موعد أذان الفجر اليوم في القاهرة وجميع المحافظات للصائمين يوم عرفة    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 5 يونيو 2025    المصرية للاتصالات WE تعلن الإطلاق الرسمي لخدمات الجيل الخامس في مصر    إعلام فلسطيني: الاحتلال يقصف بكثافة خيام نازحين في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة    جماهير الأهلي تطالب بمحاسبة هاني شكري.. وتحرك قانوني عاجل    «وكمان تيشيرت أحمر».. مدرب الزمالك السابق يتحسر على انتقال زيزو إلى الأهلي    «صحة مطروح» تستعد لعيد الأضحى    أكثر من مليون ونصف حاج.. بدء تصعيد الحجاج إلى مشعر عرفات    مصرع شخص وإصابة آخر في حادث سير ببني سويف    لقطات جديدة من حفل زفاف محمد شاهين والمنتجة رشا الظنحاني، ومفاجأة من العروس (فيديو)    تهنئة عيد الأضحى 2025.. أجمل عبارات التهنئة لأحبائك وأصدقائك (ارسلها الآن)    الإفتاء تحسم الجدل.. هل تسقط صلاة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟    ما هى أوقات استجابة الدعاء في يوم عرفه 2025 وأفضل الأعمال المستحبة؟.. الإفتاء توضح    غرفة عمليات ذكية لضمان أجواء آمنة.. صحة مطروح تُجهز الساحل الشمالي ل صيف 2025    أوكرانيا تعتمد على زيادة إنتاج الأسلحة في الخارج    «الطقس× العيد».. حار إلى شديد الحرارة وتحذير من الشبورة والرياح واضطراب الملاحة (نصائح الأرصاد)    «الأرصاد» تكشف عن حالة الطقس اليوم الخميس.. والعظمى بالقاهرة 35    ب3 أرقام.. كريستيانو رونالدو يواصل كتابة التاريخ مع البرتغال    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    بحضور نجوم الفن.. حماقي وبوسي يحييان حفل زفاف محمد شاهين ورشا الظنحاني    رسميًا.. الهلال السعودي يعلن تعاقده مع سيموني إنزاجي خلفًا لجيسوس    البيت الأبيض يرد على انتقادات ماسك لقانون الموازنة: العلاقات متناغمة وترامب ملتزم بدعم القانون    أمين مجمع البحوث الإسلامية الأسبق يكرم حفظة القرآن الكريم بمدينة طهطا    9 ذو الحجة.. ماذا يفعل الحجيج في يوم عرفة؟    سعر السمك والجمبري والكابوريا بالأسواق اليوم الخميس 5 يونيو 2025    نجاح أول جراحة لاستبدال الشريان الأورطي بمستشفى المقطم للتأمين الصحي    نصائح مهمة يجب اتباعها على السحور لصيام يوم عرفة بدون مشاكل    صحة الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى خلال إجازة عيد الأضحى    التعليم العالى تعتزم إنشاء أكبر مجمع صناعي للأجهزة التعويضية    القائد العام للقوات المسلحة ووزير خارجية بنين يبحثان التعاون فى المجالات الدفاعية    قبل صدام بيراميدز.. كم مرة توج الزمالك ببطولة كأس مصر بالألفية الجديدة؟    نجاة السيناريست وليد يوسف وأفراد أسرته من حادث سير مروع    أغانى الحج.. رحلة من الشوق والإيمان إلى البيت الحرام    أيمن بهجت قمر يحتفل بتخرج ابنه: أخيرا بهجت عملها (صور)    "عاد إلى داره".. الرجاء المغربي يعلن تعاقده مع بدر بانون    مطار العاصمة الإدارية يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلوفاكيا على متنها 152 راكبا (صور)    الرسوم الجمركية «مقامرة» ترامب لانتشال الصناعة الأمريكية من التدهور    محافظ الدقهلية يتابع عمليات نظافة الحدائق والميادين استعدادا للعيد    الوزير: "لدينا مصنع بيفتح كل ساعتين صحيح وعندنا قائمة بالأسماء"    وزيرة البيئة تنفي بيع المحميات الطبيعية: نتجه للاستثمار فيها    حدث ليلًا| استرداد قطعًا أثرية من أمريكا وتفعيل شبكات الجيل الخامس    دعاء من القلب بصوت الدكتور علي جمعة على قناة