سعر الذهب اليوم الجمعة في مصر ينخفض مع بداية التعاملات    لتضامنه مع طلاب محتجين.. إيقاف رئيس حرم جامعي بكاليفورنيا    موعد مباراة الأهلي والترجي في ذهاب نهائي أبطال أفريقيا 2024    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    موعد مباراة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد والقنوات الناقلة    العظمى بالقاهرة 35.. "الأرصاد": موجة حارة ورياح واضطراب الملاحة بهذه المناطق    بعد 12 يوما على غيابه عن المنزل.. العثور على جثة طفل داخل بالوعة صرف صحي بالإسكندرية    ضبط زجاجات مياه غازية ولحوم مذبوحة خارج السلخانة ببني سويف    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    لطيفة تحتفل بعيد ميلاد عادل إمام: "من أكتر الناس اللي وقفوا جمبي لما جيت مصر"    "زووم" برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    دعاء يوم الجمعة المستجاب.. «اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها» ردده الآن    هل يمكن أن يؤدي الحسد إلى الوفاة؟.. الأزهر للفتوى يجيب    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    أسعار الحديد اليوم الجمعة 17-5-2024 في أسواق محافظة المنيا    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أستراليا تفرض عقوبات على كيانات مرتبطة بتزويد روسيا بأسلحة كورية شمالية    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    السفير سعيد أبوعلى الأمين العام المساعد بجامعة الدول العربية ل«روزاليوسف»: تحركات عربية مكثفة لملاحقة المسئولين الإسرائيليين أمام «الجنائية الدولية»    أسعار السمك اليوم الجمعة 17-5-2024 في محافظة قنا    فرصة استثمارية واعدة    كريم الحسيني يقلد الزعيم عادل إمام احتفالا بعيد ميلاده (فيديو)    تركيا تجري محادثات مع بي.واي.دي وشيري لبناء مصنع للسيارات الكهربائية    موعد مباراة النصر والهلال والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تقنية غريبة قد تساعدك على العيش للأبد..كيف نجح الصينيون في تجميد المخ؟    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    فيرشينين: روسيا مستعدة لتوسيع مساعداتها الإنسانية لسكان غزة    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    «رايحة فرح في نص الليل؟».. رد محامي سائق أوبر على واقعة فتاة التجمع    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في رواية " أحمد وداود " لفتحي غانم
نشر في صوت البلد يوم 21 - 12 - 2017

تعطينا رواية " أحمد وداود " للروائي الكبير فتحي غانم بعد الانتهاء من قراءتها إحساساً بواقع سياسي ، ليس هذا الواقع السياسي مجرد فترة من التاريخ قد ولت ، بل إن هذا الواقع مازال يعيش بيننا ونعيش فيه .. فأحداث اليوم ما هي إلا امتداد لأحداث الأمس .. فالرواية تتعرض لمرحلة تاريخية هامة من بواكير مراحل الاستيطان والاحتلال الصهيوني للقدس في فترة العشرينات والثلاثينات حتى عام 1948 .. تلك المرحلة التي تعامل فيها اليهود مع عرب القدس بالقوة والقهر والتعسف ، فالأحداث السياسية رغم أنها البطل الحقيقي في الرواية إلا أن المؤلف لم يتناولها بطريقة مباشرة صدامية حتى لا تبتعد عن الفن وتتحول إلى مجرد خطاب سياسي طويل .
(1)
لا شك أن عملية تلخيص عمل فني ضرب من المغالطة إلا أن ثمة ضرورة تشفع لها .. وهي أن التلخيص يهدف أحياناً إلى تقريب النص للقارئ الذي لم يطالعه والتلخيص - أيضاً - بوابة لقراءة العمل والنقاش حوله.
