافق دول المصب حسب اتفاقيات الأنهار التي تحكم جريان المياه العذبة في أنهار العالم جمعاء. البنك الدولي و"ميليس" يعلم ورغم ذلك يهدد ويسخر ويتجاوز مع دولة صبرت على طموحاته غير المشروعة في غزو الصومال تعويضا عن إخفاقه في الحفاظ على جوهرة القرن الإفريقي (إريتريا)، وانفصلت ومعها (ميناء مصوع) المنفذ البحري الرئيسي الذي كانت تطل منه إثيوبيا على البحر. عودة "ميليس" من الصومال خائب الرجاء وبخسائر فادحة في مغامرة عسكرية غير محسوبة يحاول تعويضها على حساب الجارة الكبيرة في المصب (مصر)، تداعب "ميليس" خيالات عريضة يغذيها الغرب الذي اعتبر ميليس في وقت مبكر من توليه رئاسة الوزراء أنه أحد الوجوه من القادة الأفارقة الشباب الذين يقودون القارة لمرحلة جديدة. البنك الدولي رهن موافقته على السدود الإثيوبية الثلاثة الكبيرة على شرط إنتاج الكهرباء وبيعها إلى دول الجوار عبر الربط الكهربي، الثابت أن كل دول الجوار لا يوجد بينها مثل هذا الربط، بل بعضها يخلو من شبكات حديثة مؤهلة للربط للاستفادة من إنتاج الكهرباء الحبشية. أيضا دول المصب ودول الجوار الإثيوبي ما عدا السودان (وهو شريك مصر في المصب) ليست لديها الكثافة السكانية المستهلكة للكهرباء، وليس لديها النشاط الصناعي الذي يحتاج هذا الدفق الكهربي الذي صار شريطة لإقامة السدود لتسدد أقساطها وخدمات الدين من نواتج البيع الكهربي. رئيس الوزراء الإثيوبي الذي قام بدور فعال في خطة الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا (نيباد) يتجاهل حقيقة أن الدولة المؤهلة سكانيا وفنيا للاستفادة من وفورات الكهرباء الإثيوبية هي مصر ومن بعدها السودان، بل إن ربطا كهربيا وغازيا جار الآن بين مصر والسودان، وبدون مصر والسودان لا كهرباء ولا سدود، إذا كانت المياه تخزّن خلف السدود العالية التي ينتويها "ميليس"، فالكهرباء لا تخزّن خلف السدود، عالية أو واطية كما في سد "تاكيزي" الذي تبدو الموافقة المصرية الابتدائية على إقامته محل مراجعة من الجانب المصري، رغم أن المياه تتدفق من خلاله لتوليد الكهرباء ورغم العيوب الفنية في الإنفاق رغم التكنولوجيا الإيطالية المنفذة للمشروع، روما ليست عازمة على تكرار التجربة الإثيوبية حسب ما علمنا. "ميليس زيناوي" المقاتل في جبهة تحرير شعب التيجراي، والمتزوج من "أزيب مسفين"، والذي لديه منها ثلاثة أبناء، تولى السلطة في عام 1991 في أعقاب انتصار الجبهة الإثيوبية الشعبية الديمقراطية الثورية، يعتقد "ميليس" أن النيل جبهته الجديدة، ويولي وجهه شطر النيل بعد أن أضاع "إريتريا"، وبشقّ الأنفس يحاول الاحتفاظ بإقليم "أوجادين" ويبحث عن نصر خارجي على المعارضة الداخلية، ينسى أن نصيب القاهرة المفترض شراؤه من كهرباء سدوده المقترحة 2 ميجا وات، والسودان 1.5 ميجا وات. إذن هو في حاجة إلى مصر والسودان في إطار الحوض الشرقي الذي يجمعهما سويا، مقابل الحوض الغربي الذي يجمع دول المنبع السبع مع دولتي المصب مصر والسودان. أقرب جارة إلى إثيوبيا من دول المنبع كينيا وبينهما خلاف حدود على بحيرة "توركانا" خارج حوض النيل، وتلك إشكالية أخرى تجعل الاتفاق بين إثيوبيا ودول المصب حالة استثنائية وعارضة، أما الامتداد الطبيعي والجغرافي لإثيوبيا ففي دولتي المصب، بل إن السدود الإثيوبية بفرض