الناس.. فيديو    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عزون شرق قلقيلية بالضفة الغربية    الأمم المتحدة تدعو إلى التوصل لمعاهدة عالمية جديدة لإنهاء التلوث بالمواد البلاستيكية    «مدبولي» يوجه الحكومة بالجاهزية لتلافي أي أزمات خلال عيد الأضحى    نجل سميحة أيوب يكشف موعد ومكان عزاء والدته الراحلة    "عصام" يطلب تطليق زوجته: "فضحتني ومحبوسة في قضية مُخلة بالشرف"    التأمين الصحى بالقليوبية: رفع درجة الاستعداد القصوى بمستشفيات استعدادًا لعيد الأضحى    مسابقة لتعيين 21 ألف معلم مساعد    دبلوماسية روسية: أمريكا أكبر مدين للأمم المتحدة بأكثر من 3 مليارات دولار    مفتي الجمهورية يهنئ رئيس الوزراء وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى المبارك    «الأوقاف» تعلن موضوع خطبة عيد الأضحى    حفروا على مسافة 300 متر من طريق الكباش.. و«اللجنة»: سيقود لكشف أثري كبير    مصادر مطلعة: حماس توافق على مقترح «ويتكوف» مع 4 تعديلات    مصر تطلع المبعوث الصيني للشرق الأوسط على جهود وقف النار في غزة    نور الشربيني تتأهل لربع نهائي بطولة بريطانيا المفتوحة للاسكواش وهزيمة 6 مصريين    فوائد اليانسون يخفف أعراض سن اليأس ويقوي المناعة    وفد الأقباط الإنجيليين يقدم التهنئة لمحافظ أسوان بمناسبة عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد حياوي يفتح أبواب " بيت السودان "
نشر في صوت البلد يوم 27 - 11 - 2017

يضع محمد حيّاوي في روايته الجديدة “بيت السودان”، الصادرة حديثًا عن دار الآداب في بيروت، المتلقي في أتون الحكاية، ليكون مراقبًا وفاعلًا ومعايشًا لكيمياء السرد الروائي، وإذا كانت عتبة هذا النص تثير إشكالية لدى المتلقي العربي بواسطة مفردة “السودان”، فإنّها واضحة الأبعاد والدلالات للمتلقي العراقي، بما فيها من إيحاءات إيروتيكية تشعل لهفة المتلقي وتحرضه على التفاعل مع التطور السردي للحكاية وتناميها وامتدادها على مستويات متعددة، إذ يطلق العراقيون على ذوي البشرة السوداء تسمية “السودان” تحببًا.
يجسد الكاتب في هذا النصّ السرديّ الوطن بوصفه إنسانًا يعيش بيننا وينشغل عنا بمحنه وعذاباته وانكساراته، فقد اتخذ من “بيت السودان” منطلقًا لحكاية إنسان ليجسد حكاية الوطن الإنسان، وهو الأمر الذي لم يبتعد عنه الكاتب في انشغالاته السرديّة في نصوصه السابقة مثل “خان الشّابندر” أو “تغوّر الماء” وغيرها.
ولم تكن كلمة الناشر، التي وضعت على ظهر الغلاف الأخير، إلا إشارة تحفيز للمتلقي وتثمين للجهد الفني الذي جسّده الكاتب في هذا النص المتميز، “نص مكتوب بمستويات متعدّدة، يُقرأ بانسيابية ويحمل هويّة عراقية أصيلة، وتبدو العلاقة بيت الثلاثي علاوي-ياقوت-عفاف كأنّها مثلث من نار، لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منه، علاقة دهشة طفولية تكتشف العالم بواسطة اكتشاف الجسد، مرتكزة على ثنائيات محيّرة، تجمع بين العاطفة والرغبة، الاحتياج والارتواء، النقص والاكتمال، حتى تأتي صدمة النهاية القاسية بمثابة صرخة مدوّية ومكتومة تضعنا أمام سؤال صادم هو الآخر، جوهره، هل من حدّ فاصل بين القسوة والجنون؟”.
إنّ مثلث النار هذا هو الذي يمسك بالمتلقي الباحث عن جمرة السرد، إذ أنه لا ينشغل أو يهتم بمستويات السرد المتعدّدة ولا تعنيه الإشارة إلى محلية النصّ، بقدر ما تعنيه إنسانية التجربة التي يريد أن يكتوي بنارها اختيارًا أو مرغمًا، بعد أن جسّد الكاتب بنية خطابه السرديّ ودلالاته الإنسانية نتيجة لدقّة اختيار الأمكنة والشخصيات التي تشدّ خيوط الحكاية بعضها إلى بعض.
