المشاط تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية لزيادة استثماراتها في مصر    طور سيناء تطلق سوق اليوم الواحد بتخفيضات تصل 25% لتخفيف العبء عن المواطنين    تشغيل كامل لمجمع مواقف بني سويف الجديد أسفل محور عدلي منصور    الأونروا: ننتظر الضوء الأخضر لإدخال شاحنات المساعدات إلى غزة    حصيلة ضحايا الحرب على غزة تتجاوز 203 آلاف شهيد وجريح    ماكرون وزوجته يرفعان دعوى تشهير ضد المؤثرة الأمريكية كانديس أوينز    حماة الوطن يشيد بجهود مصر في إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    إيزاك يغيب عن نيوكاسل في معسكره الأسيوي    «صفقة قادمة».. شوبير يشوّق جماهير الأهلي حول المهاجم الجديد    النيابة تطلب التقرير الطبي لإصابة طالبة سقطت من الطابق الرابع في الإسكندرية    الداخلية تضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء بين سائقي توك توك في العمرانية    بسبب السرعة الزائدة.. مصرع عامل ديلفري إثر انقلاب دراجته النارية بالتجمع الخامس    اليوم.. عروض لفرق الشرقية والموسيقى العربية بالعلمين ضمن صيف بلدنا    إيهاب توفيق والموسيقى العربية في افتتاح صيف الأوبرا 2025 باستاد الإسكندرية    إقبال جماهيري على فعاليات "المواطنة" بالمنيا.. "الثقافة" تُضيء القرى برسائل الوعي والانتماء    «مش زي غيره».. تعليق ناري من الغندور بعد رسالة مصطفي شلبي    الشباب والرياضة تتلقى الاستقالة المسببة من نائب رئيس وأمين صندوق اتحاد تنس الطاولة    البنك المركزي الأوروبي يبقي على معدلات الفائدة دون تغيير    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    وزير الخارجية والهجرة يلتقي رئيس جمهورية مالي ويسلم رسالة خطية من فخامة رئيس الجمهورية    تحذير من موجة شديدة الحرارة.. بيان هام من الأرصاد يكشف حالة الطقس    المجلس الأعلى للإعلام يوافق على 21 ترخيصًا جديدًا لمواقع إلكترونية    لطلاب الثانوية العامة والأزهرية.. شروط قبول بالأكاديمية العسكرية المصرية (إنفوجراف)    قبل 150 يومًا من انطلاق "كان 2025".. الفراعنة ملوك الأرقام القياسية    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    بقيمة 227 مليون جنيه.. «صحة المنوفية» تكشف حصاد العلاج على نفقة الدولة خلال 6 أشهر    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند.. اشتباكات حدودية وغارات جوية    سيدة على مشارف ال80 عاما تغادر محطة الأمية في قطار التضامن «لا أمية مع تكافل»    تقرير جنوب إفريقي: لا نية ل صنداونز لبيع ريبيرو إلى بيراميدز.. والوجهة المفضلة    القليوبية تُطلق حملة مراكز شباب آمنة للوقاية من حوادث الغرق    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    "مدبولي" يؤكد أهمية بناء الوعي في تشييد حائط صد ضد نمو الشائعات    بيان مشترك: مصر ودول عربية وإسلامية تدين مصادقة الكنيست الإسرائيلي على الإعلان الداعي لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة    انخفاض أسعار الحديد وارتفاع الأسمنت اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    جهود قطاع أمن المنافذ بالداخلية خلال 24 ساعة لمواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    الداخلية تواصل حملاتها المكثفة لضبط الأسواق والتصدى الحاسم لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم لتحقيق أرباح غير مشروعة    "الجبهة الوطنية" يعقد أول لقاء جماهيري بالإسماعيلية لدعم مرشحته داليا سعد في انتخابات الشيوخ    