نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    انطلاق أعمال لجنة اختيار قيادات الإدارات التعليمية بالقليوبية    الشربيني يكشف الانتهاء من 737 ألف وحدة إسكان اجتماعي    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    تكثيف حملات النظافة حول الكنائس بالشرقية    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نائب محافظ الدقهلية يتفقد مشروعات الخطة الاستثمارية بمركز ومدينة شربين    "القاهرة الإخبارية": خلافات عميقة تسبق زيلينسكي إلى واشنطن    وزيرا خارجية تايلاند وكمبوديا يصلان إلى الصين لإجراء محادثات    وزارة الداخلية تضبط سيدة وجهت الناخبين بمحيط لجان قفط    وداع هادئ للمخرج داوود عبد السيد.. علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية    رحيل «دقدق» مؤدي المهرجانات الشعبية.. صاحب الأغنية الشهيرة «إخواتي»    تأجيل تصوير مسلسل «قتل اختياري» بعد موسم رمضان 2026    أكرم القصاص للأحزاب الجديدة: البناء يبدأ من القاعدة ووسائل التواصل نافذة التغيير    من مستشفيات ألمانيا إلى الوفاة، تفاصيل رحلة علاج مطرب المهرجانات "دقدق"    أمم إفريقيا – محمود عاشور حكما للفيديو لمباراة مالي وجزر القمر    صعود مؤشرات البورصة بختام تعاملات جلسة بداية الأسبوع    بعد فيديو هروب مرضى مصحة المريوطية.. تحرك عاجل من وزارة الصحة    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    البورصة المصرية تربح 17.5 مليار جنيه بختام تعاملات الأحد 28 ديسمبر 2025    محافظ البحيرة: المرأة البحراوية تتصدر مشهد الانتخابات منذ الصباح الباكر    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره المغربي    بابا لعمرو دياب تضرب رقما قياسيا وتتخطى ال 200 مليون مشاهدة    عاجل- هزة أرضية عنيفة تهز تايوان وتؤدي لانقطاع الكهرباء دون خسائر بشرية    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    مباشر أمم إفريقيا - الجابون (0)-(0) موزمبيق.. صاروخ مبكر    الزمالك يصل ملعب مباراته أمام بلدية المحلة    وليد الركراكي: أشرف حكيمي مثل محمد صلاح لا أحد يمكنه الاستغناء عنهما    انطلاقا من إثيوبيا.. الدعم السريع تستعد لشن هجوم على السودان    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد اللجان الامتحانية بالمعهد الفني للتمريض    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حينما نزل الغيث ؟!    وزارة الصحة: غلق مصحة غير مرخصة بالمريوطية وإحالة القائمين عليها للنيابة    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    وصول جثمان المخرج داوود عبدالسيد إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    الداخلية تقضي على بؤر إجرامية بالمنوفية وتضبط مخدرات بقيمة 54 مليون جنيه    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    «ليمتلس ناتشورالز» تعزز ريادتها في مجال صحة العظام ببروتوكول تعاون مع «الجمعية المصرية لمناظير المفاصل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    أحمد سامي: تعرضت لضغوطات كبيرة في الاتحاد بسبب الظروف الصعبة    أمم أفريقيا 2025.. تشكيل بوركينا فاسو المتوقع أمام الجزائر    وزير الصناعة يزور مقر سلطة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي ويشهد توقيع عدد من الاتفاقيات    لافروف: روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال    العراق يتسلم 6 مروحيات "كاراكال" فرنسية لتعزيز الدفاع الجوي    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    2026 .. عام الأسئلة الكبرى والأمنيات المشروعة    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    إصابة شخصان إثر تصادم ميكروباص مع توك توك بقنا    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    يوفنتوس يعبر اختبار بيزا الصعب بثنائية ويشعل صراع القمة في الكالتشيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليالي إيزيس كوبيا: مروية حزينة لعالم مي زيادة
نشر في صوت البلد يوم 18 - 12 - 2017

في روايته الأخيرة «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة» ينتهج واسيني الأعرج حيلة روائية تتوسل بناء تركيبيا جماليا يحقق انشغالا بالتحفيز الواقعي، ويدفع في اتجاه تجذير واقعية النص باعتباره حقيقة يتم استثمارها في العملية السردية؛ ففي الفصل الأول الذي يعد عنصرا تمهيديا مؤطرا للنص يتصدر الرواية حديث عن الجهد الكبير الذي يبذله الراوي الأول بمساعدة الباحثة روز خليل للاستدلال على مكان المخطوطة الضائعة «ليالي العصفورية»، التي سجلت فيها مي زيادة يومياتها فترة حجزها في مستشفى الأمراض العصبية والنفسية في بيروت.
