"مواجهته كابوس".. علي فرج يعلق على هزيمته لمحمد الشوربجي ببطولة الجونة الدولية للاسكواش (فيديو)    د. مفيد شهاب ل «الأخبار»: تحرير سيناء نتاج نصر عسكرى وسياسى وقانونى    تحرير سيناء «1»    مستقبل وطن يكرم أوائل الطلبة والمتفوقين على مستوى محافظة الأقصر    موعد إجازة شم النسيم 2024 في مصر.. وتواريخ الإجازات الرسمية 2024    تدريب وتنمية مهارات الطلبة والخريجين|هيئة الدواء توقع بروتوكول تعاون مع «صيدلة القاهرة»    غرفة عمليات التموين تتلقى شكاوى المواطنين ضد المخابز وإحالة المخالفين للنيابة    برلماني: قانون التأمين الموحد يساهم بتحقيق التنمية المستدامة واستراتيجية الشمول التأميني    استعد لتغيير الساعة.. تعرف على موعد تطبيق التوقيت الصيفي    «الاتصالات»: الكفاءات الرقمية وحيادية البيانات تجذب استثمارات الذكاء الاصطناعي    بعد فتح تحقيق مع زوجته.. رئيس الوزراء الإسباني يفكر في الاستقالة    حكومة الاحتلال تسمح بدخول وفدين من الأمم المتحدة والصليب الأحمر لغزة غدا    مستوطنون يتظاهرون ويشعلون النيران أمام مقر نتنياهو للمطالبة بإبرام صفقة لتبادل المحتجزين    "كولومبيا" لها تاريخ نضالي من فيتنام إلى غزة... كل ما تريد معرفته عن جامعة الثوار في أمريكا    بمشاركة 480 باحثا جامعيا، انطلاق فعاليات المؤتمر السنوي للدراسات العليا بعلوم القناة (صور)    الدوري المصري، بيراميدز يتقدم على البنك الأهلي بهدف نظيف في الشوط الأول    سبورت: برشلونة أغلق الباب أمام سان جيرمان بشأن لامين جمال    متابعات ميدانية مكثفة ل 30 هيئة شبابية ورياضية بالقليوبية    أصبحوا بخير.. رئيس نادي الترسانة: التحقيق في اختناق أطفال حمام السباحة| خاص    مصر تفوز على المغرب بثلاثية في بطولة شمال إفريقيا للناشئين    ضبط سائق وعاطل لسرقتهما سور الطريق الدائري في الجيزة    بعد إحالة الجاني للمفتي.. ابنة ضحية الممرض اللص بالإسماعيلية تنهار من الفرحة    مدير «مكافحة الإدمان»: 500% زيادة في عدد الاتصالات لطلب العلاج بعد انتهاء الموسم الرمضاني (حوار)    أنا أم العروسة.. بدرية طلبة تستعد لزفاف ابنتها بهذه الطريقة    نصيحة بدرية طلبة لابنتها في حفل زفافها وظهور خاص لزوجها (فيديو وصور)    الإفتاء توضح أدعية عند اشتداد الحر    دعاء الستر وراحة البال والفرج.. ردده يحفظك ويوسع رزقك ويبعد عنك الأذى    حكم الدعاء لغير المسلم بقول الله يرحمه.. خالد الجندي يجيب بالأدلة    كيف يكون السير إلى الله بالقلوب؟.. علي جمعة يكشف أسراره وكيفيته    حكم تصوير المنتج وإعلانه عبر مواقع التواصل قبل تملكه    محافظ الإسكندرية: إنشاء مستشفى متكامل لعلاج أمراض الصدر والحساسية قريبا    كبار السن وممارسو الرياضة.. من هم الأكثر ضررا بسبب ارتفاع درجات الحرارة؟    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    أزمة الضمير الرياضى    ارتفع صادرات الصناعات الهندسية ل1.2 مليار دولار بالربع الأول من 2024    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    النائب علاء عابد: مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب سيناء    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    زيادة وتيرة حرب أسعار السيارات الكهربائية في الصين    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    «الصحة»: فحص 1.4 مليون طالب إعدادي ضمن مبادرة الكشف المبكر عن فيروس سي    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    الأمم المتحدة تدعو لإجراء تحقيق بشأن مقابر جماعية في محيط مستشفيين بغزة داهمهما الاحتلال    حظر سفر وعقوبات.. كيف تعاملت دول العالم مع إرهاب المستوطنين الإسرائيليين بالضفة الغربية؟    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جورج قرم في مقاربة جديدة للعلاقة بين الفكر والسياسة عربياً
نشر في صوت البلد يوم 26 - 05 - 2018

يعيد الباحث والمفكر اللبناني جورج قرم في كتابه «الفكر والسياسة في العالم العربي» منشورات دار الفارابي، يعيد النظر بالطروحات النمطية الطابع التي أصبحت مسيطرة على الساحة الفكرية العربية، المتأثرة إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الغربية الفلسفية والاستشرافية والجيوسياسية، وعلى الطروحات السياسية حول صراع الحضارات، والعودة إلى الالتزام بالإسلام ديناً ودنيا ونمط تفكير.
