في زمن تحطمت فيه الحواجز بين الأجناس الأدبية المختلفة وتخالطت، حتى ليشق على المتخصصين أكاديميًا أن يضعوا حواجز أو حدودًا أو شروطًا صارمة لأي جنس أدبي، برزت القصة القصيرة جدًا، كأكثر الأجناس الأدبية التي تلوكها الأقلام، وتدّعي الإبداع فيها، والانتساب إليها، واختلط الحابل بالنابل في كتابتها، لذا ما زالت هويتها ضبابية ملتبسة من حيث الاسم والمقومات، فكثير ممن يكتبها يهتم بالشكل، يكتب سطورًا معدودة، ويسميها قصة قصيرة جدًا، على الرغم من أنها قد تكون خاطرة، أو قصيدة نثر، أو مشهدا، أو لقطة، أو صورة أو مجرد خربشات لا قيمة لها. ومن حيث الاسم فهي قصة قصيرة جدًا، أو ومضة، أو أقصوصة، أو قصة برقية، أو قصة بحجم راحة اليد، أو شرارة قصصية، وغيرها من المسميات التي تتوالد وتتكاثر بشكل عجيب. حول موضوع القصة القصيرة جدًا، والمقومات والضوابط الضرورية لمنحها هوية خاصة بها، جاءت آراء مجموعة من مبدعي القصة القصيرة جدًا والمهتمين نقديًا بها.. التكثيف وجمالية اللغة بداية يشير القاص الأردني محمد عارف مشة إلى أن القصة القصيرة جدًا ليست وليدة العصر الحديث، وإن كان الاعتراف بها قد جاء في الوسط النقدي العربي المعاصر متأخرًا كثيرًا. فالقصة القصيرة جدًا هي مولود شرعي للقصة القصيرة العادية، حملت خصائصها من حيث: البداية، الشخوص، العقدة، النهاية، وما يتبعها من دهشة ومفارقة وتساؤلات تفكيرية عند القارئ. هذه الخصائص مجتمعة، إضافة إلى التكثيف اللغوي، والشعرنة، كلها عناصر تجميلية أو أساسية من أساسيات كتابة القصة القصيرة جدًا، بغض النظر عن عدد كلمات القصة، وفي اعتقادي كلما زاد التكثيف وجمالية اللغة، بدون الإخلال بالعناصر الأساسية السابقة، كانت القصة القصيرة جدًا أجمل. ويضيف مشة، وبحكم تجربتي في كتابة القصة القصيرة جدًا منذ عام 1983، أرى هناك تقصيرًا واضحًا في النقد، رغم بعض المحاولات الجادة التي تستحق الاحترام، إلا أن التقصير ما زال واضحًا، ما أدى إلى ضبابية القصة القصيرة جدًا من حيث الاسم وعناصرها، فالقصة القصيرة جدًا هي التي تتمتع بشروط القص، وأي اسم يطلق بعد ذلك على جنس أدبي آخر لم يتقيد بشروط القصة القصيرة جدًا فهو ليس قصة، فالتكثيف اللغوي والشعرنة لوحده أو الدهشة والمفارقة وحدها، لا تخلق قصة قصيرة جدًا. الخواتيم المثيرة ودلالتها وتقول الشاعرة والقاصة الجزائرية فضيلة معيرش، إن هناك من يرى أن القصة القصيرة جدًا في الوطن العربي ما تزال هويتها ضبابية، باعتبارها فنًا مستحدثًا ظهر في تسعينيات القرن الماضي، ورغم هذا سرعان ما وجدت لها مكانًا مهمًا بين الأجناس الأخرى من قبل الكثير من الكتاب الذين وصلوا بها إلى مستوى التمكن والإدهاش، وقد أرجعوا وجودها لعدة أسباب منها: الحياة السريعة، وسائل الإعلام الكثيرة، ضيق الوقت، كثرة الهموم اليومية كونها تعالج قضايا الإنسان، ومستمدة من واقعه. وهذا الفن يعتمد على جماليات وتقنيات مثل: اختيار الألفاظ القوية، المعنى والدلالة، الأسلوب الجميل، الإيجاز في التعبير بما يخدم السياق الموجز، عمق المعنى ولغة التضمين التي تقودنا للقراءة بين السطور. وله شروط وضوابط منها: التكثيف، الرمز الذي يرفع من قيمة النص الإبداعية، والحجم أي