ظروفهم متشابهة.. فقد اقتسموا فيما بينهم الظروف المعيشية الصعبة، وأكل الفقر من أجسادهم، ومن دمائهم شرب، وأُجبِروا أن يعيشوا على هامش المجتمع، ولفظتهم الحياة، وجرّدتهم من آدميتهم، ولكن وجه الاختلاف الوحيد فيما بينهم أن منهم فئة تعيش تحت الأرض كالفئران، ولا ترى أعينهم سوى أحذية المارة، والفئة الأخرى تعيش على قمم المباني والعقارات يجاورون عشش الدواجن، وكأنهم قطع من الروبابيكيا أو كم من المهملات. الفئة الأولى هم سكان "البدرومات"، أما الثانية فهم كائنات "السطوح" الذين ينتشرون في عقارات القاهرة الكبرى بشكل واسع بعد أن اكتظت بساكنيها، حاولت رصد أحوال هؤلاء السكان؛ للوقوف على طبيعة حياتهم، ونقل الصورة إلى كل مسئول يبحث عن توفير أدنى الاحتياجات الإنسانية وهو السكن الآدمي. سكان البدروم أشبه بسكان القبور بدأت جولتي بالبحث عن سكان "البدروم"، ووجدتهم كثيرين سواء في الأحياء الراقية أو الشعبية والعشوائية، ففي منطقة الشرابية التقيت بإحدى الأسر تعيش أسفل عقار على وشك الانهيار، واضطررت إلى النزول على أرض غير مستوية لأجد 5 أشخاص متكدسين داخل البدروم المكوّن من غرفتين وحمام، وليس به أي نوافذ سوى "طاقة" صغيرة ترى سطح أرض الشارع الخارجي فقط الذي لا يظهر منه سوى أحذية المارة وإطارات السيارات ولا تزورها الشمس. عمّ "محمد" رجل في الستين من عمره، وهو رب الأسرة، وأول ما قاله لي عبارة واحدة لخّصت مشاكل عديدة وهي: "إننا نعيش في قبر"، وأضاف: "نزحت من محافظة أسيوط قبل 30 عاماً للبحث عن عمل بالقاهرة، خاصة أنني لا أمتلك أرضاً زراعية أو مسكناً هناك، وجاءت معي زوجتي وأبنائي الذين كانوا لا يزالون في مقتبل العمر". وأشار إلى أنه بدأ العمل كعامل تراحيل في أعمال البناء ورصف الطرق بعد تمكّنه من الحصول على شقة متواضعة بمنطقة "منشأة ناصر" مقابل 30 جنيهاً كإيجار شهري، وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت، واستمر الحال هكذا حتى أصيب قبل 10 أعوام أثناء عمله بإصابة في قدمه أقعدته عاجزاً بالمنزل، ولكن قيمة الإيجار قد ارتفعت إلى 100 جنيه، وكان وقتها لم يستطِع دفعها؛ لضيق ذات اليد، لذا خرج من شقة "منشأة ناصر"؛ باحثاً عن سكن أرخص، مضيفاً: "لم أجد سوى هذا البدروم أو القبر الذي أعيش فيه أنا وأبنائي، وهم بنات وليس من بينهم ولد يعمل للإنفاق على الأسرة، واستأجرت البدروم بخمسين جنيهاً شهرياً أوفِّرها من تبرّعات الأهالي، ومن أهل الخير كما أوفِّر نفقات طعامنا وملابسنا". أما الزوجة (روحية) فقالت: "الفئران والثعابين والحشرات تشاركنا القبر الذي نعيش فيه، وهو ما يجعلني أسهر طوال الليل لحماية بناتي منها، أما الرطوبة فقد نهشت أجسامنا، وأصابتنا بالأمراض الجلدية، وهشاشة العظام، فالشمس لا تدخل إلينا أبداً، وأضافت أنه في فصل الصيف يتحوّل البدروم إلى ما يُشبه الفرن، وفي الشتاء يُصبح كبركة من الطين والمياه نتيجة الأمطار. علاوة على الرعب الذي يشهدونه يومياً؛ لأن البيت الذي يعيشون فيه يُوشك على الانهيار، وحيطانه مليئة بالشروخ والشقوق، كما أوضحت أنهم تقدّموا بأكثر من طلب إلى المسئولين لتوفير مسكن آدمي، ولكن دون جدوى". فيما أشارت "سعاد" -البنت الكبرى (30 عاماً)- إلى أنه بسبب الفقر الذي يعيشون فيه لم تتمكّن هي وأخوتها من الالتحاق بالمدارس، وبسببه أيضاً لم يتقدّم أي شخص مناسب للزواج منهن، بل معظم من يتقدّمون لهن هم من البلطجية أو المدمنين.