لكن “لو أصغيت جيدًا، ستسمع نقر الدفوف”، ذلك هو خيط الحكاية الذي يربط العتبة بنص الناشر الذي يطلب بواسطته الأذن للدخول إلى عالم النصّ. إنّ هذه الإجرائيات الاختزالية البسيطة والممهدة للنصّ أو التي تشعل الرغبة في الدخول إلى عالمه، لا تستغرق من المتلقي وقتًا طويلًا لفتح أبواب بيت السودان لينتقل القارئ إلى المشهد الافتتاحي للنصّ الذي يكاد يكون مشهدًا بانوراميًا شاملًا محفزًا ومثيرًا ومؤكدًا لإشارات الغلاف الأخير.
“فتشربتُ الليل كلّه حتى صرت سوداء” هذه المرأة تدرك سرّ السحر في لونها وجاذبية الإثارة والتمنّع، لذا فإنها لا تبدأ في سرد الحكاية، وإنما تواصل سرديات الحكي، فهي لم تكن متوقفة عن الحكي أصلا بدليل وجود “الفاء” التي تشير إلى استمرارية فعل الكلام السرديّ، وهو ما يبحث عنه المتلقي لاحقًا بين السطور، لكن العلاقات السببية في الجمل النصيّة لا توضح الحالة العامّة، وإنّما تقف عند حدود الجملة النصيّة، كما لو كان هناك بخل في التفاصيل أو تقتير في كشف مكنون الحكاية السرديّة ضمن المشهد الخاص، على الرغم من أنّه تقتير محسوب بدقّة كما سندرك لاحقًا.
تجربة سردية
إن هذه التجربة السردية الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة "خان الشابندر" إذ تجمعهما مشتركات نصية كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السردي وبنية الحكاية، إلا أن الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحا ونضجا في {بيت السودان}
“ها أنا أبرئ ذمّتي، حياتك البائسة ستكون هائمة حول بيت السودان أو مخاضة المتعة أو بوابة المدينة للعروج إلى سماء الذهول.. ستجده ولا تجده.. وتدخله ولا تدخله.. لكنّه في المحصلة سيحلّق في الفضاء حاملًا قاطنيه معه”، هذا المشهد الافتتاحي يضع المتلقي أمام عتبات عدة لا بد أن يمرّ بها أو يتفاعل معها ويفككها، للتواصل مع الحكاية العامّة، فقد اشتمل هذا المشهد على الآتي:
أولًا: تحفيز المخيّلة على الابتكار الصوري والتواصل الدلالي بين لون البشرة وتفاعلاته ودلالته، سواء ما يحوي أو يفصح عنه النصّ أو ما تكشف عنه مخيّلة المتلقي من دلالات كلٌّ حسب مخزونه الصوري.
ثانيًا: التعشيق السردي بين المسموع والمعاش من الوقائع والتفاصيل.
ثالثًا: تحذير المتلقي الخارجي بواسطة تحذير المتلقي الداخلي في النص.
رابعًا: التأكيد على عدم تصديق كل ما يقال أو التشكيك في كل ما يحدث في المتن الحكائي للنصّ، وهو الأمر الذي يحفز على تشكيل وبناء النصّ الخاص بالمتلقي الذي يحمل صدقيته الذاتية خارج جدلية الصدق أو التشكيك في الحكاية المسرودة.
خامسًا: التمسك بالمرأة.
سادسًا: المرأة وسيلة هداية وغواية.
لذلك يختتم مشهد الافتتاح هذا بالجملة الآتية “لا تصدق كل ما يقال وتمسك بالمرأة ولا تدعها تتوه منك، فهي هاديتك ووسيلتك للخروج سالمًا من مخاضة الحكايا”، وهذا ما نجد تجسيده السردي في لحظات اشتعال الرغبة على جمر موقد الفحم واصطفاق الكؤوس وقرع الدفوف واهتزاز الأرداف في الرقص والغناء.
