ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" قاع البلد" .. جزالة السرد في روايةُ النكسة بامتياز
نشر في صوت البلد يوم 01 - 01 - 2018

صبحي فحماوي؛ روائي أنجب عشر روايات وثماني مجموعات قصصية، وسبع مسرحيات ومشاهد مسرحية، غير الكتب والدراسات التي كُتِبت عنه وعن إنتاجه الأدبي والفكريّ. وقد انتخب، مؤخرًا، رئيسًا لنادي القصة والرواية في الأردن. وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده ل رواية "قاع البلد"، الصادرة بطبعتها الأولى، عن "مكتبة كل شئ" في حيفا، في خريف 2017. وتقع في (226) صفحة من القطع المتوسط. فهي الرواية العاشرة له خلال اثني عشر عامًا (روايته الأولى "عذبة" في العام 2005)
سيميائية العنوان والغلاف
السيميائية هي ما يعتني بكل ما يمكن اعتباره "إشارة". وتتضمن ليس فقط ما نسميه في الخطاب اليوم "إشارات"، ولكن أيضا كل ما "ينوب عن" شيء آخر. ونتعلم من السيمياء أننا نعيش في عالم من الإشارات، وأنه لا يمكننا فهم أي شيء إلّا بواسطة الإشارات والشيفرات التي تنظّمها، وهي عادة شفافة وتخفي أننا نقوم بقراءتها.
وفي رواية "قاع البلد" نجد سيميائية الغلاف تمثلت بلوحة تشكيلية أبدعتها يد الفنان هاني الحوراني؛ جاءت كنص بصري، تداخلت عبره الألوان المتراكبة، لبيوت متزاحمة بكثافة عالية جدًا، تكاد تلغي خصوصية الفرد والأسرة والجماعة، يعلوها ما يشبه الغيوم؛ ذات الدلالة المتعلقة بعدم وضوح الرؤيا من جانب، أو أن الأجواء حبلى بالمفاجآت من جانب آخر.
وأما العنوان، فقد جاء موفقًا وجاذبًا للقارئ؛ لأنه جاء موجزًا ومكثّفًا، ومنسجمًا مع النص، فشكّل جسرًا مشتركًا بين الكاتب والقارئ؛ فيدخل القارئ من بوّابته متأوّلًا له، وموظّفًا خلفيته المعرفية في استنطاقه(. كما أن "قاع البلد" جاء وصفًا صريحًا لمضمون الرواية، وحقق - بنجاح كبير- الوظيفة الإغرائية الجاذبة للقارئ باقتناء الرواية وقراءتها، فور استلامها.
هكذا، تآزر عنوان هذه الرواية مع غلافها، في إشاعة أجواء من التشويق لقراءة الرواية واكتشاف مكنوناتها الفنية والقصصية والفكرية والمعرفية، وصولًا إلى عقدتها، وهويتها التصنيفية، التي تميزها غيرها من الروايات.
ثيمة الرواية ومعمارها
تقوم الثّيمة "القضيّة" الرّوائيّة الرئيسيّة، لرواية "قاع البلد"، كما رأيتها، على صراع البقاء الملحمي بين الإنسان وأرضه وهويته وكينونته البشرية من جانب، والعدوّ المغتصب من جانب آخر. ثم تأتي الحبكة، وما يكتنز فيها من أحداث، لتتجه نحو الفعل لمحاولة استرجاع ما ضاع في براثن هذا الصراع.
وأما عناصر الرواية، المتمثلة بالمكان والزمان والشخصيات والسرد، فقد جاءت ببنيتين: مكانية، وزمانية، تآزرتا معًا لتشكلا مساح "زمكانية" لحركة الشخصيات الروائية، ومكّنتا السّارد من السيطرة على السرد، كعنصر لا تستقيم الرواية بدونه.
فالبنية المكانيّة؛ وهي منطقة "سقف السيل" الشعبية في مدينة عمّان، وما يحيط بها من جبال، وقد أبدع الكاتب في توظيفها في النص ووصفها كما كانت عليه بعيد النكسة في العام 1967. حتى أنها شاركت في بطولة الرواية بوضوح، من خلال الوصف التفصيلي الذي حظيت به من قبل السارد، للحد الذي يوفر على المخرج السينمائي، أو المسرحي، الكثير من العناء عندما يتجه نحو تحويل هذه الرواية أو الروايات ذات الصلة بهذا المكان إلى فيلم سينمائي، أو نص مسرحي.
