ورش عمل تدريبية للميسرات العاملات بمركزي استقبال أطفال العاملين بوزارتي التضامن والعدل    توقيع مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح للتعاون العلمي والأكاديمي    البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجايبي بالإسكندرية    ارتفاع أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 في الفيوم    الصين تؤسس 36 ألف شركة باستثمارات أجنبية خلال 7 أشهر    الري تبدأ استلام أراضي طرح النهر من هيئة التعمير    مدير مجمع الشفاء بغزة: لدينا 320 ألف طفل دخلوا في حالة سوء تغذية حاد    الاتحاد السعودي يعلن عقوبات صارمة على الهلال    إصابة 7 أشخاص في انقلاب ميكروباص بالفيوم    الأرصاد: سقوط أمطار على هذه المناطق اليوم    تجديد حبس عاطل وشقيقته بتهمة جلب 3000 قرص مخدر    الليلة عرض "just you"، ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو"    الجنين داخل الروبوت.. ولادة المستقبل أم سرقة الأمومة؟    تنويه هام.. انقطاع المياه عن قليوب لإصلاح خط طرد رئيسي    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة ومروان عطية يتابع تأهيله    الزمالك يتظلم من قرار سحب أرض النادي ب 6 أكتوبر ويؤكد صحة موقفه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    إطلاق مبادرة لتشغيل 50 من أوائل خريجي المدارس الصناعية فى أسيوط    اتفاق بين التعليم و"سبريكس" على تطبيق برنامج للبرمجة والذكاء الاصطناعي بالمدارس المصرية اليابانية    رابط و موعد إعلان نتيجة تنسيق القبول برياض الأطفال والصف الأول الابتدائي؟    ضبط 124 ألف مخالفة متنوعة في حملات لتحقيق الانضباط المروري خلال 24 ساعة    ضبط 4 أطنان من الدقيق الأبيض والبلدي المدعم في حملات تموينية خلال 24 ساعة    مصرع وإصابة أربعة أشخاص إثر حادث تصادم بين سيارتين بأسيوط    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    شيرين عبد الوهاب: ياسر قنطوش لا يمثل أي شئ لي قانونيًا    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    إنفوجراف| أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية العادية للإسماعيلي لمنافشة الميزانية والحساب الختامي    طلاب الثانوية الأزهرية الدور الثانى يؤدون اليوم امتحان التاريخ والفيزياء    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    موعد مباراة النصر والأهلي والقنوات الناقلة بنهائي كأس السوبر السعودي    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    وظائف هيئة المحطات النووية.. فرص عمل بالتعيين أو التعاقد    وزارة الصحة تقدم 3 نصائح هامة لشراء الألبان    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    سعر طن الحديد اليوم السبت 23-8-2025 في أسواق مواد البناء.. عز بكام النهارده؟    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنوار مسرح ميامي بالقاهرة تتحدى قوى الظلام
نشر في صوت البلد يوم 10 - 12 - 2017

تسعى تجارب مسرحية جديدة في المشهد المصري الراهن إلى تجاوز التأثير الجمالي المجرّد والطرح الفني المكتفي بالإمتاع والتشويق معوّلة على إمكانية الاشتباك مع أزمات المجتمع وقضاياه المصيرية في الوقت ذاته، ومن هذه الأعمال المسرحية “سيلفي مع الموت” الذي يحقق نسبة مشاهدة جيدة من خلال عروضه اليومية على مسرح “ميامي” بوسط القاهرة.
ما يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت”، بادئ ذي بدء، جرأته في استعادة لون مسرحي غير شائع في الآونة الأخيرة، هو فن المونودراما المعتمد بالأساس على ممثل واحد. وهنا يقع العبء الأكبر على بطلة العرض الفنانة نشوى مصطفى، وهي مؤلفته في الوقت نفسه، فهذا اللون الفني يتطلب قدرات تعبيرية وحركية واسعة.
وقد راهن المخرج محمد علام ومصمم الإيقاع الحركي مناضل عنتر على طاقات نشوى مصطفى ورصيدها التمثيلي السابق المشهود له بالتميز، خصوصًا فيما يخص الأداء الجسدي وحساسية انفعالات الوجه والتعبير بغير كلام.
وتحمّس مسرح الدولة لتقديم العمل من خلال فرقة المسرح الكوميدي التابعة للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنان إسماعيل مختار، واكتملت عناصر العمل بموسيقى خالد داغر وديكور أحمد حشيش.
