سعر الذهب الاثنين 6 مايو 2024 في محلات الصاغة    أسعار اللحوم والدواجن اليوم 6 مايو    ضابط أمريكي: القوات الروسية دخلت أراضي خالية من هياكل دفاعية أوكرانية    رئيسة المفوضية الأوروبية قلقة من المنافسة الصينية    نشر عناصر شرطية ومخبرين سريين لمنع التحرش في احتفالات شم النسيم بأسيوط    أخبار التكنولوجيا| أفضل موبايل سامسونج للفئة المتوسطة بسعر مناسب وإمكانيات هتبهرك تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo وOnePlus Nord CE 4 Lite    سعر التذكرة 20 جنيها.. إقبال كبير على الحديقة الدولية في شم النسيم    بمناسبة ذكرى ميلادها ال 93، محطات في حياة ماجدة الصباحي    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    ضبط طن دقيق وتحرير 61 محضرًا تموينيا لمحال ومخابز مخالفة بالإسماعيلية    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنوار مسرح ميامي بالقاهرة تتحدى قوى الظلام
نشر في صوت البلد يوم 10 - 12 - 2017

تسعى تجارب مسرحية جديدة في المشهد المصري الراهن إلى تجاوز التأثير الجمالي المجرّد والطرح الفني المكتفي بالإمتاع والتشويق معوّلة على إمكانية الاشتباك مع أزمات المجتمع وقضاياه المصيرية في الوقت ذاته، ومن هذه الأعمال المسرحية “سيلفي مع الموت” الذي يحقق نسبة مشاهدة جيدة من خلال عروضه اليومية على مسرح “ميامي” بوسط القاهرة.
ما يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت”، بادئ ذي بدء، جرأته في استعادة لون مسرحي غير شائع في الآونة الأخيرة، هو فن المونودراما المعتمد بالأساس على ممثل واحد. وهنا يقع العبء الأكبر على بطلة العرض الفنانة نشوى مصطفى، وهي مؤلفته في الوقت نفسه، فهذا اللون الفني يتطلب قدرات تعبيرية وحركية واسعة.
وقد راهن المخرج محمد علام ومصمم الإيقاع الحركي مناضل عنتر على طاقات نشوى مصطفى ورصيدها التمثيلي السابق المشهود له بالتميز، خصوصًا فيما يخص الأداء الجسدي وحساسية انفعالات الوجه والتعبير بغير كلام.
وتحمّس مسرح الدولة لتقديم العمل من خلال فرقة المسرح الكوميدي التابعة للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنان إسماعيل مختار، واكتملت عناصر العمل بموسيقى خالد داغر وديكور أحمد حشيش.
تفاعل مباشر
معروف أن المونودراما من أصعب أنماط الفنون الدرامية التي عرفها المسرح التجريبي المعاصر إذ يتولى شخص واحد التحدث والحوار على مدار العرض كله من خلال مشهد مطوّل، وتعود أصول هذا اللون الفني إلى المسرحي الألماني جوهان كريستيانابراندز في القرن الثامن عشر، فضلًا عن الفرنسي جان جاك روسو في ذلك العهد.
الأمر الثاني الذي يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت” هو تفاعله المباشر مع الجمهور من خلال استشفافه أبرز القضايا والأزمات الملحّة التي يعانيها الإنسان المعاصر، ليس فقط في مصر، وإنما في مجتمعات عربية عدة ودول أخرى تسودها مناخات وأحوال مشابهة وتواجهها تحديات كبرى في مسيرتها نحو التحرر والتحديث والبناء ونبذ الرجعية والقضاء على العنف وقوى التكفير والإرهاب والتخلف.
يمكن القول ببساطة إن أنوار مسرح “ميامي” قد أضيئت في الأساس من خلال هذا العرض من أجل أن تعلن القوى الناعمة أنها لا تزال تمارس دورها الطليعي في التوعية المجتمعية وإزاحة الظلام الكابوسي وتقليص الأفكار الهدامة والتخريبية، وهذا في حدّ ذاته أمر طيب، لكن إلى أيّ مدى وازن العرض بين أفكاره النهضوية الطنانة وجمالياته المسرحية المرهفة؟ هذا هو السؤال الصعب.