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    «خدمة المجتمع» بجامعة القاهرة يناقش التكامل بين الدور الأكاديمى والمجتمعى والبيئي    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    3 أفلام ل محمد حفظي ضمن الاختيارات الرسمية للدورة ال 82 لمهرجان فينيسيا (تفاصيل)    نقابة المهن السينمائية تشيد بمسلسل "فات الميعاد"    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    عمرو الورداني: النجاح ليس ورقة نتيجة بل رحلة ممتدة نحو الفلاح الحقيقي    لو لقيت حاجة اقعدها وقت قد ايه لحين التصرف لنفسي فيها؟.. أمين الفتوى يجيب    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    713 ألف خدمة طبية قدمتها مبادرة «100 يوم صحة» خلال أسبوعها الأول في القليوبية    قبل اعتماد "جهار".. رئيس "الرقابة الصحية" يتفقد مستشفيي رأس الحكمة والضبعة    "السبكي" يبحث مع "Abbott" نقل أحدث تقنيات علاج أمراض القلب    تفاصيل عملية دهس قرب بيت ليد.. تسعة مصابين واستنفار إسرائيلي واسع    الإسكندرية تحتفل بتاريخها.. في "يوم وداع الملك"    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وسائط جديدة وآليات قرائية متغيرة
نشر في صوت البلد يوم 03 - 02 - 2018

نشر الناقد الأمريكي نيكولاس كار سنة 2008 مقالا بعنوان «هل يجعلنا غوغل أغبياء؟»، خلّف ردود أفعال عديدة، الأمر الذي دفع الكاتب إلى تطوير الفكرة في كتاب صدر سنة 2010. وأساس الفكرة هو مقاربة الوضعية الجديدة للقارئ في تعامله مع الوسائط الجديدة، ومحاولة المقارنة بين وضعيتين لفعل القراءة: وضعية ورقية وأخرى رقمية/ تكنولوجية. الأولى كلاسيكية تمّ التعود عليها منذ سنين خلت، وهي سلسة وطيعة بحكم التجربة القرائية لكل فرد منا، عكس الثانية التي تتطلب مهارات ذهنية وفكرية، وممارسات ودربة. وقد رصد الناقد هذه التحولات القرائية عند كل مبتدئ يخطو خطواته الأولى في عالم القراءة من خلال شاشة الحاسوب، عارضا تجربته الذاتية من خلال الملاحظات التالية:
- عدم القدرة على القراءة بشكل عميق.
- غياب التركيز الذي يبدأ في التلاشي بعد قراءة صفحتين أو ثلاث.
- فقدان الصبر على متابعة القراءة، والبحث عن عمل شيء آخر غيرها.
- الإحساس بأنه يعمل باستمرار على إعادة دماغه «الطائش»، وبالقوة، إلى النص.
كذلك رأى أن القراءة العميقة التي كانت تأتي بشكل طبيعي مع الكتب الورقية أصبحت تعرف صراعا مع المحمولات التكنولوجية: الأدب الرقمي، المعاجم الرقمية، المكتبات الرقمية، محركات البحث، المدونات إلخ. وكلما استعملنا صفحات الإنترنت كلما كان على المستعمل المقاومة كي تبقى درجة التركيز عالية، لأن الأمر يتعلق بالقراءة من خلال الروابط؛ وأي إفراط في التعامل معها قد يقود إلى التيهان عبر صفحات الشبكة خصوصا بالنسبة للمستعملين الذين لم يبلغوا بعد درجة الاحترافية في العملية القرائية على شاشة الحاسوب، وأخص بالذكر طلبتنا في الجامعات.
إن المسألة لا تتعلق بانطباعات ذاتية فقط، بل إن الأمر يتعدى ذلك، فقد نشرت مجلة «العلم والحياة» ملفا يحمل عنوان «القراءة تتغير وأدمغتنا أيضا»، حيث لاحظ تييري باكسينو أن القراءة على شاشة الحاسوب تتطلب زيادة في عملية اشتغال الدماغ، بل وطريقة عمل مغايرة؛ واصفا العين وهي تتجول عبر الصفحات بأنها تشبه حركة الفراشات وهي تطير، حيث الهدف هو التقاط المعلومة بسرعة، أما الفهم والتحليل فهو يأتي لاحقا، وعند الحاجة. وهو الأمر الذي يؤشر على القراءة الانتقائية، أي الانتقال من كتلة معلومات إلى أخرى لانتقاء المعلومة والاشتغال عليها لاحقا.
