أثار موضوع النقاب والخلاف حوله جدلا واسعا في الفترة الأخيرة خاصة بعد موقف شيخ الأزهر من طالبة الإعدادية الأزهرية والأسلوب التي تحدث به إليها، والذي تزامن تقريبا مع قرار وزير التعليم العالي بمنع المنتقبات من ارتداء النقاب داخل المدينة الجامعية، بالرغم من أنهن لم يعترضن على ذلك إلا في حالة وجود رجال فقط في الكانتين والمطعم وغير ذلك.. تماما كما فعلت طالبة الإعدادية التي ارتدت النقاب في الفصل بسبب قدوم فضيلة الشيخ ومن معه من رجال الأزهر. وقبل مجيئه كانت الطالبة غير مرتدية النقاب، وهو ما يثير التساؤل حول الهدف من هذه المبالغة في الهجوم على الفتاة، خاصة مع وجود بنات ارتدين ما يحلو لهن دون أن تُمس إحداهن. نحن نقول هذا من باب الحرية الشخصية للجميع، ما دامت المنتقبة لا يؤثر نقابها على عملها أو دراستها، أو على الحالة الأمنية، بمعنى أن تكون مستعدة لخلعه عند التحقق من الشخصية، بل إنه في بعض مواقع العمل تجبر المنتقبة على خلع النقاب خلال فترة تواجدها في العمل، وهن يستجبن لذلك كما يحدث في مبنى الإذاعة والتليفزيون وغيره من الأماكن الحساسة، ولم نسمع في المقابل عن إجبار المتبرجة على ارتداء الحجاب لظروف العمل.. وإلا كانت الدنيا ستقوم ولا تقعد خاصة من قبل جماعات حقوق الإنسان.. نعم قد يكون الخمار أفضل لظروف العصر الذي نحن فيه؛ نظرا لكثرة خروج المرأة سعيا للتعليم أو العمل أو حتى للدعوة، وهو ما قد يتطلب منها أن تكشف وجهها حتى تستطيع التواصل مع المجتمع الذي تخاطبه، وحتى لا ينفر منها هذا المجتمع.. لكن نقول هذا من باب الأفضلية، أما إن رفضت خلع النقاب فهي حرة في ذلك ما دامت لم تؤذِ أحدا.. ومن هنا لا ينبغي أن نتهكم عليها ونسخر منها، ونقول إنها ترتدي خيمة، أو إنها ليست جميلة لكي تفعل هذا ولن ينظر إليها أحد في ظل وجود المتبرجات.. باختصار هي حرة، خاصة وأن بعض العلماء -نقول بعض العلماء وليس كلهم- ذهب إلى وجوب النقاب، ومن ثم فهي تأخذ بهذا الرأي الذي قد يلزمها ولا يلزم غيرها.. وهذه نقطة في غاية الخطورة، فلا ينبغي للمنتقبة أن تنكر على التي ترتدي الحجاب أنها تظهر جزءا من عورتها، فجمهور الأئمة يتفقون على أن الحجاب الذي يُغطي جميع البدن ما عدا الوجه والكفين هو الفرض.. فكما أننا ضد الهجوم على النقاب، فنحن أيضا ضد الهجوم من قبل المنتقبات على المحجبات. النقاب ليس كالمايوه قضية الهجوم على النقاب ليست جديدة، وإنما هناك بعض المتطوعين خاصة من الكُتاب المفكرين الذين يزعمون أنهم تنويريون يجعلونها شغلهم الشاغل، لدرجة أن بعضهم وقع في المحظور مثل الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين الذي اعترض بشدة على قرار إحدى المحاكم المصرية قبل عدة سنوات برفض قرار بعض عمداء الكليات بمنع الطالبات من ارتداء النقاب داخل الجامعة، حيث اعتبر الكاتب الراحل أن "النقاب وتغطية الوجه بدعة دخيلة على الإسلام والمسلمين، مشيرا إلى أن أحد المشايخ الأزهريين أيده في ذلك"، كما اعتبر أن لبس النقاب ممنوع مثل لبس المايوه! وهو ما دفع الدكتور القرضاوي بالرغم من تأييده للحجاب والخمار إلى الرد على هذا القول بأن الحجاب ليس بدعة، كما لا يجوز القول بحرمته كارتداء المايوه.. حيث قال في إحدى فتاواه: "إن وصف النقاب بأنه بدعة دخيلة، وأنه ليس من الدين ولا من الإسلام في شيء، وأنه إنما دخل على المسلمين في عصور الانحطاط الشديد الواقع أن هذا الوصف غير علمي، وغير موضوعي، وهو تبسيط مخلّ بجوهر القضية، ومضلل عن تبين الموضوع على حقيقته. فمما لا يماري فيه أحد يعرف مصادر العلم وأقوال العلماء أن القضية خلافية، أعني قضية جواز كشف الوجه أو وجوب تغطيته ومعه الكفّان أيضًا. وقد اختلف فيها العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين قديمًا، ولا يزالون مختلفين إلى اليوم.. إني أعتب على الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين تناوله