محافظ القاهرة: جميع المجازر الحكومية تعمل على مدار 24 ساعة    أسعار العملات الأجنبية في ختام تعاملات أول أيام عيد الأضحى 2024    الطريق للسلام يحتاج مشاركة جميع الأطراف، البيان الختامي لقمة سويسرا بشأن أوكرانيا    أخبار الأهلي : قائمة إصابات الأهلي قبل لقاء الاتحاد السكندري    الأرصاد: انخفاض تدريجي في درجات الحرارة والطقس مائل للحرارة ليلا    بالصور| تعرف على ضيوف شرف أفلام عيد الأضحى 2024    الكوليستيرول والدهون الثلاثية- أيهما أكثر خطورة؟    يورو 2024| التعادل بهدف يحسم الشوط الأول من مباراة بولندا وهولندا    الشرطة الألمانية تطلق الرصاص على شخص يهاجم المارة بفأس فى مدينة هامبورج    شكوكو ومديحة يسري وصباح.. تعرف على طقوس نجوم زمن الجميل في عيد الأضحى (صور)    «صامدون رغم القصف».. أطفال غزة يحتفلون بعيد الأضحى وسط الأنقاض    دار الإفتاء توضح حكم التكبير في أيام التشريق عند المالكية    أعمال يوم النفر الأول.. شعائر مباركة ووداع للديار المقدسة    النائب أيمن محسب: حياة كريمة رسمت البهجة فى قلوب الأسر الفقيرة بعيد الأضحى    الرياضة: 6 آلاف مشروع ومبادرة شبابية في جميع المحافظات    تدشين كنيسة «الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا» بنزلة سعيد بطما    يقام ثاني أيام العيد.. حفل أنغام بالكويت يرفع شعار "كامل العدد"    مباحث البحيرة تكثف جهودها لكشف غموض العثور على جثة شاب في ترعة بالبحيرة    بمناسبة عيد الأضحى المبارك.. الداخلية تقيم إحتفالية لنزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل وتفرج عن 4199 نزيل ممن شملهم العفو (صور)    موسكو تحرر بلدة زاجورنويه.. وكييف تتصدى لهجمات روسية    مجازاة مفتشي ومشرفي التغذية في مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للتقصير    شروط القبول في برنامج إعداد معلمي تكنولوجيا والتعلم الرقمي بجامعة القاهرة    ضبط 290 قضية مخدرات خلال 24 ساعة    الرى: عمل التدابير اللازمة لضمان استقرار مناسيب المياه بترعة النوبارية    "قصور الثقافة": فعاليات مكثفة للاحتفال بعيد الأضحى    طريقة حفظ لحوم الأضاحي وتجنب تلفها    قوات الاحتلال تطلق قنابل حارقة تجاه الأحراش في بلدة الناقورة جنوب لبنان    مشايخ القبائل والعواقل والفلسطينيين يهنئون محافظ شمال سيناء بعيد الأضحى المبارك    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    «التخطيط»: تنفيذ 361 مشروعا تنمويا في الغربية بتكلفة 3.6 مليار جنيه    رونالدينيو: أشجع البرازيل فى كوبا أمريكا واللاعبون الشباب يحتاجون للدعم    "ابني متظلمش".. مدرب الأهلي السابق يوجه رسالة للشناوي ويحذر من شوبير    القبض على عصابة الشرطة المزيفة في الشيخ زايد    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    ريهام سعيد: «محمد هنيدي اتقدملي ووالدتي رفضته لهذا السبب»    شاعر القبيلة مات والبرج العاجى سقط    محادثات أمريكية يابانية بشأن سبل تعزيز الردع الموسع    كرة سلة.. قائمة منتخب مصر في التصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس 2024    محمد صلاح يتسبب في أزمة بين اتحاد جدة والنصر    اليوم.. أمينة الفتوى بدار الإفتاء تتحدث عن آداب عيد الأضحى على قناة الناس    95.29% النسبة العامة للنجاح بالفرقة الرابعة بالكلية المصرية الصينية بجامعة القناة    محافظ كفر الشيخ يشارك أطفال مستشفى الأورام فرحتهم بعيد الأضحى    وزير الإسكان: زراعة أكثر من مليون متر مربع مسطحات خضراء بدمياط الجديدة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    وزيرة التضامن توجه برفع درجة الاستعداد القصوى بمناسبة عيد الأضحى    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    