إن الاشتغال على القراءة من خلال شاشة الحاسوب ليست مسألة فردية، بل جماعية تتحمل فيها الدولة من خلال مؤسساتها التعليمية دورا أساسيا من أجل النهوض بالفعل القرائي التخصصي (في مختلف المجالات الأدبية والفكرية)، الذي هو بوابة المعرفة، والتحصيل المعرفي. ولن يحدث ذلك إلا من خلال جدولة مواد تهتم بالتربية القرائية عند الناشئة: «القراءة الورقية» و»القراءة الرقمية» لا انفصال بينهما، كل واحدة تكمل الأخرى، لهما تقنيات وآليات محددة، وهما صاريتا المعرفة، وبوابة نساهم من خلالها في بناء الحضارة الإنسانية.
الفعل القرائي
أما ما يتعلق بالفعل القرائي العام الذي يحفل به عدد من الوسائط ومنها الفيسبوك، فإن عدة تحولات قد طرأت على هذا الفضاء، ليس فقط من خلال التغييرات التقنية للموقع وما لحق به من إضافات، بل أيضا من خلال التغييرات التي طرأت على البنية الذهنية للمستعمل، ما بين «الكتابة» و»القراءة»، فالمستعمل هو في ذات الوقت كاتب (ليس بالمعنى الثقافي طبعا) وقارئ/ متلقٍ، حيث تقلص الحيز الزمني بين فعل الكتابة وفعل القراءة، وفعل الرد واختيارات هذا الرد. فهذا الأخير كان يتم من خلال الكلمات والصور لينتقل إلى الرد بالفيديو صوتا وصورة، خصوصا عند وقوع أحداث معينة، كأحداث حراك الريف بالمغرب مثلا، الذي أفرز تجاذبات متعددة ومتناقضة، نتج عنها قراءات متعددة ومتباينة للأحداث، تقلص معها دور المثقف، بل تراجع هذا الأخير إلى الوراء، وتراجع أيضا دور الصحافي، وظهر شخص آخر لتقديم قراءاته للأوضاع عبر الفيسبوك، تحت اسم «المواطن» وذلك بتوجيه نداءات إلى كل المواطنين.
وهكذا تأخذ القراءة بعدا تداوليا وتوليديا من خلال القراءة والتعليق والمشاركة، وبالتالي إنتاج نصوص جديدة عبر الوسائط الاجتماعية، التي مكنت من عودة «التعبير الشفهي» الذي يتطلب قراءة مغايرة عن القراءة التي تتم من خلال ما يكتب. بل يمكن اعتبار هذه النصوص الشفهية نصوصا سردية تفاعلية بامتياز، تحكي عن الذات وتجاربها، من خلال اتخاذ هذا «المواطن» وضعية الحكواتي أو الراوي، وقد لاحظنا في تقديم هذه الفيديوهات اختلاف السيناريوهات التي يتم من خلالها تحميل الأفكار ووجهات النظر من خلال كاميرا الهاتف المحمول، وكذا تقنيات تقديم المرسل لذاتيته من خلال فضاءات متعددة ومختلفة تعكس اختيارات مرتبطة بموضوع وفكرة الفيديو؛ وتتوزع ما بين أفضية مغلقة وأخرى منفتحة: داخل بهو المنزل، داخل غرفة، داخل سيارة إما متحركة أو متوقفة، داخل مزرعة، حديقة. ولهذه الأوضاع الجسدية داخل هذه الفضاءات مؤشرات ودلالات رمزية، تحضر فيها الذات منفردة معزولة عن أية جماعة، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا التي يظهر فيها زوجان يتحدثان بالتناوب أو جماعة مكونة من عدد من الأفراد يتناوب بعضهم في أخذ الكلمة بالنيابة عن باقي المجموعة. هذه الفيديوهات وما يتخللها من إضافات كالموسيقى وبعض الصور مرفوقة بتعليقات، تدخل في نطاق ما سمته شركة آبل ب»الواقع المعزز»augmented reality، حيث قال تيم كوك المدير التنفيذي لآبل وهو يقارن بين «الواقع الافتراضي» و «الواقع المعزز» : «إن الواقع الافتراضي جميل لكن الواقع المعزز هو المستقبل».