إنّ هذه التجربة السرديّة الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة “خان الشّابندر” إذ تجمعهما مشتركات نصيّة كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السرديّ وبنية الحكاية، إلّا أنّ الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحًا ونضجًا في “بيت السودان”، وهو الأمر الذي يعزّز ثقة المتلقي في الكاتب لجهة الإقبال على نتاجه الروائي، كما هو حاصل في روايته السابقة.
الانحراف السردي
يذهب الكاتب للتعبير عن تجربته السرديّة في اتّجاهات الخيال والحلم البعيد عن التشكيل الحدثي اليوميّ أو القريب من قناعات المتلقي، فالنصّ هنا لا يستقر أو يهدأ أو يتوقف عند جملة أو حاله أو شخصية أو مكان، وإنما يجسد جميع الحالات والأمكنة والشخصيات دفعة واحدة، كما أن الكاتب يدرك جيدًا الحدود الفاصلة بينه وبين الآخرين، وهذا الإدراك هو بداية معيارية الوعي الفني في الحدود الفاصلة بين هذا العمل وذاك، وهو الشحنة الصادمة ليقظة القارئ المراقب أو الراصد المتفاعل مع عملية الخلق الإبداعي، بينما يحاول الكاتب، في حمّى الخيال، فتح نافذة ليطل منها على “بيت السودان”، بما فيه من أعاجيب، مغادرًا أو متجاوزًا محطّته السابقة “خان الشّابندر”.
الخيال.. المرأة
هل يتلاعب الكاتب بمشاعر المتلقي في العزف على أوتار المرأة؟ أم إنّه يتخذها حافزًا للانطلاق إلى مشهد إنساني أشمل وأعمّ من الحدود الجسدية لهذا الكائن الرقيق الحالم، عندما يقول “وتلك المرأة التي في خيالك، مهما كان اسمها… تمسّك بأذيالها، لا تفلتها مهما حدث”، ما هي مواصفات هذه المرأة التي في الخيال يا ترى؟ إن هذه الخلطة الكيميائية العجيبة للمرأة “الرائحة والروح والجسد” كتجربة وخيال في آن واحد هي مزيج مركّب من فعل الرؤيا والحلم وتجاوز الواقع، وكل ذلك عبر انتقائية التجارب الذاتية لتشكيل صورة المثال الخيالي الذي يطمح في الوصول إليه، لكن في المحصلة فإنّ النصّ يرتكز على عدد من الثوابت الجوهرية أهمها:
يحسم الكاتب خياراته بين الأركان الثلاثة أعلاه في اختياره ما يمكن تسميته أسطرة الواقع والذهاب به إلى مناطق الخيال الخلّاق بعيدًا عن روح السكينة والمهادنة النصيّة، لأنّه ينحرف عن السياق محطمًا النسق التقليدي، وضمن المتن المفترض الذي يتلقفه القارئ الفاعل ليمتطي خيال الكاتب ويوظفه في ابتكار متخيّله السرديّ الخاص للمرأة، ليس بوصفها نبع النصّ وعطره وحسب، وإنّما بوصفها المحفز للإثارة والإدهاش، عندما تتحول باحة بيت السودان التي هي فضاء للفرح والنشوة والتحليق في الخيال الافتراضي إلى بؤرة حكاية نصيّة تكوّن في النهاية حكاية وطن.
“نعم يا عزيزي.. عقلك البشري لا يتّسع لمثل هذا الكم الهائل من الخيال.. أعرف ذلك.. لكن صدّقني ولو هذه المرة فقط.. إن لم تفعل فستبدد روحك هباء وتتعذب وتتيه في غياهب الطرق المتقاطعة ويتلاعب بك السحرة.. فالحكايا التي ستسمعها والوقائع التي ستعيشها يشيب لها شعر الرضيع”.