في المنظور العادي تدور أحداث الرواية في إحدى القرى التي تقع على مقربة من القدس، فتروي أحداث القصة بضمير المتكلم "أحمد" الذي يحكي عن طفولته في تلك القرية ، ومدى رعب أهل القرية من الشراكسة الذين يتعاملون بوحشية ضارية ، ويحكي لنا عن صداقته ب"داود" ذلك الفتى اليهودي .. وتتطور الأحداث ويبيع "شوكت الأنصاري" الشركسي الأصل ضيعته التي يملكها ، لمالك يهودي ألماني هو "ماكس روزنبرج" وجمع "شوكت الأنصاري" ماله وذهبه الذي جمعه بالسياط والبنادق ، وسال من أجله عرق غزير ودماء أغزر، هذا الذهب الذي سيتدفق على موائد القمار في أوربا ، فالأنصاري يرى أن أرض أجداده في أوربا وأنه لا يجب ألا يرتبط بالقدس ، وتنشأ علاقة بين أحمد وسارة أخت صديقه اليهودي داود ، ويسافر داود إلى باريس للدراسة ، في حين يدخل هتلر باريس ويعتقل "داود" فيمن اعتقلوا ، وينجو داود من الموت حين دخل عليه الجنود الأمريكيون وعرفوا أنه يهودي من فلسطين .. يقول الضابط الأمريكي ل"داود" لن تعود إلى أورشليم وحدك .. لا أحد يعترف بك كفلسطيني أو عربي عليك أن تعتصم بالقلعة كما فعل باركخيا .. أنت ميت حتى تحارب ، أنت تحارب فأنت موجود .. هؤلاء الخارجون من معتقلات النازية يصلحون للعمل السري سوف نرهب بهم الجميع. أنتم مكلّفون بالتخريب والتدمير سوف تقتلون وتسرقون .. سوف تذكرون أيامكم في المعتقل لم نعد نرضى بضيعة أو بيارة . جابوتنكسي رفض "هايمشتات" . من الآن عليكم القتال لدولة إسرائيل ، ديرجود نشتات العرب ينوون العنف .. علينا أن نرهبهم . كيف ؟
يلقي بالبندقية على خريطة فلسطين ويهتف :- الأمر كذلك .. "ص 98: الرواية، وجاء اليهود القرية عن طريق اليهودي الألماني "ماكس روزنبرج" ونصبوا معسكراً لهم بالقرب من ضيعة "ماكس" ومنعوا العرب المسلمين من دخول المعسكر ، وأخذوا يدربون فتيانهم وفتياتهم على حمل السلاح .. فقد كانوا ينوون تدمير القرية والاستيلاء عليها بالقوة، وقد تم لهم هذا، فها هو داود يمسك مكبر الصوت ويقول إن القرية محاصرة وينذر سكانها بإخلاء دورهم فوراً ، أليس :داود" هذا ابن تلك القرية التي يتآمر على تدميرها ! ويسلم "داود" مكبر الصوت إلى أخته "سارة" التي تدربت على حمل السلاح والقتال ، إن سارة تعلن بصوت رفيع حاد ".. إن أي امرأة سوف يجدونها أمامهم سوف يتركونها للرجال يهتكون عرضها ، صوت سارة يرتفع ساخراً : التي تنتظر سوف تجد رجالنا مستعدين ، اخلعي ملابسك وتجردي من كل ثيابك واستلقي علي ظهرك في انتظار الرجل القادم إليك .." ص 115 : الرواية .
سكان القرية لا يصدقون ما يسمعون .. إنهم مسالمون .. لم يتورطوا أبداً في نزاع مع اليهود، علاقاتهم قوية معهم من خلال السوق الذي يجمعهم .. النساء العربيات تعلمن العبرية ليخاطبن الزبائن اليهود . قدمن أفضل ما عندهن لهن ، واشتغل الرجال المسلمون بإقامة صهاريج المياه لهم .. واليوم جاءوا يدمرون ! ذبحوا الرجال ، بقروا بطون النساء الحوامل ، وقتلوا الأطفال الصغار .. ونسفوا بيوت القرية بالديناميت .. وقتلوا أحمد غدراً وقبل أن يقتل رأى أمامه أباه وهو يذبح وأخته رآها وبطنها يبقر .. ومنع المغتصبون اليهود بعثة الصليب الأحمر بالقدس من ممارسة عملهم، ناكثين بذلك كل عهود واتفاقيات وقّعوها .
