تصبّب العرق الغزير على وجهي وأنا أحاول جاهداً أن أتابع ما يقال في مؤتمر تنمية المرأة، ودون أن أصف لك فبالتأكيد أنت تعرف المكان، المنصة ذات المفرش الأخضر.. السيدات الأربع الغاضبات الجالسات على المنصة، وزجاجات مياه معدنية "أكوافينا"، بالتأكيد لو طلبت أنت أو غيرك من الجالسين (العاديين) كوباً من المياه، فسيأتي لك عم محمد البشوش الوجه بكوب مياه لا يستحي أن يملأه من قاع المرحاض.. إنها هيبة المياه المعدنية والتي تعطي لأهل المنصة الشعور بالثقة المعدنية المفرطة... كان ما شد انتباهي هو ما كانت السيدة "الرئيسة" تقوله بغضب عارم صاحبه سيل من قطرات اللعاب المختلطة بالمياه المعدنية: "إنها مشكلة فتياتنا، لقد صار الشباب في تنقيب مستمر ومحموم عن فتاة الفيديو كليب، فتاة الفيديو كليب ضيّعت فرصة بناتنا في الزواج، واللوم على الشباب الذين صاروا بهذه السطحية". فتاة الفيديو كليب عبارة صارت متداولة بكثرة خاصة في أوساط اللوم اللامنطقي والاستنساخي.. هم لا يجدون أي منطق خاص بهم، فيستنسخون منطقاً ابتدعه غيرهم بغرض إلقاء اللوم على أي شيء قد يعطيهم تبريراً منطقياً لفشلهم الشخصي أو الجماعي، فببساطة من هي فتاة الفيديو كليب؟؟؟ وهل الفيديو كليب المقصود عربي أم أجنبي، ثم كيف أضاعت فتاة الفيديو كليب فرص البنات في الزواج؟ أو بالأحرى: هل يقع اللوم على الشباب السطحي أم فتاة الفيديو كليب؟! الأمر ببساطة هو أن مجتمعنا لديه حالة من إدمان ابتداع الظواهر الاجتماعية التي لا يجرؤ علماء الاجتماع على اعتبارها ظواهر اجتماعية. ولكن ماذا يكون بارسونز وماركس وإيميل دور كايم أمام خالتي نوسة والحاجّة زينب القابلة، فمن عبدة الشيطان... للألتراس... لفتاة الفيديو كليب....... والبقية تأتي، لن أستبعد يوماً أن يخرج علينا عبقري ما بظاهرة شبشب الحمام زيكو. تمكين العصفورة في مجتمع الجبابرة الأمر المضحك هو أن ما يتم من جهود لتنمية المرأة في مصر يتشابه مع إعطاء مريض بالكبد دواءً للسعال، فكل الموارد الموجّهة لهذه العملية -والضخمة في كثير من الأحيان- تقتصر على ما يُعرف بتمكين المرأة، ولعل خير دليل على ذلك الارتفاع الرهيب في عدد الجمعيات الأهلية والتي تسعى لتمكين المرأة خاصة في العامين الأخيرين. وتمكين المرأة هو بكل بساطة ضمان حصولها على حقوقها المسلوبة من قِبَل مجتمع الرجال الجبارين "ده اللي هم إحنا!" والطاغين والمسيطرين على كل نقاط قوة هذا المجتمع، كلام جميل فلنفترض صحته، وهي نية سليمة لا غبار عليها، وهو أمر غير معهود عندما يتعلق الأمر بجهود تنموية تلقى تأييداً عالمياً، ولكن أبسط قواعد التنمية والتي لا تحتاج لخبير لإدراكها هو أن يدرك الفرد قيمة ما يقدَّم له، بل والأكثر من ذلك أن يعرف كيف يستفيد منه، فتمكين المرأة لا يتعدى كونه مجرد وسائل أو أدوات، لكن الجزء الأهم يتعلق بمستخدم هذه الأدوات وهي المرأة؛ فقبل أن تتاح لها الوسائل يجب أن يتم تنمية إدراكها لأهميتها في المجتمع، ووعيها بقيمة ما يمكن أن تقدّمه. قليل من الدلع.. كثير من التمكين دعنا وبكل حيادية نفكر ونحاول أن نرسم شكلا مفهوما على ورقة بيضاء لرؤية أغلب نساء مجتمعنا لأنفسهن... في المرحلة الجامعية كان يوم الامتحان الشفهي أشبه بافتتاح مسرح العرائس، الأخت "رشا" كانت أشبه بعود الربسوس طوال العام، ثم كانت تفاجئنا يوم الامتحان الشفهي بنيولوك "علا غانم".. والسؤال هنا: لماذا؟؟؟ الإجابة وبكل بساطة هي أن الأخت رشا وغيرها كان لديهن قناعة "وهي حقيقية" بأن قدراً قليلاً من الدلع خلال الامتحان قد يقودهن إلى تحقيق قدر كبير من الدرجات، بالتأكيد سهّل المأمورية كثيراً جماعة الطابور الخامس من أساتذة الجامعة الذين كانت نظرتهم لبنت المدينة في السابق أشبه بنظرة الهندوس للأبقار"والله كنت مذاكراها يا دكتور هئ هئ".. "ولا يهمك أنا معروف عني إني قلبي كبير"، طبعاً صديقي عبد الواحد حاول أن يقول نفس العبارة السابقة لدكتور فيزياء الأراضي رسب في المادة لعاميين متتاليين!!! إذن هي بطريق غير مباشر تدفع المجتمع المصغر من حولها إلى الاستخفاف بإمكاناتها العقلية، والنظر إلى إمكاناتها اللولبية كمعيار أهم وأكثر فعالية، وبشكل آخر هي تظلم القلة التي تحمل ما يكفي من الاحترام لذاتها والذي يدفعها لعدم القيام بفاصل الدلع المسبب والذي تقوم به الفتيات الأخريات. المرأة ونظرية العرض والطلب ثم تأتي فترة بعد التخرج... علياء تعيش قصة حب ملتهبة مع أكرم، وأكرم شاب طموح وكان يسعى وحتى قبل أن ينهي دراسته أن يجد وظيفة تساعده في الإنفاق على نفسه وعلى علياء بيضاء الثلج خاصته، ولم تكن علياء فتاة فيديو كليب وإن كان لا بد وتصنيفها فهي فتاة "لادا" ذات شكل معتاد، غير ملفتة، يوجد منها الكثير، وبتعيش. كان أكرم وعلياء يجلسان في الركن المعتاد يوم الثلاثاء، النظرات الحانية المتبادلة، وكأن أحدهما مصاب بالسرطان، الضحكات الرقيقة وكوب العصير الذي يدفع أكرم ثمنه راضياً... يوم الأربعاء.. جاءت أشجان صديقة علياء تزفُّ إلينا خبر خطبة علياء، توقَّع الجميع أن يكون أكرم، ولكنه لم يكن أكرم -كان مدحت- وتهامست أشجان وعلياء بجانبي "أصله بيشتغل مهندس في السعودية" تساءلت أشجان: "طب وأكرم؟" وبكل حكمة قالت علياء: "أكرم كويس، بس ما ينفعش". بالتأكيد الأخ أكرم المسكين لا يصلح؛ لأنه لا يملك ما يملكه الباشمهندس مدحت -كان ذلك قبل الأزمة الاقتصادية العالمية- والأدهى من ذلك أن الأخ مدحت سيقف في الكوشة قفاه شبرين من السعادة معتقداً أنه الأول والأخير في حياة علياء، إذن هي سمحت لنفسها أن تصير سلعة تباع وتُشترى برضاها لمن يدفع الثمن بل يصل الأمر في بعض الأحيان أن يأتي أكثر من ثمن وتختار هي الأكبر. هي بذلك تنزع عن نفسها صفة الإنسانية، وتستبدلها بصفة سوقية بحتة، حتى في حياتها بعد ذلك سيظل مفهوم السلعة يسيطر على تفكيرها مما سيدفعها لأن تكون تابعة لزوجها كتابع دراكولا المطيع. القهر الاختياري يأتي بعد ذلك مرحلة ناقوس الخطر، والحقيقة أن