مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    سكان الجيزة بعد عودة انقطاع الكهرباء والمياه: الحكومة بتعذبنا والقصة مش قصة كابلات جديدة    هولندا تمنع الوزيرين المتطرفين سموتريتش وبن غفير من دخول البلاد وتستدعي السفير الإسرائيلي    بسبب حسن شحاتة.. اتحاد الكرة يشكر الرئيس السيسي    6 صور لشيما صابر مع زوجها في المصيف    "الحصول على 500 مليون".. مصدر يكشف حقيقة طلب إمام عاشور تعديل عقده في الأهلي    علاء عبد الغني: على نجوم الزمالك دعم جون إدوارد.. ومشكلة فتوح يجب حلها    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    سميرة صدقي تكشف حقيقة زواجها من معمر القذافي (فيديو)    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    الاندبندنت: ترامب يمنح ستارمر "الضوء الأخضر" للاعتراف بدولة فلسطينية    الرئيس الفلسطيني يثمن نداء الرئيس السيسي للرئيس الأمريكي من أجل وقف الحرب في غزة    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    3 شهداء جراء استهداف الاحتلال خيمة نازحين في مواصي خان يونس    وزير الخارجية السعودي: لن نفيم علاقات مع إسرائيل دون إعلان دولة فلسطين    عبور قافلة مساعدات إنسانية إلى السويداء جنوب سوريا    تعرّضت للسرقة المنظمة بمحور "موراج".. معظم المساعدات المصرية لم تصل إلى قطاع غزة    «طنطاوي» مديرًا و «مروة» وكيلاً ل «صحة المنيا»    سوبر ماركت التعليم    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    تنسيق الجامعات 2025.. موقع التنسيق يفتح باب التقديم بالمرحلة الأولى    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    أحمد فتوح يتسبب بأزمة جديدة في الزمالك.. وفيريرا يرفض التعامل معه (تفاصيل)    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    أسعار الفاكهة والموز والمانجو بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 بالصاغة.. وعيار 21 الآن بعد الانخفاض الكبير    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    النجاح له ألف أب!    «قد تُستخدم ضدك في المحكمة».. 7 أشياء لا تُخبر بها الذكاء الاصطناعي بعد تحذير مؤسس «ChatGPT»    6 مصابين في حريق شقة سكنية بالمريوطية بينهم شرطي (تفاصيل)    ضبط 400 علبة سجائر مجهولة المصدر بمركز المنشاة فى سوهاج    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    نوسة وإحسان وجميلة    تعرف على برجك اليوم 2025/7/29.. «الحمل»: تبدو عمليًا وواقعيًا.. و«الثور»: تراجع معنوي وشعور بالملل    أحمد صيام: محبة الناس واحترامهم هي الرزق الحقيقي.. والمال آخر ما يُذكر    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. الرئيس اللبنانى يمنح زياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى رتبة كومندور.. وفاة شقيق المخرج خالد جلال.. منح ذوى القدرات الخاصة المشاركة بمهرجان الإسكندرية مجانا    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    16 ميدالية، حصاد البعثة المصرية في اليوم الثاني من دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الوزراء يتابع مع وزيرة التخطيط استعدادات إطلاق السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللحظات التاريخية الفارقة وتشكلات الحداثة الشعرية
نشر في صوت البلد يوم 13 - 12 - 2017

