نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    شهادة تقدير ودرع المحافظة.. أسوان تكرم الخامسة على الجمهورية في الثانوية الأزهرية    تنفيذي الشرقية يُناقش خطة استثمارية ب1.14 مليار جنيه لتحسين الخدمات بالمراكز والمدن    وزير البترول يلتقي وفدا رفيع المستوى من شركة شل العالمية    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    انقسام بين قادة الاتحاد الأوروبي بعد إعلان ترامب عن الاتفاق التجاري الجديد    أطباء بلا حدود: حالات الإسهال المائي ترتفع مجددا في جميع أنحاء اليمن    «أكسيوس»: مسؤولان إسرائيليان يصلان واشنطن لبحث ملفي غزة وإيران    حجز محاكمة متهمين بوفاة لاعب كاراتيه بالإسكندرية لجلسة 22 سبتمبر للنطق بالحكم    أحمد حسن يكشف مفاجأة بشأن مستقبل حسين الشحات مع الأهلي    دون خسائر.. السيطرة على حريق بمحل مأكولات شهير في المنتزه بالإسكندرية    تكريم 30 طالبًا من أوائل الثانوية العامة في القاهرة بديوان عام المحافظة    انهيار لطيفة بالبكاء أثناء تقديم واجب العزاء ل فيروز في نجلها زياد الرحباني (فيديو)    فى يومه ال 11.. "برنامج اليوم" يتابع فعاليات مهرجان العلمين بدورته الثالثة    "فتح" تُثمن دعوة الرئيس السيسي ومواقف مصر الداعمة لفلسطين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض الوضوء؟ الإفتاء تُجيب    هل وجود مستحضرات التجميل على وجه المرأة يُعد من الأعذار التي تبيح التيمم؟ الإفتاء تجيب    في اليوم العالمي لالتهاب الكبد.. الوشم والإبر يسببان العدوى (الأعراض وطرق الوقاية)    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    البحيرة: قافلة طبية مجانية بقرية الأمل وأرياف أبو المطامير ضمن جهود العدالة الصحية غدا    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    بنك مصر يوقع بروتوكول تعاون مع دوبيزل لدعم خدمات التمويل العقاري    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    قرارات هامة من الأعلى للإعلام ل 3 مواقع إخبارية بشأن مخالفة الضوابط    تجديد حبس متهم بقتل سيدة وسرقة 5700 جنيه من منزلها بالشرقية بسبب "المراهنات"    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    الهلال الأحمر المصري يواصل دعمه لقطاع غزة رغم التحديات الإنسانية    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    طرائف الانتقالات الصيفية.. الزمالك وبيراميدز كشفا عن صفقتين بالخطأ (صور)    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليالي إيزيس كوبيا: مروية حزينة لعالم مي زيادة
نشر في صوت البلد يوم 18 - 12 - 2017

في روايته الأخيرة «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة» ينتهج واسيني الأعرج حيلة روائية تتوسل بناء تركيبيا جماليا يحقق انشغالا بالتحفيز الواقعي، ويدفع في اتجاه تجذير واقعية النص باعتباره حقيقة يتم استثمارها في العملية السردية؛ ففي الفصل الأول الذي يعد عنصرا تمهيديا مؤطرا للنص يتصدر الرواية حديث عن الجهد الكبير الذي يبذله الراوي الأول بمساعدة الباحثة روز خليل للاستدلال على مكان المخطوطة الضائعة «ليالي العصفورية»، التي سجلت فيها مي زيادة يومياتها فترة حجزها في مستشفى الأمراض العصبية والنفسية في بيروت.
ومن خلال هذه اللعبة الإيهامية يتسنى للروائي تعزيز هدف عزيز عليه ألا وهو «إنتاج تقرير ثقة عن تجارب الأفراد الفعلية». وهي التجارب التي لم يحصرها الروائي في فترة إقامة مي زيادة في العصفورية وحسب، وإنما نجده ومن خلال نسق الاستدعاءات قد تمدد فيها مانحا الأحداث خطية سببية عابرة للزمان والمكان معا، من شأنها تعزيز العلاقة بين مأساة مي وما سبقها من أحداث أودت إليها، ومن ثم تعميق حركة سيكولوجية تحضر معها المذكرات في إطار منطق قصصي ينحو باتجاه الغوص في كوامن هذه الشخصية على مستوى الأهواء والرغبات والأحاسيس، ومعها نستمع لمي تحكي مغامرات باطنية قد يكون بعضها صادما للقراء، استقى الروائي بعضا منها من إبداعات مي نفسها، كما في «قصة الحب في المدرسة» التي تسنى للروائي في بعض المحطات أن يتأملها مستثمرا إياها للتعرف على جوانب غير معروفة عن مي.
