انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. هل يوم الإثنين إجازة رسمية؟    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. قائمة الكليات المتاحة لعلمي علوم ورياضة ومؤشرات الحد الأدنى    تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. رابط تسجيل اختبارات كليات الهندسة والحاسبات والتجارة والزراعة (المنهج)    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية اليوم السبت 2-8-2025    «خدوا بالكم منه».. إعلان عودة معلول ل الصفاقسي يهز مشاعر جماهير الأهلي    بعد حمدي فتحي.. بيراميدز يصرف النظر عن صفقته الجديدة    الأجهزة الأمنية تداهم منزل البلوجر «أم مكة» في شبرا الخيمة وتتحفظ على معدات التصوير    مسلّح يفتح النار داخل حانة بمونتانا ويقتل 4 أشخاص    زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب أفغانستان    ترامب يحذر: الغواصات النووية تقترب من روسيا ويجب الاستعداد    فلسطين.. قصف مدفعي وإطلاق نار إسرائيلي يستهدف محيط حي الأمل غرب خان يونس    "يحل مشكلتين للفريق".. لماذا عدي الدباغ الصفقة الصيفية الأنسب للزمالك؟    3 أرقام مقلقة من وديات الزمالك قبل أسبوع من انطلاق الدوري    ترامب: غواصاتنا تقترب من روسيا وعقوبات إذا لم يُبرم اتفاق مع أوكرانيا    قرارات عاجلة من محافظ سوهاج بعد إصابة 13 شخصًا في انفجار مطعم.. صور    تشميع محال وإحالة الواقعة للنيابة.. محافظ سوهاج يتخذ إجراءات رادعة بعد مشاجرة "حي شرق" – صور    بينهم طفل ..إصابة 3 من أسرة واحدة في حادث مروري بالوادي الجديد    إخلاء سبيل مسؤولي حفل محمد رمضان بكفالة 50 ألف جنيه    تشيع جنازة عريس لحق بعروسه بعد ساعات من وفاتها بكفر الشيخ    يونس: محمد شحاتة قادر على التطور.. وأول 10 مباريات فاصلة للزمالك في الدوري    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    نجاح علاج انسداد الشريان الحرقفي بمستشفى شرق المدينة بالإسكندرية    مستشفيات سوهاج الجامعية تستقبل المصابين في حريق مطعم    مصر ترفع رصيدها إلى 91 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    وزير الزراعة: أسعار الدواجن في انخفاض مستمر.. والأعلاف تراجعت 2000 جنيه للطن    ما هي واجبات أعضاء مجلس الشيوخ؟.. القانون يجيب    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    سقوط مروع لطفل من دراجة نارية في الوادي الجديد    رسميا الآن بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2 أغسطس 2025    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    إسماعيل هنية كشف خيانة الثورة المضادة فباركوا قتله .. عام على اغتيال قائد حماس    الإخوان : وقف نزيف الحرب على غزة لن يمر عبر تل أبيب    مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة في سيوة    أخبار × 24 ساعة.. وظائف فى البوسنة والهرسك بمرتبات تصل ل50 ألف جنيه    نجم الزمالك السابق: فترة الإعداد "مثالية".. والصفقات جيدة وتحتاج إلى وقت    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    عمرو دياب الأعلى استماعا خلال شهر يوليو على أنغامي (صور)    حدث بالفن| كارثة بسبب حفل محمد رمضان ومطرب يلغي حفله في الساحل حدادًا على المتوفي    "ظهور نجم الأهلي".. 10 صور من احتفال زوجة عماد متعب بعيد ميلاد ابنتهما    كواليس من محاكمة صدام حسين.. ممثل الدفاع: طلب جورج بوش وتوني بلير لهذا السبب    عبدالمنعم سعيد: الدمار الممنهج في غزة يكشف عن نية واضحة لتغيير هوية القطاع    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    وصول دفعة أطباء جديدة من عدة محافظات إلى مستشفى العريش العام    ترامب: نشرنا غواصتين نوويتين عقب تصريحات ميدفيديف "لإنقاذ الناس"    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    الأسهم الأوروبية تتكبد خسائر أسبوعية بعد أسوأ جلسة منذ أبريل    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    إدارة مكافحة الآفات بالزراعة تنفذ 158 حملة مرور ميداني خلال يوليو    فريق بحثي بمركز بحوث الصحراء يتابع مشروع زراعة عباد الشمس الزيتي بطور سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي المنشق مارك ألدانوف يكشف خلفيات الثورة البولشيفية
نشر في صوت البلد يوم 11 - 03 - 2018

مَن منا قرأ أو حتى سمع بكاتب روسي يدعى مارك ألدانوف (1886 - 1957)؟ سؤال لا نطرحه رغبةً في جوابٍ نعرفه سلفاً، بل للإشارة إلى أن التاريخ يظلّل أحياناً عمالقة، ألدانوف هو بالتأكيد واحد منهم. هذا ما يتجلى بسرعة لمَن يقرأ واحدة من رواياته الغزيرة التي بقيت ممنوعة في روسيا حتى مطلع التسعينات، وآخرها «انتحار» (1958) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «سيرت» السويسرية.
