عن دار سطور في بغداد صدرت للروائي العراقي سعد محمد رحيم روايته الجديدة (فسحة للجنون)(1). وهي رواية عسكرية في إطار إنساني. وتتابع حكاية غرام نهلة وعامر، ثم اعتقال عامر، وإصابته في السجن بالجنون قبل إطلاق سراحه، عند أول شرارة لحرب الخليج الأولى. وهكذا يتعايش جنون الشخصيات مع جنون الحرب الطاحنة. ومن وراء هذه الحبكة نشاهد صورة لسادية هذه الحرب وانعكاساتها على الأرض والإنسان(2). وقد لعب سعد رحيم بهذه الحيلة المعروفة ليتكلم عن مشكلتنا مع الحرية وارتباطها بواحد من إثنين: المسؤولية والالتزام. وأكد من خلال تطور الأحداث ومصير عامر أن الجنون هو ردة فعل لإنكار الماضي. كما أنه موقف إنساني ضد الحرب، وبالضرورة ضد النظام الذي يجد في الحلول العسكرية أفضل طريقة للتمويه على فراغه النفسي والوطني. ويعبر عامر نفسه عن هذه الفكرة بقوله: أنا موجود لكن غير حاضر. ويضيف: العدم شيء والخروج على القانون شيء آخر. ويختم هذه السلسلة الرواقية من الاستنتاجات بقوله: أنا أهذي لكن الحرب قادتنا جميعا إلى الجنون بعينه. وبرأيي إن الرواية تصور شخصية تعرف ما تريد ولكنها إزاء مجتمع لا يفهم أفراده، ويعيش نكبة مستمرة في ظل أوضاع يهيمن عليها العنف والخوف. ولدينا في أرشيف الرواية العربية تجارب سابقة تناولت نفس الموضوع بتفاصيل خلابة ومدهشة، ومنها نجيب محفوظ في (همس الجنون) ثم (زقاق المدق). وفيهما انتهى لنتيجة مفادها أنه مجرد تفسير غير منطقي لتبدل دخل إلى حياتنا. ولكنه عند رحيم وأبناء جيله يبدو طريقة من طرق المقاومة، مثله مثل الانتحار الذهني الذي اخترعه كامو للتهرب من تدمير الوعي في الأنا، أو للتمويه على الوعي بعكسه، ومن خلال إعادة ترتيب درجات المعرفة في حياة الإنسان. بحيث يصبح الإدراك خلف الإحساس، والعلاقة مع الواقع خلف العلاقة مع عالم الرغبات والنوايا. ظاهرة معرفية ولدى توفيق فياض في مجموعته القصصية (البهلول) سياق مشابه. فهو ينظر للجنون على أنه خير وسيلة للتهرب من عدمية الموت ولا معناه وعبثيته، وبذلك إنه ظاهرة معرفية وغير سريرية. ومثله توفيق الحكيم في (نهر الجنون). وللتوضيح، إن رواية سعد رحيم (شأن أعمال توفيق فياض) تفسر لنا أسباب العنف في المجتمع دون أن تهتم بالمنطق أو العقل أو ضده. وكما يقول هابرماز: هذه محاولة لدراسة طرائق تكون العقل(ص367)، وهي أيضا (حسب هابرماز كذلك) محاولة في تعريف الحدود(ص367)، وتعبر عن رفض الطبيعة لتعريف العقل. فالإنسان يدرك نفسه والعالم المحيط به بأسلوبه الخاص (ص367) ولذلك يبدو بالنسبة لشبكة العلاقات غير القابلة للتحول والتطوير وكأنه خارجها(3). ويمكن النظر لرمزية الجنون في هذه الرواية على أنها توزيع لحياة الإنسان بين مجالين: الطبيعة والمعرفة. الذات في الطرف الأول، والسلطة في الطرف الثاني. ومن هنا تأتي مبررات الحرب، وهي محاولة كل طرف لتوسيع مساحته على حساب الآخر. إن الأطروحة الأساسية لشخصيات (فسحة للجنون) هي انفصال العقل عن نظام المعرفة الذي تنتجه السلطة لا