أراد عرض “سيلفي مع الموت” أن يقول كل شيء في خمسين دقيقة هي مدة العرض، وأن يلتزم أيضًا بكل هدف مجتمعي مطروح في الوقت الراهن وكل قيمة إنسانية مجردة منشودة في كل زمان ومكان، فجاءت الصيحة عالية ومسموعة وربما مؤثرة، وفي الوقت نفسه قلص هذا الاحتشاد الذهني والمعرفي والتثقيفي الكبير من مساحة الانطلاق الفني وفق ما تقتضيه القماشة المسرحية التي هي خيوطها الإدهاش والإمتاع والإشباع بالضرورة.
تغازل مونودراما “سيلفي مع الموت” العقل والوجدان من خلال الفكرة الأساسية للعرض وهي لقطة بسيطة وعصرية على ما فيها من عُمق فلسفي. إن الصورة “السيلفي” هي التي يلتقطها الإنسان لذاته بالضرورة ويكون معه أو في الخلفية قرين أو شريك أحيانًا.
هنا “السيلفي” مع الموت على طول الخط منذ الميلاد حتى آخر نفس لبطلة العرض، والصورة ليست قاتمة دائمًا، فهذا الموت الملازم للإنسان ليس الخطر الأكبر في حقيقة الأمر، فالحياة المنقوصة أو الغائبة هي الموت الحقيقي.
متعة الاكتئاب
بطلة “سيلفي مع الموت” امرأة فاتها قطار الزواج، تحاصرها الضغوط والإحباطات وتتكالب عليها الإخفاقات الفردية والأزمات المجتمعية العامة، فضلًا عن المشكلات النوعية المتعلقة بوضعية المرأة البائسة في بلادها. لا يتبقى لها من مظاهر الحياة سوى متعة واحدة هي “متعة الاكتئاب” بما يقودها إلى الانزواء والتأمل واستدعاء شريط حياتها والتفكر في مستقبل مشكوك فيه.
من خلال ما تستدعيه بطلة العرض من أحداث متعددة مرت بها منذ ميلادها يفسح الحكي أو الحوار المونولوجي، الذي تتداخل فيه أصوات وشخصيات هامشية غير ظاهرة، المجال لتناول الأزمات والقضايا الآنية الملحة بالسخرية أحيانًا وبالنقد وبمحاولة تقديم حلول لها أو بالاكتفاء بطرحها بعد تعريتها بشكل كامل.
تسخر بطلة “سيلفي مع الموت” من النفاق المجتمعي والازدواجية، فهي على سبيل المثال تدخّن السجائر في الخفاء وتدين الفتيات اللاتي يتعاطينها، كما تدعي الزهد في الزواج وهي تتمناه في قرار نفسها. وتستعرض من خلال تجارب صديقاتها ملامح القهر الذي تعانيه المرأة سواء تزوجت “زواج صالونات” أو “عن حب”، ففي الحالتين تسقط منهارة أو ميتة كضحية لزوج خائن أو بسبب القيم الذكورية العنيفة السائدة.
مثل هذه التجارب وغيرها تحكيها وتستدعيها الراوية الوحيدة برشاقة، بالعامية المصرية الحديثة التي تجري على ألسنة الشباب حاليًا، وفي قوالب كوميدية شيقة وأداء حركي وجسدي مقنع وبخلفية ديكورية محبوكة ومتسقة تتسع لشاشة إلكترونية كبيرة على المسرح، تظهر فيها وجوه شخصيات ولقطات كارتون مرحة من قبيل “زواج سندريلا من الأمير ذي الحصان الأبيض، ثم طلاقها وتحوّل لون فستانها إلى الأسود”.
على أن علوّ نبرة العرض في كادرات أخرى من أجل التعبير عن قضايا وأزمات أضخم يقود الفن إلى دائرة التوعية المباشرة التي لا تبرّرها إلا قسوة الظروف المحيطة في الوقت الراهن ورغبة “المثقفين” في طرح “رسالة”، ربما لمخاطبة فئات أقل حظًّا من حيث التعليم والوعي وهذا منطق تجيزه الضرورة ولا يستسيغه الإبداع.