كما امتدت البنية المكانية، في السرد الروائي، حتى مدينتي بيت لحم (مسقط رأس الهربيد، القادم من زعترة، وقد درس في بيت ساحور) والخليل (بلد الشخصية الساردة، المسمّاة "الدكتور")
أما البنية الزّمانيّة، فلم تكن أقل وهجًا ووميضًا من المكانيّة، إذ غاص السّارد في أعماق شخصيّة الهربيد، الشخص الرئيس في الرواية، الذي عانى من النكسة التي منيت بها الجيوش العربية أمام "إسرائيل" في الخامس من يونيو/حزيران من العام 1967، وما نجم عنها من استكمال احتلال ما تبقى من فلسطين بعد النكبة التي جاءت بإسرائيل دولة طارئة في المنطقة.
ولضرورات السرد وتحقيق ثيمة الرواية وعقدتها، قام الكاتب بتوظيف حقبة زمنية ممتدة بين قبيل النكسة وما بعدها حتى العام 1968.
وأما بشأن شخصيّات الرواية، فإن الكاتب تمكّن من تكثيف ما يحتاجه من ثيمة الرواية في الشخصيّة الرئيسة، وقد كان ماهرًا في خلق هذه الشخصية كشخصيّة حية، بدءًا من اسمها "الهربيد"، الذي وضع له الكاتب ملامح جسدية ونفسية، أوضحت الدلالات والسمات التي أشبعت رغبة القارئ في جميع الأدوار التي قام بها في النص، دون أن يكون ثقيل الظل في أي دور قام به.
قدّم الكاتب شخصيّة الرواية "الهربيد" كشاب طويل قويّ البنية، راعي أغنام، خبير بالصحراء وأسرارها، متعلم حتى الثانوية العامة، صاحب صوت جهوريّ، لديه القدرة على أن ينفلت من عقال المجتمع والعادات والتقاليد، وفي نفس الوقت جاهز للعب دور المهذّب والحضاري الذي يحترم الآخر، ويحفظ للناس مقاماتهم واحترامهم؛ وهذا ما أهّله لتنظيم شبكة متماسكة من العلاقات مع المكونات البشرية لمجتمع "قاع البلد"؛ ممن لهم علاقة بسوق البالة، ومن المشعوذين، ومدمني المشروبات، والدراويش، ومع المجتمع النسوي بصوره المختلفة؛ العفيفة والساقطة والخائنة. بالإضافة إلى علاقاته مع الجبال المحيطة وساكنيها.
كما أن القارئ، ومن خلال أحاديث "الهربيد" عن النكسة ونتائجها وانعكاسها عليه وعلى أسرته، لم يفاجأ بأن ينتهي الأمر به فدائيًا مقاتلًا للعدو في عقر بيته.
كما وظّف الكاتب شخصية أخرى لعبت دورًا مزدوجًا؛ كسارد للنص، وكشخصية ثانوية مؤازرة لشخصية البطل، تأخذ الدور الحيادي في معظم النص، ألبسها ثوبًا روائيًا ملائمًا للدور الذي قامت به بكفاءة عالية.
هكذا، نجد أن الكاتب اعتمد على نفس الشخصية، لتكون الخيط الروائي المتين، الذي لم يغادر النص ولم يغب عن الأحداث، من أول الرواية حتى آخرها. وهذا ما جعل د. أحمد العرود، يصفها بأنها رواية "الشخصيّة الواحدة".
بقي القول، في مجال المعمار الروائي، أن السرد الروائي جاء بلغة عربية سليمة وواضحة، وبترقيم وتشكيل ينم عن حرص الكاتب على أن يقدّم نصًّا منضبطًا، خاليًا من الأخطاء. كما تم توزيع الأحداث على الليالي العشر بما يشبه سيمفونية جميلة، كل عازف فيها يعرف دوره حق المعرفة، دون نشازٍ هنا أو هناك. فجاء النص متوازنًا بين الأحداث، دون مبالغة زائدة أو نقصان شديد، حتى خرج بهذا المستوى من النضج الروائي.