الذي ينجم عن تجربة التاريخ في الطبيعة. وبطريقة من الطرق إن الحبكة الأساسية، في الرواية، ليست حكاية الحرب وصناعة الرعب، وإنما هي تعبير الذات عن نفسها (والعبارة الأخيرة أيضا لهابرماز- ص369). لذلك يمكنك أن ترى دور العقل الأداتي وهو يعمل. إنه ينهمك بخطاب ذاتي عن المكان، ويبتعد ما أمكنه عن عقل المحاكاة الذي تعول عليه السلطات لضمان سيادتها على المجتمع(ص370). وكذلك هو شأن لعبة سعد رحيم مع الشكل والأسلوب. فهو يفصل الشخصيات والأدوات الفنية عن تكنيك المحاكاة أو المرآة أو نشاط البصر (ما يسميه النقد الفني بعين الكاميرا)، وينظر لما حوله بأسلوب المصور حين يكون في الغرفة المظلمة. فكل شيء يسبح في هيولى، وتتطور المعاني من ورائها دون أي اعتبار حقيقي لمنطق التسلسل. ومع ذلك إنه لا يتخلى عن منطق السببية، وكما يرى عامر(بطل الرواية): لا يوجد في الحياة شيء إلا وراءه سبب حقيقي قاهر. الأمر الذي يوسع من الفجوة في الواقع ولا يردمها. فهو مع التفسير التاريخي للمجتمع والسلطة من جهة، ومع التفسير السحري والأسطوري للأفراد من جهة مقابلة. وهذا هو منشأ ما يمكن أن نسميه بالواقعية الليبرالية، فهي تعزو للفرد دورا بطوليا يمكن أن يغير من رؤيتنا للتاريخ. ويمكن أن نتذكر في هذا الصدد تهمة الجنون التي لحقت بكل رواد النهضة والتنوير، مثل جبران (من العصر الحديث) والنبي محمد (في فجر الإسلام). وأية مقارنة لبطل الرواية مع من سبقه ستكون لصالحه. فقد انسحب من ساحة المعركة إلى الغابة، كما فعل جبران بالهجرة إلى أمريكا، والنبي محمد بالهجرة إلى المدينة. إنها حالة نموذجية متكررة تربط الجنون الاجتماعي والسياسي بالانفصال عن المكان (بالمعنى الذي استعمله إدوارد سعيد في كتابه) فهو نزوح اضطراري وقسري، وتتبعه فلسفة الترحال واكتشاف موضع الذات في العالم. بكل بساطة إن وراء جنون عامرفي رواية رحيم حب مضطرب (لو احتكمنا لتعبير وين جين أويان- ص150)(4). فالحب هو السبب المباشر للجنون في كلاسيكيات الأدب العربي. وأعتقد أننا جميعا سمعنا بمجنون ليلى. ولكن في هذه الحالة يلحق الفشل بالموضوع وليس بالذات. وكانت الموانع في الحقيقة جزءا من ماكينة النظام وليس من تقاليد وأعراف المجتمع. ولذلك إن جنون عامرفي الرواية ينطبق عليه تفسير أويان بالضبط. فهو يخبرنا، كما تقول، بالكثير من التجارب المؤسفة والآيلة للسقوط والتي مرت بها دولة الأمة. والأهم كما تضيف: أنه يكشف عن العلاقة المعقدة بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود. إن حب عامريندرج في (ألوان الحب الثلاثة) التي تكلم عنها الدكتور العجيلي وأنور قصيباتي في روايتهما المشتركة عن سقوط دولة الوحدة بين مصر وسوريا. فهو حب محكوم عليه بالفشل لأن كل المؤشرات الاجتماعية تنذر بعدم كفاءة العلاقة. يتشابه عامرمع بطل العجيلي من عدة وجوه. كلاهما نخبوي، وجزء من ماكينة البورجوازية الصغيرة الناهضة. في حالة رحيم هو فنان وفي حالة العجيلي إنه من سلك المحاماة. كلاهما لديه هم