كل هذا يدعونا إلى تبني قراءات مختلفة تدعونا إليها الوسائط الجديدة، فما هي عدتنا، وما هي قدراتنا كقراء على قراءة وسائطية رقمية، ومجتمعاتنا العربية لا زالت تعاني من ضعف في القراءة الورقية، وتفتقد إلى حس قرائي متواتر، وأنظمتنا التعليمية لم تجعل من فعل القراءة الورقية وتقنياتها مادة قائمة الذات ضمن مواد التدريس، ولا تشجع عليها من خلال إغناء مكتبات المدارس والجامعات، وتجديد محتوياتها؛ فما بالك بالقراءة الرقمية، سواء تعلق الأمر بقراءة الإبداعات الرقمية أم بالقراءة في محتويات الوسائط الجديدة؟
إشكاليات متعددة
البعض يتحدث عن» أزمة قراءة « طارحا إشكاليات متعددة بعضها مرتبط بالأفراد وبعضها مرتبط بالمؤسسات، ولتجاوز بعض من هذه الإشكاليات ظهرت مبادرات تحاول التشجيع على «القراءة «، مثل « شبكة القراءة» في المغرب و»تحدي القراءة « في دولة الإمارات العربية المتحدة، مثلا لا حصرا، وهي مبادرات وجيهة تستحق الثناء. لكننا نعتقد أن الأمر لا يتعلق ب»أزمة قراءة» بل ب»أزمة تفكير». هل تحسن أجيالنا الناشئة التفكير في آليات بناء حضارتنا وثقافتنا؟ هل تفكر في طرق الارتقاء بتحصيلها المعرفي، بل هل تعرف ماهي «المعرفة»؟
أشار الفيلسوف الفرنسي وعالم اللاهوت بليز باسكال (1623-1662) إلى أن كل عزتنا تتمثل في التفكير، الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به، وليس بالمكان والزمان اللذين لا يمكننا ملؤهما. بعد ذلك بقرون بقيت عزة باسكال القائمة على التفكير بلا منازع من الثورات الثلاث التي صادفناها آنفا. ربما لا يزال بإمكاننا أن نتمسك بالرأي القائل إن مكانتنا الخاصة في الكون لم تكن في علم الفلك، أو في علم الأحياء، أو في الوضوح العقلي، ولكنها تكمن في قدراتنا العليا على التفكير.
في عام 1645 نشر باسكال «رسالة إهداء» بعنوان « الآلة الحسابية» يصف فيها جهازا حسابيا جديدا كان قد بناه لوالده لمساعدته على التعامل مع الحسابات المرهقة التي تقتضيها وظيفته كمشرف على الضرائب. تمكنت الآلة من تنفيذ العمليات الحسابية الأربع بشكل تام، وهي تعرف اليوم باسم «باسكالينا». التفكير كان التدبر، والتدبر كان الحساب، والحساب كان ممكنا بفضل باسكالينا. لقد غرست بذور الثورة الرابعة، وأعفتنا أجيال باسكالينا التالية ليس فقط من أعمالنا المرهقة ذهنيا، ولكن أيضا من دورنا المحوري باعتبارنا العناصر الذكية الوحيدة في عالم المعلومات.