رواية تُشَرِّح النكسة
لما كان الأدب مرآة الشعوب والمعبر عن مكنوناتها الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية... الخ، فإنه من الطبيعي أن تنعكس النكبة والنكسة على جميع الأجناس الأدبية للكتّاب العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. وتجئ رواية "قاع البلد"، بعد خمسين عامًا من النكسة، لتكون رواية الاستدعاء والتذكّر، كما يشير إلى ذلك في الصفحة الأولى من الرواية، بقول السارد: "بعد تقاعدي، أجد الوقت مناسبًا لأبقّ البحصة" (ص: 13). وما يصاحب ذلك من ضنك وجهد قدمه الكاتب؛ ليعيد المشهد المكاني إلى أصله، دون زيادة أو نقص.
ولعل ما يفسّر ذلك ويؤكده قول صاحب الرواية (صبحي فحماوي) بأنه حمل شخصية “الهربيد” هذه عشرات السنوات في ذاكرته، حتى أنها صارت تؤلمه كمن في كليته حصوة، يريد أن يتخلص منها، فيضطر لإخراجها ولو دامية.
وفي الرواية يقول: "أنت تسرد الروايات، إذن أنت تتخلص منها وتنساها؛ فتعيش بلا عذابات" (ص: 84)
لذلك، وباعتبار أن "الهربيد" هو الحالة العامة للنازح الفلسطيني، حق لنا أن نسميها "رواية النكسة"، وذلك لما تمتعت به من قدرة على جعلنا، نحن جيل النكسة وما قبلها، نستعيد تلك الأيام، بما فيها من فوضى وبؤس وعذابات وشظف عيش واهتزاز أركان المجتمع. وقد تميزت هذه الرواية بما قدمته من سمات وخصائص لحقبة النكسة، التي تم تشريحها بمضع جرّاح ماهر، وفّر للقارئ عمقًا معرفيًا في مختلف جوانبها، منها:
أولًا: النازحون عانوا الأمرّين، حتى وصلوا إلى المدن الأردنيّة المختلفة، وهم في أوضاع يُرثى لها. ومما يقوله "الهربيد" في هذا الجانب:" كانت أيام وصولي تائهًا إلى قاع المدينة هذا، أيم جوع وفقر، ولم يكن القرش يرن في جيبي" (ص: 18)
وجدت نفسي في واد مأهول في قاع المدينة، الكبيرة الواسعة، والناس ينغلون مثل النمل، خاصة في أيام التهجير الفلسطيني القسري هذه! (ص: 43).
وفي إحدى حالات "الهربيد" كان منكّس الرأس، متهدّل اليدين، كغصن شجرة عملاقة شرخته الريح فذبلت أوراقه (ص: 30)
وفي ذلك إشارة إلى أن النازحين لم يكونوا سوى شعب تشرّد من أرضه، عندما أُخِذ على حين غرّة، فانفصل عنها، وأصبح يعيش حالة الفصام والتيهان والغربة المريرة. وأبدع الكاتب في تصوير حالة الانشطار والتشظّي والتيهان التي مني بها الشعب الفلسطيني، من خلال الصحراء وأثرها عليهم، والتصوير البطيئ، بل البطئ جدًا، لموت والد الهربيد الذي حرص على ثروته؛ عندما حاول إنقاذ غنمته، فغرق أمام ناظري ابنه، وضاعت ثروته واختفت زوجته.
وهناك الشهداء الذين قضوا في تلك الحرب أمام ناظري أهاليهم، وهم عاجزون عن إنقاذهم، أو التخفيف من آلامهم وعذاباتهم، وإلى ثروات الشعب التي ضاعت في أتون تلك الحرب المجنونة التي أكلت الأخضر واليابس. وأما من بقي حيًا، فأخذ ينادي ويستصرخ، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ويوجز "الهربيد" كل ذلك بقوله: "أغنامنا كانت في "حرب الأيام الستة، وربما الساعات الست تتطاير مع رصاص رشاشات المحتلين" (ص: 83)
ثانيًا: الجهاد ممنوع: هناك إشارة واضحة إلى محاصرة ومنع الجهاد والمجاهدين، قبل النكسة: "قالوا لنا: الجهاد ممنوع، يعني ممنوع"، كما يلمح إلى أن الجهاد هو الركن السادس في الإسلام الذي تم شطبه (ص: 23). علمًا بأن طبيعة الفكر الصهيوني تقوم على "مشتقات القتل" (ص: 36).