أطاحت نتائج الحرب العالمية الأولى بخريطة العالم، وأتت بمتغيرات شاملة عصفت بكل أوروبا. كان الوطن العربي آنذاك الساحة الخلفية لهذه الحرب، وكان قبل ذلك يدار من قبل الإدارة التركية، وخلال عام 1916 اتفقت بريطانيا وفرنسا على وراثتها، وضمن معاهدة (سايكس بيكو) تم تقسيم المشرق العربي، الذي بموجبه تم إخضاع الدول التي كانت تحت السيطرة العثمانية، إلى السيطرة البريطانية والفرنسية، ووضعت فلسطين تحت الإشراف الدولي. فأدت نتائج الحرب الكونية الأولى لقيام الحرب الكونية الثانية 1939 1945، التي كانت نتائجها أشد إيلاماً وأعصف تأثيرا من سابقتها. والذي يهمنا هنا هو مدى تأثير الحرب الحرب العالمية الثانية على الوطن العربي؟ وهل هناك نتائج إيجابية أو أنها على الصعيد المستقبلي المنظور الذي يمكن أن يفرزه ذلك الصراع؟
محاولات التحرر والنهضة الفكرية
كان الأثر السلبي واضحاً على المنطقة العربية، في المجال الاقتصادي وغياب الحريات، كذلك محاولة شل الحركات السياسية ومحاربة الأصوات الوطنية الحرة، التي تدعو إلى الاستقلال ونيل السيادة. واستُخلصت منها نتائج إيجابية وظهر ذلك جليا في الدور الذي لعبته الجمعيات والأحزاب والصحافة في دعم المطالب الوطنية، ورافقت ذلك نهضة فكرية وثقافية تدعو الى مراجعة القديم والتحرر من سطوته، ودراسة الجديد والإفادة من المعطيات التي تنسجم ورغبة الفرد العربي بالتخلص من الجمود والببغائية، الى التفكيروالتحليل والتجريب، وإعادة بناء العقل العربي والتخلص من بعض موروثاته مع تفهم المحلية. ومع ظهور تيارات أدبية وفكرية جديدة، أدى ذلك أن تمد هذه التيارات وكذلك قسم من الأيديولوجيات أيديها لتداعب المشاعر الوطنية، والقسم الآخر ليداعب حاجاته الخالصة، ومنها افتقاده لكونيته التي تمثلها ذاته وهي بداية أولية لظهور كتابات من نمط آخر، سواء في الغرب أو الشرق أو في منطقتنا العربية.
ثورة الشعر
كان الشعر القديم مغرما بالكليات ومغرما بالصنعة وهو يعي بمقبوليتها لدى المتلقي وكان العقل الوسيلة للاحتكام للعاطفة، لكن الشعر سرعان ما أخذ يبتعد عن هذه المفاهيم، حين رسخت الفلسفة الرومانسية في عقول الشعراء لينتقل هذا العقل الشعري من مناطق الأفكار إلى المناطق القصية ذات الإيحاءات المتعددة والمكثفة، ليصبح الحلم والوهم، وما هو بينهما مرتكزات أساسية في بناء النص الشعري وينتهي عصر التصوير الفوتوغرافي للواقع، بل بعد أن كان الشاعر تحت سيطرة الطبيعة وتحت سيطرة الأحداث، نراه يعلو عليهما حين انتقل الى الجزئية من خلال تفكيك الكلية، وبناء الوجود المستقل لتفكيك العالم، بل و(تخريبه) ليمكن التعبير عن الحاجات الضرورية والفعالة التي يستطع الإنسان التلذذ بها والشعور تجاهها بالانتماء، تلك الحاجات التي لا تنتهي مادامت هناك لغة متحررة تستطيع بلوغ مدياتها للاستحواذ على الممتع والجميل.
التجربة الشعرية
لقد انصب الاتجاه الجديد في الشعر في واحدة من خصائصه على أهمية التجربة الشعرية الخلاقة، أي إعادة النظر إلى النفس من جديد بحيث لم يعد هناك عالما غريبا مخيفا نخشاه، بل هناك عالم غريب نحب التلذذ به ومعايشته في كل ما يطرحه ذلك العالم من إشكالات، فهو عالم ليس بالعالم المادي ولا يخضع لقوانين معينة ولا يحفل بالوعود والأحكام السريعة، عالم من الدراما ومن المحفزات اللاعقلانية لذلك خلق الإحساس بالهمس بدلا من الإحساس بالصوت الآخر ..»هلموا بنا نجري نحو الأفق/فلنسرع الجري/ربما نلتقط/على الأقل شعاعا مائلا».