في هذا الإطار يمكن اعتبار أن مجتمعاتنا العربية تعاني من أزمة تفكير، وبالتالي أزمة في التدبر: تدبر احتياجاتنا، الروحية والمعرفية، والقراءة في هذا الإطار بوابة من ضمن أخرى، ستساعدنا في تدبر حضارتنا وإمكانيات المساهمة في بناء الإنسانية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التكنولوجيا قد قلصت الامتدادت الجغرافية، والهدر الزمني. إن التفكير في آليات القراءة داخل الوسائط الجديدة هو تدبر أنماط الحوار والتواصل وكشف تحولات المجتمع على صعيد بنيته الذهنية، وبناء ذاكرة تكنولوجية جماعية، تخدم الأدب والعلوم الإنسانية.
نشر الناقد الأمريكي نيكولاس كار سنة 2008 مقالا بعنوان «هل يجعلنا غوغل أغبياء؟»، خلّف ردود أفعال عديدة، الأمر الذي دفع الكاتب إلى تطوير الفكرة في كتاب صدر سنة 2010. وأساس الفكرة هو مقاربة الوضعية الجديدة للقارئ في تعامله مع الوسائط الجديدة، ومحاولة المقارنة بين وضعيتين لفعل القراءة: وضعية ورقية وأخرى رقمية/ تكنولوجية. الأولى كلاسيكية تمّ التعود عليها منذ سنين خلت، وهي سلسة وطيعة بحكم التجربة القرائية لكل فرد منا، عكس الثانية التي تتطلب مهارات ذهنية وفكرية، وممارسات ودربة. وقد رصد الناقد هذه التحولات القرائية عند كل مبتدئ يخطو خطواته الأولى في عالم القراءة من خلال شاشة الحاسوب، عارضا تجربته الذاتية من خلال الملاحظات التالية:
- عدم القدرة على القراءة بشكل عميق.
- غياب التركيز الذي يبدأ في التلاشي بعد قراءة صفحتين أو ثلاث.
- فقدان الصبر على متابعة القراءة، والبحث عن عمل شيء آخر غيرها.
- الإحساس بأنه يعمل باستمرار على إعادة دماغه «الطائش»، وبالقوة، إلى النص.
كذلك رأى أن القراءة العميقة التي كانت تأتي بشكل طبيعي مع الكتب الورقية أصبحت تعرف صراعا مع المحمولات التكنولوجية: الأدب الرقمي، المعاجم الرقمية، المكتبات الرقمية، محركات البحث، المدونات إلخ. وكلما استعملنا صفحات الإنترنت كلما كان على المستعمل المقاومة كي تبقى درجة التركيز عالية، لأن الأمر يتعلق بالقراءة من خلال الروابط؛ وأي إفراط في التعامل معها قد يقود إلى التيهان عبر صفحات الشبكة خصوصا بالنسبة للمستعملين الذين لم يبلغوا بعد درجة الاحترافية في العملية القرائية على شاشة الحاسوب، وأخص بالذكر طلبتنا في الجامعات.
إن المسألة لا تتعلق بانطباعات ذاتية فقط، بل إن الأمر يتعدى ذلك، فقد نشرت مجلة «العلم والحياة» ملفا يحمل عنوان «القراءة تتغير وأدمغتنا أيضا»، حيث لاحظ تييري باكسينو أن القراءة على شاشة الحاسوب تتطلب زيادة في عملية اشتغال الدماغ، بل وطريقة عمل مغايرة؛ واصفا العين وهي تتجول عبر الصفحات بأنها تشبه حركة الفراشات وهي تطير، حيث الهدف هو التقاط المعلومة بسرعة، أما الفهم والتحليل فهو يأتي لاحقا، وعند الحاجة. وهو الأمر الذي يؤشر على القراءة الانتقائية، أي الانتقال من كتلة معلومات إلى أخرى لانتقاء المعلومة والاشتغال عليها لاحقا.