ثالثًا: العمل الفدائي، بما له وما عليه: في الليلة الثالثة من تلك السرديات، تبدأ ملامح التغيير بالظهور، عندما يبدأ "الهربيد" بالشعور "بانتصار مختلط بمرارة الهزيمة" (ص: 71)، ثم تبدأ رحلة الثأر للكرامة، برفع شعار: "أنت تجوع إذن أنت تتحفز لعمل شئ يخرجك من هذا اليمّ" (ص: 76). ثم يعلنها "الهربيد" بالقول: "لم يعد أمامي سوى الوطن.. موتي في الوطن أفضل من حياتي المدمّرة" (ص: 78)، وتشهد شوارع قاع البلد خطابات هادرة، وغليان، ويظهر مصطلح "الفدائي" (ص: 89-93)، وفي مثل هذه الظروف يخرج من المتسلقين من يركب الموجة ويسئ، أيما إساءة، إلى العمل الفدائي والفدائيين.
في ربيع العام 1968 حصلت معركة الكرامة، التي تشكل مفصلًا مهمًا في العلاقة الأخوية بين الجيش الأردني والفدائيين، تحت شعار: "كل البنادق ضد إسرائيل"، ثم تبدأ المعالم الفدائية تزداد دبيبًا في الشوارع" (ص: 194). وأما "الهربيد"، فيبدأ بالصحو الجدي، ويبدأ بترديد أشعار وأغاني تتعلق بالعمل الفدائي وتشجعه (ص: 196-197)، ثم يعلن عن رغبته بالالتحاق بالفدائيين في الأغوار والانخراط في عملية فدائية مدروسة تعيده إلى الأرض المحتلة، بأي طريقة، ويرفع شعار: من يهب نفسه للوطن، لا يخشى الوسيلة (ص: 199). وينتهي أمر "الهربيد" بالدخول في عملية فدائية، من ثلاثة أفراد، قائدتهم فتاة، فيستشهد رفيقاه ويبقى هو أسيرًا، يخرج بعد سبع سنوات، ويتم فرض الإقامة الجبرية عليه في غزة.
رواية تكشف الغطاء عن المستور
لقد طرقت رواية "قاع البلد"، إلى جانب النكسة، أبوابًا متعددة، قلما تجتمع في عملٍ أدبي واحد، كما اجتمعت في هذه الرواية. فكان هناك تصويرٌ حيٌّ ل "قاع البلد وقاع المجتمع"، وما يجري خلف كواليس الفقر والفقراء من سلوكيات مؤلمة، ليس على المستوى الأخلاقي والسلوكي وحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي بمعناه الشمولي؛ عندما يمتد أثره خارج نطاقه الجغرافي، والبيئي والاقتصادي والأمني، فالإمعان في الشرب يُفقد الإنسان الكثير من صفاته التي خلقه الله عليها، كما جرى مع "الهربيد" الذي أصبح جسمه غير قابل لاستيعاب البنج. والجرائم التي تقترف بحق النفس البشرية، في ظلمات بعيدة عن أعين الدولة، في أجواء من السحر والشعوذة، كبدائل للطب والطبابة! وغير ذلك من سلوكيات اجتماعية مختلفة؛ كالزنى وتعدد الزوجات بالتحايل على الشرع، وغير ذلك.
خلاصة القول
كنا مع رواية متعددة الأبعاد، غاصت في عمق مجتمع "قاع البلد"، وما فيه من أسرار. إلا أن شخصها الرئيس،"الهربيد"، الذي رسمت مساره بالكلمات، بصفته متضرراً من النكسة وقد اكتوى بنيرانها المباشرة. فلقد شرّحت حيثيات النكسة، وتتبعت مجرياتها، وما تبعها من تطور العمل الفدائي، الذي واجه العدو واقتص منه في المكان الذي اغتصبه بالقوة، بل بالقوة المفرطة.
لقد وجدت في هذه الرواية أنها ترى في الهزيمة (النكسة وغيرها) حلقة من تاريخ طويل مع الاحتلال ومع الغزاة، لتصطف – في رؤيتها هذه - إلى جانب الروايات الأخرى لكبار الروائيين، كما في "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" لغسان كنفاني، و"سداسية الأيام الستة" و"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي.
