مشكلتي قد تكون مقززة؛ ولكني أريد من يساعدني ويقف بجانبي، ولا أريد من أحد أن ينتقدني، أتمنى أن تفهموا وجهة نظري. أنا شاب في 19 من عمري، في إحدى كليات القمة، ومتفوق في دراستي برغم ما عشته من مآسٍ وظروف قهرية وطفولة بائسة. مشكلتي عندما كنت صغيراً؛ وأنا والله محرج من قول ذلك ولكني أريد أن أشكو لأي أحد فربما يساعدني؛ تعرضت لاعتداء من عمي. المهم استمر ذلك عدة سنوات، وكنت مثل الكلب لا أستطيع مخالفته ولا معارضته.. استمر في ذلك حتي حالفني الحظ وانتقل هو إلى شقة أخرى؛ فقررت أن أنسى كل شيء وأهتمّ بدراستي؛ حتى أشغل نفسي؛ فليس هناك من يهتم بي.. فوالدي ووالدتي دائماً مشغولان في عملهما وإخوتي بنات فلا أستطيع أن أتكلم مع إحداهن. تناسيت ما حدث لي من مآسٍ وتفوّقت لأثبت للجميع أنني أحسن منهم، ودائماً ما يطلقون عليّ أنني مغرور؛ فهم لا يعلمون شيئاً هو أن غروري هذا بسبب ما حدث لي. أنا الآن في حيرة؛ فقد جاء هذا العم من فترة لزيارتنا، وعندما شاهدني ابتسم في وجهي كأن شيئاً لم يحدث، ولولا خوفي من السجن لقتلته.. ورأيت معه ابنه، هو الآن تقريباً في مثل سن الاعتداء عليّ؛ فأردت أن أنتقم منه في ابنه، وعندما حاولت ذلك لم أستطع وبكيت كثيراً. ماذا أفعل أنا أريد حقي وعذاب ليالي طفولتي التي انتُهكت حيث كنت أبكي كل يوم ولا أحد يسمعني. أنا لا أريد أن أظلم أحداً.. كل ما أريده أن أنسى؛ فماذا أفعل وأنا لا أجد من أتكلم معه ولا أجد من ينسيني ذلك؟.. الجميع لا يتحدثون معي أو ربما أنا لا أريد أن أتكلم معهم؛ فهم يقولون أني مغرور؛ لذلك أنا أكره كل أقربائي ولا أطيقهم جميعاً. أتمنى أن تساعدوني. Fox man
التحرش أو الاعتداء في الطفولة من أصعب وأعمق الأحداث التي تترك أثراً غائراً يحتاج لوقت وجهد حتى يندمل؛ فمن آثاره: الشعور بالمهانة الشديدة، والقهر والرعب والخوف حتى من البوح، وكذلك الرغبة القوية في الانتقام من المتحرش، واضطرابات في النوم، ونوبات فزع ليلية، وقلق، وفقد الثقة في النفس وفي الآخرين، وقد تصل لدرجة أكبر حين يتوجّه كل هذا الكمّ من المشاعر السلبية إلى النفس؛ حيث يتصور المتحرَّش به أنه ليس رجلاً ولا يستحق إلا المزيد من المذلة والمهانة؛ فيهوي ويظلّ طريح الأرض لسنوات طويلة قد تمتد لكل عمره مادام لم يفكر في مواجهتها. والحمد لله أنك لم تصل لذلك؛ بل تفوّقت ووجّهت شعورك بالنقص لمزيد من التميّز؛ فأي انتقاد تتصور أننا سنوجهه لك؟ فنحن فخورون ويملؤنا الغرور -كما يحلو للآخرين أن يقولوا- أنك قاومت مشاعرك وقهرت أنت ظروفك، وتمكّنت من لملمة ذاتك قدر مستطاعك؛ فتحية تقدير وفخر لك يا ولدي الحبيب. وأتصور أن قصتك صرخة مدوّية في وجه الكثير ممن تشير لهم أيدي الاتهام؛ بل وتصلح قصة للتدريس لهم؛ أولهم الأهل الذين يمارسون الوالدية بإهمال منقطع النظير، أو بطيبة تصل لدرجة البلاهة؛ حين لا يتابعون أبناءهم ولا يتواصلون معهم؛ فيعرفون مشكلاتهم، وحين لا يصادقونهم بحق؛ فيتعرفون على آلامهم فيكونون رمزاً للأمان والثقة والمرجعية. وحين يثقون في كل وأي شيء لدرجة غير مقبولة؛ فيستبيحك عمك لسنوات وسنوات دون أن يَلْمَحوا أو يرَوْا أو يشعروا ولو لمرة واحدة. وحين يغفلون أن ينبّهوا أولادهم إلى أن الذي يتعرّض للتحرش ليس الطرف الضعيف أبداً؛ بل هو الطرف القويّ، وأن المتحرِّش يستمدّ قوته من ضعف المتحرَّش به؛ فالمتحرِّش يعلم جيّداً أنه يفعل الخطأ، ويستبيح حرمات الله المغلظة، ويعلم أن المجتمع يرفضه ويرفض ما يفعله؛ فهو الأضعف لا جدال؛ فلو علّمنا أولادنا كيف يحمون أنفسهم لتغيّرت تلك الأحوال كثيراً. والإعلام الذي يغنّي ليلاً ونهاراً على موضوع واحد هو "الجنس" ولا يراعي الأدب ولا التربية ولا جواز مشاهدة تلك المشاهد التي تقع في نفس مراهق يبدأ في التعرّف على الجنس ويملأ جسده فورة جنسية؛ فلا يجد من يحدّثه ويربّيه أو من يذكّره بمراعاة الله، ويصدمه الواقع بأنه لن يحصل على الحلال أبداً في تلك المرحلة، وحين يخرج للشارع يجد من تعرّي بطنها ومن تتميع ومن ترتدي ملابس كاشفة؛ فلا يجد منفساً له سوى طفل صغير يرهبه ويهدده لينال مأربه حتى لو كان ابن أخيه! ماذا أقول لك يا ولدي.. سامحني إن كنت قد تحدّثت عن المشكلة بشكل أوسع من حالتك؛ ولكن كان لابد منها، والآن أعود إليك لأحدّثك اليوم، بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد أن حققت تميّزاً يجعلك في مكانة اجتماعية مرموقة بإذن الله فانتبه لما أقول: * تذكّر أنك لم تكن كلباً أبداً يا ولدي؛ ولكنك كنت طفلاً صغيراً خائفاً وتحت التهديد؛ فلم يكن أمامك وقتها ما يمكنك عمله؛ فلا تلُم نفسك وارحمها. * من أكبر الأخطاء التي تلتصق بتلك التجربة هي "الصمت" والمعاناة وحيداً، وقد يكون ذلك لطريقة تربيتك أو لطبيعة العلاقة بينك وبين والديك؛ ولكنك لا زلت تحتفظ بتلك الشحنة التي تقبع بداخلك ولم تتخلص منها، ولا زال الحل في إخراجها حتى تتخلص منها؛ ولكنك اليوم رجل ناضج واعٍ؛ فلن تخرجها بشكل طفولي؛ ولكنك تستطيع أن تخرجها عن طريق التعبير عنها بطرق مختلفة؛ فقد تكون بالكتابة، أو الشعر أو الرسم أو الرياضة أو الفضفضة مع شخص حكيم تحترمه وتثق فيه، أو حتى بالبكاء، أو بالتفكير بشكل منطقي فيما حدث بحجمه دون تضخيم ودون تسفيه. ويمكنك كذلك القيام بتدريب الموقف التخيّلي؛ حيث تستحضر تلك المرات وكأنك تشاهدها وحين تصل للحظة القهر والتهديد تقوم في خيالك بتصور ما كان يجب أن تقوم به، أو كنت تتمنى حدوثه؛ فهذا التدريب يساعدك كثيراً على التخلّص من تلك الشحنة بالتكرار. * تذكّر أنك أنت الأقوى دوماً لأنك تعيش في النور، ولا تسرق في الظلام، ولا تهدد آخر، ولا تتعدى على حرمات الله عز وجل، وأن تلك التجربة رغم أنها كانت محنة شديدة؛ إلا أنك بذكائك وإرادتك حوّلتها لفرصة؛ فكان التفوّق والتميّز؛ فلا تنظر للوراء إلا لتستفيد منه، فتعرف أنك قويّ وستربي أبناءك على الصداقة والقرب والثقة، وستعلّمهم كيف يحمون أنفسهم باللجوء إليك أو بعدم الخوف من كل كبير أو كل تهديد، وأنه رب ضارة نافعة؛ فلعل تلك التجربة هي التي بلورت لديك فكرة التميز فكان، ولعلّها تكون درس العمر لتتعلم أن ما يضربك يقويك ولا يكسرك. * اقترب من الله عز وجل واعلم أنه يتعامل مع البشر بسنن كونه؛ فلقد أمر كل أب وأم أن يرعوا رعيتهم، وأنهم مسئولون عنها حين قال على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته"؛ فلن يتمم سبحانه للعباد ما قصّروا عمداً فيه؛ ولكنه ينزل رحماته وودّه عليهم إن استقاموا، ويعينهم على تخطّي أزماتهم؛ فكن بجواره دوماً ولا تترك سبيله. * تحتاج لأمرين فوراً: الأول: أن تتعلم مهارة "التسامح"، نعم التسامح، رغم كل ما ذكرته؛ فالتسامح الأول سيكون مع نفسك؛ فلا توجّه لها أي لوم ولا تأنيب. والثانية: لعمّك! فغالباً هو كان في سن مراهقة ولم يجد من يقترب منه ويتحدث معه -كما لم تجد أنت- أو يحتوي تغيرات جسده الهرمونية وقت المراهقة، أو يؤكد لديه الوازع الديني الذي يحميه من تخطّي حدود الله سبحانه، ولأنه كان نتاج إهمال آخر من أهله وأهلك؛ فقد وقع بكل أسف فيما وقع فيه معك. وليس معنى ذلك أنني لا أشعر بك؛ ولكني أخاطب الجزء العاقل فيك. والثالث: لوالديك فرغم قصورهم في المتابعة والقرب؛ إلا أنهم كانوا ضحايا الثقة العمياء التي لم يعد لها مكان كالسابق في أيامنا هذه، أردت بتلك المسامحة أن أوضّح لك الأمر كما كان عليه؛ حتى تتمكن -بمرور الوقت- من مسامحة نفسك ومسامحته ومسامحتهم؛ ليس لأجلهم هم شخصياً؛ ولكن ليظلّ قلبك نقياً ونظيفاً من أي شيء يلوّثه. أما الأمر الثاني.. أن تتعلم درساً مهمّاً من دراستك العلمية -التي أظنّها الهندسة- أنه لا تعميم ولا وجوب لأي فكرة؛ فحين نقع في هاتين الطريقتين في التفكير نفقد الصواب في التفكير؛ فليس كل الأقرباء ذئاباً، وليس كل شخص حولنا لا يفكّر إلا في الاعتداء، وليس كل البشر لا يستحقون الثقة، وخير دليل على ذلك هو أنت شخصياً؛ فرغم تجربتك الأليمة إلا أنك لم تتحول لشاذ مثلاً أو رجل يبحث عن الشهوة التي ذاقها منذ صغره تحت أي ظروف، ولم تقوَ على فعل ذلك في ابنه انتقاماً منه. ورغم أن الدراسات أثبتت أن أكثر من 85% ممن تعرّض لتحرش واعتداء لفترة طويلة في صغره يتحول للشذوذ؛ فها أنت من ال15%؛ بل وتتمتع بإرادة ورغبة في إثبات الذات والتي أشارت لها بعض الدراسات القليلة.
فخورة بك أنا يا ولدي، ولم يبقَ إلا أن أعترف أن ما ذكرته من تدريبات أو طرق للتخلّص من مشاعرك السلبية قد تكون صعبة عليك بمفردك، وتحتاج لجلسات تفريغ نفسي مع متخصص ليساعدك بصدق على التخلّص تماماً منها بإذن الله تعالى.