الحداثة الأوروبية والعرب
لقد وضع الشعر الحديث كل شئ خارج سياقه بعد أن كانت كل الأشياء ضمن سياقاتها، فقد توسعت حلقة الحداثة الأوروبية لتضم جيلا بعد جيل، وتشترك هذه الأجيال ليمثل كل جيل عصره على المستوى النسبي، ولتمثل هذه الأجيال القفزات الحداثوية في الشعر الأوروبي منذ خروج الثلاثي (رامبو بودلير مالارمية) إلى العالم مبشرين بوضع الخيال بدلا من الواقع والوضوح وتحت تأثير الأسس الفلسفية والميتافيزيقية، علاوة على ما كتب من نصوص مغرقة بنصاعة الحلم وبالوجد العميق للتوتر، وقدموا تلك المفردات المترعة باليأس والإحباط والموت والتي كانت كأوليات لمفردات استلهم منها المحدثون العرب نظامها المشابهة لتصوير ظلامية الروح الإنسانية ورغبتها بالتمرد، فزخر القاموس الجديد لرواد الحداثة (شعر) بالمئات من المفردات الجديدة، التي استخدمت قبل ذلك استخداما يتلاءم مع تصور المحدثين الأوروبيين لحاجتها لبناء شخصيتهم الشعرية الجديدة. يكفي أن نحصي ما في أزهار الشر للذهاب بتعريف بودلير إلى الهاوية، ويكفي أن نحصي من تلك المفردات الجديدة ما في مدينة رامبو: «هكذا أطل من نافذتي وأرى أشباحا جديدة تدور في دخان الفحم الأزلي الكثيف»، ومن تلك المواجع يتحرر الجمال من الدمار والقبح، وليس بأقل حال تلك الاستخدامات المتشعبة مع مالارمية والجيل الذي تلا من الشعراء الأوروبيين، وفق ذلك التنافر في الأداء في شكل القصد وأسلوب التعبير عنه حين هرب المحدثون الأوربيين من اللغة المحددة الأبعاد، وبالتالي من موسيقاها الصارخة ومن جزئيات المعاني لتوليد اللغة المنشطرة، ضمن علاقاتها المشحونة بالمتغيرات اللحنية.
تثوير الوعي العربي
لقد تبلورت عدة عوامل لقبول الجديد الأوروبي على مستوى الفكر أولا، وعلى مستوى الأشكال الأدبية الأخرى ثانيا، وقد ساهمت حركة الترجمة ونشاط الاستشراق وقيام التجمعات العلمية والأدبية والجدل الفلسفي في تنشيط أواصر اللقاء ما بين الغرب والشرق، ولابد من حصيلة منها يلتقي عندها الطرفان، ألا وهي انتهاك القديم بفعل الجديد الحيوي، الذي واكب النظريات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والرحيل من عقدة الخوف واليأس في مواجهة الأزمات النفسية، ولاشك في أن المجتمع العربي كان بحاجة لتثوير وجوده واليقظة من غفوته، إذ أصبح ذلك شكلا من الأشكال العضوية لتطوره ضمن أغلبية ساحقة تسعى لحياة إنسانية كريمة تستطع من خلالها الوصول لغاياتها الروحية، كل ذلك مهد ولو بشكل بطيء لقبول هذا التغيير وقبول متحسساته فقد اتجه النص الجديد الى اكتساب المقدرة الرمزية والإيحائية حين حرر انفعاله من الاطمئنان وجعله خصما له، وحين اختلطت في نفس الشاعر مؤثرات التجارب البشرية فلم يعد الشاعر يحفل بالمكان ولا التعبير عن الزمان، وفق مدلولات أحداثه، بل عبر بهما إلى عزلة آمنة، يستطيع من خلالها تفكيك وجوده ومسخه ثم العودة لذاته وبعثها من جديد، فقد تصدى المحدثون لكل شيء أتاحته لهم مخيلتهم الشعرية