إن الاشتغال على القراءة من خلال شاشة الحاسوب ليست مسألة فردية، بل جماعية تتحمل فيها الدولة من خلال مؤسساتها التعليمية دورا أساسيا من أجل النهوض بالفعل القرائي التخصصي (في مختلف المجالات الأدبية والفكرية)، الذي هو بوابة المعرفة، والتحصيل المعرفي. ولن يحدث ذلك إلا من خلال جدولة مواد تهتم بالتربية القرائية عند الناشئة: «القراءة الورقية» و»القراءة الرقمية» لا انفصال بينهما، كل واحدة تكمل الأخرى، لهما تقنيات وآليات محددة، وهما صاريتا المعرفة، وبوابة نساهم من خلالها في بناء الحضارة الإنسانية.
الفعل القرائي
أما ما يتعلق بالفعل القرائي العام الذي يحفل به عدد من الوسائط ومنها الفيسبوك، فإن عدة تحولات قد طرأت على هذا الفضاء، ليس فقط من خلال التغييرات التقنية للموقع وما لحق به من إضافات، بل أيضا من خلال التغييرات التي طرأت على البنية الذهنية للمستعمل، ما بين «الكتابة» و»القراءة»، فالمستعمل هو في ذات الوقت كاتب (ليس بالمعنى الثقافي طبعا) وقارئ/ متلقٍ، حيث تقلص الحيز الزمني بين فعل الكتابة وفعل القراءة، وفعل الرد واختيارات هذا الرد. فهذا الأخير كان يتم من خلال الكلمات والصور لينتقل إلى الرد بالفيديو صوتا وصورة، خصوصا عند وقوع أحداث معينة، كأحداث حراك الريف بالمغرب مثلا، الذي أفرز تجاذبات متعددة ومتناقضة، نتج عنها قراءات متعددة ومتباينة للأحداث، تقلص معها دور المثقف، بل تراجع هذا الأخير إلى الوراء، وتراجع أيضا دور الصحافي، وظهر شخص آخر لتقديم قراءاته للأوضاع عبر الفيسبوك، تحت اسم «المواطن» وذلك بتوجيه نداءات إلى كل المواطنين.
وهكذا تأخذ القراءة بعدا تداوليا وتوليديا من خلال القراءة والتعليق والمشاركة، وبالتالي إنتاج نصوص جديدة عبر الوسائط الاجتماعية، التي مكنت من عودة «التعبير الشفهي» الذي يتطلب قراءة مغايرة عن القراءة التي تتم من خلال ما يكتب. بل يمكن اعتبار هذه النصوص الشفهية نصوصا سردية تفاعلية بامتياز، تحكي عن الذات وتجاربها، من خلال اتخاذ هذا «المواطن» وضعية الحكواتي أو الراوي، وقد لاحظنا في تقديم هذه الفيديوهات اختلاف السيناريوهات التي يتم من خلالها تحميل الأفكار ووجهات النظر من خلال كاميرا الهاتف المحمول، وكذا تقنيات تقديم المرسل لذاتيته من خلال فضاءات متعددة ومختلفة تعكس اختيارات مرتبطة بموضوع وفكرة الفيديو؛ وتتوزع ما بين أفضية مغلقة وأخرى منفتحة: داخل بهو المنزل، داخل غرفة، داخل سيارة إما متحركة أو متوقفة، داخل مزرعة، حديقة. ولهذه الأوضاع الجسدية داخل هذه الفضاءات مؤشرات ودلالات رمزية، تحضر فيها الذات منفردة معزولة عن أية جماعة، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا التي يظهر فيها زوجان يتحدثان بالتناوب أو جماعة مكونة من عدد من الأفراد يتناوب بعضهم في أخذ الكلمة بالنيابة عن باقي المجموعة. هذه الفيديوهات وما يتخللها من إضافات كالموسيقى وبعض الصور مرفوقة بتعليقات، تدخل في نطاق ما سمته شركة آبل ب»الواقع المعزز»augmented reality، حيث قال تيم كوك المدير التنفيذي لآبل وهو يقارن بين «الواقع الافتراضي» و «الواقع المعزز» : «إن الواقع الافتراضي جميل لكن الواقع المعزز هو المستقبل».