وإعادة النظر بالطروحات النمطية الطابع كما يشرحها قرم تطاول طرحا آخر قلما تعمّق المثقفون العرب بدرسه وبحثه، حول دور المفكرين المسيحيين الذين لعبوا دوراً مختلفاً عن دور المفكرين المسلمين منذ مطلع عصر النهضة وحتى اليوم، كما تظهر في كتابات مفكرين مبدعين هما اللبناني ألبرت حوراني، والفلسطيني هشام شرابي.
أصدر حوراني المستشرق البريطاني اللبناني الأصل كتاباً في الستينات من القرن الماضي بعنوان «الفكر العربي في عصر النهضة» وقد ترجم إلى العربية، وكان هذا الكتاب دائماً محل استيحاء من قبل العديد من المؤلفين والباحثين. استهل حوراني الحديث عن عصر النهضة بوصول نابليون إلى مصر عام 1798، والصدمة التي أحدثها في الدوائر الفكرية العربية، واختتمها عام 1939 عشية الحرب العالمية الأولى. كرّس حوراني الفصول الأولى من كتابه لتعريف سريع بالدولة الإسلامية ولقضايا السلطنة العثمانية، أما الفصل الرابع فهو عبارة عن لمحة موجزة عن الأفكار التي طرحها الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي في تونس، وبطرس البستاني في لبنان، ثم خصّص الفصلان الخامس والسادس لشخصيّتين مهمتين في الإصلاح الإسلامي هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويتناول في الفصل السابع الكتّاب الذين عملوا على التوفيق بين الإسلام والحداثة، أما في الفصول الأخيرة فيبتعد حوراني عن سياق الفصول السابقة حيث كان يستذكر من دون تمييز المفكرين العرب من مسيحيين ومسلمين، كي يضعهم فجأة في موقف تناقضي عبّر عنه في الحديث عن الدور الطليعي الذي اضطلع به الرواد المسيحيون في علمنة العالم العربي وبخاصة شبلي الشميل (1860-1917) وفرح أنطون (1874–1922).
يرفض المفكر اللبناني جورج قرم طروحات حوراني (وأنا معه) حول وجود فروقات هامة بين المفكرين المسيحيين والمسلمين، تتمظهر في كون المفكرين المسيحيين كانوا أكثر راديكالية من أقرانهم المسلمين في الدعوة إلى فصل الزمني عن الروحي. في الواقع أن القول أن هؤلاء المفكرين كونهم مسيحيين بالولادة هم أكثر قرباً من الأفكار العلمانية الأوروبية، وأكثر جذرية من المسلمين، لا تتطابق مع الكتابات التي طالب فيها المسيحيون والمسلمون على حد سواء بالفصل بين الزمني والروحي، وإعطاء الفرد قيمته وحريته بما في ذلك حرية المعتقد. تجدر الملاحظة أن التقسيم الثنائي ذي الطبيعة الجوهرانية بين المفكرين المسلمين والمفكرين المسيحيين الذي ابتدعه حوراني في كتابه، مستوحى من المقاربة الأنتروبولوجية التي طبّقها الاستشرا ق الأوروبي في دراسته للمجتمعات العربية.