سياسي يأخذ شكل غرام أو رغبة عضوية. فعامر يحلم بيوتوبيا تتساوى فيها الطبقات والشرائح. ولكن العجيلي يحلم بماضيه الذهبي وأمجاد أمته. الفن متهم وعلاوة على ذلك هناك أيضا فروق في الأطروحتين، وهي فروق مادية ملموسة. فالفن متهم في مجتمعاتنا التقليدية ويستحق من المجتمع أن يرميه بحجرة وكأنه من الكبائر. بينما المحاماة جزء من العقل الكلاسيكي للأرستقراطية الحاكمة التي أحكمت زمام الأمور بعد الاستقلال. ولذلك كان غرام عامرعاطفيا، نسمع به ولا نراه. بمعنى أن صفات المحبوبة غير واضحة وبلا تجسيد. في حين أن محبوبات العجيلي وزميله مجرد أطياف لفكرة تتضح مع مرور الوقت وتفيض من العقل إلى الصورة. فهو حب ذهاني بعيد كل البعد عن الرومنسية الاجتماعية وأقرب ما يكون للرومنسية التاريخية. بلغة أوضح: هو حب رجعي، يتحرك بعكس عقارب الساعة. ولا يريد الانتقال من حالة تاريخية لما بعدها. وحسب منطق التطور.. من البسيط إلى المعقد. وإنما يبذل كل جهده لاستعادة الماضي وقانون المراحل السابقة. إنه لو شئت التوضيح انتقال عصابي بلا تحول(5). ولمزيد من التوضيح. بطل رحيم إنسان مسحور بفكرة لم تتحق. وبطل العجيلي وقصيباتي مسحور بفكرة ميتة ومدفونة تحت ركام الماضي بكل أخطائه. وهذا يعود بنا لأطروحة أويان.. إن سبب جنون عامرهو تخلخل العلاقة الأساسية بين العقل والعدالة والسلطة. ولكن بقية الأطروحة لا تصمد أمام الرواية. فإذا كانت أويان تعتقد أن نماذج المجانين في الرواية العربية مجرد حيلة للاتصال بالحقيقة (ص151)، أجزم أن عامر وجد السلامة والأمان في التظاهر بالجنون. وبالتالي هو هارب وصعلوك عن سابق قصد وتصميم ليعبر بطرق مأمونة عن رفضه للمقاييس والمعايير، وليس عن فشل مشروع دولة الأمة وشعورها بالضعف والاغتراب. فهو لم يكن حزينا وبائسا بسبب انكسار هذا المشروع (حالة العجيلي وقصيباتي) وإنما بسبب العنف الذي تطبقه الدولة للتبشير برسالتها حول أمة مزعومة. لقد وجدت (فسحة للجنون) في ضياع الرشد أسلوبا لتجاوز مرحلة المرآة والتعايش مع قانون إفناء (بمعنى إلغاء) الذات. وهكذا احتفظت الصورة بموضوعيتها وحققت للرمز وجودا مستقلا بمعزل عن الذات. وبهذا المعنى يقول عامر في مونولوج قصير: الحقيقة هي في الموت. وهو تغيير في شكل المادة فقط. وكأنه يريد أن يقول: إن شرط الوجود هو نفسه، لكن أسلوب إدراكه هو الذي تعرض للتبدل. بمعنى أن الشكليات تراجعت أهميتها لأن الظاهر لم يعد بأهمية الباطن. ... هوامش: 1- فسحة للجنون. رواية، منشورات دار سطور ببغداد. 2018 . 2- قصة War للكاتب الإيطالي المعروف Luigi Pirandello . من ترجمتي. منشورة في المثقف. العدد :2089 الجمعة 13 نيسان 2012. 3- القول الفلسفي للحداثة. يورغان هبرماس. ترجمة فاطمة الجيوشي. وزارة الثقافة. دمشق. 1995. 4- سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية. وين جين أويان. دار نينوى، دمشق. 2017. 