ومن خلال هذه اللعبة الإيهامية يتسنى للروائي تعزيز هدف عزيز عليه ألا وهو «إنتاج تقرير ثقة عن تجارب الأفراد الفعلية». وهي التجارب التي لم يحصرها الروائي في فترة إقامة مي زيادة في العصفورية وحسب، وإنما نجده ومن خلال نسق الاستدعاءات قد تمدد فيها مانحا الأحداث خطية سببية عابرة للزمان والمكان معا، من شأنها تعزيز العلاقة بين مأساة مي وما سبقها من أحداث أودت إليها، ومن ثم تعميق حركة سيكولوجية تحضر معها المذكرات في إطار منطق قصصي ينحو باتجاه الغوص في كوامن هذه الشخصية على مستوى الأهواء والرغبات والأحاسيس، ومعها نستمع لمي تحكي مغامرات باطنية قد يكون بعضها صادما للقراء، استقى الروائي بعضا منها من إبداعات مي نفسها، كما في «قصة الحب في المدرسة» التي تسنى للروائي في بعض المحطات أن يتأملها مستثمرا إياها للتعرف على جوانب غير معروفة عن مي.
نص واسيني
كثيرون انشغلوا بمأساة مي، بل منحوها شيئا من أعمارهم لينصفوها قليلا، منهم، سلمى الكزبري، فاروق سعد، جميل جبر وغيرهم ممن ترك – على الرغم من الجهد الذي بذله- شعورا بأن حقيقة ما حصل لمي زيادة بقي سرا أوشك على التلاشي مع انقضاء اللحظة التاريخية التي عاشت فيها. من هنا يأتي نص واسيني الأعرج حول مي في إطار مرويات تاريخانية جديدة حسب غرينبلات، سعت إلى قراءة كل ما أنتج عن مي من وثائق وقصاصات صحافية، ومن ثم تجاوزت ما فعله السابقون حين عمدت إلى نقل هذا كله من مجال خطابي إلى آخر مشحون بطاقة جمالية، إلا أن هذا لم يحل دون الإبقاء على النص في حالة تأرجح ديناميكي بين الخطابين التاريخي والجمالي.
يلفتنا في الرواية ما يمكن لنا إدخاله، بتعبير غرينبلات أيضا، في إطار دراسة أدبية تخدم الفهم الثقافي لفترة زمنية غابرة، وهو ما يمكن الخروج به حين ندرك تلك الترابطات بين فحوى النص الأدبي والثقافة التي يتخلق هذا النص من داخلها. فها هم أكبر رواد النهضة الثقافية العربية من كوكبة عشاق مي زيادة الذين واظبوا على حضور صالونها الأدبي سنوات طوال، تظهرهم الرواية وهم «ينقلبون ضدها، وكأن الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار وجوديا لها. كل ما كان يبدو صداقة في الخارج كان يخفي عقدا ذكورية لم تمحها للأسف لا الحداثة، ولا الفكر التقليدي..». وتكون الرواية في هذا السياق قد أعادت رسم الحدود، ومن ثم تحفيز القارئ واستثارته كي يتأمل من جديد بكثير من الشكوك مضمون الدراسات حول رجالات عصر النهضة المنصرم.