تفاعل مباشر
معروف أن المونودراما من أصعب أنماط الفنون الدرامية التي عرفها المسرح التجريبي المعاصر إذ يتولى شخص واحد التحدث والحوار على مدار العرض كله من خلال مشهد مطوّل، وتعود أصول هذا اللون الفني إلى المسرحي الألماني جوهان كريستيانابراندز في القرن الثامن عشر، فضلًا عن الفرنسي جان جاك روسو في ذلك العهد.
الأمر الثاني الذي يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت” هو تفاعله المباشر مع الجمهور من خلال استشفافه أبرز القضايا والأزمات الملحّة التي يعانيها الإنسان المعاصر، ليس فقط في مصر، وإنما في مجتمعات عربية عدة ودول أخرى تسودها مناخات وأحوال مشابهة وتواجهها تحديات كبرى في مسيرتها نحو التحرر والتحديث والبناء ونبذ الرجعية والقضاء على العنف وقوى التكفير والإرهاب والتخلف.
يمكن القول ببساطة إن أنوار مسرح “ميامي” قد أضيئت في الأساس من خلال هذا العرض من أجل أن تعلن القوى الناعمة أنها لا تزال تمارس دورها الطليعي في التوعية المجتمعية وإزاحة الظلام الكابوسي وتقليص الأفكار الهدامة والتخريبية، وهذا في حدّ ذاته أمر طيب، لكن إلى أيّ مدى وازن العرض بين أفكاره النهضوية الطنانة وجمالياته المسرحية المرهفة؟ هذا هو السؤال الصعب.
أراد عرض “سيلفي مع الموت” أن يقول كل شيء في خمسين دقيقة هي مدة العرض، وأن يلتزم أيضًا بكل هدف مجتمعي مطروح في الوقت الراهن وكل قيمة إنسانية مجردة منشودة في كل زمان ومكان، فجاءت الصيحة عالية ومسموعة وربما مؤثرة، وفي الوقت نفسه قلص هذا الاحتشاد الذهني والمعرفي والتثقيفي الكبير من مساحة الانطلاق الفني وفق ما تقتضيه القماشة المسرحية التي هي خيوطها الإدهاش والإمتاع والإشباع بالضرورة.
تغازل مونودراما “سيلفي مع الموت” العقل والوجدان من خلال الفكرة الأساسية للعرض وهي لقطة بسيطة وعصرية على ما فيها من عُمق فلسفي. إن الصورة “السيلفي” هي التي يلتقطها الإنسان لذاته بالضرورة ويكون معه أو في الخلفية قرين أو شريك أحيانًا.
هنا “السيلفي” مع الموت على طول الخط منذ الميلاد حتى آخر نفس لبطلة العرض، والصورة ليست قاتمة دائمًا، فهذا الموت الملازم للإنسان ليس الخطر الأكبر في حقيقة الأمر، فالحياة المنقوصة أو الغائبة هي الموت الحقيقي.
متعة الاكتئاب
بطلة “سيلفي مع الموت” امرأة فاتها قطار الزواج، تحاصرها الضغوط والإحباطات وتتكالب عليها الإخفاقات الفردية والأزمات المجتمعية العامة، فضلًا عن المشكلات النوعية المتعلقة بوضعية المرأة البائسة في بلادها. لا يتبقى لها من مظاهر الحياة سوى متعة واحدة هي “متعة الاكتئاب” بما يقودها إلى الانزواء والتأمل واستدعاء شريط حياتها والتفكر في مستقبل مشكوك فيه.
من خلال ما تستدعيه بطلة العرض من أحداث متعددة مرت بها منذ ميلادها يفسح الحكي أو الحوار المونولوجي، الذي تتداخل فيه أصوات وشخصيات هامشية غير ظاهرة، المجال لتناول الأزمات والقضايا الآنية الملحة بالسخرية أحيانًا وبالنقد وبمحاولة تقديم حلول لها أو بالاكتفاء بطرحها بعد تعريتها بشكل كامل.
تسخر بطلة “سيلفي مع الموت” من النفاق المجتمعي والازدواجية، فهي على سبيل المثال تدخّن السجائر في الخفاء وتدين الفتيات اللاتي يتعاطينها، كما تدعي الزهد في الزواج وهي تتمناه في قرار نفسها. وتستعرض من خلال تجارب صديقاتها ملامح القهر الذي تعانيه المرأة سواء تزوجت “زواج صالونات” أو “عن حب”، ففي الحالتين تسقط منهارة أو ميتة كضحية لزوج خائن أو بسبب القيم الذكورية العنيفة السائدة.