بالصور.. اصطفاف الأطفال والكبار أمام محلات الجزارة لشراء اللحوم ومشاهدة الأضحية    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    أخبار الأهلي: لجنة التخطيط تفاجئ كولر بسبب ديانج    ارتفاع تأخيرات القطارات على معظم الخطوط في أول أيام عيد الأضحى    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    لواء إسرائيلي متقاعد: أي قرار لنتنياهو بمهاجمة حزب الله سيجلب محرقة علينا    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    توزيع الهدايا على الأطفال بساحات كفر الشيخ في صلاة عيد الأضحى    قبلها بساعات.. تعرف على حُكم صلاة العيد وما وقتها وكيفية أدائها    يورو 2024 – كييزا: استرجعت نهائي البطولة الماضية.. والهدف المبكر صدمنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صبري موسى: بطل تراجيدي مهزوم صالح لكل العصور
نشر في صوت البلد يوم 21 - 01 - 2018

«ولدت في قارب وعشت صباي بين النهر والبحر، حيث المساحات الواسعة من الماء، وحيث التأمل والخيال بعيدا عن زحام المدينة، وأيضا الصحراء التي شكلت وعياً جديداً لديّ. لم أقترب من السلطة مثل غيري، وبالتالي لم أستفد منها، أنا منحاز للناس أكثر، ولا أبحث عن مغنم شخصي، ولا أعرف كيف يتم ذلك، وأغلب مَن اقترب من السلطة فشل في مشروعه الأدبي، فأعظم الكُتَّاب العالميين هم الذين اقتربوا من أنفسهم وانحازوا للناس أكثر من السلطة، بل وقفوا ضدها في أحيان كثيرة». عبارات بسيطة تحمل رؤية صاحبها وهدفه من الكتابة وعالمها، ما جعله ينظر نظرة أعمق إلى الحياة وشخوصها، بدون نظرة أيديولوجية قاصرة، وإن شابها شيء من تحيز طبقي في بعض الأحيان، ربما للظرف الاجتماعي الذي عاصر أعماله الإبداعية.
الكاتب الصحافي والروائي وكاتب السيناريو صبري موسى (1932 2018) صاحب الأعمال الإبداعية الفارقة في الأدب المصري، بدون دعاية أو صخب، كما في «فساد الأمكنة» و«حادث النصف متر»، و«السيد من حقل السبانخ». هذه نظرة سريعة على عالم الرجل وشخوصه الروائية، التي إن اختلفت في تفاصيلها وعوالمها، إلا أنها تتوحد في المصير، تماماً كأبطال التراجيديا اليونانية، فالبطل مهزوم في النهاية، ولا فرار من مصيره المحتوم، وما عليه سوى تحمّل نتائج أفعاله، لفساد كامن في النفس، ربما أكبر من قدرات وتوقعات البطل نفسه.
مكمن الشر
لم ير صبري موسى في المدينة سوى مكمن الشر الأبدي، مهما حاول أصحابها التستر وراء الأفكار المتقدمة، أو الانتماء لفئات تبدو من بعيد حاملة لثقافة وأفكار إنسانية. فكان لا بد من وضع هؤلاء في تجارب قاسية نفسياً بالدرجة الأولى حتى يمكن اختبارها، فما بين مسافة نصف متر في أتوبيس عام، وصحراء شاسعة، تبدو حالة الاختبار واحدة، ولتصبح النتيجة مقررة سلفاً، الهزيمة والضياع وفقدان كل شيء. فبطل «النصف متر» وبطل «الأمكنة الفاسدة» انكشف صراعهما، سواء مع الموروث أو مع الطبيعة، للكشف عن زيف أكبر يغلف حياتهما منذ البداية. فالهزيمة هي المآل.. انهزم (نيكولا) في الجبل، وبطل «النصف متر» يتخلى عن حبيبته للذي طلب منه أن يبتعد عنها لأنه سيتزوجها.
حياة النصف متر
ما بين الموروث والادعاء بالتحضّر يدور الصراع النفسي للبطل عديم الاسم، حتى يمكنه التوحد مع الكثيرين من أشباهه أصبح البطل التراجيدي الآن يحيا أسطورة معتقداته، ويحاول عقلنة سلوكه والتمادي في إثبات أنه تخلص من أفكار وعادات موهمة، ربما سخر منها، لكنه اكتشف في النهاية مدى تأصلها وتمكنها من روحه. حكاية حب بسيطة بين رجل وامرأة تقابلا مصادفة في حافلة عامة، وبينهما نصف متر يخلق عالماً وحالة جديدة، لكن المرأة ذات تجربة سابقة، والرجل يحاول التغاضي وفق فكره العصري، لكنه في الحقيقة لا يختلف عن أسلافه، ويراها إهانة لا تُغتفر، إهانة وجود.