عن حياة هذا الكاتب نعرف القليل جداً. عالم كيمياء وعضو سابق في حزب اشتراكي رفض إرهاب البولشيفيين، فر ألدانوف من روسيا إلى باريس في ربيع 1919 من دون أي يدري أنه سيمضي حياته في المنفى. ومثل كثيرين غيره، سعى إلى تحذير الرأي العام الأوروبي من خطر البولشيفيين عبر كشف أفعالهم في روسيا، معتقداً بإمكان هزمهم وعودة روسيا إلى ما بلغته للمرة الأولى في تاريخها، في شباط(فبراير) 1917، أي جمهورية ديموقراطية. ومن هذا المنطلق، كتب بحثين مباشرةً بالفرنسية: «لينين» (1919) و «ثورتان: الفرنسية والروسية» (1921)، فضح فيهما رجعية البولشيفيين ومنهج الإرهاب الذي استعانوا به لحكم روسيا، وبالتالي عدم التزامهم بقيَم الحرية التي رفعوها. وبعد رواية قصيرة حول نهاية نابوليون، وضع في الثلاثينات ثلاثية روائية («المفتاح»، «الهروب» و «الكهف») حول موضوع الثورة تاق فيها إلى إدراج تاريخ الثورات الروسية ضمن تاريخ أوروبا. ولا عجب في ذلك، فألدانوف الذي درس في باريس قبل ثورة أكتوبر، كان يعتبر نفسه أوروبياً ويعتبر الثقافة الروسية جزءاً من الثقافة الأوروبية.
وبخلاف هذه الثلاثية التي لا تتضمّن أي شخصية تاريخية واقعية، يحضر لينين كشخصية رئيسية في رواية «انتحار» التي تنطلق أحداثها في تموز 1903، خلال مؤتمر الحزب الاجتماعي الديموقراطي الروسي في بروكسيل الذي كرّس الانقسام بين بولشيفيين ومينشيفيين، وتنتهي بوفاة لينين عام 1924. لكن زعيم البولشيفية ليس الشخصية التاريخية الوحيدة في هذا العمل الضخم (660 صفحة) الذي يتضمّن أيضاً بورتريهات لشخصيات شهيرة أخرى رصد ألدانوف لبعضها فصولاً كاملة ومستقلّة، مثل موسوليني الذي نتعرّف إليه في بداياته ثورياً يسارياً راديكالياً في لوزان عام 1903، والإمبرطور النمسوي فرنسوا جوزيف والإمبرطور الألماني غييوم الثاني وتروتسكي وستالين وألبير أينشتاين، إلى جانب عدد من الوجوه الديبلوماسية الأوروبية المجهولة اليوم التي لعبت دوراً بارزاً في أحداث تلك المرحلة. بورتريهات دقيقة تحضر ضمن سعي الكاتب إلى إنارة الوضع السياسي في أوروبا وروسيا مطلع القرن الماضي، وكشف الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب العالمية الأولى ونجاح ثورة أكتوبر.
انتحار أوروبا
ولكن عن أي «انتحار» يتحدّث ألدانوف في روايته؟ عن انتحار أوروبا أولاً التي انزلقت داخل حربٍ عالمية كان يمكن تفاديها، وسمحت للديكتاتورية البولشيفية بالاستقرار على حدودها الشرقية في نهاية 1918، ممهِّدة في ذلك الطريق لمجيء ديكتاتوريات الثلاثينات التي دمّرت مكتسبات مجتمعاتها وأفقدتها موقعها الدولي المتقدِّم؛ وعن انتحار روسيا ثانياً التي توارت وحلّ مكانها مسخٌ مرعب، من دون أن ننسى ذلك الانتحار الذي يحضر كحلٍّ وحيد أمام بطلَي الرواية، الزوجين لاستوتشكين، إثر فقدانهما ثروتهما وأملاكهما بعد الثورة البولشيفية وانغلاق أي أفق أمامهما لكسب قوتهما. وفي ذلك، يندرج عمل ألدانوف في خط روايات كثيرة كُتبت حول تلك المرحلة ولا تجد شخصياتها الرئيسية حلاً آخر سوى الموت أو الهجرة.