....
بيت لحم - فلسطين
صبحي فحماوي؛ روائي أنجب عشر روايات وثماني مجموعات قصصية، وسبع مسرحيات ومشاهد مسرحية، غير الكتب والدراسات التي كُتِبت عنه وعن إنتاجه الأدبي والفكريّ. وقد انتخب، مؤخرًا، رئيسًا لنادي القصة والرواية في الأردن. وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده ل رواية "قاع البلد"، الصادرة بطبعتها الأولى، عن "مكتبة كل شئ" في حيفا، في خريف 2017. وتقع في (226) صفحة من القطع المتوسط. فهي الرواية العاشرة له خلال اثني عشر عامًا (روايته الأولى "عذبة" في العام 2005)
سيميائية العنوان والغلاف
السيميائية هي ما يعتني بكل ما يمكن اعتباره "إشارة". وتتضمن ليس فقط ما نسميه في الخطاب اليوم "إشارات"، ولكن أيضا كل ما "ينوب عن" شيء آخر. ونتعلم من السيمياء أننا نعيش في عالم من الإشارات، وأنه لا يمكننا فهم أي شيء إلّا بواسطة الإشارات والشيفرات التي تنظّمها، وهي عادة شفافة وتخفي أننا نقوم بقراءتها.
وفي رواية "قاع البلد" نجد سيميائية الغلاف تمثلت بلوحة تشكيلية أبدعتها يد الفنان هاني الحوراني؛ جاءت كنص بصري، تداخلت عبره الألوان المتراكبة، لبيوت متزاحمة بكثافة عالية جدًا، تكاد تلغي خصوصية الفرد والأسرة والجماعة، يعلوها ما يشبه الغيوم؛ ذات الدلالة المتعلقة بعدم وضوح الرؤيا من جانب، أو أن الأجواء حبلى بالمفاجآت من جانب آخر.
وأما العنوان، فقد جاء موفقًا وجاذبًا للقارئ؛ لأنه جاء موجزًا ومكثّفًا، ومنسجمًا مع النص، فشكّل جسرًا مشتركًا بين الكاتب والقارئ؛ فيدخل القارئ من بوّابته متأوّلًا له، وموظّفًا خلفيته المعرفية في استنطاقه(. كما أن "قاع البلد" جاء وصفًا صريحًا لمضمون الرواية، وحقق - بنجاح كبير- الوظيفة الإغرائية الجاذبة للقارئ باقتناء الرواية وقراءتها، فور استلامها.
هكذا، تآزر عنوان هذه الرواية مع غلافها، في إشاعة أجواء من التشويق لقراءة الرواية واكتشاف مكنوناتها الفنية والقصصية والفكرية والمعرفية، وصولًا إلى عقدتها، وهويتها التصنيفية، التي تميزها غيرها من الروايات.
ثيمة الرواية ومعمارها
تقوم الثّيمة "القضيّة" الرّوائيّة الرئيسيّة، لرواية "قاع البلد"، كما رأيتها، على صراع البقاء الملحمي بين الإنسان وأرضه وهويته وكينونته البشرية من جانب، والعدوّ المغتصب من جانب آخر. ثم تأتي الحبكة، وما يكتنز فيها من أحداث، لتتجه نحو الفعل لمحاولة استرجاع ما ضاع في براثن هذا الصراع.
وأما عناصر الرواية، المتمثلة بالمكان والزمان والشخصيات والسرد، فقد جاءت ببنيتين: مكانية، وزمانية، تآزرتا معًا لتشكلا مساح "زمكانية" لحركة الشخصيات الروائية، ومكّنتا السّارد من السيطرة على السرد، كعنصر لا تستقيم الرواية بدونه.
فالبنية المكانيّة؛ وهي منطقة "سقف السيل" الشعبية في مدينة عمّان، وما يحيط بها من جبال، وقد أبدع الكاتب في توظيفها في النص ووصفها كما كانت عليه بعيد النكسة في العام 1967. حتى أنها شاركت في بطولة الرواية بوضوح، من خلال الوصف التفصيلي الذي حظيت به من قبل السارد، للحد الذي يوفر على المخرج السينمائي، أو المسرحي، الكثير من العناء عندما يتجه نحو تحويل هذه الرواية أو الروايات ذات الصلة بهذا المكان إلى فيلم سينمائي، أو نص مسرحي.