ما تقدم من حديث حول غائية الرواية على النحو الذي أسلفنا، يأتي منسجما والعنوان «ليالي إيزيس كوبيا: ألف ليلة وليلة» المقترن بليالي ألف ليلة وليلة من حيث احتكار شهرزاد الكلام المباح، كما فعلت الرواية حين تركت الفسحة واسعة لمي، كي تنقل مأساتها في لحظات ضعف بدت فيها عاجزة عن مواجهة الحياة، وهو العجز الذي أصابها بعد سلسلة من الصدمات النفسية الحادة التي أوصلتها إليها وفاة أبيها وأمها وملاذها الروحي جبران. ومع هذا البوح يتسنى للرواية في جانب منها أن تكون أنموذجا اجتماعيا ثقافيا، يدفع باتجاه تعرية الثقافة الذكورية، حين تطرح تفاصيل اللعبة التي استغل فيها جوزيف زيادة محنتها النفسية للإيقاع بها وإيصالها للعصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، وهو ما يفتح المجال كما قلنا سابقا أمام القارئ كي يعيد تقييم علاقتها بنخبة ذكورية، ما أسرع أن أنكرت آدميتها، وحولتها فترة محنتها إلى مجرد أنثى مستباحة لا حصانة لها، بما يجعل مي رمزا لإحباط يصيب المرأة أمام ذكورية متخلفة، حتى ولو كانت ذات مستوى ثقافي مرتفع، « كنت أظن أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا ذي أواجه الكابوس نفسه. لا فرق بيني وبين أي امراة عادية»، بل إن المساءلة في الرواية تمتد لتشمل المؤسسة الطبية التي احتجزت فيها مي، والتي لم تعد كونها سجنا في يد سلطات الضبط الاجتماعي، لذلك ظهر المستشفى من خلال أكثر من مشهد مؤسسة عقابية مزرية.
مكامن العمل الأدبي
في إمكان قارئ هذه الرواية تلمس واحدة من أهم مكامن العمل الأدبي الجميل، وهي الدخول في صميم المكون النفسي لمي زيادة، وهو ما عبرت عنه لغة مكثفة نقلت حكاية تراجيدية تخللها الكثير من التعرجات والكدمات، لتكون الرواية مرآة للنفس ودواخلها الوجدانية قبل أي شيء آخر. في هذا السياق نذكر حالة الاختلال الشعوري التي أصابت مي وهي تتأمل ذاتها حين انكمشت وأصبح وزنها أقل من ثلاثين كيلوغراما، لتبدو آنئذ كما القشرة تقاوم الموت ظلما، بما يفرض يقينا في داخلها أنها لم تعد الإنسانة السابقة نفسها، بكل ألقها الذي جذب العشرات نحوها، وهو ما كان يحضر في الرواية منسجما والبيئة الباردة والمظلمة التي وضعت فيها مي ظلما. علما أن الروائي من خلال شذرات متناثرة هنا وهناك يطلعنا على حالة فصامية اكتئابية تنبئ عن أزمة العقل الفردي التي أصابت مي في مواجهتها للآخر، وهو ما بدا جليا عبر مشاهد أبدت فيها مي شكوكا حول بشر يحاولون قتلها بالسم، لنجد الحالة وقد تفاقمت مع نهايات حزينة رافقتها حالة الاكتئاب السوداوي التي أدخلت مي في اضطرابات داخلية وميول عدمية، تشبه ذلك التشويش النفسي الذي أصاب أوفيليا في مسرحية شكسبير، حين فقدت أباها وحب هاملت معا، وهو ما كانت له تجلياته الواضحة حين فقدت مي رغبتها في المحافظة على الحياة، أو حتى الظهور بمظهر حسن أمام الناس، بما يعني أن الروائي وإن كان ينفي ما نسب إلى مي من جنون، إلا أنه لم ينف حالة عصابية عاشتها في الفترة التي سبقت موتها، ما يستدعي سؤالا حول مذكرات تنسب إليها بدت منتظمة في شكلها الإبداعي، رغم الحالة العصابية التي كانت فيها والتي تفترض حالة من تفكك الكلام وافتقاره إلى تماسك يعكس فوضى داخلية في نفسها المريضة. أمر حاولت البحث عنه لأجد الجواب شافيا في كتاب «الأدب والجنون»، الذي يعطينا أمثلة حول أدباء كانوا قادرين حتى وهم يمرون في فترة اضطراب عقلي حادة على التحكم في المادة الأدبية التي يبدعونها.