الإطار الجغرافي للرواية يشمل مدناً أوروبية عديدة (بروكسيل، لندن، باريس، فيينا، برلين، كان، تبليسي)، إلى جانب سان بطرسبرغ وموسكو حيث يتجنّب الكاتب تصوير أي مشهد من أحداث الثورة البولشيفية أو الحرب العالمية الأولى لسببين: اقتناعه بأن لا أحد قادر على تجاوز تولستوي في هذه المهمة، ورغبته في تناول مآل هذه الأحداث. وبالتالي، بدلاً من خطّ جدارية تصوّر روسيا خلال عنف الثورة، كما فعل كثيرون، فضّل عرض أسباب هذه الثورة ونتائجها على حياة النخبة الروسية المثقّفة.
من هنا ابتكاره شخصية ديميتري لاستوتشكين الجميلة التي نتابع مسيرتها بموازاة مسيرة لينين، وتشكّل في مختلف وجوهها نقيضاً لشخصية هذا الأخير. وفعلاً، لاستوتشكين مهندس صادق وشريف حالفه الحظ وسمح له بتحقيق جميع مشاريعه وبجمع ثروة كبيرة. وعلى طول الرواية، نراه يعيش مع زوجته في موسكو بيُسرٍ كبير ويعمل على مساعدة جميع المحيطين به بكرمٍ مؤثّر. ولأن الوضع الروسي يشغل باله، ينشط لتحسينه من طريق عمله وعلاقاته، معتبراً أن روسيا عبارة عن «أوروبا متأخِّرة» سيساعدها الازدهار الاقتصادي على إصلاح نفسها.
في المقابل، يظهر لينين في الرواية كشخصية كريهة ومجرّدة من أي حسٍّ أخلاقي وغير متسامحة، تتحلى بإرادة تخرج عن المألوف وبيقينٍ لا يشوبه شكّ في صحة أفكارها. شخصية يبتسم القدر لها في الوقت الذي يغادر فيه الحظ لاستوتشكين، ما يجعلنا نستخلص أمثولتين، أولاها أن ألدانوف، على رغم إعجابه بتولستوي، لا يتّفق مع رؤيته للتاريخ. فبخلاف ما حاول برهنته صاحب «حرب وسلام»، يحدث أن يتمكّن بعض الأشخاص من صنع التاريخ، كما هو الحال مع لينين. فمن دون إرادة هذا الأخير الصلبة التي فرضها على الجميع، لما كانت ثورة أكتوبر، بالنسبة إلى الكاتب. الأمثولة الثانية هي أن كل ثورة مضرّة وعنيفة وغير عادلة بطبيعتها، وطريق الإصلاح هو دائماً أفضل منها.
ولكن على رغم مساوئه، لا يبدو لينين قاسياً وشريراً في الرواية، بل كرجلٍ نشيط وميداني لعب الحظ دوراً كبيراً في بلوغه هدفه. ومن طريقة وصف طاقته الكبيرة على العمل وعناده المذهل، نستشعر نوعاً من الإعجاب به من قبل ألدانوف الذي يقابل بطريقة ضمنية البورتريه الذي يخطّه له ببورتريه ستالين الذي نراه في الرواية شاباً عنيفاً لا يتردد في مصادرة أملاك الأثرياء وقتل الأبرياء لتمويل الحزب البولشيفي، بينما يرفض لينين التخطيط أو التورّط في أي عملٍ إرهابي، على رغم استخدامه عامل الكراهية واستفادته من صراع الطبقات الاجتماعية في روسيا. وفي نهاية حياته، يظهر خائب الظن بسبب وضع روسيا، فيضع أفعاله وأفعال حزبه موضع تساؤل ويبدو مستعداً للاعتراف ببعض الأخطاء.
باختصار، «انتحار» رواية آسرة سواء بقصّتها الغنية بالأحداث التي يختلط فيها الواقع بالخيال، أو بلغتها الكلاسيكية الجميلة، أو بمعارف صاحبها المدوخة التي تتجلى في المراجع الغزيرة التي يمدّنا بها حول تلك المرحلة من تاريخ روسيا وأوروبا، وأيضاً حول مختلف الحركات اليسارية والوجوه الفكرية والأدبية والفنية التي كانت ناشطة في وطنه خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. مراجع لا تثقل من حبكة الرواية المُحكَمة، بل تثريها وتضفي على نصّها قيمة إضافية أكيدة.