نص واسيني
كثيرون انشغلوا بمأساة مي، بل منحوها شيئا من أعمارهم لينصفوها قليلا، منهم، سلمى الكزبري، فاروق سعد، جميل جبر وغيرهم ممن ترك – على الرغم من الجهد الذي بذله- شعورا بأن حقيقة ما حصل لمي زيادة بقي سرا أوشك على التلاشي مع انقضاء اللحظة التاريخية التي عاشت فيها. من هنا يأتي نص واسيني الأعرج حول مي في إطار مرويات تاريخانية جديدة حسب غرينبلات، سعت إلى قراءة كل ما أنتج عن مي من وثائق وقصاصات صحافية، ومن ثم تجاوزت ما فعله السابقون حين عمدت إلى نقل هذا كله من مجال خطابي إلى آخر مشحون بطاقة جمالية، إلا أن هذا لم يحل دون الإبقاء على النص في حالة تأرجح ديناميكي بين الخطابين التاريخي والجمالي.
يلفتنا في الرواية ما يمكن لنا إدخاله، بتعبير غرينبلات أيضا، في إطار دراسة أدبية تخدم الفهم الثقافي لفترة زمنية غابرة، وهو ما يمكن الخروج به حين ندرك تلك الترابطات بين فحوى النص الأدبي والثقافة التي يتخلق هذا النص من داخلها. فها هم أكبر رواد النهضة الثقافية العربية من كوكبة عشاق مي زيادة الذين واظبوا على حضور صالونها الأدبي سنوات طوال، تظهرهم الرواية وهم «ينقلبون ضدها، وكأن الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار وجوديا لها. كل ما كان يبدو صداقة في الخارج كان يخفي عقدا ذكورية لم تمحها للأسف لا الحداثة، ولا الفكر التقليدي..». وتكون الرواية في هذا السياق قد أعادت رسم الحدود، ومن ثم تحفيز القارئ واستثارته كي يتأمل من جديد بكثير من الشكوك مضمون الدراسات حول رجالات عصر النهضة المنصرم.
ما تقدم من حديث حول غائية الرواية على النحو الذي أسلفنا، يأتي منسجما والعنوان «ليالي إيزيس كوبيا: ألف ليلة وليلة» المقترن بليالي ألف ليلة وليلة من حيث احتكار شهرزاد الكلام المباح، كما فعلت الرواية حين تركت الفسحة واسعة لمي، كي تنقل مأساتها في لحظات ضعف بدت فيها عاجزة عن مواجهة الحياة، وهو العجز الذي أصابها بعد سلسلة من الصدمات النفسية الحادة التي أوصلتها إليها وفاة أبيها وأمها وملاذها الروحي جبران. ومع هذا البوح يتسنى للرواية في جانب منها أن تكون أنموذجا اجتماعيا ثقافيا، يدفع باتجاه تعرية الثقافة الذكورية، حين تطرح تفاصيل اللعبة التي استغل فيها جوزيف زيادة محنتها النفسية للإيقاع بها وإيصالها للعصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، وهو ما يفتح المجال كما قلنا سابقا أمام القارئ كي يعيد تقييم علاقتها بنخبة ذكورية، ما أسرع أن أنكرت آدميتها، وحولتها فترة محنتها إلى مجرد أنثى مستباحة لا حصانة لها، بما يجعل مي رمزا لإحباط يصيب المرأة أمام ذكورية متخلفة، حتى ولو كانت ذات مستوى ثقافي مرتفع، « كنت أظن أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا ذي أواجه الكابوس نفسه. لا فرق بيني وبين أي امراة عادية»، بل إن المساءلة في الرواية تمتد لتشمل المؤسسة الطبية التي احتجزت فيها مي، والتي لم تعد كونها سجنا في يد سلطات الضبط الاجتماعي، لذلك ظهر المستشفى من خلال أكثر من مشهد مؤسسة عقابية مزرية.