5- مرحلة المرآة لجاك لاكان. في كتابه: العناصر الأربعة في التحليل النفسي. طبعة بنغوين. عن دار سطور في بغداد صدرت للروائي العراقي سعد محمد رحيم روايته الجديدة (فسحة للجنون)(1). وهي رواية عسكرية في إطار إنساني. وتتابع حكاية غرام نهلة وعامر، ثم اعتقال عامر، وإصابته في السجن بالجنون قبل إطلاق سراحه، عند أول شرارة لحرب الخليج الأولى. وهكذا يتعايش جنون الشخصيات مع جنون الحرب الطاحنة. ومن وراء هذه الحبكة نشاهد صورة لسادية هذه الحرب وانعكاساتها على الأرض والإنسان(2). وقد لعب سعد رحيم بهذه الحيلة المعروفة ليتكلم عن مشكلتنا مع الحرية وارتباطها بواحد من إثنين: المسؤولية والالتزام. وأكد من خلال تطور الأحداث ومصير عامر أن الجنون هو ردة فعل لإنكار الماضي. كما أنه موقف إنساني ضد الحرب، وبالضرورة ضد النظام الذي يجد في الحلول العسكرية أفضل طريقة للتمويه على فراغه النفسي والوطني. ويعبر عامر نفسه عن هذه الفكرة بقوله: أنا موجود لكن غير حاضر. ويضيف: العدم شيء والخروج على القانون شيء آخر. ويختم هذه السلسلة الرواقية من الاستنتاجات بقوله: أنا أهذي لكن الحرب قادتنا جميعا إلى الجنون بعينه. وبرأيي إن الرواية تصور شخصية تعرف ما تريد ولكنها إزاء مجتمع لا يفهم أفراده، ويعيش نكبة مستمرة في ظل أوضاع يهيمن عليها العنف والخوف. ولدينا في أرشيف الرواية العربية تجارب سابقة تناولت نفس الموضوع بتفاصيل خلابة ومدهشة، ومنها نجيب محفوظ في (همس الجنون) ثم (زقاق المدق). وفيهما انتهى لنتيجة مفادها أنه مجرد تفسير غير منطقي لتبدل دخل إلى حياتنا. ولكنه عند رحيم وأبناء جيله يبدو طريقة من طرق المقاومة، مثله مثل الانتحار الذهني الذي اخترعه كامو للتهرب من تدمير الوعي في الأنا، أو للتمويه على الوعي بعكسه، ومن خلال إعادة ترتيب درجات المعرفة في حياة الإنسان. بحيث يصبح الإدراك خلف الإحساس، والعلاقة مع الواقع خلف العلاقة مع عالم الرغبات والنوايا. ظاهرة معرفية ولدى توفيق فياض في مجموعته القصصية (البهلول) سياق مشابه. فهو ينظر للجنون على أنه خير وسيلة للتهرب من عدمية الموت ولا معناه وعبثيته، وبذلك إنه ظاهرة معرفية وغير سريرية. ومثله توفيق الحكيم في (نهر الجنون). وللتوضيح، إن رواية سعد رحيم (شأن أعمال توفيق فياض) تفسر لنا أسباب العنف في المجتمع دون أن تهتم بالمنطق أو العقل أو ضده. وكما يقول هابرماز: هذه محاولة لدراسة طرائق تكون العقل(ص367)، وهي أيضا (حسب هابرماز كذلك) محاولة في تعريف الحدود(ص367)، وتعبر عن رفض الطبيعة لتعريف العقل. فالإنسان يدرك نفسه والعالم المحيط به بأسلوبه الخاص (ص367) ولذلك يبدو بالنسبة لشبكة العلاقات غير القابلة للتحول والتطوير وكأنه خارجها(3). ويمكن النظر لرمزية الجنون في هذه الرواية على أنها توزيع لحياة الإنسان بين مجالين: الطبيعة والمعرفة. الذات في الطرف الأول، والسلطة في الطرف الثاني. ومن هنا تأتي مبررات الحرب، وهي محاولة كل طرف لتوسيع مساحته على حساب الآخر. إن الأطروحة الأساسية لشخصيات (فسحة للجنون) هي انفصال العقل عن نظام المعرفة الذي تنتجه السلطة لا