بين خيال السارد-المؤلف وخيال المتلقي، يتقرر تقبل أو استيعاب هذه الحكاية من عدمه، وهو أمر لا علاقة له بصدقية أو واقعية التفاصيل الحكائية في المتن السرديّ، وإنّما يتعلق بمنطق الخيال وإجرائياته الحكائية في تجسيد وتفعيل الواقع سرديًا، للخروج بالوطن من إطار الشكل إلى إطار المعنى الإنساني، ولعلّ عبارة “أعذب السرد أصدقه” لا تعني الصدقية السرديّة هنا “واقعية الحوادث”، وإنما درجة المقبولية والرضا وفق معيارية القارئ المعرفية والثقافية في قبول النسق السردي والاقتناع بسياق الحكاية السرديّة، بعيدًا عن مقياس التطابق أو الاختلاف مع الواقع، لأن النص، أيّ نص، سواء كان جيدا أو رديئا، يمتلك واقعه الخاص.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الباحثة عن الصدق الكاذب أو المخادع في خلق مركّب الخيال الافتراضي في النص السردي تكون المتجسدات الجمالية المشعة، بدءًا من كلمة الافتتاح الأولى حتى جملة الختام النهائية التي تفتح بيت السودان على فضاء الوطن-المقبرة “وكنت كلّما التفتّ ورائي لمحت النساء السوداوات السبع يلوحنّ لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف غامض مثل طائر، هتف في أذني بنبرة حنون.. اذهب مع عفاف يا حبيبي..لا تخف.. لا تخف.. لا تخف”.
...
كاتب من العراق
يضع محمد حيّاوي في روايته الجديدة “بيت السودان”، الصادرة حديثًا عن دار الآداب في بيروت، المتلقي في أتون الحكاية، ليكون مراقبًا وفاعلًا ومعايشًا لكيمياء السرد الروائي، وإذا كانت عتبة هذا النص تثير إشكالية لدى المتلقي العربي بواسطة مفردة “السودان”، فإنّها واضحة الأبعاد والدلالات للمتلقي العراقي، بما فيها من إيحاءات إيروتيكية تشعل لهفة المتلقي وتحرضه على التفاعل مع التطور السردي للحكاية وتناميها وامتدادها على مستويات متعددة، إذ يطلق العراقيون على ذوي البشرة السوداء تسمية “السودان” تحببًا.
يجسد الكاتب في هذا النصّ السرديّ الوطن بوصفه إنسانًا يعيش بيننا وينشغل عنا بمحنه وعذاباته وانكساراته، فقد اتخذ من “بيت السودان” منطلقًا لحكاية إنسان ليجسد حكاية الوطن الإنسان، وهو الأمر الذي لم يبتعد عنه الكاتب في انشغالاته السرديّة في نصوصه السابقة مثل “خان الشّابندر” أو “تغوّر الماء” وغيرها.
ولم تكن كلمة الناشر، التي وضعت على ظهر الغلاف الأخير، إلا إشارة تحفيز للمتلقي وتثمين للجهد الفني الذي جسّده الكاتب في هذا النص المتميز، “نص مكتوب بمستويات متعدّدة، يُقرأ بانسيابية ويحمل هويّة عراقية أصيلة، وتبدو العلاقة بيت الثلاثي علاوي-ياقوت-عفاف كأنّها مثلث من نار، لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منه، علاقة دهشة طفولية تكتشف العالم بواسطة اكتشاف الجسد، مرتكزة على ثنائيات محيّرة، تجمع بين العاطفة والرغبة، الاحتياج والارتواء، النقص والاكتمال، حتى تأتي صدمة النهاية القاسية بمثابة صرخة مدوّية ومكتومة تضعنا أمام سؤال صادم هو الآخر، جوهره، هل من حدّ فاصل بين القسوة والجنون؟”.
إنّ مثلث النار هذا هو الذي يمسك بالمتلقي الباحث عن جمرة السرد، إذ أنه لا ينشغل أو يهتم بمستويات السرد المتعدّدة ولا تعنيه الإشارة إلى محلية النصّ، بقدر ما تعنيه إنسانية التجربة التي يريد أن يكتوي بنارها اختيارًا أو مرغمًا، بعد أن جسّد الكاتب بنية خطابه السرديّ ودلالاته الإنسانية نتيجة لدقّة اختيار الأمكنة والشخصيات التي تشدّ خيوط الحكاية بعضها إلى بعض.
لكن “لو أصغيت جيدًا، ستسمع نقر الدفوف”، ذلك هو خيط الحكاية الذي يربط العتبة بنص الناشر الذي يطلب بواسطته الأذن للدخول إلى عالم النصّ. إنّ هذه الإجرائيات الاختزالية البسيطة والممهدة للنصّ أو التي تشعل الرغبة في الدخول إلى عالمه، لا تستغرق من المتلقي وقتًا طويلًا لفتح أبواب بيت السودان لينتقل القارئ إلى المشهد الافتتاحي للنصّ الذي يكاد يكون مشهدًا بانوراميًا شاملًا محفزًا ومثيرًا ومؤكدًا لإشارات الغلاف الأخير.