مكامن العمل الأدبي
في إمكان قارئ هذه الرواية تلمس واحدة من أهم مكامن العمل الأدبي الجميل، وهي الدخول في صميم المكون النفسي لمي زيادة، وهو ما عبرت عنه لغة مكثفة نقلت حكاية تراجيدية تخللها الكثير من التعرجات والكدمات، لتكون الرواية مرآة للنفس ودواخلها الوجدانية قبل أي شيء آخر. في هذا السياق نذكر حالة الاختلال الشعوري التي أصابت مي وهي تتأمل ذاتها حين انكمشت وأصبح وزنها أقل من ثلاثين كيلوغراما، لتبدو آنئذ كما القشرة تقاوم الموت ظلما، بما يفرض يقينا في داخلها أنها لم تعد الإنسانة السابقة نفسها، بكل ألقها الذي جذب العشرات نحوها، وهو ما كان يحضر في الرواية منسجما والبيئة الباردة والمظلمة التي وضعت فيها مي ظلما. علما أن الروائي من خلال شذرات متناثرة هنا وهناك يطلعنا على حالة فصامية اكتئابية تنبئ عن أزمة العقل الفردي التي أصابت مي في مواجهتها للآخر، وهو ما بدا جليا عبر مشاهد أبدت فيها مي شكوكا حول بشر يحاولون قتلها بالسم، لنجد الحالة وقد تفاقمت مع نهايات حزينة رافقتها حالة الاكتئاب السوداوي التي أدخلت مي في اضطرابات داخلية وميول عدمية، تشبه ذلك التشويش النفسي الذي أصاب أوفيليا في مسرحية شكسبير، حين فقدت أباها وحب هاملت معا، وهو ما كانت له تجلياته الواضحة حين فقدت مي رغبتها في المحافظة على الحياة، أو حتى الظهور بمظهر حسن أمام الناس، بما يعني أن الروائي وإن كان ينفي ما نسب إلى مي من جنون، إلا أنه لم ينف حالة عصابية عاشتها في الفترة التي سبقت موتها، ما يستدعي سؤالا حول مذكرات تنسب إليها بدت منتظمة في شكلها الإبداعي، رغم الحالة العصابية التي كانت فيها والتي تفترض حالة من تفكك الكلام وافتقاره إلى تماسك يعكس فوضى داخلية في نفسها المريضة. أمر حاولت البحث عنه لأجد الجواب شافيا في كتاب «الأدب والجنون»، الذي يعطينا أمثلة حول أدباء كانوا قادرين حتى وهم يمرون في فترة اضطراب عقلي حادة على التحكم في المادة الأدبية التي يبدعونها.
عموما نستطيع القول إن واسيني الأعرج تمكن من تنفيذ مقطوعة خاصة حول مي زيادة، بلحن مأساوي حزين، حركته عاطفة مرهقة عنيفة، وجرعة كبيرة من التوقعات اليائسة، والأمل المخدوع، كاشفا بموازاة ذلك مخاطر ذاتية رومانسية تغلغلت في قلب امرأة لامعة وكانت سببا في تعاستها، في وقت تركتنا فيه نتساءل: من منا لم يقترب في حياته من موقف مماثل خذله فيه قلبه ولو بمقدار؟ ولعل أبلغ ما في هذه الرواية أنها من ناحية اقتربت من أن تكون مرآة لعصر كان أكثر جنونا من أولئك الذين احتوتهم جدران العصفورية، ومن ناحية أخرى فإنها تذكرنا أن مأساة مي الحقيقية كانت في الطعن في عقلها وكرامتها يوم كانت مريضة من شدة حزن كان أقوى من أن تتغلب عليه، لتتفاقم الحالة أكثر حين وجدت نفسها أمام مضايقات ورثة أبيها وأمها حزينة وحيدة ضعيفة. وهي من ابيض شعر رأسها دفعة واحدة إثر حملة صحافية وأدبية شنت عليها. ولعلها كما تقول سلمى الكزبري وكما تحكي الرواية في نهاياتها وجدت في الموت الراحة التي تنشدها حين أزاح عن كاهلها عبء «عالم مجروح، مقيّح، مؤلم، بارد كالموت».
في روايته الأخيرة «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة» ينتهج واسيني الأعرج حيلة روائية تتوسل بناء تركيبيا جماليا يحقق انشغالا بالتحفيز الواقعي، ويدفع في اتجاه تجذير واقعية النص باعتباره حقيقة يتم استثمارها في العملية السردية؛ ففي الفصل الأول الذي يعد عنصرا تمهيديا مؤطرا للنص يتصدر الرواية حديث عن الجهد الكبير الذي يبذله الراوي الأول بمساعدة الباحثة روز خليل للاستدلال على مكان المخطوطة الضائعة «ليالي العصفورية»، التي سجلت فيها مي زيادة يومياتها فترة حجزها في مستشفى الأمراض العصبية والنفسية في بيروت.