(2)
اتبع "فتحي غانم" منهجاً فريداً في السرد فالشخصية التي تروي الأحداث ، تأتيها الأحداث أشبه برؤى في الحلم ، فإذا بتلك الشخصية في تلك القرية في القدس، وإذا بأحداث تجري فيها فإذا استيقظت الشخصية الرواية من الحلم، لا تكاد تصدق أنه مجرد حلم ، فالشخصية الرواية تريد أن تحتفظ بتلك الشخصية التي تراها في الحلم ، فتتقمصها وتحيا فيها . وهذا يعني أن شخصية "أحمد سالم" ليست مجرد شخصية عادية أو فرداً بعينه.. لكن هذه الشخصية توضع معادلة لجيل بأسره ، فجعلها المؤلف رمزاً فنياً . كما أن المؤلف اتبع أسلوباً خاصاً ، يستهل به بداية ونهاية كل فصل من فصول الرواية ، فهو يقدم الحاضر بما فيه ، لكنه يقطعه ويقدم الماضي بما فيه من أحداث سياسية واجتماعية وتجارب نفسية ، عن طريق قطع الحدث الحاضر فجأة لكن الماضي ينداح في الوقت المناسب ويكشف الأبعاد الحيوية للحاضر ، وذلك عن طريق استخدام تكنيك "تيار الوعي" "هذا الأسلوب الذي يعتمد - كما هو معروف - على تسجيل الانطباعات بالترتيب الذي تقع به على الذهن ، متجاوزاً في ذلك منطق الواقع الخارجي ، الذي يخضع ترتيب الأحداث فيه لعامل الزمان والمكان . وهذا الأسلوب هو البؤرة التي نرى من خلالها تطور الأحداث" .
فمجال الحياة الذي يهتم به أدب تيار الوعي ، هو التجربة العقلية والروحية من جانبيها المتصلين بالماهية والكيفية وتشتمل الماهية على أنواع التجارب العقلية من الأحاسيس والذكريات والتخيلات والمفاهيم وألوان الحدس . كما تشتمل الكيفية على ألوان الرمز والمشاعر وعمليات التداعي إلى جانب أن قصور الرواية تميزت بتكثيفها وإيقاعها السريع .
(3)
إن التقابل الكيفي بين الشخصيات في مواقفها، كان عاملاً هاماً في توهج الصراع الدرامي .. لنتأمل هذا الموقف بدلالته التي ترقى إلى مستوى الرمز .. هذا الموقف يدور بين الفتى المسلم "أحمد" والفتى اليهودي "داود" :
"وواصلنا السير أنا وداود في اتجاه بيت الأنصاري ، وكان داود يريد أن يعرف الطريق . ورأيت شقيقتي سعاد ترعى الغنم ، وأشرت إلى شجرة الزيتون ، وقلت له :
- هذه شجرتنا .
فقال لي :
- هل تسابقني إليها ؟
قلت :- نعم .
وقبل أن أنتبه كان قد انطلق يجري إلى الشجرة ، فجريت خلفه ، كان قد سبقني بعشرات الأمتار ، وكان يعدو بسرعة غير عادية ، ولكني كنت واثقاً أني سألحق به وسأصل إلى الشجرة قبله ، لأن قدمي تعرفان الأرض، وبينها وبين كل موطئ قدم عمار وألفة ، والأرض أرضي والشجرة شجرتي وارتطام قدمي بالأرض يملأني دفئاً ، وتجري أحاديث خاصة بين قدمي وأرضي ، لغة مشتركة بينهما من الأحاسيس والتجارب الذي يسري في أوصالي وأشعر به ممتداً في التراب والحصى والهواء ممتداً في عروقي وأنفاسي ، وكلنا واحد ، وأنا لا أعدو إلى الشجرة لأني وهي كيان واحد ، حتى وأنا بعيد عنها ، وهي معي وهي هناك تنتظر مقدمي، وهذا التراب وهذا الحصى الذي يستقبلني في هذه اللحظة ، وهو نفسه الذي جعلني أسبق داود دون أن أفكر ، دون أن أدرك أني عدوت ، ولكني سقطت تحت الزيتونة لاهثاً كما ألهث الآن وحدي ، بينما كان داود في تلك الأيام يلهث بجواري ، أنفاسنا تتصاعد ، وهو يقول لي :- سأسبقك المرة القادمة . لم يقل لي في ذلك الوقت .. : سنقتلك المرة القادمة .. " ص 41 : الرواية .
فالموقف الواقعي الذي يحدث بتلقائية ساذجة يتحول إلى معادل لما سيحدث فيما بعد . فرغم تلك الصداقة التي تربط أحمد بداود إلا أن الفتى اليهودي تناسى كل هذا وهو آت مع اليهود يهدم ويدمّر القرية ويذبح سكانها الآمنين ! فماذا قدم داود للقرية التي تربى بين ربوعها .. ماذا قدم سوى الجحود ! ورغم تلك اللحظة الرهيبة العصيبة ، لحظة أن دخل اليهود القرية وفي أيديهم السكاكين ملوثة بالدم الطازج ، فإن أحمد لم ينس الصداقة التي تربطه بداود ، فما إن رآه بين صفوف اليهود حتى أسرع الخطى نحوه ، ليعنفه ولم يدر ما يحدث خلفه، فقد كان مشغولاً برؤية داود لأمر ما بينهما، وقبل أن يصل إلى داود ، انطلقت رصاصة غادرة لتخترق ظهره !!