تمويلها وإقامتها -رغم أنف البنك الدولي والاتفاقيات الدولية- وحتى صمت مصر (وهو غير مدرج في قائمة البدائل المصرية المطروحة لعلاج الحالة الإثيوبية المتفاقمة) كلها تضع إثيوبيا تحت رحمة دولتي المصب، ليس هناك سوق للكهرباء خارج الحوض، ولا يمكن تعبئتها في براميل أو نقلها عبر أنابيب، نفس حال مياه النيل لا تنقل خارج الحوض بنص اتفاقيات الأنهار، ولم يحدث أن بيعت المياه حتى داخل الحوض، ليس سراً أن هناك دراسات للربط الكهربي بين إثيوبيا ومصر والسودان، تمّت بالفعل وتؤكد على نجاعة هذا الربط ودوره في إنماء الحوض الشرقي. أيضا وأعتقد أن خبرة ميليس العملية تلفت نظره إلى أن الإطماء في الهضبة كثيف ويحتاج إلى سدود عالية، وهذا يعني تكلفة إضافية، ربما لا يتحملها الاقتصاد الإثيوبي. يعلم رئيس الوزراء وهو -حالياً- رئيس المفاوضين الأفارقة بشأن قضايا تغيرات المناخ، أن معدل سقوط الأمطار على الساحل الشمالي في مصر ما بين 20 و100 ملليمتر، بينما تصل كثافة الأمطار على المنابع وإثيوبيا ما بين 2000 إلى 2500 ملليمتر، وأن دول المنبع تستخدم ما بين 1 إلى 5% من مياه النيل، وأظنه يعلم أن إثيوبيا لديها وحدها 9 أحواض لتسعة أنهار خلاف حوض النيل، نفس الأمر في دول المنبع، بل إن أسوأ التغيرات المناخية التي تطول أقل المناطق مطرا في كينيا وتنزانيا لا تقل عن 700 ملليمتر، بل تعد تلك الدول طاردة للمياه من فرط وفرتها، وكميات المياه في الحوض تكفي لإغراق دوله من المنبع إلى المصب، فقط تحتاج إلى مشروعات لحصد المحصول المائي المتدفق سماوياً، ومصر أبدت استعداداً هائلاً مصحوباً بقائمة مشروعات واقعية مضمونة العائد وقبلها التمويل لمبادرات خلاقة لإقامة سدود على النهر تضمن زيادة المحصول وري العطشى. ربما استطاع "ميليس زيناوي" بسهولة إنشاء تحالفات مع الغرب، خاصة واشنطن، عبر حربه ضد الإرهاب، ولكنه يحتاج إلى ترميم علاقته بالقاهرة، ليست هناك حرب في الحوض يشارك فيها إلى جانب القاهرة، ولكن عليه أيضاً ألا يشعلها ناراً، يحرض "ميليس" دول المنبع، وقعت منها أربع إلى جانبه ليشكلوا خماسياً رافضاً (حتى الآن) لمفوضية النهر بالمنهج القاهري الذي يقوم كما قال الرئيس مبارك على "أن ما يجمع دول الحوض أكثر بكثير مما يفرقها". ويدق "ميليس" إسفينا بين مصر والسودان، "ميليس" يقول في الجزيرة: "إنه لا يرى أن السودان هو مصدر المشكلة، معتبراً أن مصر هي المشكلة".. وقال: "لا أرى ما يمنعه -أي السودان- من الانضمام للركب، لن تستطيع مصر أن توقف إثيوبيا أو تمنعها من بناء سدود على النهر، هذا تاريخ ولن يكون جزءاً من الحل، فالحل ليس هو محاولة مصر أن توقف ما لا يمكن وقفه". الغريب أن "ميليس" يعلم جيداً تطابق الموقفين المصري والسوداني، بل إن السودان يصر على حقوقه في مياه النهر واستخدامها كاملة، السودان تتيح له الاتفاقيات الدولية 18.5 مليار متر مكعب يستهلك منها إلى حين 14.5 مليار متر مكعب، السودان مُصرّ على تثبيت حقه التاريخي والاستخدامي في مياه النهر. التنسيق المصري السوداني على قدم وساق برز خلال اللقاء الأخير في الأسبوع الأخير بين وزيري الري المصري والسوداني. مصر الرسمية تتمتع بالصبر وطول البال وضبط النفس، لكن مصر الشعبية غاضبة مما يفعله "ميليس" في المنابع، ولديهم ذكريات حلوة مع الحبشة