مَن منا قرأ أو حتى سمع بكاتب روسي يدعى مارك ألدانوف (1886 - 1957)؟ سؤال لا نطرحه رغبةً في جوابٍ نعرفه سلفاً، بل للإشارة إلى أن التاريخ يظلّل أحياناً عمالقة، ألدانوف هو بالتأكيد واحد منهم. هذا ما يتجلى بسرعة لمَن يقرأ واحدة من رواياته الغزيرة التي بقيت ممنوعة في روسيا حتى مطلع التسعينات، وآخرها «انتحار» (1958) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «سيرت» السويسرية.
عن حياة هذا الكاتب نعرف القليل جداً. عالم كيمياء وعضو سابق في حزب اشتراكي رفض إرهاب البولشيفيين، فر ألدانوف من روسيا إلى باريس في ربيع 1919 من دون أي يدري أنه سيمضي حياته في المنفى. ومثل كثيرين غيره، سعى إلى تحذير الرأي العام الأوروبي من خطر البولشيفيين عبر كشف أفعالهم في روسيا، معتقداً بإمكان هزمهم وعودة روسيا إلى ما بلغته للمرة الأولى في تاريخها، في شباط(فبراير) 1917، أي جمهورية ديموقراطية. ومن هذا المنطلق، كتب بحثين مباشرةً بالفرنسية: «لينين» (1919) و «ثورتان: الفرنسية والروسية» (1921)، فضح فيهما رجعية البولشيفيين ومنهج الإرهاب الذي استعانوا به لحكم روسيا، وبالتالي عدم التزامهم بقيَم الحرية التي رفعوها. وبعد رواية قصيرة حول نهاية نابوليون، وضع في الثلاثينات ثلاثية روائية («المفتاح»، «الهروب» و «الكهف») حول موضوع الثورة تاق فيها إلى إدراج تاريخ الثورات الروسية ضمن تاريخ أوروبا. ولا عجب في ذلك، فألدانوف الذي درس في باريس قبل ثورة أكتوبر، كان يعتبر نفسه أوروبياً ويعتبر الثقافة الروسية جزءاً من الثقافة الأوروبية.
وبخلاف هذه الثلاثية التي لا تتضمّن أي شخصية تاريخية واقعية، يحضر لينين كشخصية رئيسية في رواية «انتحار» التي تنطلق أحداثها في تموز 1903، خلال مؤتمر الحزب الاجتماعي الديموقراطي الروسي في بروكسيل الذي كرّس الانقسام بين بولشيفيين ومينشيفيين، وتنتهي بوفاة لينين عام 1924. لكن زعيم البولشيفية ليس الشخصية التاريخية الوحيدة في هذا العمل الضخم (660 صفحة) الذي يتضمّن أيضاً بورتريهات لشخصيات شهيرة أخرى رصد ألدانوف لبعضها فصولاً كاملة ومستقلّة، مثل موسوليني الذي نتعرّف إليه في بداياته ثورياً يسارياً راديكالياً في لوزان عام 1903، والإمبرطور النمسوي فرنسوا جوزيف والإمبرطور الألماني غييوم الثاني وتروتسكي وستالين وألبير أينشتاين، إلى جانب عدد من الوجوه الديبلوماسية الأوروبية المجهولة اليوم التي لعبت دوراً بارزاً في أحداث تلك المرحلة. بورتريهات دقيقة تحضر ضمن سعي الكاتب إلى إنارة الوضع السياسي في أوروبا وروسيا مطلع القرن الماضي، وكشف الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب العالمية الأولى ونجاح ثورة أكتوبر.
انتحار أوروبا
ولكن عن أي «انتحار» يتحدّث ألدانوف في روايته؟ عن انتحار أوروبا أولاً التي انزلقت داخل حربٍ عالمية كان يمكن تفاديها، وسمحت للديكتاتورية البولشيفية بالاستقرار على حدودها الشرقية في نهاية 1918، ممهِّدة في ذلك الطريق لمجيء ديكتاتوريات الثلاثينات التي دمّرت مكتسبات مجتمعاتها وأفقدتها موقعها الدولي المتقدِّم؛ وعن انتحار روسيا ثانياً التي توارت وحلّ مكانها مسخٌ مرعب، من دون أن ننسى ذلك الانتحار الذي يحضر كحلٍّ وحيد أمام بطلَي الرواية، الزوجين لاستوتشكين، إثر فقدانهما ثروتهما وأملاكهما بعد الثورة البولشيفية وانغلاق أي أفق أمامهما لكسب قوتهما. وفي ذلك، يندرج عمل ألدانوف في خط روايات كثيرة كُتبت حول تلك المرحلة ولا تجد شخصياتها الرئيسية حلاً آخر سوى الموت أو الهجرة.