ورغم تلك العلاقة التي كانت متوهجة بين "أحمد" و "سارة" لم تكن بالنسبة لسارة سوى علاقة متعة جسدية ، وفي حين أنها كانت بالنسبة لأحمد علاقة حب يتمنى أن يحرره من رغبات سارة .. أياً كانت تلك العلاقة فسارة لم تحترمها. لنتأمل ذلك المشهد عندما دخل اليهود القرية ومعهم ساره تقتل وتذبح وتبقربطون الحوامل " .. أرى سارة في فناء دارنا ، تقترب من أبي ، تميل عليه ، عيناه نصف مغمضتين أتريان ، مازال جسده دافئاً ، مرت بالسكين على رقبته نحرته .."ص 116 : الرواية .
وعندما قتل أحمد ، وكانت جثته بين الجثث التي يفتشون في جيوبها ، ليعثروا على أي أوراق تدل على أصحابها ، وكانت سارة تفتش الجثث مع الطبيب المختص ، ورأت جثة أحمد أمامها ، فلم تفتش جثته وقالت للطبيب : أما هذا فاسمه أحمد .. وسألها الطبيب بدهشة :- أتعرفينه ؟ قالت بصوت أجش :- لا ، لم أعرفه أبداً ص 123 : الرواية .
تلك المفارقات المليئة بها الرواية ، هي التي صنعت الصراع الدرامي .. ففتحي غانم يرى أن الصراع الدرامي بالمعنى الفني يعني أن الفن يقتضي أن نعرف الشخصيات والأحداث من خلال الصراع الكاشف الفاضح لكل ما في النفس البشرية ، لأن النفس البشرية عندما تدخل في صراع تكشف عن كل ما في أعماقها ". لقد قدم "فتحي غانم" شخصياته بحيادية شديدة ، فلم يتحيز لجانب ضد جانب ، لأن هذا التحيز يفسد عمله الفني وتتحول الرواية إلى مجرد عمل دعائي .. فابتعد المؤلف عن إصدار الأحكام ، تاركاً ذلك للقارئ .
(4)
تميز أسلوب "فتحي غانم" في هذه الرواية بالكثافة والشاعرية .. فقد كان السياق القصصي للأحداث مكثفاً بحيث أبرز عنصر الصراع والتضاد والسخرية بشكل واقعي صادق ، تلك الواقعية التي لا تنفي ما في الرواية من أبعاد رمزية .
الرواية تحمل في أعطافها خصوبة وثراء ، سواء كان ذلك على مستوى المعالجة الفنية أو مستوى المضمون ، إن فتحي غانم في هذه الرواية لا يتناول قضية فرد واحد ، بل قضية أمة بأكملها ، فأحداث الرواية أحداث معروفة ، لكن صياغتها وكتابتها في عمل روائي كان هذا هو التحدي والمغامرة التي خاضها المؤلف .
-----
مصدر القراءة : رواية " أحمد وداود " - فتحي غانم - دار الهلال - القاهرة -1993 .
تعطينا رواية " أحمد وداود " للروائي الكبير فتحي غانم بعد الانتهاء من قراءتها إحساساً بواقع سياسي ، ليس هذا الواقع السياسي مجرد فترة من التاريخ قد ولت ، بل إن هذا الواقع مازال يعيش بيننا ونعيش فيه .. فأحداث اليوم ما هي إلا امتداد لأحداث الأمس .. فالرواية تتعرض لمرحلة تاريخية هامة من بواكير مراحل الاستيطان والاحتلال الصهيوني للقدس في فترة العشرينات والثلاثينات حتى عام 1948 .. تلك المرحلة التي تعامل فيها اليهود مع عرب القدس بالقوة والقهر والتعسف ، فالأحداث السياسية رغم أنها البطل الحقيقي في الرواية إلا أن المؤلف لم يتناولها بطريقة مباشرة صدامية حتى لا تبتعد عن الفن وتتحول إلى مجرد خطاب سياسي طويل .
