ورش عمل تدريبية للميسرات العاملات بمركزي استقبال أطفال العاملين بوزارتي التضامن والعدل    توقيع مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح للتعاون العلمي والأكاديمي    البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجايبي بالإسكندرية    ارتفاع أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 في الفيوم    الصين تؤسس 36 ألف شركة باستثمارات أجنبية خلال 7 أشهر    الري تبدأ استلام أراضي طرح النهر من هيئة التعمير    مدير مجمع الشفاء بغزة: لدينا 320 ألف طفل دخلوا في حالة سوء تغذية حاد    الاتحاد السعودي يعلن عقوبات صارمة على الهلال    إصابة 7 أشخاص في انقلاب ميكروباص بالفيوم    الأرصاد: سقوط أمطار على هذه المناطق اليوم    تجديد حبس عاطل وشقيقته بتهمة جلب 3000 قرص مخدر    الليلة عرض "just you"، ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو"    الجنين داخل الروبوت.. ولادة المستقبل أم سرقة الأمومة؟    تنويه هام.. انقطاع المياه عن قليوب لإصلاح خط طرد رئيسي    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة ومروان عطية يتابع تأهيله    الزمالك يتظلم من قرار سحب أرض النادي ب 6 أكتوبر ويؤكد صحة موقفه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    إطلاق مبادرة لتشغيل 50 من أوائل خريجي المدارس الصناعية فى أسيوط    اتفاق بين التعليم و"سبريكس" على تطبيق برنامج للبرمجة والذكاء الاصطناعي بالمدارس المصرية اليابانية    رابط و موعد إعلان نتيجة تنسيق القبول برياض الأطفال والصف الأول الابتدائي؟    ضبط 124 ألف مخالفة متنوعة في حملات لتحقيق الانضباط المروري خلال 24 ساعة    ضبط 4 أطنان من الدقيق الأبيض والبلدي المدعم في حملات تموينية خلال 24 ساعة    مصرع وإصابة أربعة أشخاص إثر حادث تصادم بين سيارتين بأسيوط    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    شيرين عبد الوهاب: ياسر قنطوش لا يمثل أي شئ لي قانونيًا    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    إنفوجراف| أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية العادية للإسماعيلي لمنافشة الميزانية والحساب الختامي    طلاب الثانوية الأزهرية الدور الثانى يؤدون اليوم امتحان التاريخ والفيزياء    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    موعد مباراة النصر والأهلي والقنوات الناقلة بنهائي كأس السوبر السعودي    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    وظائف هيئة المحطات النووية.. فرص عمل بالتعيين أو التعاقد    وزارة الصحة تقدم 3 نصائح هامة لشراء الألبان    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    سعر طن الحديد اليوم السبت 23-8-2025 في أسواق مواد البناء.. عز بكام النهارده؟    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الابتسامة في زمن الحرب والكآبة
نشر في صوت البلد يوم 14 - 05 - 2018

شارلي شابلن استطاع بعبقرية الصمت أن يحول قضايا الإنسان المعذب إلى مقلب فكاهي في في وسط ما نعيش فيه من قنوط، وقبح، وكذب، وزيف، وغيرها من أمور جعلت الحياةقاتمةً، وجدتُ نفسي أهتمُ ببعض التفاصيل التي تبدو بسيطة، وأحياناً هامشيةً وغير ذات جدوى في حل ما نعاني منه، لكنها في نظري مهمة بل وعبقرية، وربما نحتاجها في قائمة ما نحتاج إليه لإصلاح الحياة وترميمها .
هي أشياء بسيطة وُجدت لتبقى وتستمر، لا أن تكون مجرد تاريخ أو سر نستحضره عن بعض تلك الأشياء التي تركت فينا أثراً لا يزول، ولا تمحوه السنون.
الْيَوْمَ أكتب
سأكتب عن القبعة السوداء المستديرة، والبنطال المهترئ، والمعطف الضيق، والحذاء الضخم، وعصا الببيون، والمشية التي تشبه الأوزة .
تلك الأشياء التي ظل أثرها عظيماً ليس على المستوى الكوميدي فحسب، بل على المستوى الإنساني كله.