اللافت أن تلك الكادرات المقعّرة تتحول لغة الحكي أو الحوار فيها إلى العربية الفصحى وكأنما هكذا يجب أن يكون الدرس، وتتوالى النصائح والرسائل دون فواصل زمنية كطلقات الرصاص، من قبيل “سيدي الموت، كل عام وأنت وحدك بخير، نحن لسنا بخير، لأن الفن حرام، ولأن هناك مكفّرين يقتلون المصلين في المساجد والكنائس والمعابد”.
مثل هذه “الإرشادات” قليلة في عرض “سيلفي مع الموت”، وهي في حقيقة الأمر تبدو مقحمة خارج السياق وكان ممكنًا تمريرها فنيًّا مثل غيرها من القضايا والأفكار التي يطرحها العمل لو تمت معالجتها دراميًّا وحركيًّا، لكن ربما بدا الحل الخطابي أسهل لصنّاع العرض، أو أنها أضيفت لاحقًا، بعد حادث مقتل 305 من المصلين في مسجد الروضة بسيناء في ال24 من نوفمبر الماضي، ولم تكن مدرجة على هذا النحو الإنشائي عند الإعداد للعمل.
العرض نفسه تعامل دراميًّا بنحو متميز مع قضايا وأزمات عميقة وكبيرة تتعلق بالتسامح والتصوف والنقاء الروحي واكتساب الحياة معناها الحقيقي من خلال الحلم والحب والحرية، ومقاومة العنف والأفكار المتشددة من خلال الإعمال العقلي ونفض الغبار عن الثوابت الجامدة ليصل إلى ضرورة تصالح الإنسان مع ذاته ومع الحياة، وأيضًا مع الموت، ذلك لوّثه الأدعياء مثلما لوثوا كل شيء “أيها الموت، هناك من ينتحلون شخصيتك، ويمارسون دورك”.
ويبقى “سيلفي مع الموت” جهدًا مسرحيًّا كبيرًا على مستوى الفكرة والمونولوج والتمثيل، حرر الملكات الحقيقية للفنانة نشوى مصطفى التي أعادت اكتشاف ذاتها ككاتبة وممثلة واسعة القدرات، وأكد العرض أن الإخراج الواعي والإيقاعات الحركية المحسوبة بعناية هي بمثابة فضاء ينطلق الفنان من خلاله نحو آفاق لم يرتدها من قبل.
تسعى تجارب مسرحية جديدة في المشهد المصري الراهن إلى تجاوز التأثير الجمالي المجرّد والطرح الفني المكتفي بالإمتاع والتشويق معوّلة على إمكانية الاشتباك مع أزمات المجتمع وقضاياه المصيرية في الوقت ذاته، ومن هذه الأعمال المسرحية “سيلفي مع الموت” الذي يحقق نسبة مشاهدة جيدة من خلال عروضه اليومية على مسرح “ميامي” بوسط القاهرة.
ما يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت”، بادئ ذي بدء، جرأته في استعادة لون مسرحي غير شائع في الآونة الأخيرة، هو فن المونودراما المعتمد بالأساس على ممثل واحد. وهنا يقع العبء الأكبر على بطلة العرض الفنانة نشوى مصطفى، وهي مؤلفته في الوقت نفسه، فهذا اللون الفني يتطلب قدرات تعبيرية وحركية واسعة.
وقد راهن المخرج محمد علام ومصمم الإيقاع الحركي مناضل عنتر على طاقات نشوى مصطفى ورصيدها التمثيلي السابق المشهود له بالتميز، خصوصًا فيما يخص الأداء الجسدي وحساسية انفعالات الوجه والتعبير بغير كلام.
وتحمّس مسرح الدولة لتقديم العمل من خلال فرقة المسرح الكوميدي التابعة للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنان إسماعيل مختار، واكتملت عناصر العمل بموسيقى خالد داغر وديكور أحمد حشيش.