مثل هذه التجارب وغيرها تحكيها وتستدعيها الراوية الوحيدة برشاقة، بالعامية المصرية الحديثة التي تجري على ألسنة الشباب حاليًا، وفي قوالب كوميدية شيقة وأداء حركي وجسدي مقنع وبخلفية ديكورية محبوكة ومتسقة تتسع لشاشة إلكترونية كبيرة على المسرح، تظهر فيها وجوه شخصيات ولقطات كارتون مرحة من قبيل “زواج سندريلا من الأمير ذي الحصان الأبيض، ثم طلاقها وتحوّل لون فستانها إلى الأسود”.
على أن علوّ نبرة العرض في كادرات أخرى من أجل التعبير عن قضايا وأزمات أضخم يقود الفن إلى دائرة التوعية المباشرة التي لا تبرّرها إلا قسوة الظروف المحيطة في الوقت الراهن ورغبة “المثقفين” في طرح “رسالة”، ربما لمخاطبة فئات أقل حظًّا من حيث التعليم والوعي وهذا منطق تجيزه الضرورة ولا يستسيغه الإبداع.
اللافت أن تلك الكادرات المقعّرة تتحول لغة الحكي أو الحوار فيها إلى العربية الفصحى وكأنما هكذا يجب أن يكون الدرس، وتتوالى النصائح والرسائل دون فواصل زمنية كطلقات الرصاص، من قبيل “سيدي الموت، كل عام وأنت وحدك بخير، نحن لسنا بخير، لأن الفن حرام، ولأن هناك مكفّرين يقتلون المصلين في المساجد والكنائس والمعابد”.
مثل هذه “الإرشادات” قليلة في عرض “سيلفي مع الموت”، وهي في حقيقة الأمر تبدو مقحمة خارج السياق وكان ممكنًا تمريرها فنيًّا مثل غيرها من القضايا والأفكار التي يطرحها العمل لو تمت معالجتها دراميًّا وحركيًّا، لكن ربما بدا الحل الخطابي أسهل لصنّاع العرض، أو أنها أضيفت لاحقًا، بعد حادث مقتل 305 من المصلين في مسجد الروضة بسيناء في ال24 من نوفمبر الماضي، ولم تكن مدرجة على هذا النحو الإنشائي عند الإعداد للعمل.
العرض نفسه تعامل دراميًّا بنحو متميز مع قضايا وأزمات عميقة وكبيرة تتعلق بالتسامح والتصوف والنقاء الروحي واكتساب الحياة معناها الحقيقي من خلال الحلم والحب والحرية، ومقاومة العنف والأفكار المتشددة من خلال الإعمال العقلي ونفض الغبار عن الثوابت الجامدة ليصل إلى ضرورة تصالح الإنسان مع ذاته ومع الحياة، وأيضًا مع الموت، ذلك لوّثه الأدعياء مثلما لوثوا كل شيء “أيها الموت، هناك من ينتحلون شخصيتك، ويمارسون دورك”.
ويبقى “سيلفي مع الموت” جهدًا مسرحيًّا كبيرًا على مستوى الفكرة والمونولوج والتمثيل، حرر الملكات الحقيقية للفنانة نشوى مصطفى التي أعادت اكتشاف ذاتها ككاتبة وممثلة واسعة القدرات، وأكد العرض أن الإخراج الواعي والإيقاعات الحركية المحسوبة بعناية هي بمثابة فضاء ينطلق الفنان من خلاله نحو آفاق لم يرتدها من قبل.
تسعى تجارب مسرحية جديدة في المشهد المصري الراهن إلى تجاوز التأثير الجمالي المجرّد والطرح الفني المكتفي بالإمتاع والتشويق معوّلة على إمكانية الاشتباك مع أزمات المجتمع وقضاياه المصيرية في الوقت ذاته، ومن هذه الأعمال المسرحية “سيلفي مع الموت” الذي يحقق نسبة مشاهدة جيدة من خلال عروضه اليومية على مسرح “ميامي” بوسط القاهرة.