“فتشربتُ الليل كلّه حتى صرت سوداء” هذه المرأة تدرك سرّ السحر في لونها وجاذبية الإثارة والتمنّع، لذا فإنها لا تبدأ في سرد الحكاية، وإنما تواصل سرديات الحكي، فهي لم تكن متوقفة عن الحكي أصلا بدليل وجود “الفاء” التي تشير إلى استمرارية فعل الكلام السرديّ، وهو ما يبحث عنه المتلقي لاحقًا بين السطور، لكن العلاقات السببية في الجمل النصيّة لا توضح الحالة العامّة، وإنّما تقف عند حدود الجملة النصيّة، كما لو كان هناك بخل في التفاصيل أو تقتير في كشف مكنون الحكاية السرديّة ضمن المشهد الخاص، على الرغم من أنّه تقتير محسوب بدقّة كما سندرك لاحقًا.
تجربة سردية
إن هذه التجربة السردية الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة "خان الشابندر" إذ تجمعهما مشتركات نصية كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السردي وبنية الحكاية، إلا أن الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحا ونضجا في {بيت السودان}
“ها أنا أبرئ ذمّتي، حياتك البائسة ستكون هائمة حول بيت السودان أو مخاضة المتعة أو بوابة المدينة للعروج إلى سماء الذهول.. ستجده ولا تجده.. وتدخله ولا تدخله.. لكنّه في المحصلة سيحلّق في الفضاء حاملًا قاطنيه معه”، هذا المشهد الافتتاحي يضع المتلقي أمام عتبات عدة لا بد أن يمرّ بها أو يتفاعل معها ويفككها، للتواصل مع الحكاية العامّة، فقد اشتمل هذا المشهد على الآتي:
أولًا: تحفيز المخيّلة على الابتكار الصوري والتواصل الدلالي بين لون البشرة وتفاعلاته ودلالته، سواء ما يحوي أو يفصح عنه النصّ أو ما تكشف عنه مخيّلة المتلقي من دلالات كلٌّ حسب مخزونه الصوري.
ثانيًا: التعشيق السردي بين المسموع والمعاش من الوقائع والتفاصيل.
ثالثًا: تحذير المتلقي الخارجي بواسطة تحذير المتلقي الداخلي في النص.
رابعًا: التأكيد على عدم تصديق كل ما يقال أو التشكيك في كل ما يحدث في المتن الحكائي للنصّ، وهو الأمر الذي يحفز على تشكيل وبناء النصّ الخاص بالمتلقي الذي يحمل صدقيته الذاتية خارج جدلية الصدق أو التشكيك في الحكاية المسرودة.
خامسًا: التمسك بالمرأة.
سادسًا: المرأة وسيلة هداية وغواية.
لذلك يختتم مشهد الافتتاح هذا بالجملة الآتية “لا تصدق كل ما يقال وتمسك بالمرأة ولا تدعها تتوه منك، فهي هاديتك ووسيلتك للخروج سالمًا من مخاضة الحكايا”، وهذا ما نجد تجسيده السردي في لحظات اشتعال الرغبة على جمر موقد الفحم واصطفاق الكؤوس وقرع الدفوف واهتزاز الأرداف في الرقص والغناء.
إنّ هذه التجربة السرديّة الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة “خان الشّابندر” إذ تجمعهما مشتركات نصيّة كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السرديّ وبنية الحكاية، إلّا أنّ الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحًا ونضجًا في “بيت السودان”، وهو الأمر الذي يعزّز ثقة المتلقي في الكاتب لجهة الإقبال على نتاجه الروائي، كما هو حاصل في روايته السابقة.
الانحراف السردي
يذهب الكاتب للتعبير عن تجربته السرديّة في اتّجاهات الخيال والحلم البعيد عن التشكيل الحدثي اليوميّ أو القريب من قناعات المتلقي، فالنصّ هنا لا يستقر أو يهدأ أو يتوقف عند جملة أو حاله أو شخصية أو مكان، وإنما يجسد جميع الحالات والأمكنة والشخصيات دفعة واحدة، كما أن الكاتب يدرك جيدًا الحدود الفاصلة بينه وبين الآخرين، وهذا الإدراك هو بداية معيارية الوعي الفني في الحدود الفاصلة بين هذا العمل وذاك، وهو الشحنة الصادمة ليقظة القارئ المراقب أو الراصد المتفاعل مع عملية الخلق الإبداعي، بينما يحاول الكاتب، في حمّى الخيال، فتح نافذة ليطل منها على “بيت السودان”، بما فيه من أعاجيب، مغادرًا أو متجاوزًا محطّته السابقة “خان الشّابندر”.