تفاعل مباشر
معروف أن المونودراما من أصعب أنماط الفنون الدرامية التي عرفها المسرح التجريبي المعاصر إذ يتولى شخص واحد التحدث والحوار على مدار العرض كله من خلال مشهد مطوّل، وتعود أصول هذا اللون الفني إلى المسرحي الألماني جوهان كريستيانابراندز في القرن الثامن عشر، فضلًا عن الفرنسي جان جاك روسو في ذلك العهد.
الأمر الثاني الذي يُحسب لعرض “سيلفي مع الموت” هو تفاعله المباشر مع الجمهور من خلال استشفافه أبرز القضايا والأزمات الملحّة التي يعانيها الإنسان المعاصر، ليس فقط في مصر، وإنما في مجتمعات عربية عدة ودول أخرى تسودها مناخات وأحوال مشابهة وتواجهها تحديات كبرى في مسيرتها نحو التحرر والتحديث والبناء ونبذ الرجعية والقضاء على العنف وقوى التكفير والإرهاب والتخلف.
يمكن القول ببساطة إن أنوار مسرح “ميامي” قد أضيئت في الأساس من خلال هذا العرض من أجل أن تعلن القوى الناعمة أنها لا تزال تمارس دورها الطليعي في التوعية المجتمعية وإزاحة الظلام الكابوسي وتقليص الأفكار الهدامة والتخريبية، وهذا في حدّ ذاته أمر طيب، لكن إلى أيّ مدى وازن العرض بين أفكاره النهضوية الطنانة وجمالياته المسرحية المرهفة؟ هذا هو السؤال الصعب.
أراد عرض “سيلفي مع الموت” أن يقول كل شيء في خمسين دقيقة هي مدة العرض، وأن يلتزم أيضًا بكل هدف مجتمعي مطروح في الوقت الراهن وكل قيمة إنسانية مجردة منشودة في كل زمان ومكان، فجاءت الصيحة عالية ومسموعة وربما مؤثرة، وفي الوقت نفسه قلص هذا الاحتشاد الذهني والمعرفي والتثقيفي الكبير من مساحة الانطلاق الفني وفق ما تقتضيه القماشة المسرحية التي هي خيوطها الإدهاش والإمتاع والإشباع بالضرورة.
تغازل مونودراما “سيلفي مع الموت” العقل والوجدان من خلال الفكرة الأساسية للعرض وهي لقطة بسيطة وعصرية على ما فيها من عُمق فلسفي. إن الصورة “السيلفي” هي التي يلتقطها الإنسان لذاته بالضرورة ويكون معه أو في الخلفية قرين أو شريك أحيانًا.
هنا “السيلفي” مع الموت على طول الخط منذ الميلاد حتى آخر نفس لبطلة العرض، والصورة ليست قاتمة دائمًا، فهذا الموت الملازم للإنسان ليس الخطر الأكبر في حقيقة الأمر، فالحياة المنقوصة أو الغائبة هي الموت الحقيقي.
متعة الاكتئاب
بطلة “سيلفي مع الموت” امرأة فاتها قطار الزواج، تحاصرها الضغوط والإحباطات وتتكالب عليها الإخفاقات الفردية والأزمات المجتمعية العامة، فضلًا عن المشكلات النوعية المتعلقة بوضعية المرأة البائسة في بلادها. لا يتبقى لها من مظاهر الحياة سوى متعة واحدة هي “متعة الاكتئاب” بما يقودها إلى الانزواء والتأمل واستدعاء شريط حياتها والتفكر في مستقبل مشكوك فيه.
من خلال ما تستدعيه بطلة العرض من أحداث متعددة مرت بها منذ ميلادها يفسح الحكي أو الحوار المونولوجي، الذي تتداخل فيه أصوات وشخصيات هامشية غير ظاهرة، المجال لتناول الأزمات والقضايا الآنية الملحة بالسخرية أحيانًا وبالنقد وبمحاولة تقديم حلول لها أو بالاكتفاء بطرحها بعد تعريتها بشكل كامل.