فقررت أن أمشي بمنطقٍ معاكسٍ وأبتعد عن كل الحزن، والألم، والقتامة، وألأّ أُلاحق الأشياء المؤلمة التي لا تستحق أن نجري وراءها، وأردت عامدةً أن أبحث عن لقاءٍ يبدأُ بابتسامةٍ مشرقةٍ وينتهي بها، عن التقوس الوحيد الذي يجعلنا نرى الأشياء مستقيمة.
فما رأيكم لو توهمنا أن ما يُعرض في التلفاز لم يحدث، بل ماذا لو افترضنا إننا من قمنا بتصويره؟ ولنقتنع أن السلاحف أكثر خبرةً بالطرق من الآرانب.
فما رأيكم لو تحدثنا الْيَوْمَ عن أحد هذه السلاحف الذي أستطاع بعبقرية الصمت أن يحول قضايا الإنسان المعذب إلى مقلبٍ فكاهي في سرديةٍ دراميةٍ جماليةٍ، إنه السير تشارلز سبنسر تشابلن، البائس الذي أضحك الملايين دون كلمةٍ وَاحِدَةٍ، والذي - كما قال عنه القاضي الأميركي - الفنان الدرامي الوحيد الذي سيبقى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لأنه أثار تناقضاً سياسياً لبلدٍ بأكمله.
ولنبدأ قصةَ شابلن من أهم منحنياتها، بقراءةٍ معتمدةٍ على المنهج المقارن بينها وبين الواقع الذي نعيشه :
- أولاً: أمورٌ بسيطة صنعت موهبة عظيمة
كيف استطاعت القبعة المتحركة، والعصا اللطيفة، والشوارب الهتلرية التي تشبه فرشاة الأسنان، والمشية المسلية، في صنع نجومية وعبقرية تشارلي شابلن العظيمة والاستثنائية؟ ليصبح بفضلهن فناناً متأججاً بالحيوية، متدفقاً بالحياة، ممتلئاً ثورةً وعنفواناً. ناطقاً بالصمت بكل قيم الفقراء والحيارى، ليخرج في النهاية أكثر وضوحاً وثباتاً ورسوخاً عبر التاريخ.
استطاع بصمتٍ تام، وبحيويةٍ فائقةٍ، وبطريقةٍ ساخرةٍ ومهذبةٍ في شكلها، قاسيةٍ وانتقاميةٍ في مضمونها أن يسيطر على أذهان الجمهور بنفس شخصية المتشرد التي ابتكرها وعمقها في التاريخ، دون أن يشعر الجمهور بأي ملل أو تكرار، بل يستطيع بتلك الأدوات البسيطة أن يكون المهرج الكوني المثقف العالمي. فكم هي رائعة تلك البساطة التي تجاوزت حيّز السطحية لتصبح العبقرية ذاتها.
ثانياً: الصعلوك يصبح رجلاً نبيلاً
إنه رجل أوروبا البائس، البسيط الذي خرج من أحياء الفقر في لندن، وذاق التشرد والبؤس فكان والده سكيراً، وأمه عانت من أمراض نفسية دخلت على أثرها المصلحة النفسية، عمل كبائع متجول، ومساعد حلاق، وراقص، وذاق صنوف البؤس والتشرد ليصنع من كل هذا الشقاء كوميديا عالمية بشخصية مرتجلة، معتمدة بكل عمق وبساطة على الصعلكة، وفن الحركات الإيحائية ليحصد من هذا كله أكبر قدرٍ من الضحكات من أفواه البشر، يسخر من البؤس فيضحكون، ويسخر من العبودية، والبروليتارية الرثة فيقهقهون، ويسخر من الحرمان والطفولة المعذبة ويشن عداءً مسعوراً على الدول القوية بكل معداتها وأسلحتها فنستمر جميعاً في الضحك والقهقهة.
هكذا تقاسمنا مع شابلن الفرح، وهكذا قتلنا حزناً، نعم بكل مهارةٍ استثنائية ناقش القضايا الاجتماعية ذات الطابع المأساوي ودمجها بالكوميديا بطريقة عبقرية .