ومن خلال هذه اللعبة الإيهامية يتسنى للروائي تعزيز هدف عزيز عليه ألا وهو «إنتاج تقرير ثقة عن تجارب الأفراد الفعلية». وهي التجارب التي لم يحصرها الروائي في فترة إقامة مي زيادة في العصفورية وحسب، وإنما نجده ومن خلال نسق الاستدعاءات قد تمدد فيها مانحا الأحداث خطية سببية عابرة للزمان والمكان معا، من شأنها تعزيز العلاقة بين مأساة مي وما سبقها من أحداث أودت إليها، ومن ثم تعميق حركة سيكولوجية تحضر معها المذكرات في إطار منطق قصصي ينحو باتجاه الغوص في كوامن هذه الشخصية على مستوى الأهواء والرغبات والأحاسيس، ومعها نستمع لمي تحكي مغامرات باطنية قد يكون بعضها صادما للقراء، استقى الروائي بعضا منها من إبداعات مي نفسها، كما في «قصة الحب في المدرسة» التي تسنى للروائي في بعض المحطات أن يتأملها مستثمرا إياها للتعرف على جوانب غير معروفة عن مي.
نص واسيني
كثيرون انشغلوا بمأساة مي، بل منحوها شيئا من أعمارهم لينصفوها قليلا، منهم، سلمى الكزبري، فاروق سعد، جميل جبر وغيرهم ممن ترك – على الرغم من الجهد الذي بذله- شعورا بأن حقيقة ما حصل لمي زيادة بقي سرا أوشك على التلاشي مع انقضاء اللحظة التاريخية التي عاشت فيها. من هنا يأتي نص واسيني الأعرج حول مي في إطار مرويات تاريخانية جديدة حسب غرينبلات، سعت إلى قراءة كل ما أنتج عن مي من وثائق وقصاصات صحافية، ومن ثم تجاوزت ما فعله السابقون حين عمدت إلى نقل هذا كله من مجال خطابي إلى آخر مشحون بطاقة جمالية، إلا أن هذا لم يحل دون الإبقاء على النص في حالة تأرجح ديناميكي بين الخطابين التاريخي والجمالي.
يلفتنا في الرواية ما يمكن لنا إدخاله، بتعبير غرينبلات أيضا، في إطار دراسة أدبية تخدم الفهم الثقافي لفترة زمنية غابرة، وهو ما يمكن الخروج به حين ندرك تلك الترابطات بين فحوى النص الأدبي والثقافة التي يتخلق هذا النص من داخلها. فها هم أكبر رواد النهضة الثقافية العربية من كوكبة عشاق مي زيادة الذين واظبوا على حضور صالونها الأدبي سنوات طوال، تظهرهم الرواية وهم «ينقلبون ضدها، وكأن الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار وجوديا لها. كل ما كان يبدو صداقة في الخارج كان يخفي عقدا ذكورية لم تمحها للأسف لا الحداثة، ولا الفكر التقليدي..». وتكون الرواية في هذا السياق قد أعادت رسم الحدود، ومن ثم تحفيز القارئ واستثارته كي يتأمل من جديد بكثير من الشكوك مضمون الدراسات حول رجالات عصر النهضة المنصرم.
ما تقدم من حديث حول غائية الرواية على النحو الذي أسلفنا، يأتي منسجما والعنوان «ليالي إيزيس كوبيا: ألف ليلة وليلة» المقترن بليالي ألف ليلة وليلة من حيث احتكار شهرزاد الكلام المباح، كما فعلت الرواية حين تركت الفسحة واسعة لمي، كي تنقل مأساتها في لحظات ضعف بدت فيها عاجزة عن مواجهة الحياة، وهو العجز الذي أصابها بعد سلسلة من الصدمات النفسية الحادة التي أوصلتها إليها وفاة أبيها وأمها وملاذها الروحي جبران. ومع هذا البوح يتسنى للرواية في جانب منها أن تكون أنموذجا اجتماعيا ثقافيا، يدفع باتجاه تعرية الثقافة الذكورية، حين تطرح تفاصيل اللعبة التي استغل فيها جوزيف زيادة محنتها النفسية للإيقاع بها وإيصالها للعصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، وهو ما يفتح المجال كما قلنا سابقا أمام القارئ كي يعيد تقييم علاقتها بنخبة ذكورية، ما أسرع أن أنكرت آدميتها، وحولتها فترة محنتها إلى مجرد أنثى مستباحة لا حصانة لها، بما يجعل مي رمزا لإحباط يصيب المرأة أمام ذكورية متخلفة، حتى ولو كانت ذات مستوى ثقافي مرتفع، « كنت أظن أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا ذي أواجه الكابوس نفسه. لا فرق بيني وبين أي امراة عادية»، بل إن المساءلة في الرواية تمتد لتشمل المؤسسة الطبية التي احتجزت فيها مي، والتي لم تعد كونها سجنا في يد سلطات الضبط الاجتماعي، لذلك ظهر المستشفى من خلال أكثر من مشهد مؤسسة عقابية مزرية.