الذي ينجم عن تجربة التاريخ في الطبيعة. وبطريقة من الطرق إن الحبكة الأساسية، في الرواية، ليست حكاية الحرب وصناعة الرعب، وإنما هي تعبير الذات عن نفسها (والعبارة الأخيرة أيضا لهابرماز- ص369). لذلك يمكنك أن ترى دور العقل الأداتي وهو يعمل. إنه ينهمك بخطاب ذاتي عن المكان، ويبتعد ما أمكنه عن عقل المحاكاة الذي تعول عليه السلطات لضمان سيادتها على المجتمع(ص370). وكذلك هو شأن لعبة سعد رحيم مع الشكل والأسلوب. فهو يفصل الشخصيات والأدوات الفنية عن تكنيك المحاكاة أو المرآة أو نشاط البصر (ما يسميه النقد الفني بعين الكاميرا)، وينظر لما حوله بأسلوب المصور حين يكون في الغرفة المظلمة. فكل شيء يسبح في هيولى، وتتطور المعاني من ورائها دون أي اعتبار حقيقي لمنطق التسلسل. ومع ذلك إنه لا يتخلى عن منطق السببية، وكما يرى عامر(بطل الرواية): لا يوجد في الحياة شيء إلا وراءه سبب حقيقي قاهر. الأمر الذي يوسع من الفجوة في الواقع ولا يردمها. فهو مع التفسير التاريخي للمجتمع والسلطة من جهة، ومع التفسير السحري والأسطوري للأفراد من جهة مقابلة. وهذا هو منشأ ما يمكن أن نسميه بالواقعية الليبرالية، فهي تعزو للفرد دورا بطوليا يمكن أن يغير من رؤيتنا للتاريخ. ويمكن أن نتذكر في هذا الصدد تهمة الجنون التي لحقت بكل رواد النهضة والتنوير، مثل جبران (من العصر الحديث) والنبي محمد (في فجر الإسلام). وأية مقارنة لبطل الرواية مع من سبقه ستكون لصالحه. فقد انسحب من ساحة المعركة إلى الغابة، كما فعل جبران بالهجرة إلى أمريكا، والنبي محمد بالهجرة إلى المدينة. إنها حالة نموذجية متكررة تربط الجنون الاجتماعي والسياسي بالانفصال عن المكان (بالمعنى الذي استعمله إدوارد سعيد في كتابه) فهو نزوح اضطراري وقسري، وتتبعه فلسفة الترحال واكتشاف موضع الذات في العالم. بكل بساطة إن وراء جنون عامرفي رواية رحيم حب مضطرب (لو احتكمنا لتعبير وين جين أويان- ص150)(4). فالحب هو السبب المباشر للجنون في كلاسيكيات الأدب العربي. وأعتقد أننا جميعا سمعنا بمجنون ليلى. ولكن في هذه الحالة يلحق الفشل بالموضوع وليس بالذات. وكانت الموانع في الحقيقة جزءا من ماكينة النظام وليس من تقاليد وأعراف المجتمع. ولذلك إن جنون عامرفي الرواية ينطبق عليه تفسير أويان بالضبط. فهو يخبرنا، كما تقول، بالكثير من التجارب المؤسفة والآيلة للسقوط والتي مرت بها دولة الأمة. والأهم كما تضيف: أنه يكشف عن العلاقة المعقدة بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود. إن حب عامريندرج في (ألوان الحب الثلاثة) التي تكلم عنها الدكتور العجيلي وأنور قصيباتي في روايتهما المشتركة عن سقوط دولة الوحدة بين مصر وسوريا. فهو حب محكوم عليه بالفشل لأن كل المؤشرات الاجتماعية تنذر بعدم كفاءة العلاقة. يتشابه عامرمع بطل العجيلي من عدة وجوه. كلاهما نخبوي، وجزء من ماكينة البورجوازية الصغيرة الناهضة. في حالة رحيم هو فنان وفي حالة العجيلي إنه من سلك المحاماة. كلاهما لديه هم