الخيال.. المرأة
هل يتلاعب الكاتب بمشاعر المتلقي في العزف على أوتار المرأة؟ أم إنّه يتخذها حافزًا للانطلاق إلى مشهد إنساني أشمل وأعمّ من الحدود الجسدية لهذا الكائن الرقيق الحالم، عندما يقول “وتلك المرأة التي في خيالك، مهما كان اسمها… تمسّك بأذيالها، لا تفلتها مهما حدث”، ما هي مواصفات هذه المرأة التي في الخيال يا ترى؟ إن هذه الخلطة الكيميائية العجيبة للمرأة “الرائحة والروح والجسد” كتجربة وخيال في آن واحد هي مزيج مركّب من فعل الرؤيا والحلم وتجاوز الواقع، وكل ذلك عبر انتقائية التجارب الذاتية لتشكيل صورة المثال الخيالي الذي يطمح في الوصول إليه، لكن في المحصلة فإنّ النصّ يرتكز على عدد من الثوابت الجوهرية أهمها:
يحسم الكاتب خياراته بين الأركان الثلاثة أعلاه في اختياره ما يمكن تسميته أسطرة الواقع والذهاب به إلى مناطق الخيال الخلّاق بعيدًا عن روح السكينة والمهادنة النصيّة، لأنّه ينحرف عن السياق محطمًا النسق التقليدي، وضمن المتن المفترض الذي يتلقفه القارئ الفاعل ليمتطي خيال الكاتب ويوظفه في ابتكار متخيّله السرديّ الخاص للمرأة، ليس بوصفها نبع النصّ وعطره وحسب، وإنّما بوصفها المحفز للإثارة والإدهاش، عندما تتحول باحة بيت السودان التي هي فضاء للفرح والنشوة والتحليق في الخيال الافتراضي إلى بؤرة حكاية نصيّة تكوّن في النهاية حكاية وطن.
“نعم يا عزيزي.. عقلك البشري لا يتّسع لمثل هذا الكم الهائل من الخيال.. أعرف ذلك.. لكن صدّقني ولو هذه المرة فقط.. إن لم تفعل فستبدد روحك هباء وتتعذب وتتيه في غياهب الطرق المتقاطعة ويتلاعب بك السحرة.. فالحكايا التي ستسمعها والوقائع التي ستعيشها يشيب لها شعر الرضيع”.
بين خيال السارد-المؤلف وخيال المتلقي، يتقرر تقبل أو استيعاب هذه الحكاية من عدمه، وهو أمر لا علاقة له بصدقية أو واقعية التفاصيل الحكائية في المتن السرديّ، وإنّما يتعلق بمنطق الخيال وإجرائياته الحكائية في تجسيد وتفعيل الواقع سرديًا، للخروج بالوطن من إطار الشكل إلى إطار المعنى الإنساني، ولعلّ عبارة “أعذب السرد أصدقه” لا تعني الصدقية السرديّة هنا “واقعية الحوادث”، وإنما درجة المقبولية والرضا وفق معيارية القارئ المعرفية والثقافية في قبول النسق السردي والاقتناع بسياق الحكاية السرديّة، بعيدًا عن مقياس التطابق أو الاختلاف مع الواقع، لأن النص، أيّ نص، سواء كان جيدا أو رديئا، يمتلك واقعه الخاص.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الباحثة عن الصدق الكاذب أو المخادع في خلق مركّب الخيال الافتراضي في النص السردي تكون المتجسدات الجمالية المشعة، بدءًا من كلمة الافتتاح الأولى حتى جملة الختام النهائية التي تفتح بيت السودان على فضاء الوطن-المقبرة “وكنت كلّما التفتّ ورائي لمحت النساء السوداوات السبع يلوحنّ لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف غامض مثل طائر، هتف في أذني بنبرة حنون.. اذهب مع عفاف يا حبيبي..لا تخف.. لا تخف.. لا تخف”.
...
كاتب من العراق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.