«كان الدم المصري في عروقي، يغذي حنيني إليها، وميل بي إلى أن أحبها. لكن رواسب باقية في داخلي، من التركي القديم عثمان أغا، كانت تقف في وجه هذا الميل وتصيح بي غاضبة: كيف تعطي قلبك لامرأة كانت لرجل آخر قبلك. وكان الماجن الفرنسي المنحدر في دمائي من القرن الثامن عشر، أكثر حكمة من هذين.. فقد نزع بي عن هذه المشاغل النفسية، قائلا لي ببساطة مقنعة وهو يسخر من رواسب التركي: وما يدريك أن هذا الرجل السابق لم تكن له معها المشكلة نفسها؟ دعك من الماضي فهي جميلة حاول أن تستمتع بها». (حادث النصف متر).
فهذه الفئة الجديدة (الطبقة) ضائعة وتائهة منذ البداية، فلا الثقافة أو التعليم أو محاولات التحضر تستطيع إنقاذها من غياهب الموروث. فما بين الفئة الدنيا والعليا يأتي هؤلاء يمثلهم البطل يريدون التعلق بأهداب الفئة العليا، بينما يحيطهم الرعب من السقوط في عالم الفئة الدنيا، ومن هنا تأتي حالة الفصام الدائم والمقيم.
حياة الصحراء
«إسمعوا مني بتأمل يا أحبائي، فأني مضيفكم اليوم في وليمة ملوكية سأطعمكم فيها غداء جبلياً لم يعهده سكان المدن، بينما أحرك أرغن لساني الضعيف وأحكي سيرة ذلك المأساوي نيكولا، هذا العجوز الذي أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته في ذلك الزمان البعيد في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكرها الآن، ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شيء يحدث أمام عينيه جديداً يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبداً من التجارب». (فساد الأمكنة).
على غرار الراوي الشعبي تبدأ رواية «فساد الأمكنة»، ما يؤهل القارئ للدخول إلى هذا العالم، حيث محاولات أسطرة الواقع والوقائع، وحكي الصحراء وعالمها وشخوصها، ومدى الفساد الذي سيطولها من جرّاء قدوم الغرباء، أبناء المدينة، أي مدينة مهما كانت. تدور الأحداث في عالم الصحراء ومناجم الذهب القديمة عند شاطئ البحر الأحمر، وتحكي قصة رجل يحلم بأن يصبح صخرة من صخور جبل (الدرهيب)، ويذوب فيه كما ذاب الجد الأعلى (كوكا لونكا)، من خلال أسطورة تاريخية لبعض القبائل بأن روح جدهم الأكبر كوكا لونكا الذي أمضى عمره داخل الجبل يصلي للمكان ويتعبد، حتى تحول جسمه بفعل الزمن وكثرة العبادة إلى صخرة من صخور جبل الدرهيب. ولكن هل نجح الحالم بالخلود في التوحد مع المكان مثلما توحد الجد الأكبر، أو الحلول في المكان مثل (أبى الحسن الشاذلي)؟ «كان قدر نيكولا هو الفشل، وها هو على صليب عذابه الخفي يواصل هذا الفشل المقدر ويكرره، كأنه ذلك الإغريقي القديم يزحف بصخرته صاعداً القمة المستحيلة، فما يكاد يعلوها حتى تسقط الصخرة فيعاود الهبوط ليصعد بها، وتصبح الجبال أشباحاً خرافية في ذلك المدى اللانهائي». (فساد الأمكنة).