(1)
لا شك أن عملية تلخيص عمل فني ضرب من المغالطة إلا أن ثمة ضرورة تشفع لها .. وهي أن التلخيص يهدف أحياناً إلى تقريب النص للقارئ الذي لم يطالعه والتلخيص - أيضاً - بوابة لقراءة العمل والنقاش حوله.
في المنظور العادي تدور أحداث الرواية في إحدى القرى التي تقع على مقربة من القدس، فتروي أحداث القصة بضمير المتكلم "أحمد" الذي يحكي عن طفولته في تلك القرية ، ومدى رعب أهل القرية من الشراكسة الذين يتعاملون بوحشية ضارية ، ويحكي لنا عن صداقته ب"داود" ذلك الفتى اليهودي .. وتتطور الأحداث ويبيع "شوكت الأنصاري" الشركسي الأصل ضيعته التي يملكها ، لمالك يهودي ألماني هو "ماكس روزنبرج" وجمع "شوكت الأنصاري" ماله وذهبه الذي جمعه بالسياط والبنادق ، وسال من أجله عرق غزير ودماء أغزر، هذا الذهب الذي سيتدفق على موائد القمار في أوربا ، فالأنصاري يرى أن أرض أجداده في أوربا وأنه لا يجب ألا يرتبط بالقدس ، وتنشأ علاقة بين أحمد وسارة أخت صديقه اليهودي داود ، ويسافر داود إلى باريس للدراسة ، في حين يدخل هتلر باريس ويعتقل "داود" فيمن اعتقلوا ، وينجو داود من الموت حين دخل عليه الجنود الأمريكيون وعرفوا أنه يهودي من فلسطين .. يقول الضابط الأمريكي ل"داود" لن تعود إلى أورشليم وحدك .. لا أحد يعترف بك كفلسطيني أو عربي عليك أن تعتصم بالقلعة كما فعل باركخيا .. أنت ميت حتى تحارب ، أنت تحارب فأنت موجود .. هؤلاء الخارجون من معتقلات النازية يصلحون للعمل السري سوف نرهب بهم الجميع. أنتم مكلّفون بالتخريب والتدمير سوف تقتلون وتسرقون .. سوف تذكرون أيامكم في المعتقل لم نعد نرضى بضيعة أو بيارة . جابوتنكسي رفض "هايمشتات" . من الآن عليكم القتال لدولة إسرائيل ، ديرجود نشتات العرب ينوون العنف .. علينا أن نرهبهم . كيف ؟
يلقي بالبندقية على خريطة فلسطين ويهتف :- الأمر كذلك .. "ص 98: الرواية، وجاء اليهود القرية عن طريق اليهودي الألماني "ماكس روزنبرج" ونصبوا معسكراً لهم بالقرب من ضيعة "ماكس" ومنعوا العرب المسلمين من دخول المعسكر ، وأخذوا يدربون فتيانهم وفتياتهم على حمل السلاح .. فقد كانوا ينوون تدمير القرية والاستيلاء عليها بالقوة، وقد تم لهم هذا، فها هو داود يمسك مكبر الصوت ويقول إن القرية محاصرة وينذر سكانها بإخلاء دورهم فوراً ، أليس :داود" هذا ابن تلك القرية التي يتآمر على تدميرها ! ويسلم "داود" مكبر الصوت إلى أخته "سارة" التي تدربت على حمل السلاح والقتال ، إن سارة تعلن بصوت رفيع حاد ".. إن أي امرأة سوف يجدونها أمامهم سوف يتركونها للرجال يهتكون عرضها ، صوت سارة يرتفع ساخراً : التي تنتظر سوف تجد رجالنا مستعدين ، اخلعي ملابسك وتجردي من كل ثيابك واستلقي علي ظهرك في انتظار الرجل القادم إليك .." ص 115 : الرواية .
سكان القرية لا يصدقون ما يسمعون .. إنهم مسالمون .. لم يتورطوا أبداً في نزاع مع اليهود، علاقاتهم قوية معهم من خلال السوق الذي يجمعهم .. النساء العربيات تعلمن العبرية ليخاطبن الزبائن اليهود . قدمن أفضل ما عندهن لهن ، واشتغل الرجال المسلمون بإقامة صهاريج المياه لهم .. واليوم جاءوا يدمرون ! ذبحوا الرجال ، بقروا بطون النساء الحوامل ، وقتلوا الأطفال الصغار .. ونسفوا بيوت القرية بالديناميت .. وقتلوا أحمد غدراً وقبل أن يقتل رأى أمامه أباه وهو يذبح وأخته رآها وبطنها يبقر .. ومنع المغتصبون اليهود بعثة الصليب الأحمر بالقدس من ممارسة عملهم، ناكثين بذلك كل عهود واتفاقيات وقّعوها .