مكامن العمل الأدبي
في إمكان قارئ هذه الرواية تلمس واحدة من أهم مكامن العمل الأدبي الجميل، وهي الدخول في صميم المكون النفسي لمي زيادة، وهو ما عبرت عنه لغة مكثفة نقلت حكاية تراجيدية تخللها الكثير من التعرجات والكدمات، لتكون الرواية مرآة للنفس ودواخلها الوجدانية قبل أي شيء آخر. في هذا السياق نذكر حالة الاختلال الشعوري التي أصابت مي وهي تتأمل ذاتها حين انكمشت وأصبح وزنها أقل من ثلاثين كيلوغراما، لتبدو آنئذ كما القشرة تقاوم الموت ظلما، بما يفرض يقينا في داخلها أنها لم تعد الإنسانة السابقة نفسها، بكل ألقها الذي جذب العشرات نحوها، وهو ما كان يحضر في الرواية منسجما والبيئة الباردة والمظلمة التي وضعت فيها مي ظلما. علما أن الروائي من خلال شذرات متناثرة هنا وهناك يطلعنا على حالة فصامية اكتئابية تنبئ عن أزمة العقل الفردي التي أصابت مي في مواجهتها للآخر، وهو ما بدا جليا عبر مشاهد أبدت فيها مي شكوكا حول بشر يحاولون قتلها بالسم، لنجد الحالة وقد تفاقمت مع نهايات حزينة رافقتها حالة الاكتئاب السوداوي التي أدخلت مي في اضطرابات داخلية وميول عدمية، تشبه ذلك التشويش النفسي الذي أصاب أوفيليا في مسرحية شكسبير، حين فقدت أباها وحب هاملت معا، وهو ما كانت له تجلياته الواضحة حين فقدت مي رغبتها في المحافظة على الحياة، أو حتى الظهور بمظهر حسن أمام الناس، بما يعني أن الروائي وإن كان ينفي ما نسب إلى مي من جنون، إلا أنه لم ينف حالة عصابية عاشتها في الفترة التي سبقت موتها، ما يستدعي سؤالا حول مذكرات تنسب إليها بدت منتظمة في شكلها الإبداعي، رغم الحالة العصابية التي كانت فيها والتي تفترض حالة من تفكك الكلام وافتقاره إلى تماسك يعكس فوضى داخلية في نفسها المريضة. أمر حاولت البحث عنه لأجد الجواب شافيا في كتاب «الأدب والجنون»، الذي يعطينا أمثلة حول أدباء كانوا قادرين حتى وهم يمرون في فترة اضطراب عقلي حادة على التحكم في المادة الأدبية التي يبدعونها.
عموما نستطيع القول إن واسيني الأعرج تمكن من تنفيذ مقطوعة خاصة حول مي زيادة، بلحن مأساوي حزين، حركته عاطفة مرهقة عنيفة، وجرعة كبيرة من التوقعات اليائسة، والأمل المخدوع، كاشفا بموازاة ذلك مخاطر ذاتية رومانسية تغلغلت في قلب امرأة لامعة وكانت سببا في تعاستها، في وقت تركتنا فيه نتساءل: من منا لم يقترب في حياته من موقف مماثل خذله فيه قلبه ولو بمقدار؟ ولعل أبلغ ما في هذه الرواية أنها من ناحية اقتربت من أن تكون مرآة لعصر كان أكثر جنونا من أولئك الذين احتوتهم جدران العصفورية، ومن ناحية أخرى فإنها تذكرنا أن مأساة مي الحقيقية كانت في الطعن في عقلها وكرامتها يوم كانت مريضة من شدة حزن كان أقوى من أن تتغلب عليه، لتتفاقم الحالة أكثر حين وجدت نفسها أمام مضايقات ورثة أبيها وأمها حزينة وحيدة ضعيفة. وهي من ابيض شعر رأسها دفعة واحدة إثر حملة صحافية وأدبية شنت عليها. ولعلها كما تقول سلمى الكزبري وكما تحكي الرواية في نهاياتها وجدت في الموت الراحة التي تنشدها حين أزاح عن كاهلها عبء «عالم مجروح، مقيّح، مؤلم، بارد كالموت».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.