تسخر بطلة “سيلفي مع الموت” من النفاق المجتمعي والازدواجية، فهي على سبيل المثال تدخّن السجائر في الخفاء وتدين الفتيات اللاتي يتعاطينها، كما تدعي الزهد في الزواج وهي تتمناه في قرار نفسها. وتستعرض من خلال تجارب صديقاتها ملامح القهر الذي تعانيه المرأة سواء تزوجت “زواج صالونات” أو “عن حب”، ففي الحالتين تسقط منهارة أو ميتة كضحية لزوج خائن أو بسبب القيم الذكورية العنيفة السائدة.
مثل هذه التجارب وغيرها تحكيها وتستدعيها الراوية الوحيدة برشاقة، بالعامية المصرية الحديثة التي تجري على ألسنة الشباب حاليًا، وفي قوالب كوميدية شيقة وأداء حركي وجسدي مقنع وبخلفية ديكورية محبوكة ومتسقة تتسع لشاشة إلكترونية كبيرة على المسرح، تظهر فيها وجوه شخصيات ولقطات كارتون مرحة من قبيل “زواج سندريلا من الأمير ذي الحصان الأبيض، ثم طلاقها وتحوّل لون فستانها إلى الأسود”.
على أن علوّ نبرة العرض في كادرات أخرى من أجل التعبير عن قضايا وأزمات أضخم يقود الفن إلى دائرة التوعية المباشرة التي لا تبرّرها إلا قسوة الظروف المحيطة في الوقت الراهن ورغبة “المثقفين” في طرح “رسالة”، ربما لمخاطبة فئات أقل حظًّا من حيث التعليم والوعي وهذا منطق تجيزه الضرورة ولا يستسيغه الإبداع.
اللافت أن تلك الكادرات المقعّرة تتحول لغة الحكي أو الحوار فيها إلى العربية الفصحى وكأنما هكذا يجب أن يكون الدرس، وتتوالى النصائح والرسائل دون فواصل زمنية كطلقات الرصاص، من قبيل “سيدي الموت، كل عام وأنت وحدك بخير، نحن لسنا بخير، لأن الفن حرام، ولأن هناك مكفّرين يقتلون المصلين في المساجد والكنائس والمعابد”.
مثل هذه “الإرشادات” قليلة في عرض “سيلفي مع الموت”، وهي في حقيقة الأمر تبدو مقحمة خارج السياق وكان ممكنًا تمريرها فنيًّا مثل غيرها من القضايا والأفكار التي يطرحها العمل لو تمت معالجتها دراميًّا وحركيًّا، لكن ربما بدا الحل الخطابي أسهل لصنّاع العرض، أو أنها أضيفت لاحقًا، بعد حادث مقتل 305 من المصلين في مسجد الروضة بسيناء في ال24 من نوفمبر الماضي، ولم تكن مدرجة على هذا النحو الإنشائي عند الإعداد للعمل.
العرض نفسه تعامل دراميًّا بنحو متميز مع قضايا وأزمات عميقة وكبيرة تتعلق بالتسامح والتصوف والنقاء الروحي واكتساب الحياة معناها الحقيقي من خلال الحلم والحب والحرية، ومقاومة العنف والأفكار المتشددة من خلال الإعمال العقلي ونفض الغبار عن الثوابت الجامدة ليصل إلى ضرورة تصالح الإنسان مع ذاته ومع الحياة، وأيضًا مع الموت، ذلك لوّثه الأدعياء مثلما لوثوا كل شيء “أيها الموت، هناك من ينتحلون شخصيتك، ويمارسون دورك”.
ويبقى “سيلفي مع الموت” جهدًا مسرحيًّا كبيرًا على مستوى الفكرة والمونولوج والتمثيل، حرر الملكات الحقيقية للفنانة نشوى مصطفى التي أعادت اكتشاف ذاتها ككاتبة وممثلة واسعة القدرات، وأكد العرض أن الإخراج الواعي والإيقاعات الحركية المحسوبة بعناية هي بمثابة فضاء ينطلق الفنان من خلاله نحو آفاق لم يرتدها من قبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.