(2)
اتبع "فتحي غانم" منهجاً فريداً في السرد فالشخصية التي تروي الأحداث ، تأتيها الأحداث أشبه برؤى في الحلم ، فإذا بتلك الشخصية في تلك القرية في القدس، وإذا بأحداث تجري فيها فإذا استيقظت الشخصية الرواية من الحلم، لا تكاد تصدق أنه مجرد حلم ، فالشخصية الرواية تريد أن تحتفظ بتلك الشخصية التي تراها في الحلم ، فتتقمصها وتحيا فيها . وهذا يعني أن شخصية "أحمد سالم" ليست مجرد شخصية عادية أو فرداً بعينه.. لكن هذه الشخصية توضع معادلة لجيل بأسره ، فجعلها المؤلف رمزاً فنياً . كما أن المؤلف اتبع أسلوباً خاصاً ، يستهل به بداية ونهاية كل فصل من فصول الرواية ، فهو يقدم الحاضر بما فيه ، لكنه يقطعه ويقدم الماضي بما فيه من أحداث سياسية واجتماعية وتجارب نفسية ، عن طريق قطع الحدث الحاضر فجأة لكن الماضي ينداح في الوقت المناسب ويكشف الأبعاد الحيوية للحاضر ، وذلك عن طريق استخدام تكنيك "تيار الوعي" "هذا الأسلوب الذي يعتمد - كما هو معروف - على تسجيل الانطباعات بالترتيب الذي تقع به على الذهن ، متجاوزاً في ذلك منطق الواقع الخارجي ، الذي يخضع ترتيب الأحداث فيه لعامل الزمان والمكان . وهذا الأسلوب هو البؤرة التي نرى من خلالها تطور الأحداث" .
فمجال الحياة الذي يهتم به أدب تيار الوعي ، هو التجربة العقلية والروحية من جانبيها المتصلين بالماهية والكيفية وتشتمل الماهية على أنواع التجارب العقلية من الأحاسيس والذكريات والتخيلات والمفاهيم وألوان الحدس . كما تشتمل الكيفية على ألوان الرمز والمشاعر وعمليات التداعي إلى جانب أن قصور الرواية تميزت بتكثيفها وإيقاعها السريع .
(3)
إن التقابل الكيفي بين الشخصيات في مواقفها، كان عاملاً هاماً في توهج الصراع الدرامي .. لنتأمل هذا الموقف بدلالته التي ترقى إلى مستوى الرمز .. هذا الموقف يدور بين الفتى المسلم "أحمد" والفتى اليهودي "داود" :
"وواصلنا السير أنا وداود في اتجاه بيت الأنصاري ، وكان داود يريد أن يعرف الطريق . ورأيت شقيقتي سعاد ترعى الغنم ، وأشرت إلى شجرة الزيتون ، وقلت له :
- هذه شجرتنا .
فقال لي :
- هل تسابقني إليها ؟
قلت :- نعم .
وقبل أن أنتبه كان قد انطلق يجري إلى الشجرة ، فجريت خلفه ، كان قد سبقني بعشرات الأمتار ، وكان يعدو بسرعة غير عادية ، ولكني كنت واثقاً أني سألحق به وسأصل إلى الشجرة قبله ، لأن قدمي تعرفان الأرض، وبينها وبين كل موطئ قدم عمار وألفة ، والأرض أرضي والشجرة شجرتي وارتطام قدمي بالأرض يملأني دفئاً ، وتجري أحاديث خاصة بين قدمي وأرضي ، لغة مشتركة بينهما من الأحاسيس والتجارب الذي يسري في أوصالي وأشعر به ممتداً في التراب والحصى والهواء ممتداً في عروقي وأنفاسي ، وكلنا واحد ، وأنا لا أعدو إلى الشجرة لأني وهي كيان واحد ، حتى وأنا بعيد عنها ، وهي معي وهي هناك تنتظر مقدمي، وهذا التراب وهذا الحصى الذي يستقبلني في هذه اللحظة ، وهو نفسه الذي جعلني أسبق داود دون أن أفكر ، دون أن أدرك أني عدوت ، ولكني سقطت تحت الزيتونة لاهثاً كما ألهث الآن وحدي ، بينما كان داود في تلك الأيام يلهث بجواري ، أنفاسنا تتصاعد ، وهو يقول لي :- سأسبقك المرة القادمة . لم يقل لي في ذلك الوقت .. : سنقتلك المرة القادمة .. " ص 41 : الرواية .