وأسسوا لهم طقسية جديدة تحمل الخصوصية في طعمها ومذاقها، تحدث بودلير عن السر، والسياب عن انتظاره للمقبل من الموت، ومالارميه عن السحر، وأدونيس نجم بخياله فأخضعه، وتلذذ رامبو بالسحر والألغاز، وغاب الكل في تأمل عميق للإحساس الأمثل بالإيحاء بدلا من الفهم الذي يستدعي العقلانية في الترتيب. بالمقابل وجد النقاد العرب الذين لازموا فترة الحداثة العربية أنه لابد من الارتباط مع العالم وذلك عن طريق فهم تلك المتغيرات في الشعر الأوروبي، مادامت الحداثة العربية قد أرست قواعدها كبنى شعرية جديده تعبر عن شعر المستقبل، فأسهموا بالنقد والتحليل عبر التأكيد أن الذي يحدث للشعر خاصة، وللمنظومة الفكرية عامة ليس حدثا عابرا، بل يستحق التسمية باعتباره ثورة في الشعر الحديث، وقد خدم النقاد العرب ثورة الحداثة الجديدة كونهم رافقوها مرافقة وليدية وتجانسوا وطروحات مؤسسيها ومناصريها، رغم انقسام الاتجاهات الثقافية بين معسكرين ممثلا بالتراث العربي الإسلامي والاتجاه الغربي ومادياته.
.....
٭ شاعر عراقي
أطاحت نتائج الحرب العالمية الأولى بخريطة العالم، وأتت بمتغيرات شاملة عصفت بكل أوروبا. كان الوطن العربي آنذاك الساحة الخلفية لهذه الحرب، وكان قبل ذلك يدار من قبل الإدارة التركية، وخلال عام 1916 اتفقت بريطانيا وفرنسا على وراثتها، وضمن معاهدة (سايكس بيكو) تم تقسيم المشرق العربي، الذي بموجبه تم إخضاع الدول التي كانت تحت السيطرة العثمانية، إلى السيطرة البريطانية والفرنسية، ووضعت فلسطين تحت الإشراف الدولي. فأدت نتائج الحرب الكونية الأولى لقيام الحرب الكونية الثانية 1939 1945، التي كانت نتائجها أشد إيلاماً وأعصف تأثيرا من سابقتها. والذي يهمنا هنا هو مدى تأثير الحرب الحرب العالمية الثانية على الوطن العربي؟ وهل هناك نتائج إيجابية أو أنها على الصعيد المستقبلي المنظور الذي يمكن أن يفرزه ذلك الصراع؟
محاولات التحرر والنهضة الفكرية
كان الأثر السلبي واضحاً على المنطقة العربية، في المجال الاقتصادي وغياب الحريات، كذلك محاولة شل الحركات السياسية ومحاربة الأصوات الوطنية الحرة، التي تدعو إلى الاستقلال ونيل السيادة. واستُخلصت منها نتائج إيجابية وظهر ذلك جليا في الدور الذي لعبته الجمعيات والأحزاب والصحافة في دعم المطالب الوطنية، ورافقت ذلك نهضة فكرية وثقافية تدعو الى مراجعة القديم والتحرر من سطوته، ودراسة الجديد والإفادة من المعطيات التي تنسجم ورغبة الفرد العربي بالتخلص من الجمود والببغائية، الى التفكيروالتحليل والتجريب، وإعادة بناء العقل العربي والتخلص من بعض موروثاته مع تفهم المحلية. ومع ظهور تيارات أدبية وفكرية جديدة، أدى ذلك أن تمد هذه التيارات وكذلك قسم من الأيديولوجيات أيديها لتداعب المشاعر الوطنية، والقسم الآخر ليداعب حاجاته الخالصة، ومنها افتقاده لكونيته التي تمثلها ذاته وهي بداية أولية لظهور كتابات من نمط آخر، سواء في الغرب أو الشرق أو في منطقتنا العربية.
