مضت سنوات طويلة منذ أن أصدر الروائي أدوار الخراط كتابه التبشيري المعنون «الكتابة عبر النوعية مقالات في ظاهرة القصة القصيدة» (1994)، وخلال هذه السنوات تغيرت خريطة العالم الثقافية تغيرا جذريا، وأصبح كل ما قيل قبلا في عصر ما بعد الحداثة قديما ومشككا في مصداقيته، وبهذا المعنى فإن طروحات الخراط عن الكتابة عبر النوعية اغتنت بالجديد، والمفارق الذي يحتاج إلى قراءة وتأمل وضبط مصطلح مفارق للمصطلحات القارة التي ابتكرتها عقول وإبداعات أقوام عاشوا مناخا آخر وزمنا مفارقا لعصرنا. وكان المبدع العراقي في طليعة المجددين والتجريبيين العرب في (خرق) الأجناس الأدبية الشعرية والسردية، بابتكار أشكال جديدة مفارقة للجنس الشعري أو السردي، كقصيدة التفعيلة وهي تشكل فضاءها الكتابي الخاص، ويعد دخول تيار الوعي في القصة القصيرة الخمسينية على يد القاص عبد الملك نوري تحولا جذريا في إغناء القصة القصيرة بالجديد والمبتكر، وكانت إنجازات القاص محمد خضير في ابتكار السرد الوصفي شكلا تجريبيا جديدا على القصة العربية والعراقية، ثم استثماره للرؤيا في في مجموعته «رؤيا خريف» متخطيا حجم القصة القصيرة وعناصرها القارة، مع مجموعة مبدعة من القاصين العراقيين أمثال، جليل القيسي ومحمود جنداري ولطفية الدليمي وجهاد مجيد وغيرهم، قد أسهمت في خلخلة ثوابت القصة القصيرة ونقلتها إلى قصة رؤيا. وبعد التغيير عام 2003 ثمة انفجار فني وأدبي شهدته الساحة الإبداعية العراقية في الرواية والقصة القصيرة والشعر، إضافة إلى إسهامات مهمة في السيرة الذاتية وابتكار أشكال تحاول أن تنافس الأجناس القارة المعروفة. من الأسماء اللامعة في هذا الماراثون الأدبي والفني، يبرز اسم القاص لؤي حمزة عباس الذي بدأ رحلته في ثمانينيات القرن العشرين بإصدار أولى مجاميعه القصصية «على دراجة في الليل» قصص دار أزمنة عمان عام 1997. ثم توالت إصداراته في القصة القصيرة بلغت خمس مجاميع قصصية لغاية 2017، وأربع روايات مع ثلاث دراسات عن التراث والسرد. ثم اصدر ثلاثة كتب لم يخضعها للتجنيس يشكل آخرها «النوم إلى جوار الكتب» دار شهريار دار الرافدين ط1 2017، تجربة سردية لم تخضع لأي تجنيس، استثمر فيه أشكالا أدبية متنوعة: القراءة النقدية المطعمة بالحكايات والأسماء والجمل الشعرية المتنوعة، السيرة المتداخلة بين الذات والمبدعين العراقيين وغيرهم، القصة القصيرة، وغيرها من الأشكال التي وردت في الكتاب . سحر قراءة الكتب والقاص لؤي حمزة عباس جرب الكتابة بأنواعها، وأنصت كثيرا إلى الكتب وإلى المؤلفين في إصداراتهم المتنوعة ونواياهم المعلنة والخبيئة، واكتشف سحر قراءة الكتب، «فهو منذ أكثر من عشرين عاما وهو ينام في غرفة المكتبة، يستلقي إلى جوار الكتب ويغمض عينيه على مشهد الرفوف الممتدة على الجدران ويراها شاخصة في انتظاره» (كتاب النوم إلى جوار الكتب). في كتابه الجديد هذا، أودع خبرته وتشوفه لعالم عادل، ودهشته وهو يتحرى عالم الكتب والكتاب، حتى أصبحت الموسيقى والرسم والغناء شكلا من أشكال السرود الحية، تناولها في عدة عناوين: عشق السيدة وهو يتماهى مع الصوت الخالد لأم كلثوم، بعد رحيلها مستحضرا صوتها بلغة شفيفة تتماهى مع الصوت العذب ويستحضر شكلها بمنديلها الطويل وتعبيرات وجهها وحركاتها وهي تؤدي وصلاتها الغنائية، وفي «عداد الذكرى» يستعيد صورة الشاعر حسين عبد اللطيف بعد رحيله، ملاحظا مفارقة مهمة في حياة