ما يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت”، بادئ ذي بدء، جرأته في استعادة لون مسرحي غير شائع في الآونة الأخيرة، هو فن المونودراما المعتمد بالأساس على ممثل واحد. وهنا يقع العبء الأكبر على بطلة العرض الفنانة نشوى مصطفى، وهي مؤلفته في الوقت نفسه، فهذا اللون الفني يتطلب قدرات تعبيرية وحركية واسعة.
وقد راهن المخرج محمد علام ومصمم الإيقاع الحركي مناضل عنتر على طاقات نشوى مصطفى ورصيدها التمثيلي السابق المشهود له بالتميز، خصوصًا فيما يخص الأداء الجسدي وحساسية انفعالات الوجه والتعبير بغير كلام.
وتحمّس مسرح الدولة لتقديم العمل من خلال فرقة المسرح الكوميدي التابعة للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنان إسماعيل مختار، واكتملت عناصر العمل بموسيقى خالد داغر وديكور أحمد حشيش.
تفاعل مباشر
معروف أن المونودراما من أصعب أنماط الفنون الدرامية التي عرفها المسرح التجريبي المعاصر إذ يتولى شخص واحد التحدث والحوار على مدار العرض كله من خلال مشهد مطوّل، وتعود أصول هذا اللون الفني إلى المسرحي الألماني جوهان كريستيانابراندز في القرن الثامن عشر، فضلًا عن الفرنسي جان جاك روسو في ذلك العهد.
الأمر الثاني الذي يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت” هو تفاعله المباشر مع الجمهور من خلال استشفافه أبرز القضايا والأزمات الملحّة التي يعانيها الإنسان المعاصر، ليس فقط في مصر، وإنما في مجتمعات عربية عدة ودول أخرى تسودها مناخات وأحوال مشابهة وتواجهها تحديات كبرى في مسيرتها نحو التحرر والتحديث والبناء ونبذ الرجعية والقضاء على العنف وقوى التكفير والإرهاب والتخلف.
يمكن القول ببساطة إن أنوار مسرح “ميامي” قد أضيئت في الأساس من خلال هذا العرض من أجل أن تعلن القوى الناعمة أنها لا تزال تمارس دورها الطليعي في التوعية المجتمعية وإزاحة الظلام الكابوسي وتقليص الأفكار الهدامة والتخريبية، وهذا في حدّ ذاته أمر طيب، لكن إلى أيّ مدى وازن العرض بين أفكاره النهضوية الطنانة وجمالياته المسرحية المرهفة؟ هذا هو السؤال الصعب.
أراد عرض “سيلفي مع الموت” أن يقول كل شيء في خمسين دقيقة هي مدة العرض، وأن يلتزم أيضًا بكل هدف مجتمعي مطروح في الوقت الراهن وكل قيمة إنسانية مجردة منشودة في كل زمان ومكان، فجاءت الصيحة عالية ومسموعة وربما مؤثرة، وفي الوقت نفسه قلص هذا الاحتشاد الذهني والمعرفي والتثقيفي الكبير من مساحة الانطلاق الفني وفق ما تقتضيه القماشة المسرحية التي هي خيوطها الإدهاش والإمتاع والإشباع بالضرورة.
تغازل مونودراما “سيلفي مع الموت” العقل والوجدان من خلال الفكرة الأساسية للعرض وهي لقطة بسيطة وعصرية على ما فيها من عُمق فلسفي. إن الصورة “السيلفي” هي التي يلتقطها الإنسان لذاته بالضرورة ويكون معه أو في الخلفية قرين أو شريك أحيانًا.
هنا “السيلفي” مع الموت على طول الخط منذ الميلاد حتى آخر نفس لبطلة العرض، والصورة ليست قاتمة دائمًا، فهذا الموت الملازم للإنسان ليس الخطر الأكبر في حقيقة الأمر، فالحياة المنقوصة أو الغائبة هي الموت الحقيقي.
متعة الاكتئاب
بطلة “سيلفي مع الموت” امرأة فاتها قطار الزواج، تحاصرها الضغوط والإحباطات وتتكالب عليها الإخفاقات الفردية والأزمات المجتمعية العامة، فضلًا عن المشكلات النوعية المتعلقة بوضعية المرأة البائسة في بلادها. لا يتبقى لها من مظاهر الحياة سوى متعة واحدة هي “متعة الاكتئاب” بما يقودها إلى الانزواء والتأمل واستدعاء شريط حياتها والتفكر في مستقبل مشكوك فيه.