فكان المهرج الشعبوي الذي خدع العالم الرمادي كله بطريقة ساحرة، ناشراً ثقافة اللونين الأسود، والأبيض فقط.
هو ذاك الوحيد المتعب القلق المتشرد بلا مالٍ أو عائلةٍ، المناضل في سبيل الحصول على وجبة طعامٍ أو فتاةٍ يحبها في هذاالعالم القاسي، ليتصرف من خلال القيعان المظلمة في النهاية كسيدٍ لهذا العالم ملتزماً بقضايا الإنسان المعذب.
والمثير للغرابة في الأمر أنه لم تكن علاقته بالثقافة والفكر علاقة مدرسية نظراً لتقلبات حياته التي لم تتح له الانخراط في علاقة كهذه الا لفترة أقصر، بل ان كلمة فن لم تدخل في رأسه يوماً، ولا في الألفاظ التي استخدمها، بل كان الفن نمطاً من حياته لا أكثر، وكان الفقر، والحدس، والمؤثرات النفسية، والموقف من الوطن والعالم هي كل محركات عبقريته، فبات عمله ناتجاً عن تأملاته الشخصية، ونقلاً خلاقاً لحياته مندفعاً وراء لعبة الخيال لا أكثر، هكذا الأمر بكل بساطة .
فيقول شابلن عن نفسه أنا ما أنا: "فرد نسيج وحده ومختلف، خلفي كل ميراث الرغائب والحاجات السلفية، مع كل الأحلام والرغبات والتجارب الشخصية التي أنا محصلتها ".
كان بالتأكيد نسيج وحده، أنطلق كفردٍ لعناق العالم بأسره، متقمصاً صورة المتشرد الذي ينكأ بسخريته الناعمة والمحببة قروح المجتمع والحياة.
لقد كان إيمانه العميق بتجربته الخاصة، سبباً في ملاحقة القضاء الأميركي له باتهامات الشيوعية، وكعادة أميركا في اللجوء للبلطجة للتخلص من خصومها حاولت سجنه بالاتفاق مع فتاة تحت السن القانوني ادعت أنه اغتصبها، فكان واضحاً أنه يدفع ثمن خياراته الإنسانية .
ثالثاً: الابتسامة في زمن الحرب والكآبة
لم يكن هدفي من تشابلن فقط الحديث عن إبداعه، بل وجدت ظروفه وحياته حاضرةً وبقوة وتشبه حياة أطفالنا المشردين لظروفهم البائسة، وجدتهم في أسماء أفلامه (الطفل، المتشرد، المغامر، المهاجر، البطل).
أليست الظروف متشابهة فقر، ووحدة، وبؤس، وحرب، وديكتاتورية، ومعاناة، وحرب، فكل هذه المقدمات خلقت فناً عالمياً، مازال باقياً، صحيح لم يعالج الطرح الكوميدي الآلآم المجروحة لكنه استطاع توظيف الرموز الاجتماعية من فقراء ومضطهدين، وحولها للغة عالمية فهمها الجميع على مدى العصور دون أية عوائق لغوية أو فكرية أو ثقافية، بعيدا عن اللغة الشتائمية الطافحة بالسباب والخالية من المضمون، فسار بها عكس التيار مناقشاً قضايا نبيلة وروئً فكرية عميقة على أساس أيقوني.
هذا ما أراه على المدى قريباً لا بعيداً، أليس من المحتمل أن يظهر تشابلن مرةً أخرى ليس في أحياء لندن بل في أحياء سوريا، وفي المخيمات وبين اللاجئين؟
ألا نتوقع أنه بعد ثمان سنواتٍ من المعاناة بكل صورها، ستتحول يوماً لمشاهد تضحك حد البكاء، ألا نتوقع أن طبقة للسواد السميكة التي غطت عرجوم الزيتون في ظل العنف والإرهاب ستتحول لفنان يمارس الصعلكة ليصبح بعدها سيداً لهذا العالم .