كما امتدت البنية المكانية، في السرد الروائي، حتى مدينتي بيت لحم (مسقط رأس الهربيد، القادم من زعترة، وقد درس في بيت ساحور) والخليل (بلد الشخصية الساردة، المسمّاة "الدكتور")
أما البنية الزّمانيّة، فلم تكن أقل وهجًا ووميضًا من المكانيّة، إذ غاص السّارد في أعماق شخصيّة الهربيد، الشخص الرئيس في الرواية، الذي عانى من النكسة التي منيت بها الجيوش العربية أمام "إسرائيل" في الخامس من يونيو/حزيران من العام 1967، وما نجم عنها من استكمال احتلال ما تبقى من فلسطين بعد النكبة التي جاءت بإسرائيل دولة طارئة في المنطقة.
ولضرورات السرد وتحقيق ثيمة الرواية وعقدتها، قام الكاتب بتوظيف حقبة زمنية ممتدة بين قبيل النكسة وما بعدها حتى العام 1968.
وأما بشأن شخصيّات الرواية، فإن الكاتب تمكّن من تكثيف ما يحتاجه من ثيمة الرواية في الشخصيّة الرئيسة، وقد كان ماهرًا في خلق هذه الشخصية كشخصيّة حية، بدءًا من اسمها "الهربيد"، الذي وضع له الكاتب ملامح جسدية ونفسية، أوضحت الدلالات والسمات التي أشبعت رغبة القارئ في جميع الأدوار التي قام بها في النص، دون أن يكون ثقيل الظل في أي دور قام به.
قدّم الكاتب شخصيّة الرواية "الهربيد" كشاب طويل قويّ البنية، راعي أغنام، خبير بالصحراء وأسرارها، متعلم حتى الثانوية العامة، صاحب صوت جهوريّ، لديه القدرة على أن ينفلت من عقال المجتمع والعادات والتقاليد، وفي نفس الوقت جاهز للعب دور المهذّب والحضاري الذي يحترم الآخر، ويحفظ للناس مقاماتهم واحترامهم؛ وهذا ما أهّله لتنظيم شبكة متماسكة من العلاقات مع المكونات البشرية لمجتمع "قاع البلد"؛ ممن لهم علاقة بسوق البالة، ومن المشعوذين، ومدمني المشروبات، والدراويش، ومع المجتمع النسوي بصوره المختلفة؛ العفيفة والساقطة والخائنة. بالإضافة إلى علاقاته مع الجبال المحيطة وساكنيها.
كما أن القارئ، ومن خلال أحاديث "الهربيد" عن النكسة ونتائجها وانعكاسها عليه وعلى أسرته، لم يفاجأ بأن ينتهي الأمر به فدائيًا مقاتلًا للعدو في عقر بيته.
كما وظّف الكاتب شخصية أخرى لعبت دورًا مزدوجًا؛ كسارد للنص، وكشخصية ثانوية مؤازرة لشخصية البطل، تأخذ الدور الحيادي في معظم النص، ألبسها ثوبًا روائيًا ملائمًا للدور الذي قامت به بكفاءة عالية.
هكذا، نجد أن الكاتب اعتمد على نفس الشخصية، لتكون الخيط الروائي المتين، الذي لم يغادر النص ولم يغب عن الأحداث، من أول الرواية حتى آخرها. وهذا ما جعل د. أحمد العرود، يصفها بأنها رواية "الشخصيّة الواحدة".
بقي القول، في مجال المعمار الروائي، أن السرد الروائي جاء بلغة عربية سليمة وواضحة، وبترقيم وتشكيل ينم عن حرص الكاتب على أن يقدّم نصًّا منضبطًا، خاليًا من الأخطاء. كما تم توزيع الأحداث على الليالي العشر بما يشبه سيمفونية جميلة، كل عازف فيها يعرف دوره حق المعرفة، دون نشازٍ هنا أو هناك. فجاء النص متوازنًا بين الأحداث، دون مبالغة زائدة أو نقصان شديد، حتى خرج بهذا المستوى من النضج الروائي.