هاجس الزواج يراود أغلب الفتيات؛ خاصة بعد أن يتعدّوا سن الخامسة والعشرين؛ خاصة مع حالة الشماتة من أقرانها المحيطين، والتي تكون في بعض الأحيان تخيّلية لا أساس لها من الصحة، وبالتأكيد يؤدي ذلك النوع من الإرباك العقلي لإساءة توجيه الطاقة العقلية في اتجاه آخر تماماً؛ فبدلاً من أن تتجه طاقتها للإبداع وتحقيق الذات واكتشاف مصدر تفرّدها الإبداعي عن غيرها؛ فهي توجه تلك الطاقات المهولة إلى اصطياد"البأف" القادم لحياتها. بغضِّ النظر عن قناعتها الشخصية به، هي تمارس نوعاً من القهر الاختياري على نفسها بأن تقنع حالها بأن "البأف" هو "جيمس دين" ساحر السينما الأمريكية المنتحر، وتتلاعب بقناعاتها بشكل احترافي مثير؛ فيصير الواد "كريم فحمة "أسمراني بس شبه "عماد متعب"، بالتأكيد الأخ "كريم فحمة" لا يمتّ بصلة قريبة أو بعيدة لعماد متعب؛ اللهم إلا إذا تعرّض للطهي بالبخار لساعة متواصلة. أنا لست من مؤيدي الاهتمام بالمظهر الخارجي على حساب القيمة الداخلية المحرّكة لذلك البنيان الخارجي؛ ولكن هذا أيضاً يتعرض لنوع من التضليل الذاتي والاختياري تقوم به الفتاة لنفسها؛ فكم مرة اتجهت فتاة للحجاب بعد خِطبتها بأسابيع قليلة والذي يرتبط بعبارة "أصل هو أقنعني بالحجاب"، "يا سلام... مرة واحدة كده!". أين كنتِ من قبل؟ ثم كيف لشخص، ولو كان يمتلك سحر أوباما وحكمة غاندي، أن يقنعك في أسابيع قليلة بما فشل في أن يقنعك به أهلك طوال السنين الماضية؟ ثم يصبح الحديث عن الأخ "كريم فحمة" بصيغة ضمير الغائب بصورة مستمرة، "هو عايز كده"... "أصله قال لي بلاش"... "أصله ما بيحبنيش أضرب كشري على الريق"، وأشياء من هذا القبيل. وذلك الاتجاه في استخدام الضمير الغائب وعدم ذكر اسم الأخ كريم يذكّرني بهاري بوتر ورفاقه عند حديثهم عن فلدمورت، هو الذي يمشي في الظلام ولا نذكر اسمه. التمكين الحقيقي مش "استرجل واشرب بوري" القصة ليست في توفير إمكانيات مادية للمرأة وتمكينها، كما هو ضرورة لتوجيه تلك الجهود إلى تنمية قناعة المرأة بنفسها أولاً، وأهمية دورها في الحياة مع مراعاة عدم إغفال أهمية دورها كأم وزوجة، ولكن بشكل لا يطغى على حرية إبداعها وتفكيرها. وهو أمر مرهون بها أكثر من أي شخص آخر، حتى بعض الذين يحاولون أن يصِلوا للتفكير الذي أقصده هنا يذهبون إلى اتجاه آخر تماماً؛ فحرية تفكير المرأة لا تعني أن تتشبه بأسلوب الرجل في تعامله مع متغيرات حياته اليومية "كفّك يا معلم"، و"تعالى ننزل نضرب بوري"؛ بل أن تحتفظ بتفرّدها الذي يميّزها عن الرجل، والذي يتمثل في رقّتها مع عدم طغيان تلك الرقّة على شخصيتها وطموحها. هي المعادلة الصعبة التي يجب أن تصل إليها.. نظرت للرجل الذي بجانبي وهو يصفق في بلاهة وفكرت أن أشاركه وجهة نظري؛ إلا أنني تراجعت عندما تذكرت آخر مرة أعربت فيها عن وجهة نظري الفلسفية العميقة لصديقي إسلام كساح.. أخذ يستمع في شغف، ثم نظر لي في عمق بعدما انتهيت، وقال: "اديني في الهايف وأنا أحبك يا نانانّس".