الشريط اللغوي المحدود لهذا الفن، والعديد من الكتاب اختلفوا في ذلك. مع هذا فكاتب هذا الفن باعتماده الإيجاز والتكثيف واللغة الشعرية، يكون قد حقق النجاح المطلوب لقصته، مبتعدًا عن التكرار والإطناب. كما نجد للخاتمة أهمية بالغة، وهناك من يراها غير ذات أهمية، خاصة إذ توفر النص على الإيجاز والتكثيف والرمز والإضمار، إلا أن براعة كاتب هذا الفن تتجلى في الخواتيم المثيرة واللامعة التي ترسخ في ذهن القارئ. إيقاع الحياة وطفرة التقنيات ويرى القاص والمدقق اللغوي المصري أحمد عبدالسلام، أن القصة القصيرة جدًا شأنها شأن القصة القصيرة، تتكون من مقدمة ومتن وخاتمة. وتمتاز بالتكثيف والإيجاز والإيحاء والإلغاز والمفارقة. وتأتي القصة القصيرة جدًا كتطور طبيعي لفنون السرد متواكبة مع الإيقاع السريع للحياة والطفرة الهائلة للتقنيات التي نزعت الصبر من صدور أغلب القراء، وصدتهم عن القراءة المطولة. فالنجاح في مضمار القصة القصيرة جدًا، والاستحواذ على لب القارئ، يستوجب قدمًا راسخة في اللغة، ودربة في مجالي الحكي والقص، وتنوعًا في الأسلوب، وقدرة على اقتناص اللحظة، مع البساطة في رسم الشخصيات، وتشابك الأحداث، ومتانة السرد، وتأخير لحظة التنوير، وصولًا إلى القفلة المدهشة (المبهرة/الصادمة). وفي محاولة لإثبات هويتها الجديدة، تنازع القصة القصيرة ألوانًا أخرى من فنون السرد كالومضة والومضة القصصية، ويتباين موقف النقاد منها بين مصفق ومستنكر، لا سيما وقد أدلى بدلوه فيها الغر والحاذق والمبدع والساذج والصغير والكبير. مولود جديد ويرى القاص العراقي علي السباعي، أن القصة القصيرة جدًا، مولود جديد. آخرُ العنقود، ولد من رحم القصة القصيرة، وتلاقح حياة معاصرة معقدة، سمتها السرعة والإقصاء والتنافس. وتاريخ الكائنات الحية يخضع لقوانين التغير والتحول والانتفاء والحذف والتشذيب والاختصار. وثمة ملمحين مهمين: قصر الحجم، والنزعة القصصية، بهما ستتمكن القصة القصيرة جدًا من فرض جنسها، ووجودها: جسدا ولغة ومكانا. فن المرحلة الحالية وينفي الشاعر والقاص المغربي عبدالله المتقي ضبابية القصة القصيرة جدًا والتباسها فيقول: بداءة، دعونا نتفق على أن القصة القصيرة جدًا ليست مسنة، ولم تعمر بعد طويلًا، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، فهي الآن تجاوزت مرحلة النطفة والعلقة، وها هي مضغة فلننتظر حتى تتحول هذه المضغة إلى ميني قصة أخرى، وحتى نطالبها بأشياء أكبر منها، وقد تتوجه إليها سهام من قبيل الالتباس والضبابية، وهذا شكل من أشكال التهم التي لا تؤمن بإعطائها حريتها لتتطور، وإذا كان هذا الشكل السردي القصير جدًا هو «الانطلاق من نقطة جد صغيرة إلى أخرى جد كبيرة» كما يرى ماثيو ديبس، فليفتح لها النقاد إذن أزرار قمصانهم لنقول بعد استوائها «تبارك القاص أحسن المبدعين»، لأنه شكل قصصي أفرزته شروط الزمن الراهن بكل مميزاته واشتباكاته، وكذا حركيته السريعة. لأن كل مرحلة لها قصصها وحجمها وتقنياتها وتخييلها ورؤاها. كما لن تسقط منا سهوًا الإشارة إلى أن هذا الشكل قد لا يتمم نضجه واستواءه النهائي، وربما لن ينهيه أبدًا كما هو الأمر في القصة القصيرة، ولكن هذا لا يمنع من اقتراح بعض الشروط لهذا الشكل