رواية تُشَرِّح النكسة
لما كان الأدب مرآة الشعوب والمعبر عن مكنوناتها الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية... الخ، فإنه من الطبيعي أن تنعكس النكبة والنكسة على جميع الأجناس الأدبية للكتّاب العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. وتجئ رواية "قاع البلد"، بعد خمسين عامًا من النكسة، لتكون رواية الاستدعاء والتذكّر، كما يشير إلى ذلك في الصفحة الأولى من الرواية، بقول السارد: "بعد تقاعدي، أجد الوقت مناسبًا لأبقّ البحصة" (ص: 13). وما يصاحب ذلك من ضنك وجهد قدمه الكاتب؛ ليعيد المشهد المكاني إلى أصله، دون زيادة أو نقص.
ولعل ما يفسّر ذلك ويؤكده قول صاحب الرواية (صبحي فحماوي) بأنه حمل شخصية “الهربيد” هذه عشرات السنوات في ذاكرته، حتى أنها صارت تؤلمه كمن في كليته حصوة، يريد أن يتخلص منها، فيضطر لإخراجها ولو دامية.
وفي الرواية يقول: "أنت تسرد الروايات، إذن أنت تتخلص منها وتنساها؛ فتعيش بلا عذابات" (ص: 84)
لذلك، وباعتبار أن "الهربيد" هو الحالة العامة للنازح الفلسطيني، حق لنا أن نسميها "رواية النكسة"، وذلك لما تمتعت به من قدرة على جعلنا، نحن جيل النكسة وما قبلها، نستعيد تلك الأيام، بما فيها من فوضى وبؤس وعذابات وشظف عيش واهتزاز أركان المجتمع. وقد تميزت هذه الرواية بما قدمته من سمات وخصائص لحقبة النكسة، التي تم تشريحها بمضع جرّاح ماهر، وفّر للقارئ عمقًا معرفيًا في مختلف جوانبها، منها:
أولًا: النازحون عانوا الأمرّين، حتى وصلوا إلى المدن الأردنيّة المختلفة، وهم في أوضاع يُرثى لها. ومما يقوله "الهربيد" في هذا الجانب:" كانت أيام وصولي تائهًا إلى قاع المدينة هذا، أيم جوع وفقر، ولم يكن القرش يرن في جيبي" (ص: 18)
وجدت نفسي في واد مأهول في قاع المدينة، الكبيرة الواسعة، والناس ينغلون مثل النمل، خاصة في أيام التهجير الفلسطيني القسري هذه! (ص: 43).
وفي إحدى حالات "الهربيد" كان منكّس الرأس، متهدّل اليدين، كغصن شجرة عملاقة شرخته الريح فذبلت أوراقه (ص: 30)
وفي ذلك إشارة إلى أن النازحين لم يكونوا سوى شعب تشرّد من أرضه، عندما أُخِذ على حين غرّة، فانفصل عنها، وأصبح يعيش حالة الفصام والتيهان والغربة المريرة. وأبدع الكاتب في تصوير حالة الانشطار والتشظّي والتيهان التي مني بها الشعب الفلسطيني، من خلال الصحراء وأثرها عليهم، والتصوير البطيئ، بل البطئ جدًا، لموت والد الهربيد الذي حرص على ثروته؛ عندما حاول إنقاذ غنمته، فغرق أمام ناظري ابنه، وضاعت ثروته واختفت زوجته.
وهناك الشهداء الذين قضوا في تلك الحرب أمام ناظري أهاليهم، وهم عاجزون عن إنقاذهم، أو التخفيف من آلامهم وعذاباتهم، وإلى ثروات الشعب التي ضاعت في أتون تلك الحرب المجنونة التي أكلت الأخضر واليابس. وأما من بقي حيًا، فأخذ ينادي ويستصرخ، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ويوجز "الهربيد" كل ذلك بقوله: "أغنامنا كانت في "حرب الأيام الستة، وربما الساعات الست تتطاير مع رصاص رشاشات المحتلين" (ص: 83)
ثانيًا: الجهاد ممنوع: هناك إشارة واضحة إلى محاصرة ومنع الجهاد والمجاهدين، قبل النكسة: "قالوا لنا: الجهاد ممنوع، يعني ممنوع"، كما يلمح إلى أن الجهاد هو الركن السادس في الإسلام الذي تم شطبه (ص: 23). علمًا بأن طبيعة الفكر الصهيوني تقوم على "مشتقات القتل" (ص: 36).