عموما نستطيع القول إن واسيني الأعرج تمكن من تنفيذ مقطوعة خاصة حول مي زيادة، بلحن مأساوي حزين، حركته عاطفة مرهقة عنيفة، وجرعة كبيرة من التوقعات اليائسة، والأمل المخدوع، كاشفا بموازاة ذلك مخاطر ذاتية رومانسية تغلغلت في قلب امرأة لامعة وكانت سببا في تعاستها، في وقت تركتنا فيه نتساءل: من منا لم يقترب في حياته من موقف مماثل خذله فيه قلبه ولو بمقدار؟ ولعل أبلغ ما في هذه الرواية أنها من ناحية اقتربت من أن تكون مرآة لعصر كان أكثر جنونا من أولئك الذين احتوتهم جدران العصفورية، ومن ناحية أخرى فإنها تذكرنا أن مأساة مي الحقيقية كانت في الطعن في عقلها وكرامتها يوم كانت مريضة من شدة حزن كان أقوى من أن تتغلب عليه، لتتفاقم الحالة أكثر حين وجدت نفسها أمام مضايقات ورثة أبيها وأمها حزينة وحيدة ضعيفة. وهي من ابيض شعر رأسها دفعة واحدة إثر حملة صحافية وأدبية شنت عليها. ولعلها كما تقول سلمى الكزبري وكما تحكي الرواية في نهاياتها وجدت في الموت الراحة التي تنشدها حين أزاح عن كاهلها عبء «عالم مجروح، مقيّح، مؤلم، بارد كالموت».
في روايته الأخيرة «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة» ينتهج واسيني الأعرج حيلة روائية تتوسل بناء تركيبيا جماليا يحقق انشغالا بالتحفيز الواقعي، ويدفع في اتجاه تجذير واقعية النص باعتباره حقيقة يتم استثمارها في العملية السردية؛ ففي الفصل الأول الذي يعد عنصرا تمهيديا مؤطرا للنص يتصدر الرواية حديث عن الجهد الكبير الذي يبذله الراوي الأول بمساعدة الباحثة روز خليل للاستدلال على مكان المخطوطة الضائعة «ليالي العصفورية»، التي سجلت فيها مي زيادة يومياتها فترة حجزها في مستشفى الأمراض العصبية والنفسية في بيروت.
ومن خلال هذه اللعبة الإيهامية يتسنى للروائي تعزيز هدف عزيز عليه ألا وهو «إنتاج تقرير ثقة عن تجارب الأفراد الفعلية». وهي التجارب التي لم يحصرها الروائي في فترة إقامة مي زيادة في العصفورية وحسب، وإنما نجده ومن خلال نسق الاستدعاءات قد تمدد فيها مانحا الأحداث خطية سببية عابرة للزمان والمكان معا، من شأنها تعزيز العلاقة بين مأساة مي وما سبقها من أحداث أودت إليها، ومن ثم تعميق حركة سيكولوجية تحضر معها المذكرات في إطار منطق قصصي ينحو باتجاه الغوص في كوامن هذه الشخصية على مستوى الأهواء والرغبات والأحاسيس، ومعها نستمع لمي تحكي مغامرات باطنية قد يكون بعضها صادما للقراء، استقى الروائي بعضا منها من إبداعات مي نفسها، كما في «قصة الحب في المدرسة» التي تسنى للروائي في بعض المحطات أن يتأملها مستثمرا إياها للتعرف على جوانب غير معروفة عن مي.