فالموقف الواقعي الذي يحدث بتلقائية ساذجة يتحول إلى معادل لما سيحدث فيما بعد . فرغم تلك الصداقة التي تربط أحمد بداود إلا أن الفتى اليهودي تناسى كل هذا وهو آت مع اليهود يهدم ويدمّر القرية ويذبح سكانها الآمنين ! فماذا قدم داود للقرية التي تربى بين ربوعها .. ماذا قدم سوى الجحود ! ورغم تلك اللحظة الرهيبة العصيبة ، لحظة أن دخل اليهود القرية وفي أيديهم السكاكين ملوثة بالدم الطازج ، فإن أحمد لم ينس الصداقة التي تربطه بداود ، فما إن رآه بين صفوف اليهود حتى أسرع الخطى نحوه ، ليعنفه ولم يدر ما يحدث خلفه، فقد كان مشغولاً برؤية داود لأمر ما بينهما، وقبل أن يصل إلى داود ، انطلقت رصاصة غادرة لتخترق ظهره !!
ورغم تلك العلاقة التي كانت متوهجة بين "أحمد" و "سارة" لم تكن بالنسبة لسارة سوى علاقة متعة جسدية ، وفي حين أنها كانت بالنسبة لأحمد علاقة حب يتمنى أن يحرره من رغبات سارة .. أياً كانت تلك العلاقة فسارة لم تحترمها. لنتأمل ذلك المشهد عندما دخل اليهود القرية ومعهم ساره تقتل وتذبح وتبقربطون الحوامل " .. أرى سارة في فناء دارنا ، تقترب من أبي ، تميل عليه ، عيناه نصف مغمضتين أتريان ، مازال جسده دافئاً ، مرت بالسكين على رقبته نحرته .."ص 116 : الرواية .
وعندما قتل أحمد ، وكانت جثته بين الجثث التي يفتشون في جيوبها ، ليعثروا على أي أوراق تدل على أصحابها ، وكانت سارة تفتش الجثث مع الطبيب المختص ، ورأت جثة أحمد أمامها ، فلم تفتش جثته وقالت للطبيب : أما هذا فاسمه أحمد .. وسألها الطبيب بدهشة :- أتعرفينه ؟ قالت بصوت أجش :- لا ، لم أعرفه أبداً ص 123 : الرواية .
تلك المفارقات المليئة بها الرواية ، هي التي صنعت الصراع الدرامي .. ففتحي غانم يرى أن الصراع الدرامي بالمعنى الفني يعني أن الفن يقتضي أن نعرف الشخصيات والأحداث من خلال الصراع الكاشف الفاضح لكل ما في النفس البشرية ، لأن النفس البشرية عندما تدخل في صراع تكشف عن كل ما في أعماقها ". لقد قدم "فتحي غانم" شخصياته بحيادية شديدة ، فلم يتحيز لجانب ضد جانب ، لأن هذا التحيز يفسد عمله الفني وتتحول الرواية إلى مجرد عمل دعائي .. فابتعد المؤلف عن إصدار الأحكام ، تاركاً ذلك للقارئ .
(4)
تميز أسلوب "فتحي غانم" في هذه الرواية بالكثافة والشاعرية .. فقد كان السياق القصصي للأحداث مكثفاً بحيث أبرز عنصر الصراع والتضاد والسخرية بشكل واقعي صادق ، تلك الواقعية التي لا تنفي ما في الرواية من أبعاد رمزية .
الرواية تحمل في أعطافها خصوبة وثراء ، سواء كان ذلك على مستوى المعالجة الفنية أو مستوى المضمون ، إن فتحي غانم في هذه الرواية لا يتناول قضية فرد واحد ، بل قضية أمة بأكملها ، فأحداث الرواية أحداث معروفة ، لكن صياغتها وكتابتها في عمل روائي كان هذا هو التحدي والمغامرة التي خاضها المؤلف .
-----
مصدر القراءة : رواية " أحمد وداود " - فتحي غانم - دار الهلال - القاهرة -1993 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.