وإن كان مكمن الفساد متأصل في نفس نيكولا، ابن المدينة الغريب، الباحث عن مأوى خلوده، فإن ابن الصحراء سينال عقابا آخر نتيجة فساد لا يُغتفر، تنويعة أخرى لحالة نيكولا ألا وهو الكذب. « التحم جسده البشري هذا الالتحام الحميم بذلك الجرم المؤنث المخيف الحجم، لمخلوق من عالم آخر، رخو لزج ومثير للنفور والاشمئزاز». (عبد ربه كريشاب) وثأره من عروس البحر، التي أغوت أقاربه الذكور.. الأخ وابن العم وابن الخال، لينتهي أمره بالجنون، ذلك لأنه في ما كان يصطاد السمك لمناسبة زيارة الملك، جاءته عروس البحر طافية على الأمواج، نافقة بفعل متفجرات رُميت في أعماق البحر بحثا عن البترول، وادّعى أنه اصطادها وفاء لقسمه، فكذب، وأخفى الحقيقة. فكان الأمر بأن تُزفّ إليه أمام الجميع.
بيبلوغرافيا
صبري موسى صحافي وروائي وكاتب سيناريو مصري، من مواليد محافظة دمياط في دلتا مصر عام 1932، تخرج في كلية الفنون التطبيقية، وعمل مدرسا للرسم في الفترة من 1951 إلى 1953. بدأ مشواره الصحافي في جريدة «الجمهورية» عام 1954، ثم مجلة «صباح الخير» عام 1956، كما شارك في تأسيس مجلة «الرسالة»، ثم كاتباً متفرغاً في مؤسسة روز اليوسف، وعضواً في مجلس إدارتها، ثم عضواً في اتحاد الكتاب العرب، ومقرراً للجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة.
الأعمال
تنوعت مؤلفاته ما بين القصة والرواية وأدب الرحلات، إضافة إلى المقالات الصحافية. من مجموعاته القصصية .. «القميص» 1958، «لا أحد يعلم» 1963، «مشروع قتل جارة» 1965، «حكايات صبري موسى» 1966، «وجها لظهر» 1967، و«السيدة التي والرجل الذي لم» 1999. وفي الرواية.. «حادث النصف متر» 1962، «فساد الأمكنة» 1973، و«السيد من حقل السبانخ» 1982. وفي أدب الرحلات.. «في الصحراء» 1964، «في البحيرات» 1965، و«الغذاء مع آلهة الصيد» 1972. كما كتب للسينما العديد من السيناريوهات المهمة في تاريخها، مثل، الشيماء، قنديل أم هاشم، البوسطجي، القادسية، رحلة داخل امرأة، رغبات ممنوعة، أين تخبئون الشمس، قاهر الظلام، وحادث النصف متر.
الجوائز ..
جائزة الدولة التشجيعية في الأدب 1974. وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية 1975. جائزة (بيجاسوس)، للأعمال الأدبية المكتوبة بغير اللغة الإنكليزية، عن رواية «فساد الأمكنة» 1978. وسام الجمهورية للعلوم والفنون عام 1992. جائزة الدولة للتفوق عام 1999. جائزة الدولة التقديرية عام 2003.
«ولدت في قارب وعشت صباي بين النهر والبحر، حيث المساحات الواسعة من الماء، وحيث التأمل والخيال بعيدا عن زحام المدينة، وأيضا الصحراء التي شكلت وعياً جديداً لديّ. لم أقترب من السلطة مثل غيري، وبالتالي لم أستفد منها، أنا منحاز للناس أكثر، ولا أبحث عن مغنم شخصي، ولا أعرف كيف يتم ذلك، وأغلب مَن اقترب من السلطة فشل في مشروعه الأدبي، فأعظم الكُتَّاب العالميين هم الذين اقتربوا من أنفسهم وانحازوا للناس أكثر من السلطة، بل وقفوا ضدها في أحيان كثيرة». عبارات بسيطة تحمل رؤية صاحبها وهدفه من الكتابة وعالمها، ما جعله ينظر نظرة أعمق إلى الحياة وشخوصها، بدون نظرة أيديولوجية قاصرة، وإن شابها شيء من تحيز طبقي في بعض الأحيان، ربما للظرف الاجتماعي الذي عاصر أعماله الإبداعية.
الكاتب الصحافي والروائي وكاتب السيناريو صبري موسى (1932 2018) صاحب الأعمال الإبداعية الفارقة في الأدب المصري، بدون دعاية أو صخب، كما في «فساد الأمكنة» و«حادث النصف متر»، و«السيد من حقل السبانخ». هذه نظرة سريعة على عالم الرجل وشخوصه الروائية، التي إن اختلفت في تفاصيلها وعوالمها، إلا أنها تتوحد في المصير، تماماً كأبطال التراجيديا اليونانية، فالبطل مهزوم في النهاية، ولا فرار من مصيره المحتوم، وما عليه سوى تحمّل نتائج أفعاله، لفساد كامن في النفس، ربما أكبر من قدرات وتوقعات البطل نفسه.