سألت نفسي كثيراً ما عسانا أن نفعل في زمن الحرب، ماذا نفعل بعدما صارت الأضلاع الهندسية كلها شكلاً دائرياً حيث لا زاوية للخروج، ماذا تصنع الأوطان التي دمرتها الهمجيات المتصارعة؟ ماذا بعد العودة؟ كيف سنواجه الوجع والدمار والوحشة والدمار وأزمة الهوية؟
أعتقد أن السبيل الوحيد للمقاومة والبقاء أن نرى في البعد والقرب معاً شيئاً يجعلنا نبتسم ونتفاءل ونقاوم، وأن نحول السلاح الذي حمل لنا الموت يوماً لنشيدٍ ومشهدٍ وصورةٍ للحرية والفن، وأن نبحث عن العلاقات غير المباشرة التي ستجعل الفن شاهداً على التاريخ .
ولنعلم أن المآسي بكل تشعباتها، والهموم الإنسانية بكل أوجاعها كفيلة بطرح تجربة واحترافٍ من لون ٍمختلف، فكل وجعٍ سيتنكر يوماً بلباس مهرجٍ، سيحدثنا عن كائناتٍ دقيقة، وأشياء ربما لا تستدعي سعادة، بل سخرية من أشخاصٍ كانوا أبطالاً في عالمٍ سفاح.
فإذا كان كل ما احتاجه شابلن لصنع كوميديا منتزها، وشرطيا، وفتاة جميلة، فما نحتاجه الْيَوْمَ لصنع كوميديا سوداء، مخيما، وجنديا، وفتاة نصف غجرية.
شارلي شابلن استطاع بعبقرية الصمت أن يحول قضايا الإنسان المعذب إلى مقلب فكاهي في في وسط ما نعيش فيه من قنوط، وقبح، وكذب، وزيف، وغيرها من أمور جعلت الحياةقاتمةً، وجدتُ نفسي أهتمُ ببعض التفاصيل التي تبدو بسيطة، وأحياناً هامشيةً وغير ذات جدوى في حل ما نعاني منه، لكنها في نظري مهمة بل وعبقرية، وربما نحتاجها في قائمة ما نحتاج إليه لإصلاح الحياة وترميمها .
هي أشياء بسيطة وُجدت لتبقى وتستمر، لا أن تكون مجرد تاريخ أو سر نستحضره عن بعض تلك الأشياء التي تركت فينا أثراً لا يزول، ولا تمحوه السنون.
الْيَوْمَ أكتب
سأكتب عن القبعة السوداء المستديرة، والبنطال المهترئ، والمعطف الضيق، والحذاء الضخم، وعصا الببيون، والمشية التي تشبه الأوزة .
تلك الأشياء التي ظل أثرها عظيماً ليس على المستوى الكوميدي فحسب، بل على المستوى الإنساني كله.
فقررت أن أمشي بمنطقٍ معاكسٍ وأبتعد عن كل الحزن، والألم، والقتامة، وألأّ أُلاحق الأشياء المؤلمة التي لا تستحق أن نجري وراءها، وأردت عامدةً أن أبحث عن لقاءٍ يبدأُ بابتسامةٍ مشرقةٍ وينتهي بها، عن التقوس الوحيد الذي يجعلنا نرى الأشياء مستقيمة.
فما رأيكم لو توهمنا أن ما يُعرض في التلفاز لم يحدث، بل ماذا لو افترضنا إننا من قمنا بتصويره؟ ولنقتنع أن السلاحف أكثر خبرةً بالطرق من الآرانب.
فما رأيكم لو تحدثنا الْيَوْمَ عن أحد هذه السلاحف الذي أستطاع بعبقرية الصمت أن يحول قضايا الإنسان المعذب إلى مقلبٍ فكاهي في سرديةٍ دراميةٍ جماليةٍ، إنه السير تشارلز سبنسر تشابلن، البائس الذي أضحك الملايين دون كلمةٍ وَاحِدَةٍ، والذي - كما قال عنه القاضي الأميركي - الفنان الدرامي الوحيد الذي سيبقى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لأنه أثار تناقضاً سياسياً لبلدٍ بأكمله.