ثورة الشعر
كان الشعر القديم مغرما بالكليات ومغرما بالصنعة وهو يعي بمقبوليتها لدى المتلقي وكان العقل الوسيلة للاحتكام للعاطفة، لكن الشعر سرعان ما أخذ يبتعد عن هذه المفاهيم، حين رسخت الفلسفة الرومانسية في عقول الشعراء لينتقل هذا العقل الشعري من مناطق الأفكار إلى المناطق القصية ذات الإيحاءات المتعددة والمكثفة، ليصبح الحلم والوهم، وما هو بينهما مرتكزات أساسية في بناء النص الشعري وينتهي عصر التصوير الفوتوغرافي للواقع، بل بعد أن كان الشاعر تحت سيطرة الطبيعة وتحت سيطرة الأحداث، نراه يعلو عليهما حين انتقل الى الجزئية من خلال تفكيك الكلية، وبناء الوجود المستقل لتفكيك العالم، بل و(تخريبه) ليمكن التعبير عن الحاجات الضرورية والفعالة التي يستطع الإنسان التلذذ بها والشعور تجاهها بالانتماء، تلك الحاجات التي لا تنتهي مادامت هناك لغة متحررة تستطيع بلوغ مدياتها للاستحواذ على الممتع والجميل.
التجربة الشعرية
لقد انصب الاتجاه الجديد في الشعر في واحدة من خصائصه على أهمية التجربة الشعرية الخلاقة، أي إعادة النظر إلى النفس من جديد بحيث لم يعد هناك عالما غريبا مخيفا نخشاه، بل هناك عالم غريب نحب التلذذ به ومعايشته في كل ما يطرحه ذلك العالم من إشكالات، فهو عالم ليس بالعالم المادي ولا يخضع لقوانين معينة ولا يحفل بالوعود والأحكام السريعة، عالم من الدراما ومن المحفزات اللاعقلانية لذلك خلق الإحساس بالهمس بدلا من الإحساس بالصوت الآخر ..»هلموا بنا نجري نحو الأفق/فلنسرع الجري/ربما نلتقط/على الأقل شعاعا مائلا».
الحداثة الأوروبية والعرب
لقد وضع الشعر الحديث كل شئ خارج سياقه بعد أن كانت كل الأشياء ضمن سياقاتها، فقد توسعت حلقة الحداثة الأوروبية لتضم جيلا بعد جيل، وتشترك هذه الأجيال ليمثل كل جيل عصره على المستوى النسبي، ولتمثل هذه الأجيال القفزات الحداثوية في الشعر الأوروبي منذ خروج الثلاثي (رامبو بودلير مالارمية) إلى العالم مبشرين بوضع الخيال بدلا من الواقع والوضوح وتحت تأثير الأسس الفلسفية والميتافيزيقية، علاوة على ما كتب من نصوص مغرقة بنصاعة الحلم وبالوجد العميق للتوتر، وقدموا تلك المفردات المترعة باليأس والإحباط والموت والتي كانت كأوليات لمفردات استلهم منها المحدثون العرب نظامها المشابهة لتصوير ظلامية الروح الإنسانية ورغبتها بالتمرد، فزخر القاموس الجديد لرواد الحداثة (شعر) بالمئات من المفردات الجديدة، التي استخدمت قبل ذلك استخداما يتلاءم مع تصور المحدثين الأوروبيين لحاجتها لبناء شخصيتهم الشعرية الجديدة. يكفي أن نحصي ما في أزهار الشر للذهاب بتعريف بودلير إلى الهاوية، ويكفي أن نحصي من تلك المفردات الجديدة ما في مدينة رامبو: «هكذا أطل من نافذتي وأرى أشباحا جديدة تدور في دخان الفحم الأزلي الكثيف»، ومن تلك المواجع يتحرر الجمال من الدمار والقبح، وليس بأقل حال تلك الاستخدامات المتشعبة مع مالارمية والجيل الذي تلا من الشعراء الأوروبيين، وفق ذلك التنافر في الأداء في شكل القصد وأسلوب التعبير عنه حين هرب المحدثون الأوربيين من اللغة المحددة الأبعاد، وبالتالي من موسيقاها الصارخة ومن جزئيات المعاني لتوليد اللغة المنشطرة، ضمن علاقاتها المشحونة بالمتغيرات اللحنية.