الفقر ينهش اجساد سكان البدروم والسطوح غرفة واحدة نوم ومطبخ واستقبال للضيوف تركت بدروم عم "محمد" وأسرته، وتركت منطقة "الشرابية" الشعبية، وبها مئات من الأسر التي لا تختلف حالتها عن حالة هذه الأسرة البائسة، واتجهت إلى إحدى المناطق الراقية لعلّي أجد الوضع أفضل، وأثناء تجوّلي بمنطقة "جاردن سيتي" وبنظرات سريعة أسفل العقارات وجدت أنه لا يخلو مبنى من وجود "بدروم" تعيش فيه أسر بأكملها، والتقيت بواحدة منها. وظننت للوهلة الأولى أنها أسرة بواب العقار، ولكن نفى "حسين" الذي يُقيم وأسرته به، قائلاً إنه "استأجر البدروم المكوّن من غرفة واحدة وحمام صغير مقابل 250 جنيه شهرياً ليعيش فيه وزوجته وأطفالهما الثلاثة بعد أن كان سكناً لبواب العقار الذي طلب منه صاحب العقار أن يقيم أسفل السلالم بعد رفضه دفع إيجار لإقامته بالبدروم". وأوضح حسين أنه جاء للسكن في "البدروم" بعد انهيار العقار الذي كان يُقيم به بمنطقة "بولاق أبو العلا" قبل 4 سنوات دون أن يوفّر له المسئولون أي سكن بديل، ليجد نفسه بالشارع، وكان يعمل كسائس سيارات بمنطقة "جاردن سيتي" التي لم يفكّر طبعاً في السؤال عن سكن بها؛ لأنها كما يقول "منطقة الباشوات والبهوات فقط"، ولكن دلّه عامل بأحد جراجات المنطقة على هذا "البدروم" فانتقل إليه. وأضاف: "نعيش حياة الأموات، فالسكن مظلم طوال الوقت؛ فهو بلا نوافذ نهائياً، وننام جميعاً في غرفة واحدة التي تعتبر غرفة نوم ومطبخاً واستقبالاً للضيوف، ولا يوجد بها سوى سرير وأريكة فقط"، وأشار إلى أن أكثر ما يعانون منه هو طفح شبكات الصرف الصحي داخل "البدروم" الذي يُحوّله إلى كابوس يتحملونه مجبرين؛ لأنه لا يوجد بديل.
أسرة تعيش على السطوح الحياه مع الدواجن على السطوح لم يكن حال سكان السطوح بأفضل، فعندما صعدت إلى سطوح أحد عقارات وسط البلد وجدت بها خمسة حجرات كل حجرة تعيش بها أسرة، ولم يعد بالسطوح سنتيمتر فارغ، فالحجرات متراصّة وبينها عشش لتربية الدواجن والطيور. طرقت باباً متهالكاً لإحدى الغرف، وخرجت منه سيدة عجوز تدعى "حليمة"، وعندما دخلت إلى حجرتها -التي لا تتجاوز مساحتها الثلاثة أمتار مربعة- وجدت بها "كنبة" وصندوقاً خشبياً كبديل للدولاب، وموقد نار صغير لزوم الطهي، علاوة على عدد من الكتاكيت. قالت السيدة العجوز: جئت للإقامة بهذه الحجرة منذ 40 عاماً مع زوجي، الذي كان يعمل في أحد مطاعم وسط البلد مقابل جنيه ونصف إيجار شهري وقتها، ولكن بمرور الأيام وصل الإيجار إلى 190 جنيهاً، وكانت الحجرة الوحيدة على السطوح. وبعد وفاة زوجها وابنها الوحيد لم تجد سبيلاً لتوفير نفقات معيشتها سوى العمل في بيع المناديل بالشارع رغم معاناتها من مرض الفشل الكلوي.
إمرأة تعيش وحيدة في بدروم يوشك على الانهيار الأب ينام أمام باب الحجرة وداخل الحجرة المجاورة للسيدة العجوز تسكُن أسرة مُكوَّنة من 7 أفراد، قال صاحبها ويُدعى "سعد": إنه يقيم بالسطوح منذ عشر سنوات بعد أن عجز عن دفع إيجار الشقة التي كان يقيم بها بمنطقة صفط اللبن، وينام صيفاً وشتاءً أمام باب الحجرة حتى يوفر مساحة لنوم أبنائه. وبعدما تركت السطوح، وهبطت من سلم حديدي أوصلني إلى السلم الأسمنتي لأجد نفسي في الشارع، تذكّرت وقتها التصريحات الوردية التي تخرج علينا كل يوم من المسئولين، والتي تؤكد أن المواطن المصري يعيش أزهى عصور الرفاهية، وتناسوا أن هناك فئات سقطت من حساباتهم، وحكموا عليهم بالموت، وكأنهم لا يستحقون الحياة الآدمية.