من خلال ما تستدعيه بطلة العرض من أحداث متعددة مرت بها منذ ميلادها يفسح الحكي أو الحوار المونولوجي، الذي تتداخل فيه أصوات وشخصيات هامشية غير ظاهرة، المجال لتناول الأزمات والقضايا الآنية الملحة بالسخرية أحيانًا وبالنقد وبمحاولة تقديم حلول لها أو بالاكتفاء بطرحها بعد تعريتها بشكل كامل.
تسخر بطلة “سيلفي مع الموت” من النفاق المجتمعي والازدواجية، فهي على سبيل المثال تدخّن السجائر في الخفاء وتدين الفتيات اللاتي يتعاطينها، كما تدعي الزهد في الزواج وهي تتمناه في قرار نفسها. وتستعرض من خلال تجارب صديقاتها ملامح القهر الذي تعانيه المرأة سواء تزوجت “زواج صالونات” أو “عن حب”، ففي الحالتين تسقط منهارة أو ميتة كضحية لزوج خائن أو بسبب القيم الذكورية العنيفة السائدة.
مثل هذه التجارب وغيرها تحكيها وتستدعيها الراوية الوحيدة برشاقة، بالعامية المصرية الحديثة التي تجري على ألسنة الشباب حاليًا، وفي قوالب كوميدية شيقة وأداء حركي وجسدي مقنع وبخلفية ديكورية محبوكة ومتسقة تتسع لشاشة إلكترونية كبيرة على المسرح، تظهر فيها وجوه شخصيات ولقطات كارتون مرحة من قبيل “زواج سندريلا من الأمير ذي الحصان الأبيض، ثم طلاقها وتحوّل لون فستانها إلى الأسود”.
على أن علوّ نبرة العرض في كادرات أخرى من أجل التعبير عن قضايا وأزمات أضخم يقود الفن إلى دائرة التوعية المباشرة التي لا تبرّرها إلا قسوة الظروف المحيطة في الوقت الراهن ورغبة “المثقفين” في طرح “رسالة”، ربما لمخاطبة فئات أقل حظًّا من حيث التعليم والوعي وهذا منطق تجيزه الضرورة ولا يستسيغه الإبداع.
اللافت أن تلك الكادرات المقعّرة تتحول لغة الحكي أو الحوار فيها إلى العربية الفصحى وكأنما هكذا يجب أن يكون الدرس، وتتوالى النصائح والرسائل دون فواصل زمنية كطلقات الرصاص، من قبيل “سيدي الموت، كل عام وأنت وحدك بخير، نحن لسنا بخير، لأن الفن حرام، ولأن هناك مكفّرين يقتلون المصلين في المساجد والكنائس والمعابد”.
مثل هذه “الإرشادات” قليلة في عرض “سيلفي مع الموت”، وهي في حقيقة الأمر تبدو مقحمة خارج السياق وكان ممكنًا تمريرها فنيًّا مثل غيرها من القضايا والأفكار التي يطرحها العمل لو تمت معالجتها دراميًّا وحركيًّا، لكن ربما بدا الحل الخطابي أسهل لصنّاع العرض، أو أنها أضيفت لاحقًا، بعد حادث مقتل 305 من المصلين في مسجد الروضة بسيناء في ال24 من نوفمبر الماضي، ولم تكن مدرجة على هذا النحو الإنشائي عند الإعداد للعمل.
العرض نفسه تعامل دراميًّا بنحو متميز مع قضايا وأزمات عميقة وكبيرة تتعلق بالتسامح والتصوف والنقاء الروحي واكتساب الحياة معناها الحقيقي من خلال الحلم والحب والحرية، ومقاومة العنف والأفكار المتشددة من خلال الإعمال العقلي ونفض الغبار عن الثوابت الجامدة ليصل إلى ضرورة تصالح الإنسان مع ذاته ومع الحياة، وأيضًا مع الموت، ذلك لوّثه الأدعياء مثلما لوثوا كل شيء “أيها الموت، هناك من ينتحلون شخصيتك، ويمارسون دورك”.
ويبقى “سيلفي مع الموت” جهدًا مسرحيًّا كبيرًا على مستوى الفكرة والمونولوج والتمثيل، حرر الملكات الحقيقية للفنانة نشوى مصطفى التي أعادت اكتشاف ذاتها ككاتبة وممثلة واسعة القدرات، وأكد العرض أن الإخراج الواعي والإيقاعات الحركية المحسوبة بعناية هي بمثابة فضاء ينطلق الفنان من خلاله نحو آفاق لم يرتدها من قبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.