مدينته، وهي ان تكتب عنها بعد رحيله، ثم يسرد سيرته «في سنوات الحرب يمكن ان ترى حسين عبد اللطيف بقامته القصيرة الممتلئة وكيس أوراقه وهو يتنقل من مقهى إلى آخر حسب مزاج القصف وهوى القذائف، شعره لم يأخذ حظه من التمشيط، على فوديه شعرات بيض نافرة لم ترها من قبل، كأنها ابيضت البارحة». في «حديث الصمت» يتأمل القاص كلمات المكسيكي اكتافيو باث، وهو يسرد تجربة في حياة شعبه في كلمات عن «عيد الصرخة» الذي يحدده في يوم الخامس عشر من سبتمبر/أيلول من كل عام، حيث يخرج المكسيكيون إلى الشوارع والساحات العامة «حيث تصرخ الجموع المهتاجة فعلا على مدى ساعة، لعلها تفعل ذلك كي تحسن الصمت بعدئذ بقية العام». يلاحظ القاص عباس عكس ذلك في حياتنا حين تبنى على (قوة الصوت /الصراخ ) وهديره فنحن «نؤمن إيمانا فادحا بأن الصراخ يعلن مغزى وجودنا». مستحضرا خزينا «تاريخيا من الدماء، فجائع تاريخية ونكبات، مذابح مفتوحة مثل عروض سينمائية في الهواء الطلق». وهو تاريخ ممتد إلى حاضرنا الذي يفتقد السكينة والتفكر في حالنا، فالسكينة مفقودة على الرغم من أنها «ابنة العقل، عتبته وبابه وفضاؤه الفسيح». والصراخ يقودنا إلى «تأجيل التفكر، (فالذهاب) إلى الصراع لن يجعلنا أحرارا، ولن يمنحنا فرصة استعادة ما نصبو لاستعادته». يتأمل القاص لؤي حمزة عباس في صفحات الكتب منصتا لأصوات كتابها ورؤاهم وأحلامهم، التي أودعوها في صفحات كتبهم، وهو في تأمله الطويل يلتقط الجوهري من تجاربهم، ويضعها ضمن سياقات كتابه لتكون جزءا من عالمه، فهو يستثمر عبارة روجر بوبنر «الوهم الوحيد الذي لا يكذب» الذي تجسده الكتابة المبدعة، ليؤسس عليها قولا عن «الوهم الذي يضيء ما لا يضاء من الحقائق مقتنصا نباهة الفن العالية للوصول إلى الأعماق، حيث يبدو كل شيء شاخصا كما هو عليه منذ خلق» كي «يغدو العالم مع الكتابة المبدعة عالما مبتكرا، ناصعا وجديدا». وليصبح السؤال وحده «ينبض في ذرة رمل، يشع في قطرة مطر، ويرن رنينا موجعا في قلب الحجر» . أسئلة الواقع وعن وجهة نظره المباشرة عن عالمنا الذي تحكمه الصراعات، ويحتدم فيه جدل السكين والكتاب يكتب تحت عنوان (الأدب والعالم) فيلاحظ أن أهم الانعطافات في زماننا تشي بأن «أسئلة الواقع أشد فاعلية وأعنف وقعا وعجائبية من أسئلة الأدب». وهو «بكل أسف لن يتمهل أو يلتفت، لن يضع نقطة آخر السطر، ولن يتوقف منتظرا ثمار الفكر والأدب» ثم يستنتج واقعة مخيفة عن هذا الصراع حين يعلن أننا نعيش في عالم «تهدد السكين فيه حبل السرة بين الثقافة والحياة». لا مكان فيه لماركس وفيورباخ وطه حسين والكواكبي وغيرهم، ليستنتج بهذه الاستعارة البليغة أن «كل رقبة مقطوعة توسع الشق وتفتح الهوة بين دور المثقف وأدوار السكين، معززة صراعا بين إرادتين، فالسكين تمحو في لحظة عنف ما سعت إرادة التنوير لتأسيسه على امتداد قرن ونصف القرن من الزمان». يتضمن كتاب «النوم إلى جوار الكتب» سيولة سردية مضمخة بالمشاعر والأحاسيس التي تجعل من نصوص الكتاب سيرة ثقافية وفكرية ووجدانية تنقله إلى كتاب أدبي يستفيد من أجناس متنوعة، متأملا فيها ومحافظا على وجوده بينها باعتباره خبرة حياة وثقافة وتأمل وهو يواجه السكين بأشكالها ورموزها المتنوعة حتى لا «توغل عميقا في لحم الواقع»، وليصل إلى وجهة نظر تحرض على مد الراهن بطاقة الثقافة «وهي تعمل على استعادة الحياة من كهف الماضي وأسر الظلام». .... ٭ كاتب عراقي