الجديد والمتطرف والذي يكاد كل المعنيين يتفقون حوله من قبيل: القصر، التكثيف، الحكي، المفارقة، الدقة، الضغط، التهجين، السخرية والتعبير المرموز. لا تزال نزقة وللقاص الأردني جمعة شنب رأي مغاير وربما صادم، يقول: القصة القصيرة جدًّا لا تزال نزقة، رغم أنّها أطلّت من معطف القصّة القصيرة، لكنّها لا تشبهها على الإطلاق. إنّ الفرق بينها وبين القصة القصيرة التقليديّة، هو الفرق بين رغيف هامبورغر تقضمه في كابينة قطار سريع، وبين وجبة مأكولات بحريّة، سلطتها الكافيار، على يخت في بحيرة واسعة في ريف هادئ. القصة القصيرة جدًا ليست كما يروّج بعض المتحمسين لها، من أنها جنس أدبيٌّ صعب وشائك، وأغلب كتّابها اليوم امتطوها لقصر قامتها لا أكثر. إن حالة كتّاب القصة القصيرة جدًا تشبه كثيرًا حالة من يكتبون الشعر المنثور، بدون أن يكونوا أثبتوا قدراتهم في شعر الشطرين وشعر التفعيلة، جهلًا بالعروض، واستسهالا للكلام المنفلت لا أكثر. صحيح أنّ منظّري هذا الجنس الأدبي – إن كان يصلح أن يسمّى جنسًا بعد – يضعون ضوابط له، كالتكثيف والمفاجأة والإدهاش، لكن القصة القصيرة التقليديّة لا تخلو من هذه العناصر في أغلب حالاتها. هؤلاء المنظّرون ينحتون نحتًا لتثبيت هذا اللون السردي، وأخشى أن يصابوا بالإحباط قريبًا، ذلك أن أغلب كتّاب هذا السرد القصير ليسوا كتّابًا، وقلّة قليلة منهم ساردون أصلاء، ذوو باعٍ طويل في القصة القصيرة. صحيح أنّني أكتبها، لكنّني لا أحبّها، ولم أشعر يومًا بالانتماء إليها. مواقف نقدية متضاربة وأخيرًا يلاحظ الباحث والناقد الأكاديمي المغربي جميل حمداوي، بصفته دارسًا ومهتمًا بفن القصة القصيرة جدًا في الوطن العربي، أن هناك ثلاثة مواقف نقدية متضاربة حولها على مستوى التجنيس: موقف إيجابي يدافع عن القصة القصيرة جدًا؛ إذ يعتبرها الجنس الأدبي المفضل والصالح للمستقبل، وموقف سلبي رافض لهذا الفن الوافد. ويقوم على المكابرة والممانعة والعناد، وعدم الاعتراف بهذا الجنس المستحدث، وموقف وسط متردد ومحايد وحذر، لا يعبر عن نفسه بشكل واضح وصريح، بل ينتظر الوقت المناسب الذي يعلن فيه قرار الرفض أو التأييد. ومن هنا، فالقصة القصيرة جدًا جنس أدبي بامتياز، مثل: الرواية والقصة القصيرة، يمتلك مجموعة من الأركان والمكونات الثابتة التي تميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى تخصيصًا وتفريدًا واستقلالية، مثل: القصصية، والحجم القصير جدًا، والتكثيف، والاقتضاب، والتركيز، والحذف، والإضمار، والتسريع، والمفاجأة، وفعلية الجملة، والتتابع، والتراكب، والصورة الومضة، وإدهاش المتلقي. وثمة مجموعة من المعايير والقوانين والسمات التجنيسية التي تشترك فيها القصة القصيرة جدًا مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى، مثل: الأنسنة، والتشخيص، والانزياح، والتناص، والأسلبة، وانفتاح الجنس، والتلميح، والإيحاء، والفانتازيا. وقد ظفرت القصة القصيرة جدًا، في السنوات الأخيرة، بصك الاعتراف القانوني والمؤسساتي والنقدي والأدبي والأجناسي، بعد أن دافع عنها الإعلام الورقي والرقمي من جهة أولى، ونافح عنها النقد الأدبي من جهة ثانية، واعترفت بها المؤسسات والمعاهد الجامعية من جهة ثالثة.