عبر التاريخ الإسلامي والمسيحي وصولا إلى التاريخ الفرعوني. مصر الرسمية لديها خيارات عنوانها "مياه النيل خط أحمر"، لا نلقي بالا بتقارير صحفية كالتي أذاعتها قناة "العربية" الإخبارية عن قوات خاصة مصرية تتأهب للتدخل إذا ما تأزم الموقف في النهر الخالد، فالنيل لن يتوقف عن الجريان، وخيالات إمبراطور الحبشة الجديد تفيض عن طاقة بلاده، "ميليس" يقول: "هذه الظروف تغيرت، فإثيوبيا فقيرة ولكنها قادرة على تسخير الموارد الطبيعية الضرورية لإقامة أي أشكال من البنى التحتية والسدود على النهر". لا يزال المقترح الرئاسي المصري السوداني مطروحا على الطاولة لم تسحبه القاهرة، مصر تعطي فسحة للجهود الدبلوماسية، مفوضية حوض النيل تشكل حلا، المفوضية تصلح إطاراً إقليمياً لحل الإشكاليات الثلاث المعلقة، وبالتحديد الحقوق التاريخية لدولتي المصب واستخداماتها، والأمن المائي بمعنى الإخطار المسبق، وأخيراً الإجماع اللازم تحقيقه بين دول الحوض لإقرار السياسات والمشروعات المائية العاجلة والمستقبلية. القاهرة مستعدة للعودة إلى مائدة التفاوض وفق احترام تلك الثلاثية المعتبرة على طول الحياة على النهر، وهي تدافع عن حقوقها الثابتة.. لا تعتدي على حقوق أحد ولا تفتعل الأزمات مع دول المنابع وبينها صلة رحم وقربى، نشرب من ماء واحد. من خلف الأبواب ترقب إسرائيل ما يسفر عنه الصراع على المياه في النيل، دول عربية تسيّر فضائيات لإشعال الموقف، ولكن الصين -وحدها- تجاوزت السقوف المرعية في علاقاتها المصرية والإفريقية، إذا كانت بكين تدير صراعا مع واشنطن في القارة الإفريقية، والصين تموّل مشروعات زراعية ومائية في القارة لاستقطاب دولها بعيدا عن النفوذ الأمريكي أو لخلخلة نفوذ أمريكا في الأسواق الإفريقية، وللحصول على قضمة من كعكة الخامات الإفريقية شبه المجانية، فالقاهرة كانت البوابة التي سلكتها الصين إلى القارة السمراء، تجمع (إفريقيا - الصين) مثال نموذجي على المصالح المتشابكة مصريا وصينيا وإفريقيا. القاهرة طالبت بكين بالالتزام بقواعد القانون الدولي وهي توزع تمويلاتها، خاصة بند الإخطار المسبق المعتمد في الحوض حتى لا تنزلق أقدام الصين في النهر، الصين بالفعل بدأت بإنشاء بعض السدود، ولكنها تجد من القاهرة بعض الصدود، القاهرة غاضبة، والصين لفت انتباهها الغضبة القاهرية التي بلغت بكين من أعلى المستويات، خاصة من تفلت بعض الشركات الصينية الخاصة في عملية إقامة المشروعات المائية دون الالتزام بقاعدة الإخطار المسبق وموافقة مصر والسودان، الرسالة القاهرية بسيطة ومعبرة، مصالح مصر الاستراتيجية مقابل مصالح الصين الاستراتيجية، أسواق مصر والسودان لن تكون مفتوحة، استثمارات الصين في البترول والزراعة في السودان لا تحتمل العبث الصيني في المنابع. لا ينكر مُنصف التغييرات الاقتصادية التي أحدثها "ميليس زيناوي" في إثيوبيا، شهدت إثيوبيا خلال فترة حكمه التي استمرت 19 عاماً تغيرات كبيرة، خاصة على الصعيد الاقتصادي، وهذا يغري بالمزيد بعيداً عن المغامرات الطائشة للمغامرين في القارة السمراء -و"ميليس" ليس منهم- تعليمه العالي يجعله صاحب تفكير عال، ويعي معنى بيت الشعر العربي الذي شدت به أم كلثوم: "أَمِنَ العدل أنهم يردون الماء صفوا.. وأن يكدّر وردي". عن المصري اليوم بتاريخ 2010/05/26