مكمن الشر
لم ير صبري موسى في المدينة سوى مكمن الشر الأبدي، مهما حاول أصحابها التستر وراء الأفكار المتقدمة، أو الانتماء لفئات تبدو من بعيد حاملة لثقافة وأفكار إنسانية. فكان لا بد من وضع هؤلاء في تجارب قاسية نفسياً بالدرجة الأولى حتى يمكن اختبارها، فما بين مسافة نصف متر في أتوبيس عام، وصحراء شاسعة، تبدو حالة الاختبار واحدة، ولتصبح النتيجة مقررة سلفاً، الهزيمة والضياع وفقدان كل شيء. فبطل «النصف متر» وبطل «الأمكنة الفاسدة» انكشف صراعهما، سواء مع الموروث أو مع الطبيعة، للكشف عن زيف أكبر يغلف حياتهما منذ البداية. فالهزيمة هي المآل.. انهزم (نيكولا) في الجبل، وبطل «النصف متر» يتخلى عن حبيبته للذي طلب منه أن يبتعد عنها لأنه سيتزوجها.
حياة النصف متر
ما بين الموروث والادعاء بالتحضّر يدور الصراع النفسي للبطل عديم الاسم، حتى يمكنه التوحد مع الكثيرين من أشباهه أصبح البطل التراجيدي الآن يحيا أسطورة معتقداته، ويحاول عقلنة سلوكه والتمادي في إثبات أنه تخلص من أفكار وعادات موهمة، ربما سخر منها، لكنه اكتشف في النهاية مدى تأصلها وتمكنها من روحه. حكاية حب بسيطة بين رجل وامرأة تقابلا مصادفة في حافلة عامة، وبينهما نصف متر يخلق عالماً وحالة جديدة، لكن المرأة ذات تجربة سابقة، والرجل يحاول التغاضي وفق فكره العصري، لكنه في الحقيقة لا يختلف عن أسلافه، ويراها إهانة لا تُغتفر، إهانة وجود.
«كان الدم المصري في عروقي، يغذي حنيني إليها، وميل بي إلى أن أحبها. لكن رواسب باقية في داخلي، من التركي القديم عثمان أغا، كانت تقف في وجه هذا الميل وتصيح بي غاضبة: كيف تعطي قلبك لامرأة كانت لرجل آخر قبلك. وكان الماجن الفرنسي المنحدر في دمائي من القرن الثامن عشر، أكثر حكمة من هذين.. فقد نزع بي عن هذه المشاغل النفسية، قائلا لي ببساطة مقنعة وهو يسخر من رواسب التركي: وما يدريك أن هذا الرجل السابق لم تكن له معها المشكلة نفسها؟ دعك من الماضي فهي جميلة حاول أن تستمتع بها». (حادث النصف متر).
فهذه الفئة الجديدة (الطبقة) ضائعة وتائهة منذ البداية، فلا الثقافة أو التعليم أو محاولات التحضر تستطيع إنقاذها من غياهب الموروث. فما بين الفئة الدنيا والعليا يأتي هؤلاء يمثلهم البطل يريدون التعلق بأهداب الفئة العليا، بينما يحيطهم الرعب من السقوط في عالم الفئة الدنيا، ومن هنا تأتي حالة الفصام الدائم والمقيم.
حياة الصحراء
«إسمعوا مني بتأمل يا أحبائي، فأني مضيفكم اليوم في وليمة ملوكية سأطعمكم فيها غداء جبلياً لم يعهده سكان المدن، بينما أحرك أرغن لساني الضعيف وأحكي سيرة ذلك المأساوي نيكولا، هذا العجوز الذي أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته في ذلك الزمان البعيد في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكرها الآن، ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شيء يحدث أمام عينيه جديداً يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبداً من التجارب». (فساد الأمكنة).