نص واسيني
كثيرون انشغلوا بمأساة مي، بل منحوها شيئا من أعمارهم لينصفوها قليلا، منهم، سلمى الكزبري، فاروق سعد، جميل جبر وغيرهم ممن ترك – على الرغم من الجهد الذي بذله- شعورا بأن حقيقة ما حصل لمي زيادة بقي سرا أوشك على التلاشي مع انقضاء اللحظة التاريخية التي عاشت فيها. من هنا يأتي نص واسيني الأعرج حول مي في إطار مرويات تاريخانية جديدة حسب غرينبلات، سعت إلى قراءة كل ما أنتج عن مي من وثائق وقصاصات صحافية، ومن ثم تجاوزت ما فعله السابقون حين عمدت إلى نقل هذا كله من مجال خطابي إلى آخر مشحون بطاقة جمالية، إلا أن هذا لم يحل دون الإبقاء على النص في حالة تأرجح ديناميكي بين الخطابين التاريخي والجمالي.
يلفتنا في الرواية ما يمكن لنا إدخاله، بتعبير غرينبلات أيضا، في إطار دراسة أدبية تخدم الفهم الثقافي لفترة زمنية غابرة، وهو ما يمكن الخروج به حين ندرك تلك الترابطات بين فحوى النص الأدبي والثقافة التي يتخلق هذا النص من داخلها. فها هم أكبر رواد النهضة الثقافية العربية من كوكبة عشاق مي زيادة الذين واظبوا على حضور صالونها الأدبي سنوات طوال، تظهرهم الرواية وهم «ينقلبون ضدها، وكأن الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار وجوديا لها. كل ما كان يبدو صداقة في الخارج كان يخفي عقدا ذكورية لم تمحها للأسف لا الحداثة، ولا الفكر التقليدي..». وتكون الرواية في هذا السياق قد أعادت رسم الحدود، ومن ثم تحفيز القارئ واستثارته كي يتأمل من جديد بكثير من الشكوك مضمون الدراسات حول رجالات عصر النهضة المنصرم.
ما تقدم من حديث حول غائية الرواية على النحو الذي أسلفنا، يأتي منسجما والعنوان «ليالي إيزيس كوبيا: ألف ليلة وليلة» المقترن بليالي ألف ليلة وليلة من حيث احتكار شهرزاد الكلام المباح، كما فعلت الرواية حين تركت الفسحة واسعة لمي، كي تنقل مأساتها في لحظات ضعف بدت فيها عاجزة عن مواجهة الحياة، وهو العجز الذي أصابها بعد سلسلة من الصدمات النفسية الحادة التي أوصلتها إليها وفاة أبيها وأمها وملاذها الروحي جبران. ومع هذا البوح يتسنى للرواية في جانب منها أن تكون أنموذجا اجتماعيا ثقافيا، يدفع باتجاه تعرية الثقافة الذكورية، حين تطرح تفاصيل اللعبة التي استغل فيها جوزيف زيادة محنتها النفسية للإيقاع بها وإيصالها للعصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، وهو ما يفتح المجال كما قلنا سابقا أمام القارئ كي يعيد تقييم علاقتها بنخبة ذكورية، ما أسرع أن أنكرت آدميتها، وحولتها فترة محنتها إلى مجرد أنثى مستباحة لا حصانة لها، بما يجعل مي رمزا لإحباط يصيب المرأة أمام ذكورية متخلفة، حتى ولو كانت ذات مستوى ثقافي مرتفع، « كنت أظن أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا ذي أواجه الكابوس نفسه. لا فرق بيني وبين أي امراة عادية»، بل إن المساءلة في الرواية تمتد لتشمل المؤسسة الطبية التي احتجزت فيها مي، والتي لم تعد كونها سجنا في يد سلطات الضبط الاجتماعي، لذلك ظهر المستشفى من خلال أكثر من مشهد مؤسسة عقابية مزرية.