تثوير الوعي العربي
لقد تبلورت عدة عوامل لقبول الجديد الأوروبي على مستوى الفكر أولا، وعلى مستوى الأشكال الأدبية الأخرى ثانيا، وقد ساهمت حركة الترجمة ونشاط الاستشراق وقيام التجمعات العلمية والأدبية والجدل الفلسفي في تنشيط أواصر اللقاء ما بين الغرب والشرق، ولابد من حصيلة منها يلتقي عندها الطرفان، ألا وهي انتهاك القديم بفعل الجديد الحيوي، الذي واكب النظريات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والرحيل من عقدة الخوف واليأس في مواجهة الأزمات النفسية، ولاشك في أن المجتمع العربي كان بحاجة لتثوير وجوده واليقظة من غفوته، إذ أصبح ذلك شكلا من الأشكال العضوية لتطوره ضمن أغلبية ساحقة تسعى لحياة إنسانية كريمة تستطع من خلالها الوصول لغاياتها الروحية، كل ذلك مهد ولو بشكل بطيء لقبول هذا التغيير وقبول متحسساته فقد اتجه النص الجديد الى اكتساب المقدرة الرمزية والإيحائية حين حرر انفعاله من الاطمئنان وجعله خصما له، وحين اختلطت في نفس الشاعر مؤثرات التجارب البشرية فلم يعد الشاعر يحفل بالمكان ولا التعبير عن الزمان، وفق مدلولات أحداثه، بل عبر بهما إلى عزلة آمنة، يستطيع من خلالها تفكيك وجوده ومسخه ثم العودة لذاته وبعثها من جديد، فقد تصدى المحدثون لكل شيء أتاحته لهم مخيلتهم الشعرية وأسسوا لهم طقسية جديدة تحمل الخصوصية في طعمها ومذاقها، تحدث بودلير عن السر، والسياب عن انتظاره للمقبل من الموت، ومالارميه عن السحر، وأدونيس نجم بخياله فأخضعه، وتلذذ رامبو بالسحر والألغاز، وغاب الكل في تأمل عميق للإحساس الأمثل بالإيحاء بدلا من الفهم الذي يستدعي العقلانية في الترتيب. بالمقابل وجد النقاد العرب الذين لازموا فترة الحداثة العربية أنه لابد من الارتباط مع العالم وذلك عن طريق فهم تلك المتغيرات في الشعر الأوروبي، مادامت الحداثة العربية قد أرست قواعدها كبنى شعرية جديده تعبر عن شعر المستقبل، فأسهموا بالنقد والتحليل عبر التأكيد أن الذي يحدث للشعر خاصة، وللمنظومة الفكرية عامة ليس حدثا عابرا، بل يستحق التسمية باعتباره ثورة في الشعر الحديث، وقد خدم النقاد العرب ثورة الحداثة الجديدة كونهم رافقوها مرافقة وليدية وتجانسوا وطروحات مؤسسيها ومناصريها، رغم انقسام الاتجاهات الثقافية بين معسكرين ممثلا بالتراث العربي الإسلامي والاتجاه الغربي ومادياته.
.....
٭ شاعر عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.