ولنبدأ قصةَ شابلن من أهم منحنياتها، بقراءةٍ معتمدةٍ على المنهج المقارن بينها وبين الواقع الذي نعيشه :
- أولاً: أمورٌ بسيطة صنعت موهبة عظيمة
كيف استطاعت القبعة المتحركة، والعصا اللطيفة، والشوارب الهتلرية التي تشبه فرشاة الأسنان، والمشية المسلية، في صنع نجومية وعبقرية تشارلي شابلن العظيمة والاستثنائية؟ ليصبح بفضلهن فناناً متأججاً بالحيوية، متدفقاً بالحياة، ممتلئاً ثورةً وعنفواناً. ناطقاً بالصمت بكل قيم الفقراء والحيارى، ليخرج في النهاية أكثر وضوحاً وثباتاً ورسوخاً عبر التاريخ.
استطاع بصمتٍ تام، وبحيويةٍ فائقةٍ، وبطريقةٍ ساخرةٍ ومهذبةٍ في شكلها، قاسيةٍ وانتقاميةٍ في مضمونها أن يسيطر على أذهان الجمهور بنفس شخصية المتشرد التي ابتكرها وعمقها في التاريخ، دون أن يشعر الجمهور بأي ملل أو تكرار، بل يستطيع بتلك الأدوات البسيطة أن يكون المهرج الكوني المثقف العالمي. فكم هي رائعة تلك البساطة التي تجاوزت حيّز السطحية لتصبح العبقرية ذاتها.
ثانياً: الصعلوك يصبح رجلاً نبيلاً
إنه رجل أوروبا البائس، البسيط الذي خرج من أحياء الفقر في لندن، وذاق التشرد والبؤس فكان والده سكيراً، وأمه عانت من أمراض نفسية دخلت على أثرها المصلحة النفسية، عمل كبائع متجول، ومساعد حلاق، وراقص، وذاق صنوف البؤس والتشرد ليصنع من كل هذا الشقاء كوميديا عالمية بشخصية مرتجلة، معتمدة بكل عمق وبساطة على الصعلكة، وفن الحركات الإيحائية ليحصد من هذا كله أكبر قدرٍ من الضحكات من أفواه البشر، يسخر من البؤس فيضحكون، ويسخر من العبودية، والبروليتارية الرثة فيقهقهون، ويسخر من الحرمان والطفولة المعذبة ويشن عداءً مسعوراً على الدول القوية بكل معداتها وأسلحتها فنستمر جميعاً في الضحك والقهقهة.
هكذا تقاسمنا مع شابلن الفرح، وهكذا قتلنا حزناً، نعم بكل مهارةٍ استثنائية ناقش القضايا الاجتماعية ذات الطابع المأساوي ودمجها بالكوميديا بطريقة عبقرية .
فكان المهرج الشعبوي الذي خدع العالم الرمادي كله بطريقة ساحرة، ناشراً ثقافة اللونين الأسود، والأبيض فقط.
هو ذاك الوحيد المتعب القلق المتشرد بلا مالٍ أو عائلةٍ، المناضل في سبيل الحصول على وجبة طعامٍ أو فتاةٍ يحبها في هذاالعالم القاسي، ليتصرف من خلال القيعان المظلمة في النهاية كسيدٍ لهذا العالم ملتزماً بقضايا الإنسان المعذب.
والمثير للغرابة في الأمر أنه لم تكن علاقته بالثقافة والفكر علاقة مدرسية نظراً لتقلبات حياته التي لم تتح له الانخراط في علاقة كهذه الا لفترة أقصر، بل ان كلمة فن لم تدخل في رأسه يوماً، ولا في الألفاظ التي استخدمها، بل كان الفن نمطاً من حياته لا أكثر، وكان الفقر، والحدس، والمؤثرات النفسية، والموقف من الوطن والعالم هي كل محركات عبقريته، فبات عمله ناتجاً عن تأملاته الشخصية، ونقلاً خلاقاً لحياته مندفعاً وراء لعبة الخيال لا أكثر، هكذا الأمر بكل بساطة .
فيقول شابلن عن نفسه أنا ما أنا: "فرد نسيج وحده ومختلف، خلفي كل ميراث الرغائب والحاجات السلفية، مع كل الأحلام والرغبات والتجارب الشخصية التي أنا محصلتها ".