في السياق نفسه أصدر المفكر الفلسطيني هشام شرابي (1927–2005) كتابه «المثقفون العرب والغرب» في السبعينات من القرن الماضي، واللافت في هذا الكتاب الهوة التي يظهرها وكأنها صعبة التجاوز بين المفكرين العرب المسيحيين والمفكرين المسلمين، ومع أنه قسّم المفكرين المسلمين إلى فئتين، أي السلفيين الإصلاحيين، أو المحافظين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، إلا أنه اعتبر أن المفكرين المسيحيين هم وحدهم العلمانيون الحقيقيون، وأكثر ما يثير الدهشة هو أنه يضعهم في فئة واحدة يتكلّم عنها بطريقة مجرّدة ومنزوعة من سياقها التاريخي، كما لو كان يوجد ضمنياً ينى ذهنية مسيحية خاصة لم يؤثر فيها الوسط الإسلامي الذي عاش فيه العرب المسيحيون منذ مجيئ الإسلام إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر، ويطلق على هذه الفئة تسمية «المسيحيون المستغربون» الذين يعتبرهم مقتلعين من جذورهم، لا يستطيعون أن يجيدوا إلا التطلع إلى أوروبا ومنظومة قيمها. وما يثبت هذا الاقتلاع من الجذور بالنسبة لشرابي هو الهجرة الكثيفة للعرب المسيحيين نحو أوروبا والأميركيتين.
في المقابل يرى شرابي أن المفكرين المسلمين الإصلاحيين حتى الذين بقيت ميولهم العلمانية سطحية، لم يترسّخوا فقط في وسطهم الثقافي الطبيعي، بل كان فكرهم خاضعاً للقيود التي فرضتها عليهم هذه البيئة، والمنظومة الفكرية الإسلامية التي تتميّز بها، ولا يمكن إعادة النظر فيها بعمق. إن فرضية شرابي حول التمييز بين المفكرين المسيحيين والمفكرين المسلمين كرّست صورة نمطية على ما يرى المفكر اللبناني كثيرة التداول تشير إلى بعض الأشكال الاستعمارية التي أفاد منها الاستشراق في قولته أنه ممنوع على العرب المسلمين إمكانية الخروج من عقلية جامدة ومنغلقة، بحيث يستحيل تغييرها مهما تغيّرت الظروف، وأنه محكوم على المسيحيين العرب بالبقاء في الهامش، أي أقليات ذات وعي جماعي بائس من دون الاعتبار أن المسيحيين العرب خلقوا الوعي القومي، لا بل هم قدّموا أعمالاً مهمة حول الدين الإسلامي، فيما يعتبر الكثيرون منهم أن كون المرء مسيحياً عربياً يعني أيضاً أنه مسلم على المستوى الثقافي من دون أن يكون بالضرورة، مسلماً على الصعيد الإيماني.
يعتبر قرم أن التقسيم الثنائي الذي أطلقه حوراني وتبنّاه شرابي بين فكر عربي مسيحي يعتبر مقتلعاً من جذوره ومرتهناً بكليته للفكر الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى فكر مسلم راسخ في هذا القدر من العمق التاريخي لدرجة لا يمكنه معها أن يعيد النظر بعمق في أوضاعه الذاتية بما يضمن له إصلاحها. إن طرحاً من هذا النوع لا بدّ أن يكون جذّاباً ضمن إطار المقاربة الأوروبية الاستعمارية الطابع التي لا ترى في المسيحيين سوى (أقليات) أي بقايا من تاريخ المسيحية النازحة من «الشرق السامي» كما يقول أرنست رينان إلى «الغرب الآري». إن فرضية شرابي كما يرى المفكر اللبناني فرضية مبتكرة ولا تتطابق مع الوقائع التاريخية الماضية. فالمسيحيون العرب عاشوا مع المسلمين في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين منذ مجيء الإسلام وحافظوا على اللغة العربية وحموها من التتريك وما زالوا حتى اليوم. والمسيحيون العرب كانوا في طليعة النضال ضد فرنسا وإنكلترا اللتين تعاقبتا على الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين، وينسحب الأمر نفسه على المسيحيين العراقيين، أضف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من العرب المسيحيين يتكوّن من ريفيين لهم جذور محلية فائقة المتانة بما في ذلك المصريين الذين يتديّنون بالعقيدة المسيحية القبطية، وبالتالي فإن فرضية «االلاتجذر» عند شرابي منافية تماماً للواقع.