الإطار الجغرافي للرواية يشمل مدناً أوروبية عديدة (بروكسيل، لندن، باريس، فيينا، برلين، كان، تبليسي)، إلى جانب سان بطرسبرغ وموسكو حيث يتجنّب الكاتب تصوير أي مشهد من أحداث الثورة البولشيفية أو الحرب العالمية الأولى لسببين: اقتناعه بأن لا أحد قادر على تجاوز تولستوي في هذه المهمة، ورغبته في تناول مآل هذه الأحداث. وبالتالي، بدلاً من خطّ جدارية تصوّر روسيا خلال عنف الثورة، كما فعل كثيرون، فضّل عرض أسباب هذه الثورة ونتائجها على حياة النخبة الروسية المثقّفة.
من هنا ابتكاره شخصية ديميتري لاستوتشكين الجميلة التي نتابع مسيرتها بموازاة مسيرة لينين، وتشكّل في مختلف وجوهها نقيضاً لشخصية هذا الأخير. وفعلاً، لاستوتشكين مهندس صادق وشريف حالفه الحظ وسمح له بتحقيق جميع مشاريعه وبجمع ثروة كبيرة. وعلى طول الرواية، نراه يعيش مع زوجته في موسكو بيُسرٍ كبير ويعمل على مساعدة جميع المحيطين به بكرمٍ مؤثّر. ولأن الوضع الروسي يشغل باله، ينشط لتحسينه من طريق عمله وعلاقاته، معتبراً أن روسيا عبارة عن «أوروبا متأخِّرة» سيساعدها الازدهار الاقتصادي على إصلاح نفسها.
في المقابل، يظهر لينين في الرواية كشخصية كريهة ومجرّدة من أي حسٍّ أخلاقي وغير متسامحة، تتحلى بإرادة تخرج عن المألوف وبيقينٍ لا يشوبه شكّ في صحة أفكارها. شخصية يبتسم القدر لها في الوقت الذي يغادر فيه الحظ لاستوتشكين، ما يجعلنا نستخلص أمثولتين، أولاها أن ألدانوف، على رغم إعجابه بتولستوي، لا يتّفق مع رؤيته للتاريخ. فبخلاف ما حاول برهنته صاحب «حرب وسلام»، يحدث أن يتمكّن بعض الأشخاص من صنع التاريخ، كما هو الحال مع لينين. فمن دون إرادة هذا الأخير الصلبة التي فرضها على الجميع، لما كانت ثورة أكتوبر، بالنسبة إلى الكاتب. الأمثولة الثانية هي أن كل ثورة مضرّة وعنيفة وغير عادلة بطبيعتها، وطريق الإصلاح هو دائماً أفضل منها.
ولكن على رغم مساوئه، لا يبدو لينين قاسياً وشريراً في الرواية، بل كرجلٍ نشيط وميداني لعب الحظ دوراً كبيراً في بلوغه هدفه. ومن طريقة وصف طاقته الكبيرة على العمل وعناده المذهل، نستشعر نوعاً من الإعجاب به من قبل ألدانوف الذي يقابل بطريقة ضمنية البورتريه الذي يخطّه له ببورتريه ستالين الذي نراه في الرواية شاباً عنيفاً لا يتردد في مصادرة أملاك الأثرياء وقتل الأبرياء لتمويل الحزب البولشيفي، بينما يرفض لينين التخطيط أو التورّط في أي عملٍ إرهابي، على رغم استخدامه عامل الكراهية واستفادته من صراع الطبقات الاجتماعية في روسيا. وفي نهاية حياته، يظهر خائب الظن بسبب وضع روسيا، فيضع أفعاله وأفعال حزبه موضع تساؤل ويبدو مستعداً للاعتراف ببعض الأخطاء.
باختصار، «انتحار» رواية آسرة سواء بقصّتها الغنية بالأحداث التي يختلط فيها الواقع بالخيال، أو بلغتها الكلاسيكية الجميلة، أو بمعارف صاحبها المدوخة التي تتجلى في المراجع الغزيرة التي يمدّنا بها حول تلك المرحلة من تاريخ روسيا وأوروبا، وأيضاً حول مختلف الحركات اليسارية والوجوه الفكرية والأدبية والفنية التي كانت ناشطة في وطنه خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. مراجع لا تثقل من حبكة الرواية المُحكَمة، بل تثريها وتضفي على نصّها قيمة إضافية أكيدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.