كان بالتأكيد نسيج وحده، أنطلق كفردٍ لعناق العالم بأسره، متقمصاً صورة المتشرد الذي ينكأ بسخريته الناعمة والمحببة قروح المجتمع والحياة.
لقد كان إيمانه العميق بتجربته الخاصة، سبباً في ملاحقة القضاء الأميركي له باتهامات الشيوعية، وكعادة أميركا في اللجوء للبلطجة للتخلص من خصومها حاولت سجنه بالاتفاق مع فتاة تحت السن القانوني ادعت أنه اغتصبها، فكان واضحاً أنه يدفع ثمن خياراته الإنسانية .
ثالثاً: الابتسامة في زمن الحرب والكآبة
لم يكن هدفي من تشابلن فقط الحديث عن إبداعه، بل وجدت ظروفه وحياته حاضرةً وبقوة وتشبه حياة أطفالنا المشردين لظروفهم البائسة، وجدتهم في أسماء أفلامه (الطفل، المتشرد، المغامر، المهاجر، البطل).
أليست الظروف متشابهة فقر، ووحدة، وبؤس، وحرب، وديكتاتورية، ومعاناة، وحرب، فكل هذه المقدمات خلقت فناً عالمياً، مازال باقياً، صحيح لم يعالج الطرح الكوميدي الآلآم المجروحة لكنه استطاع توظيف الرموز الاجتماعية من فقراء ومضطهدين، وحولها للغة عالمية فهمها الجميع على مدى العصور دون أية عوائق لغوية أو فكرية أو ثقافية، بعيدا عن اللغة الشتائمية الطافحة بالسباب والخالية من المضمون، فسار بها عكس التيار مناقشاً قضايا نبيلة وروئً فكرية عميقة على أساس أيقوني.
هذا ما أراه على المدى قريباً لا بعيداً، أليس من المحتمل أن يظهر تشابلن مرةً أخرى ليس في أحياء لندن بل في أحياء سوريا، وفي المخيمات وبين اللاجئين؟
ألا نتوقع أنه بعد ثمان سنواتٍ من المعاناة بكل صورها، ستتحول يوماً لمشاهد تضحك حد البكاء، ألا نتوقع أن طبقة للسواد السميكة التي غطت عرجوم الزيتون في ظل العنف والإرهاب ستتحول لفنان يمارس الصعلكة ليصبح بعدها سيداً لهذا العالم .
سألت نفسي كثيراً ما عسانا أن نفعل في زمن الحرب، ماذا نفعل بعدما صارت الأضلاع الهندسية كلها شكلاً دائرياً حيث لا زاوية للخروج، ماذا تصنع الأوطان التي دمرتها الهمجيات المتصارعة؟ ماذا بعد العودة؟ كيف سنواجه الوجع والدمار والوحشة والدمار وأزمة الهوية؟
أعتقد أن السبيل الوحيد للمقاومة والبقاء أن نرى في البعد والقرب معاً شيئاً يجعلنا نبتسم ونتفاءل ونقاوم، وأن نحول السلاح الذي حمل لنا الموت يوماً لنشيدٍ ومشهدٍ وصورةٍ للحرية والفن، وأن نبحث عن العلاقات غير المباشرة التي ستجعل الفن شاهداً على التاريخ .
ولنعلم أن المآسي بكل تشعباتها، والهموم الإنسانية بكل أوجاعها كفيلة بطرح تجربة واحترافٍ من لون ٍمختلف، فكل وجعٍ سيتنكر يوماً بلباس مهرجٍ، سيحدثنا عن كائناتٍ دقيقة، وأشياء ربما لا تستدعي سعادة، بل سخرية من أشخاصٍ كانوا أبطالاً في عالمٍ سفاح.
فإذا كان كل ما احتاجه شابلن لصنع كوميديا منتزها، وشرطيا، وفتاة جميلة، فما نحتاجه الْيَوْمَ لصنع كوميديا سوداء، مخيما، وجنديا، وفتاة نصف غجرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.