ويبدو أن شرابي على ما يرى قرم لم يتعرّف إلى أعمال ثلاثة من كبار الأدباء المسيحيين العرب هم جبران خليل جبران (1883-1931) وميخائيل نعيمة (1889-1989) وجرجي زيدان (1861–1914) وقد أعلن الاثنان الأوّلان جهاراً تعلّقهما بروحانية الشرق العربي، مقابل الحياة الحديثة في الغرب بحيث داناها بشدّة على غرار العديد من المفكرين المسلمين، أما الثالث فقد عمّم في شكل واضح تاريخ الإسلام العربي وبسّطه من خلال سلسلة من الروايات التاريخية. هذا وقد تجاهل شرابي الدور السياسي الكبير في ما بعد الفترة التاريخية التي درسها للعديد من المسيحيين المعادين للإمبريالية، والمؤمنين بالقومية العربية في كل من مصر وسورية ولبنان وفلسطين بمن فيهم زعماء الحركات الفلسطينية من أمثال جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة.
كتاب اللبناني جورج قرم يمكن النظر إليه كرحلة في الفكر العربي المعاصر يمتزج فيها الفكر بالسياسة، والتاريخ بالاجتماع، وهذا النهج في تناول الأمور لا يسلكه إلا القادرون من المفكرين الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث من خلال ارتباطها بمراحل التاريخ، وبالسياق الاجتماعي الاقتصادي الحي. كتاب قرم مرة أخيرة يكشف عن غنى الفكر العربي وتنوّعه بشيء من التفصيل غنى تفتح له القلوب والأذهان.
يعيد الباحث والمفكر اللبناني جورج قرم في كتابه «الفكر والسياسة في العالم العربي» منشورات دار الفارابي، يعيد النظر بالطروحات النمطية الطابع التي أصبحت مسيطرة على الساحة الفكرية العربية، المتأثرة إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الغربية الفلسفية والاستشرافية والجيوسياسية، وعلى الطروحات السياسية حول صراع الحضارات، والعودة إلى الالتزام بالإسلام ديناً ودنيا ونمط تفكير.
وإعادة النظر بالطروحات النمطية الطابع كما يشرحها قرم تطاول طرحا آخر قلما تعمّق المثقفون العرب بدرسه وبحثه، حول دور المفكرين المسيحيين الذين لعبوا دوراً مختلفاً عن دور المفكرين المسلمين منذ مطلع عصر النهضة وحتى اليوم، كما تظهر في كتابات مفكرين مبدعين هما اللبناني ألبرت حوراني، والفلسطيني هشام شرابي.