مضت سنوات طويلة منذ أن أصدر الروائي أدوار الخراط كتابه التبشيري المعنون «الكتابة عبر النوعية مقالات في ظاهرة القصة القصيدة» (1994)، وخلال هذه السنوات تغيرت خريطة العالم الثقافية تغيرا جذريا، وأصبح كل ما قيل قبلا في عصر ما بعد الحداثة قديما ومشككا في مصداقيته، وبهذا المعنى فإن طروحات الخراط عن الكتابة عبر النوعية اغتنت بالجديد، والمفارق الذي يحتاج إلى قراءة وتأمل وضبط مصطلح مفارق للمصطلحات القارة التي ابتكرتها عقول وإبداعات أقوام عاشوا مناخا آخر وزمنا مفارقا لعصرنا. وكان المبدع العراقي في طليعة المجددين والتجريبيين العرب في (خرق) الأجناس الأدبية الشعرية والسردية، بابتكار أشكال جديدة مفارقة للجنس الشعري أو السردي، كقصيدة التفعيلة وهي تشكل فضاءها الكتابي الخاص، ويعد دخول تيار الوعي في القصة القصيرة الخمسينية على يد القاص عبد الملك نوري تحولا جذريا في إغناء القصة القصيرة بالجديد والمبتكر، وكانت إنجازات القاص محمد خضير في ابتكار السرد الوصفي شكلا تجريبيا جديدا على القصة العربية والعراقية، ثم استثماره للرؤيا في في مجموعته «رؤيا خريف» متخطيا حجم القصة القصيرة وعناصرها القارة، مع مجموعة مبدعة من القاصين العراقيين أمثال، جليل القيسي ومحمود جنداري ولطفية الدليمي وجهاد مجيد وغيرهم، قد أسهمت في خلخلة ثوابت القصة القصيرة ونقلتها إلى قصة رؤيا. وبعد التغيير عام 2003 ثمة انفجار فني وأدبي شهدته الساحة الإبداعية العراقية في الرواية والقصة القصيرة والشعر، إضافة إلى إسهامات مهمة في السيرة الذاتية وابتكار أشكال تحاول أن تنافس الأجناس القارة المعروفة. من الأسماء اللامعة في هذا الماراثون الأدبي والفني، يبرز اسم القاص لؤي حمزة عباس الذي بدأ رحلته في ثمانينيات القرن العشرين بإصدار أولى مجاميعه القصصية «على دراجة في الليل» قصص دار أزمنة عمان عام 1997. ثم توالت إصداراته في القصة القصيرة بلغت خمس مجاميع قصصية لغاية 2017، وأربع روايات مع ثلاث دراسات عن التراث والسرد. ثم اصدر ثلاثة كتب لم يخضعها للتجنيس يشكل آخرها «النوم إلى جوار الكتب» دار شهريار دار الرافدين ط1 2017، تجربة سردية لم تخضع لأي تجنيس، استثمر فيه أشكالا أدبية متنوعة: القراءة النقدية المطعمة بالحكايات والأسماء والجمل الشعرية المتنوعة، السيرة المتداخلة بين الذات والمبدعين العراقيين وغيرهم، القصة القصيرة، وغيرها من الأشكال التي وردت في الكتاب . سحر قراءة الكتب والقاص لؤي حمزة عباس جرب الكتابة بأنواعها، وأنصت كثيرا إلى الكتب وإلى المؤلفين في إصداراتهم المتنوعة ونواياهم المعلنة والخبيئة، واكتشف سحر قراءة الكتب، «فهو منذ أكثر من عشرين عاما وهو ينام في غرفة المكتبة، يستلقي إلى جوار الكتب ويغمض عينيه على مشهد الرفوف الممتدة على الجدران ويراها شاخصة في انتظاره» (كتاب النوم إلى جوار الكتب). في كتابه الجديد هذا، أودع خبرته وتشوفه لعالم عادل، ودهشته وهو يتحرى عالم الكتب والكتاب، حتى أصبحت الموسيقى والرسم والغناء شكلا من أشكال السرود الحية، تناولها في عدة عناوين: عشق السيدة وهو يتماهى مع الصوت الخالد لأم كلثوم، بعد رحيلها مستحضرا صوتها بلغة شفيفة تتماهى مع الصوت العذب ويستحضر شكلها بمنديلها الطويل وتعبيرات وجهها وحركاتها وهي تؤدي وصلاتها الغنائية، وفي «عداد الذكرى» يستعيد صورة الشاعر حسين عبد اللطيف بعد رحيله، ملاحظا مفارقة مهمة في حياة