ألا يتبادر إلى ذهنك هذا السؤال مثلي، شعراء كثيرون يولدون كل يوم، وشعراء كثيرون تموت قصائدهم كل يوم، ولكن عندما يموت شاعر وتبقى قصائده حية فلا بد أن نبحث عن الأسباب.. يقول "حلمي سالم" في مقال بعنوان "أمل دنقل كوّن جماهيريته بشعره الصادق": "هناك ثلاث خصائص أراها لعبت الدور الأساس في تكوين جماهيرية دنقل العريضة: أولى هذه الخصائص: اتكاء دنقل على التراث القديم (لا سيما العربي الإسلامي) ما وفرّ أرضية عمومية أولية مشتركة بينه وبين القارئ، وعلى هذه الأرضية المشتركة يستطيع أن ينوّع الشاعر المتمرّد أشكال اتكائه على التراث: استلهاماً أو نقداً، تناصاً أو تعارضاً، قطعاً أو وصلاً، معاكسة أو عصرنة، وكلها أشكال من الاتكاء تُوفّر -على تباينها- هذه الأرضية المشتركة للشاعر الحديث الذي لن تخفى على القارئ الحصيف مقامرته الجريئة: الانطلاق من ماضيين؛ هما: اللغة المكينة والتراث القديم؛ لصنع قصيدة معاصرة مشتبكة مع اللحظة الراهنة اشتباكاً مشتعلاً. ثاني هذه الخصائص: اتصال دنقل بهموم وطنه ومواطنيه الماسة المباشرة، وتعبيره الصادق الصادم عن أشواق شعبه في الحرية التي تخلصه من ربقة المستعمر الخارجي، ومن ربقة المستبد الداخلي على السواء، وفي العدل الذي يقيه ذل لقمة العيش ويمنح الإنسان كرامته. ووصل ذلك التماس الحار بهموم الوطن وأشواق المواطن إلى لحظات ذروة عدة بلغ فيها مبلغ "التنبؤ" الذي ينتج من نفاذ البصيرة ومصداقية الرؤية، على النحو الذي جعله يُحذّر من الجيوش الغازية، بلسان (وعيون) زرقاء اليمامة، وجعله يُنبّه شعبه مراراً إلى أن الطوابير التي تصطف في عيد الجلاء لا تصنع انتصاراً، وأن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الدواء لا تقتل الأعداء، إنما تقتلنا نحن إن رفعنا صوتنا جهاراً، وجعله يُحذّر قادته السياسيين ومواطنيه العاديين من أن "يصالحوا" العدو؛ لأن في مصالحته الموت والهوان والخراب، كل ما حذّر منه الشاعر قد حدث، وشواهدنا على ذلك أكبر من الإحصاء. ثالث هذه الخصائص: التضفيرة الموفّقة التي نسجها الشاعر بين "الموقف السياسي الاجتماعي الناصع" و"التشكيل الفني الجمالي القيّم"، متفادياً بذلك الوقوع في أحد المزلقين الشهيرين: مزلق إعلاء المضمون السياسي الثوري المضيء، وقد نجح الشاعر في تلك الموازنة الرهيفة بين الموقف الناصع والتقنية العالية، النجاح الذي يعزُّ على الكثيرين. هذه التضفيرة كما يقول عنها "حلمي سالم" هي ما جعلت شعر أمل ينتصر على الموت والتهميش، وليتناقله الناس في أقوال وعبارات مأثورة كتراثهم الشعبي. فكم مرة سمعت مثلي كلمات مثل: "ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى". عام 1990 أصدرت هيئة قصور الثقافة كتيباً صغيراً عن أمل دنقل تضمّن مقدّمة عن حياته وشعره، وبعض القصائد التي لم تنشر بعنوان "أمل دنقل كلمة تقهر الموت".
وبعدها بثلاثة عشر عاماً كان د. سيد البحراوي الذي أعدّ الكتيب مع أ. "عبلة الرويني" ما زال يُكرر نفس العبارة، بل واستخدمها عنواناً لمقالة قال فيها إنه بهذا العنوان لم يقصد تعزية نفسه أو تعزية الآخرين، ولكن "كنت أقصد تقرير حقيقة عملية تقول إن الفن الجيّد لا يموت، وكنت وما زلت أرى أن شعر أمل دنقل من أجود ما أنتجه شعراؤنا المحدثون، مثّل شعر أمل دنقل أزمة الإنسان العربي المعاصر في لحظتيها القاسيتين: هزيمة 1967، وتوقيع كامب ديفيد بأعلى درجة من الفنية التي كانت اللحظتان تقتضيانها، وخاصة الإيقاع الحاد الذي وشي بالمباشرة والشعارية، وقد كان إيقاعاً ضرورياً لإعلان رفض انتظرته الشعوب العربية وهرب منه الكثيرون أو أعلنوا التسليم بالهزيمة مبكراً. والآن بعد سبع وعشرين عاماً من وفاته، ما زلنا نستعين بصرخاته وشعاراته، ما زال شعره حياً يتنفّس بيننا، ليُعبّر عنا وعن هزائمنا المتكررة.