أصدر حوراني المستشرق البريطاني اللبناني الأصل كتاباً في الستينات من القرن الماضي بعنوان «الفكر العربي في عصر النهضة» وقد ترجم إلى العربية، وكان هذا الكتاب دائماً محل استيحاء من قبل العديد من المؤلفين والباحثين. استهل حوراني الحديث عن عصر النهضة بوصول نابليون إلى مصر عام 1798، والصدمة التي أحدثها في الدوائر الفكرية العربية، واختتمها عام 1939 عشية الحرب العالمية الأولى. كرّس حوراني الفصول الأولى من كتابه لتعريف سريع بالدولة الإسلامية ولقضايا السلطنة العثمانية، أما الفصل الرابع فهو عبارة عن لمحة موجزة عن الأفكار التي طرحها الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي في تونس، وبطرس البستاني في لبنان، ثم خصّص الفصلان الخامس والسادس لشخصيّتين مهمتين في الإصلاح الإسلامي هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويتناول في الفصل السابع الكتّاب الذين عملوا على التوفيق بين الإسلام والحداثة، أما في الفصول الأخيرة فيبتعد حوراني عن سياق الفصول السابقة حيث كان يستذكر من دون تمييز المفكرين العرب من مسيحيين ومسلمين، كي يضعهم فجأة في موقف تناقضي عبّر عنه في الحديث عن الدور الطليعي الذي اضطلع به الرواد المسيحيون في علمنة العالم العربي وبخاصة شبلي الشميل (1860-1917) وفرح أنطون (1874–1922).
يرفض المفكر اللبناني جورج قرم طروحات حوراني (وأنا معه) حول وجود فروقات هامة بين المفكرين المسيحيين والمسلمين، تتمظهر في كون المفكرين المسيحيين كانوا أكثر راديكالية من أقرانهم المسلمين في الدعوة إلى فصل الزمني عن الروحي. في الواقع أن القول أن هؤلاء المفكرين كونهم مسيحيين بالولادة هم أكثر قرباً من الأفكار العلمانية الأوروبية، وأكثر جذرية من المسلمين، لا تتطابق مع الكتابات التي طالب فيها المسيحيون والمسلمون على حد سواء بالفصل بين الزمني والروحي، وإعطاء الفرد قيمته وحريته بما في ذلك حرية المعتقد. تجدر الملاحظة أن التقسيم الثنائي ذي الطبيعة الجوهرانية بين المفكرين المسلمين والمفكرين المسيحيين الذي ابتدعه حوراني في كتابه، مستوحى من المقاربة الأنتروبولوجية التي طبّقها الاستشرا ق الأوروبي في دراسته للمجتمعات العربية.
في السياق نفسه أصدر المفكر الفلسطيني هشام شرابي (1927–2005) كتابه «المثقفون العرب والغرب» في السبعينات من القرن الماضي، واللافت في هذا الكتاب الهوة التي يظهرها وكأنها صعبة التجاوز بين المفكرين العرب المسيحيين والمفكرين المسلمين، ومع أنه قسّم المفكرين المسلمين إلى فئتين، أي السلفيين الإصلاحيين، أو المحافظين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، إلا أنه اعتبر أن المفكرين المسيحيين هم وحدهم العلمانيون الحقيقيون، وأكثر ما يثير الدهشة هو أنه يضعهم في فئة واحدة يتكلّم عنها بطريقة مجرّدة ومنزوعة من سياقها التاريخي، كما لو كان يوجد ضمنياً ينى ذهنية مسيحية خاصة لم يؤثر فيها الوسط الإسلامي الذي عاش فيه العرب المسيحيون منذ مجيئ الإسلام إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر، ويطلق على هذه الفئة تسمية «المسيحيون المستغربون» الذين يعتبرهم مقتلعين من جذورهم، لا يستطيعون أن يجيدوا إلا التطلع إلى أوروبا ومنظومة قيمها. وما يثبت هذا الاقتلاع من الجذور بالنسبة لشرابي هو الهجرة الكثيفة للعرب المسيحيين نحو أوروبا والأميركيتين.