مدينته، وهي ان تكتب عنها بعد رحيله، ثم يسرد سيرته «في سنوات الحرب يمكن ان ترى حسين عبد اللطيف بقامته القصيرة الممتلئة وكيس أوراقه وهو يتنقل من مقهى إلى آخر حسب مزاج القصف وهوى القذائف، شعره لم يأخذ حظه من التمشيط، على فوديه شعرات بيض نافرة لم ترها من قبل، كأنها ابيضت البارحة». في «حديث الصمت» يتأمل القاص كلمات المكسيكي اكتافيو باث، وهو يسرد تجربة في حياة شعبه في كلمات عن «عيد الصرخة» الذي يحدده في يوم الخامس عشر من سبتمبر/أيلول من كل عام، حيث يخرج المكسيكيون إلى الشوارع والساحات العامة «حيث تصرخ الجموع المهتاجة فعلا على مدى ساعة، لعلها تفعل ذلك كي تحسن الصمت بعدئذ بقية العام». يلاحظ القاص عباس عكس ذلك في حياتنا حين تبنى على (قوة الصوت /الصراخ ) وهديره فنحن «نؤمن إيمانا فادحا بأن الصراخ يعلن مغزى وجودنا». مستحضرا خزينا «تاريخيا من الدماء، فجائع تاريخية ونكبات، مذابح مفتوحة مثل عروض سينمائية في الهواء الطلق». وهو تاريخ ممتد إلى حاضرنا الذي يفتقد السكينة والتفكر في حالنا، فالسكينة مفقودة على الرغم من أنها «ابنة العقل، عتبته وبابه وفضاؤه الفسيح». والصراخ يقودنا إلى «تأجيل التفكر، (فالذهاب) إلى الصراع لن يجعلنا أحرارا، ولن يمنحنا فرصة استعادة ما نصبو لاستعادته». يتأمل القاص لؤي حمزة عباس في صفحات الكتب منصتا لأصوات كتابها ورؤاهم وأحلامهم، التي أودعوها في صفحات كتبهم، وهو في تأمله الطويل يلتقط الجوهري من تجاربهم، ويضعها ضمن سياقات كتابه لتكون جزءا من عالمه، فهو يستثمر عبارة روجر بوبنر «الوهم الوحيد الذي لا يكذب» الذي تجسده الكتابة المبدعة، ليؤسس عليها قولا عن «الوهم الذي يضيء ما لا يضاء من الحقائق مقتنصا نباهة الفن العالية للوصول إلى الأعماق، حيث يبدو كل شيء شاخصا كما هو عليه منذ خلق» كي «يغدو العالم مع الكتابة المبدعة عالما مبتكرا، ناصعا وجديدا». وليصبح السؤال وحده «ينبض في ذرة رمل، يشع في قطرة مطر، ويرن رنينا موجعا في قلب الحجر» . أسئلة الواقع وعن وجهة نظره المباشرة عن عالمنا الذي تحكمه الصراعات، ويحتدم فيه جدل السكين والكتاب يكتب تحت عنوان (الأدب والعالم) فيلاحظ أن أهم الانعطافات في زماننا تشي بأن «أسئلة الواقع أشد فاعلية وأعنف وقعا وعجائبية من أسئلة الأدب». وهو «بكل أسف لن يتمهل أو يلتفت، لن يضع نقطة آخر السطر، ولن يتوقف منتظرا ثمار الفكر والأدب» ثم يستنتج واقعة مخيفة عن هذا الصراع حين يعلن أننا نعيش في عالم «تهدد السكين فيه حبل السرة بين الثقافة والحياة». لا مكان فيه لماركس وفيورباخ وطه حسين والكواكبي وغيرهم، ليستنتج بهذه الاستعارة البليغة أن «كل رقبة مقطوعة توسع الشق وتفتح الهوة بين دور المثقف وأدوار السكين، معززة صراعا بين إرادتين، فالسكين تمحو في لحظة عنف ما سعت إرادة التنوير لتأسيسه على امتداد قرن ونصف القرن من الزمان». يتضمن كتاب «النوم إلى جوار الكتب» سيولة سردية مضمخة بالمشاعر والأحاسيس التي تجعل من نصوص الكتاب سيرة ثقافية وفكرية ووجدانية تنقله إلى كتاب أدبي يستفيد من أجناس متنوعة، متأملا فيها ومحافظا على وجوده بينها باعتباره خبرة حياة وثقافة وتأمل وهو يواجه السكين بأشكالها ورموزها المتنوعة حتى لا «توغل عميقا في لحم الواقع»، وليصل إلى وجهة نظر تحرض على مد الراهن بطاقة الثقافة «وهي تعمل على استعادة الحياة من كهف الماضي وأسر الظلام». .... ٭ كاتب عراقي