مكامن العمل الأدبي
في إمكان قارئ هذه الرواية تلمس واحدة من أهم مكامن العمل الأدبي الجميل، وهي الدخول في صميم المكون النفسي لمي زيادة، وهو ما عبرت عنه لغة مكثفة نقلت حكاية تراجيدية تخللها الكثير من التعرجات والكدمات، لتكون الرواية مرآة للنفس ودواخلها الوجدانية قبل أي شيء آخر. في هذا السياق نذكر حالة الاختلال الشعوري التي أصابت مي وهي تتأمل ذاتها حين انكمشت وأصبح وزنها أقل من ثلاثين كيلوغراما، لتبدو آنئذ كما القشرة تقاوم الموت ظلما، بما يفرض يقينا في داخلها أنها لم تعد الإنسانة السابقة نفسها، بكل ألقها الذي جذب العشرات نحوها، وهو ما كان يحضر في الرواية منسجما والبيئة الباردة والمظلمة التي وضعت فيها مي ظلما. علما أن الروائي من خلال شذرات متناثرة هنا وهناك يطلعنا على حالة فصامية اكتئابية تنبئ عن أزمة العقل الفردي التي أصابت مي في مواجهتها للآخر، وهو ما بدا جليا عبر مشاهد أبدت فيها مي شكوكا حول بشر يحاولون قتلها بالسم، لنجد الحالة وقد تفاقمت مع نهايات حزينة رافقتها حالة الاكتئاب السوداوي التي أدخلت مي في اضطرابات داخلية وميول عدمية، تشبه ذلك التشويش النفسي الذي أصاب أوفيليا في مسرحية شكسبير، حين فقدت أباها وحب هاملت معا، وهو ما كانت له تجلياته الواضحة حين فقدت مي رغبتها في المحافظة على الحياة، أو حتى الظهور بمظهر حسن أمام الناس، بما يعني أن الروائي وإن كان ينفي ما نسب إلى مي من جنون، إلا أنه لم ينف حالة عصابية عاشتها في الفترة التي سبقت موتها، ما يستدعي سؤالا حول مذكرات تنسب إليها بدت منتظمة في شكلها الإبداعي، رغم الحالة العصابية التي كانت فيها والتي تفترض حالة من تفكك الكلام وافتقاره إلى تماسك يعكس فوضى داخلية في نفسها المريضة. أمر حاولت البحث عنه لأجد الجواب شافيا في كتاب «الأدب والجنون»، الذي يعطينا أمثلة حول أدباء كانوا قادرين حتى وهم يمرون في فترة اضطراب عقلي حادة على التحكم في المادة الأدبية التي يبدعونها.
عموما نستطيع القول إن واسيني الأعرج تمكن من تنفيذ مقطوعة خاصة حول مي زيادة، بلحن مأساوي حزين، حركته عاطفة مرهقة عنيفة، وجرعة كبيرة من التوقعات اليائسة، والأمل المخدوع، كاشفا بموازاة ذلك مخاطر ذاتية رومانسية تغلغلت في قلب امرأة لامعة وكانت سببا في تعاستها، في وقت تركتنا فيه نتساءل: من منا لم يقترب في حياته من موقف مماثل خذله فيه قلبه ولو بمقدار؟ ولعل أبلغ ما في هذه الرواية أنها من ناحية اقتربت من أن تكون مرآة لعصر كان أكثر جنونا من أولئك الذين احتوتهم جدران العصفورية، ومن ناحية أخرى فإنها تذكرنا أن مأساة مي الحقيقية كانت في الطعن في عقلها وكرامتها يوم كانت مريضة من شدة حزن كان أقوى من أن تتغلب عليه، لتتفاقم الحالة أكثر حين وجدت نفسها أمام مضايقات ورثة أبيها وأمها حزينة وحيدة ضعيفة. وهي من ابيض شعر رأسها دفعة واحدة إثر حملة صحافية وأدبية شنت عليها. ولعلها كما تقول سلمى الكزبري وكما تحكي الرواية في نهاياتها وجدت في الموت الراحة التي تنشدها حين أزاح عن كاهلها عبء «عالم مجروح، مقيّح، مؤلم، بارد كالموت».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.