ثالثًا: العمل الفدائي، بما له وما عليه: في الليلة الثالثة من تلك السرديات، تبدأ ملامح التغيير بالظهور، عندما يبدأ "الهربيد" بالشعور "بانتصار مختلط بمرارة الهزيمة" (ص: 71)، ثم تبدأ رحلة الثأر للكرامة، برفع شعار: "أنت تجوع إذن أنت تتحفز لعمل شئ يخرجك من هذا اليمّ" (ص: 76). ثم يعلنها "الهربيد" بالقول: "لم يعد أمامي سوى الوطن.. موتي في الوطن أفضل من حياتي المدمّرة" (ص: 78)، وتشهد شوارع قاع البلد خطابات هادرة، وغليان، ويظهر مصطلح "الفدائي" (ص: 89-93)، وفي مثل هذه الظروف يخرج من المتسلقين من يركب الموجة ويسئ، أيما إساءة، إلى العمل الفدائي والفدائيين.
في ربيع العام 1968 حصلت معركة الكرامة، التي تشكل مفصلًا مهمًا في العلاقة الأخوية بين الجيش الأردني والفدائيين، تحت شعار: "كل البنادق ضد إسرائيل"، ثم تبدأ المعالم الفدائية تزداد دبيبًا في الشوارع" (ص: 194). وأما "الهربيد"، فيبدأ بالصحو الجدي، ويبدأ بترديد أشعار وأغاني تتعلق بالعمل الفدائي وتشجعه (ص: 196-197)، ثم يعلن عن رغبته بالالتحاق بالفدائيين في الأغوار والانخراط في عملية فدائية مدروسة تعيده إلى الأرض المحتلة، بأي طريقة، ويرفع شعار: من يهب نفسه للوطن، لا يخشى الوسيلة (ص: 199). وينتهي أمر "الهربيد" بالدخول في عملية فدائية، من ثلاثة أفراد، قائدتهم فتاة، فيستشهد رفيقاه ويبقى هو أسيرًا، يخرج بعد سبع سنوات، ويتم فرض الإقامة الجبرية عليه في غزة.
رواية تكشف الغطاء عن المستور
لقد طرقت رواية "قاع البلد"، إلى جانب النكسة، أبوابًا متعددة، قلما تجتمع في عملٍ أدبي واحد، كما اجتمعت في هذه الرواية. فكان هناك تصويرٌ حيٌّ ل "قاع البلد وقاع المجتمع"، وما يجري خلف كواليس الفقر والفقراء من سلوكيات مؤلمة، ليس على المستوى الأخلاقي والسلوكي وحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي بمعناه الشمولي؛ عندما يمتد أثره خارج نطاقه الجغرافي، والبيئي والاقتصادي والأمني، فالإمعان في الشرب يُفقد الإنسان الكثير من صفاته التي خلقه الله عليها، كما جرى مع "الهربيد" الذي أصبح جسمه غير قابل لاستيعاب البنج. والجرائم التي تقترف بحق النفس البشرية، في ظلمات بعيدة عن أعين الدولة، في أجواء من السحر والشعوذة، كبدائل للطب والطبابة! وغير ذلك من سلوكيات اجتماعية مختلفة؛ كالزنى وتعدد الزوجات بالتحايل على الشرع، وغير ذلك.
خلاصة القول
كنا مع رواية متعددة الأبعاد، غاصت في عمق مجتمع "قاع البلد"، وما فيه من أسرار. إلا أن شخصها الرئيس،"الهربيد"، الذي رسمت مساره بالكلمات، بصفته متضرراً من النكسة وقد اكتوى بنيرانها المباشرة. فلقد شرّحت حيثيات النكسة، وتتبعت مجرياتها، وما تبعها من تطور العمل الفدائي، الذي واجه العدو واقتص منه في المكان الذي اغتصبه بالقوة، بل بالقوة المفرطة.
لقد وجدت في هذه الرواية أنها ترى في الهزيمة (النكسة وغيرها) حلقة من تاريخ طويل مع الاحتلال ومع الغزاة، لتصطف – في رؤيتها هذه - إلى جانب الروايات الأخرى لكبار الروائيين، كما في "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" لغسان كنفاني، و"سداسية الأيام الستة" و"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي.
....
بيت لحم - فلسطين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.