في المقابل يرى شرابي أن المفكرين المسلمين الإصلاحيين حتى الذين بقيت ميولهم العلمانية سطحية، لم يترسّخوا فقط في وسطهم الثقافي الطبيعي، بل كان فكرهم خاضعاً للقيود التي فرضتها عليهم هذه البيئة، والمنظومة الفكرية الإسلامية التي تتميّز بها، ولا يمكن إعادة النظر فيها بعمق. إن فرضية شرابي حول التمييز بين المفكرين المسيحيين والمفكرين المسلمين كرّست صورة نمطية على ما يرى المفكر اللبناني كثيرة التداول تشير إلى بعض الأشكال الاستعمارية التي أفاد منها الاستشراق في قولته أنه ممنوع على العرب المسلمين إمكانية الخروج من عقلية جامدة ومنغلقة، بحيث يستحيل تغييرها مهما تغيّرت الظروف، وأنه محكوم على المسيحيين العرب بالبقاء في الهامش، أي أقليات ذات وعي جماعي بائس من دون الاعتبار أن المسيحيين العرب خلقوا الوعي القومي، لا بل هم قدّموا أعمالاً مهمة حول الدين الإسلامي، فيما يعتبر الكثيرون منهم أن كون المرء مسيحياً عربياً يعني أيضاً أنه مسلم على المستوى الثقافي من دون أن يكون بالضرورة، مسلماً على الصعيد الإيماني.
يعتبر قرم أن التقسيم الثنائي الذي أطلقه حوراني وتبنّاه شرابي بين فكر عربي مسيحي يعتبر مقتلعاً من جذوره ومرتهناً بكليته للفكر الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى فكر مسلم راسخ في هذا القدر من العمق التاريخي لدرجة لا يمكنه معها أن يعيد النظر بعمق في أوضاعه الذاتية بما يضمن له إصلاحها. إن طرحاً من هذا النوع لا بدّ أن يكون جذّاباً ضمن إطار المقاربة الأوروبية الاستعمارية الطابع التي لا ترى في المسيحيين سوى (أقليات) أي بقايا من تاريخ المسيحية النازحة من «الشرق السامي» كما يقول أرنست رينان إلى «الغرب الآري». إن فرضية شرابي كما يرى المفكر اللبناني فرضية مبتكرة ولا تتطابق مع الوقائع التاريخية الماضية. فالمسيحيون العرب عاشوا مع المسلمين في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين منذ مجيء الإسلام وحافظوا على اللغة العربية وحموها من التتريك وما زالوا حتى اليوم. والمسيحيون العرب كانوا في طليعة النضال ضد فرنسا وإنكلترا اللتين تعاقبتا على الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين، وينسحب الأمر نفسه على المسيحيين العراقيين، أضف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من العرب المسيحيين يتكوّن من ريفيين لهم جذور محلية فائقة المتانة بما في ذلك المصريين الذين يتديّنون بالعقيدة المسيحية القبطية، وبالتالي فإن فرضية «االلاتجذر» عند شرابي منافية تماماً للواقع.
ويبدو أن شرابي على ما يرى قرم لم يتعرّف إلى أعمال ثلاثة من كبار الأدباء المسيحيين العرب هم جبران خليل جبران (1883-1931) وميخائيل نعيمة (1889-1989) وجرجي زيدان (1861–1914) وقد أعلن الاثنان الأوّلان جهاراً تعلّقهما بروحانية الشرق العربي، مقابل الحياة الحديثة في الغرب بحيث داناها بشدّة على غرار العديد من المفكرين المسلمين، أما الثالث فقد عمّم في شكل واضح تاريخ الإسلام العربي وبسّطه من خلال سلسلة من الروايات التاريخية. هذا وقد تجاهل شرابي الدور السياسي الكبير في ما بعد الفترة التاريخية التي درسها للعديد من المسيحيين المعادين للإمبريالية، والمؤمنين بالقومية العربية في كل من مصر وسورية ولبنان وفلسطين بمن فيهم زعماء الحركات الفلسطينية من أمثال جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة.
كتاب اللبناني جورج قرم يمكن النظر إليه كرحلة في الفكر العربي المعاصر يمتزج فيها الفكر بالسياسة، والتاريخ بالاجتماع، وهذا النهج في تناول الأمور لا يسلكه إلا القادرون من المفكرين الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث من خلال ارتباطها بمراحل التاريخ، وبالسياق الاجتماعي الاقتصادي الحي. كتاب قرم مرة أخيرة يكشف عن غنى الفكر العربي وتنوّعه بشيء من التفصيل غنى تفتح له القلوب والأذهان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.