سياسي يأخذ شكل غرام أو رغبة عضوية. فعامر يحلم بيوتوبيا تتساوى فيها الطبقات والشرائح. ولكن العجيلي يحلم بماضيه الذهبي وأمجاد أمته. الفن متهم وعلاوة على ذلك هناك أيضا فروق في الأطروحتين، وهي فروق مادية ملموسة. فالفن متهم في مجتمعاتنا التقليدية ويستحق من المجتمع أن يرميه بحجرة وكأنه من الكبائر. بينما المحاماة جزء من العقل الكلاسيكي للأرستقراطية الحاكمة التي أحكمت زمام الأمور بعد الاستقلال. ولذلك كان غرام عامرعاطفيا، نسمع به ولا نراه. بمعنى أن صفات المحبوبة غير واضحة وبلا تجسيد. في حين أن محبوبات العجيلي وزميله مجرد أطياف لفكرة تتضح مع مرور الوقت وتفيض من العقل إلى الصورة. فهو حب ذهاني بعيد كل البعد عن الرومنسية الاجتماعية وأقرب ما يكون للرومنسية التاريخية. بلغة أوضح: هو حب رجعي، يتحرك بعكس عقارب الساعة. ولا يريد الانتقال من حالة تاريخية لما بعدها. وحسب منطق التطور.. من البسيط إلى المعقد. وإنما يبذل كل جهده لاستعادة الماضي وقانون المراحل السابقة. إنه لو شئت التوضيح انتقال عصابي بلا تحول(5). ولمزيد من التوضيح. بطل رحيم إنسان مسحور بفكرة لم تتحق. وبطل العجيلي وقصيباتي مسحور بفكرة ميتة ومدفونة تحت ركام الماضي بكل أخطائه. وهذا يعود بنا لأطروحة أويان.. إن سبب جنون عامرهو تخلخل العلاقة الأساسية بين العقل والعدالة والسلطة. ولكن بقية الأطروحة لا تصمد أمام الرواية. فإذا كانت أويان تعتقد أن نماذج المجانين في الرواية العربية مجرد حيلة للاتصال بالحقيقة (ص151)، أجزم أن عامر وجد السلامة والأمان في التظاهر بالجنون. وبالتالي هو هارب وصعلوك عن سابق قصد وتصميم ليعبر بطرق مأمونة عن رفضه للمقاييس والمعايير، وليس عن فشل مشروع دولة الأمة وشعورها بالضعف والاغتراب. فهو لم يكن حزينا وبائسا بسبب انكسار هذا المشروع (حالة العجيلي وقصيباتي) وإنما بسبب العنف الذي تطبقه الدولة للتبشير برسالتها حول أمة مزعومة. لقد وجدت (فسحة للجنون) في ضياع الرشد أسلوبا لتجاوز مرحلة المرآة والتعايش مع قانون إفناء (بمعنى إلغاء) الذات. وهكذا احتفظت الصورة بموضوعيتها وحققت للرمز وجودا مستقلا بمعزل عن الذات. وبهذا المعنى يقول عامر في مونولوج قصير: الحقيقة هي في الموت. وهو تغيير في شكل المادة فقط. وكأنه يريد أن يقول: إن شرط الوجود هو نفسه، لكن أسلوب إدراكه هو الذي تعرض للتبدل. بمعنى أن الشكليات تراجعت أهميتها لأن الظاهر لم يعد بأهمية الباطن. ... هوامش: 1- فسحة للجنون. رواية، منشورات دار سطور ببغداد. 2018 . 2- قصة War للكاتب الإيطالي المعروف Luigi Pirandello . من ترجمتي. منشورة في المثقف. العدد :2089 الجمعة 13 نيسان 2012. 3- القول الفلسفي للحداثة. يورغان هبرماس. ترجمة فاطمة الجيوشي. وزارة الثقافة. دمشق. 1995. 4- سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية. وين جين أويان. دار نينوى، دمشق. 2017. 5- مرحلة المرآة لجاك لاكان. في كتابه: العناصر الأربعة في التحليل النفسي. طبعة بنغوين.