لهذا الموضوع دون الرجوع إلى المصادر الموثقة، وخصوصًا أنه يعقّب على حكم قضائي صادر من محكمة مختصة محترمة، مع أنه حين يكتب في الأمور السياسية الشائكة يكتب بتعمق واتزان، ونظرة شاملة. ولعل اعتماده على بعض الكتابات الخفيفة المتعجلة والمتحمسة هو الذي أوقعه في هذا الخطأ الذي جعله يعتبر (النقاب) أمرًا مستنكرًا، ويقيسه على لبس (المايوه) في أن كلاً منهما لا يدخل في الحرية الشخصية!! فلم يقل أحد من علماء المسلمين في القديم أو الحديث بتحريم لبس النقاب على المرأة بصفة عامة، إلا ما جاء في حالة الإحرام في الحج فحسب. إنما اختلفوا فيه بين القول بالوجوب والقول بالاستحباب، والقول بالجواز. أما التحريم، فلا يتصور أن يقول به فقيه، بل ولا الكراهية.. وقد عجبت كل العجب مما نشره الأستاذ بهاء من كلمات لبعض الأزهريين الذين قالوا: إن القول بتغطية الوجه تحريم لما أحل الله، وهو قول من ليس له في الكتاب والسنة أو الفقه وأصوله قدم راسخة!. ولو كان الأمر مجرد مباح كما هو الرأي الذي أختاره –والحديث للدكتور القرضاوي- ولم يكن واجبًا ولا مستحبًا لكان من حق المسلمة أن تمارسه، ولم يجز لأحد أن يمنعها منه؛ لأنه خالص حقها الشخصي. وليس في ممارسته إخلال بواجب، ولا إضرار بأحد، والمثل المصري يعبر عن ذلك بوضوح ساخر حين يقول: (واحد شايل ذقنه، وإنت تعبان ليه؟!). ويستطرد: والدساتير الوضعية نفسها تقرر هذه الحقوق الشخصية، وتحميها. وكيف ننكر على المسلمة المتدينة أن تلبس النقاب على أن من طالبات الجامعة من تلبس الثياب القصيرة والشفافة والمجسمة للمفاتن، وتضع من (ألوان المكياج) ما تضع، ولا ينكر عليهن أحد، باعتبار أن هذا من الحرية الشخصية! مع أن هذا اللباس الذي يشفّ أو يصف، أو لا يغطي ما عدا الوجه واليدين من الجسم، محرم شرعًا بإجماع المسلمين؟!.
ولو منع هذا مانع من المسئولين في الجامعة، لأيده الشرع والدستور الذي نص على أن دين الدولة (الإسلام)، وأن أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ومع هذا لم يمنعه أحد.
ويختتم القرضاوي حديثه قائلا: فيا عجبا كيف تترك الحرية للكاسيات العاريات، المميلات المائلات، ولا يتعرض لهن أحد ببنت شفة، كما يقولون، ثم يصب جام السخط كله، واللوم كله، على ربات النقاب، اللائي يعتقدن أن ذلك من الدين الذي لا يجوز التفريط أو التساهل فيه!!".. ولا يفهم من الكلام السابق أن القرضاوي يؤيد النقاب، لكنه ليس معارضا له أيضا، فهو لا يراه بدعة كما أنه ليس حراما.. وإن كان يؤيد الخمار والحجاب على النقاب لعدة أسباب لعل منها أن القول بالحجاب هو رأي جمهور الفقهاء، كما أن مقتضيات الواقع –بل والدعوة الإسلامية قد تتطلب من المرأة أن تكون كاشفة لوجهها، وفي هذا يقول: "وأفضل للمسلمة المشتغلة بالدعوة: ألا تنتقب؛ حتى لا تضع حاجزًا بينها وبين سائر المسلمات، ومصلحة الدعوة هنا أهم من الأخذ بما تراه أحوط. كما أن هناك اعتبارات عملية لذلك فمما لا نزاع فيه: أن "عموم البلوى" من أسباب التخفيف والتيسير في الشريعة كما يعلم ذلك المشتغلون بالفقه وأصوله، ولقد عمت البلوى في هذا العصر، بخروج النساء إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل، والمستشفيات والأسواق وغيرها، ولم تعد المرأة حبيسة البيت كما كانت من قبل. وهذا كله يحوجها إلى أن تكشف عن وجهها وكفيها، لضرورة الحركة والتعامل مع الحياة والأحياء، في الأخذ والعطاء والبيع والشراء، والفهم والإفهام. وهكذا نجد أن القرضاوي يعارض الهجوم على النقاب وإن كان لا يرجحه، كما أنه يعارض في المقابل الهجوم المضاد من المنتقبات على المحجبات.. وهذا هو منهج الوسطية الذي يسير عليه الإمام الذي يجعلنا نتفق ولا نختلف حتى لا ننشغل عن قضايانا الأساسية. فمعركة النقاب تشتعل عندنا والأقصى الأسير مسرى الرسول يتعرض للهدم على أيدي اليهود المغتصبين.. فهل نستفيق من غفلتنا أم نستمر في إثارة هذه القضايا الخلافية؟