على غرار الراوي الشعبي تبدأ رواية «فساد الأمكنة»، ما يؤهل القارئ للدخول إلى هذا العالم، حيث محاولات أسطرة الواقع والوقائع، وحكي الصحراء وعالمها وشخوصها، ومدى الفساد الذي سيطولها من جرّاء قدوم الغرباء، أبناء المدينة، أي مدينة مهما كانت. تدور الأحداث في عالم الصحراء ومناجم الذهب القديمة عند شاطئ البحر الأحمر، وتحكي قصة رجل يحلم بأن يصبح صخرة من صخور جبل (الدرهيب)، ويذوب فيه كما ذاب الجد الأعلى (كوكا لونكا)، من خلال أسطورة تاريخية لبعض القبائل بأن روح جدهم الأكبر كوكا لونكا الذي أمضى عمره داخل الجبل يصلي للمكان ويتعبد، حتى تحول جسمه بفعل الزمن وكثرة العبادة إلى صخرة من صخور جبل الدرهيب. ولكن هل نجح الحالم بالخلود في التوحد مع المكان مثلما توحد الجد الأكبر، أو الحلول في المكان مثل (أبى الحسن الشاذلي)؟ «كان قدر نيكولا هو الفشل، وها هو على صليب عذابه الخفي يواصل هذا الفشل المقدر ويكرره، كأنه ذلك الإغريقي القديم يزحف بصخرته صاعداً القمة المستحيلة، فما يكاد يعلوها حتى تسقط الصخرة فيعاود الهبوط ليصعد بها، وتصبح الجبال أشباحاً خرافية في ذلك المدى اللانهائي». (فساد الأمكنة).
وإن كان مكمن الفساد متأصل في نفس نيكولا، ابن المدينة الغريب، الباحث عن مأوى خلوده، فإن ابن الصحراء سينال عقابا آخر نتيجة فساد لا يُغتفر، تنويعة أخرى لحالة نيكولا ألا وهو الكذب. « التحم جسده البشري هذا الالتحام الحميم بذلك الجرم المؤنث المخيف الحجم، لمخلوق من عالم آخر، رخو لزج ومثير للنفور والاشمئزاز». (عبد ربه كريشاب) وثأره من عروس البحر، التي أغوت أقاربه الذكور.. الأخ وابن العم وابن الخال، لينتهي أمره بالجنون، ذلك لأنه في ما كان يصطاد السمك لمناسبة زيارة الملك، جاءته عروس البحر طافية على الأمواج، نافقة بفعل متفجرات رُميت في أعماق البحر بحثا عن البترول، وادّعى أنه اصطادها وفاء لقسمه، فكذب، وأخفى الحقيقة. فكان الأمر بأن تُزفّ إليه أمام الجميع.
بيبلوغرافيا
صبري موسى صحافي وروائي وكاتب سيناريو مصري، من مواليد محافظة دمياط في دلتا مصر عام 1932، تخرج في كلية الفنون التطبيقية، وعمل مدرسا للرسم في الفترة من 1951 إلى 1953. بدأ مشواره الصحافي في جريدة «الجمهورية» عام 1954، ثم مجلة «صباح الخير» عام 1956، كما شارك في تأسيس مجلة «الرسالة»، ثم كاتباً متفرغاً في مؤسسة روز اليوسف، وعضواً في مجلس إدارتها، ثم عضواً في اتحاد الكتاب العرب، ومقرراً للجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة.
الأعمال
تنوعت مؤلفاته ما بين القصة والرواية وأدب الرحلات، إضافة إلى المقالات الصحافية. من مجموعاته القصصية .. «القميص» 1958، «لا أحد يعلم» 1963، «مشروع قتل جارة» 1965، «حكايات صبري موسى» 1966، «وجها لظهر» 1967، و«السيدة التي والرجل الذي لم» 1999. وفي الرواية.. «حادث النصف متر» 1962، «فساد الأمكنة» 1973، و«السيد من حقل السبانخ» 1982. وفي أدب الرحلات.. «في الصحراء» 1964، «في البحيرات» 1965، و«الغذاء مع آلهة الصيد» 1972. كما كتب للسينما العديد من السيناريوهات المهمة في تاريخها، مثل، الشيماء، قنديل أم هاشم، البوسطجي، القادسية، رحلة داخل امرأة، رغبات ممنوعة، أين تخبئون الشمس، قاهر الظلام، وحادث النصف متر.
الجوائز ..
جائزة الدولة التشجيعية في الأدب 1974. وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية 1975. جائزة (بيجاسوس)، للأعمال الأدبية المكتوبة بغير اللغة الإنكليزية، عن رواية «فساد الأمكنة» 1978. وسام الجمهورية للعلوم والفنون عام 1992. جائزة الدولة للتفوق عام 1999. جائزة الدولة التقديرية عام 2003.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.