كل هذا يدعونا إلى تبني قراءات مختلفة تدعونا إليها الوسائط الجديدة، فما هي عدتنا، وما هي قدراتنا كقراء على قراءة وسائطية رقمية، ومجتمعاتنا العربية لا زالت تعاني من ضعف في القراءة الورقية، وتفتقد إلى حس قرائي متواتر، وأنظمتنا التعليمية لم تجعل من فعل القراءة الورقية وتقنياتها مادة قائمة الذات ضمن مواد التدريس، ولا تشجع عليها من خلال إغناء مكتبات المدارس والجامعات، وتجديد محتوياتها؛ فما بالك بالقراءة الرقمية، سواء تعلق الأمر بقراءة الإبداعات الرقمية أم بالقراءة في محتويات الوسائط الجديدة؟
إشكاليات متعددة
البعض يتحدث عن» أزمة قراءة « طارحا إشكاليات متعددة بعضها مرتبط بالأفراد وبعضها مرتبط بالمؤسسات، ولتجاوز بعض من هذه الإشكاليات ظهرت مبادرات تحاول التشجيع على «القراءة «، مثل « شبكة القراءة» في المغرب و»تحدي القراءة « في دولة الإمارات العربية المتحدة، مثلا لا حصرا، وهي مبادرات وجيهة تستحق الثناء. لكننا نعتقد أن الأمر لا يتعلق ب»أزمة قراءة» بل ب»أزمة تفكير». هل تحسن أجيالنا الناشئة التفكير في آليات بناء حضارتنا وثقافتنا؟ هل تفكر في طرق الارتقاء بتحصيلها المعرفي، بل هل تعرف ماهي «المعرفة»؟
أشار الفيلسوف الفرنسي وعالم اللاهوت بليز باسكال (1623-1662) إلى أن كل عزتنا تتمثل في التفكير، الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به، وليس بالمكان والزمان اللذين لا يمكننا ملؤهما. بعد ذلك بقرون بقيت عزة باسكال القائمة على التفكير بلا منازع من الثورات الثلاث التي صادفناها آنفا. ربما لا يزال بإمكاننا أن نتمسك بالرأي القائل إن مكانتنا الخاصة في الكون لم تكن في علم الفلك، أو في علم الأحياء، أو في الوضوح العقلي، ولكنها تكمن في قدراتنا العليا على التفكير.
في عام 1645 نشر باسكال «رسالة إهداء» بعنوان « الآلة الحسابية» يصف فيها جهازا حسابيا جديدا كان قد بناه لوالده لمساعدته على التعامل مع الحسابات المرهقة التي تقتضيها وظيفته كمشرف على الضرائب. تمكنت الآلة من تنفيذ العمليات الحسابية الأربع بشكل تام، وهي تعرف اليوم باسم «باسكالينا». التفكير كان التدبر، والتدبر كان الحساب، والحساب كان ممكنا بفضل باسكالينا. لقد غرست بذور الثورة الرابعة، وأعفتنا أجيال باسكالينا التالية ليس فقط من أعمالنا المرهقة ذهنيا، ولكن أيضا من دورنا المحوري باعتبارنا العناصر الذكية الوحيدة في عالم المعلومات.
في هذا الإطار يمكن اعتبار أن مجتمعاتنا العربية تعاني من أزمة تفكير، وبالتالي أزمة في التدبر: تدبر احتياجاتنا، الروحية والمعرفية، والقراءة في هذا الإطار بوابة من ضمن أخرى، ستساعدنا في تدبر حضارتنا وإمكانيات المساهمة في بناء الإنسانية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التكنولوجيا قد قلصت الامتدادت الجغرافية، والهدر الزمني. إن التفكير في آليات القراءة داخل الوسائط الجديدة هو تدبر أنماط الحوار والتواصل وكشف تحولات المجتمع على صعيد بنيته الذهنية، وبناء ذاكرة تكنولوجية جماعية، تخدم الأدب والعلوم الإنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.