إعادة تشكيل مجلس الجامعات الأهلية والخاصة لمدة عام    اتحاد الصناعات يوضح الفترة المناسبة للاستثمار فى الذهب (فيديو)    حصاد الشرقية 2025.. تنفيذ 209 مشروعات خدمية بتكلفة 2.6 مليار جنيه    محافظ الجيزة يعقد اللقاء الأسبوعي لبحث شكاوى المواطنين    ‌الإمارات تعلن إنهاء وجودها العسكري في اليمن    بولندا: من المحتمل أن تنشر أمريكا قواتها في أوكرانيا بموجب ضمانات أمنية    تنظيم القاعدة يبحث في حضرموت عن ثغرة للعودة    جيش الاحتلال يقتل طفلة فلسطينية شرقي مدينة غزة    التشكيل الرسمي لمباراة نيجيريا ضد أوغندا في كأس أمم أفريقيا 2025    أمم إفريقيا - مؤتمر مدرب السودان: علينا القتال حتى لو واجهنا البرازيل أو الأرجنتين    كأس عاصمة مصر، مصطفى جمال يتقدم بالهدف الأول للمقاولون في مرمى الأهلي    القباني: تجربة جون إدوارد فشلت في الزمالك ويجب رحيله    الأمن يكثف جهوده للبحث عن رضيع ألقاه شاب في البحر بالدقهلية    رمضان صبحي يغادر المحكمة بعد الحكم بحبسه سنة مع الشغل    4 ظواهر جوية تضرب المحافظات.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس غدًا الأربعاء    عاجل.. المشدد 5 سنوات لل «العميل صفر» بتهمة التحريض على «ثورة المفاصل» والتهديد بقتل مرضى القلب    21 يناير.. افتتاح الدورة ال16 لمهرجان المسرح العربي    وزير الصحة يحيل المتغيبين عن العمل للتحقيق خلال جولة مفاجئة بمستشفى سنورس المركزي    كشف ملابسات مشاجرة بالجيزة وضبط طرفيها    اختيار الدكتور جودة غانم بالأمانة الفنية للمجلس الوطنى للتعليم والبحث والابتكار    صور.. نجوم الفن في تشييع جنازة والدة هاني رمزي    كنوز مدفونة بغرب الدلتا تكشف أسرار الصناعة والحياة اليومية عبر العصور    خالد الجندى: العمر نعمة كبرى لأنها فرصة للتوبة قبل فوات الأوان    مران الزمالك – الفريق يستأنف التدريبات بقيادة عبد الرؤوف.. وتصعيد عمار ياسر    خبر في الجول - ناصر ماهر ضمن أولويات بيراميدز لتدعيم صفوفه في يناير    حبس رمضان صبحي سنة مع الشغل    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    أمين البحوث الإسلامية يتفقّد منطقة الوعظ ولجنة الفتوى والمعرض الدائم للكتاب بالمنوفية    30 ديسمبر 2025.. أسعار الذهب ترتفع 25 جنيها إضافية وعيار 21 يسجل 5945 جنيها    الأمانة العامة لمجلس النواب تبدأ في استقبال النواب الجدد اعتبارا من 4 يناير    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الرئيس الإيراني يتوعد برد "قاس ومؤسف" على تهديدات ترامب    «الزراعة»: تحصين أكثر من 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر 2025    إصابة 8 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص على طريق القاهرة- أسيوط الصحراوي الغربي بالفيوم    مهرجان المنصورة الدولي لسينما الأطفال يكشف عن بوستر دورته الأولى    بمناسبة احتفالات رأس السنة.. مد ساعات عمل مترو الخط الثالث وقطار العاصمة    دينامو زغرب يضم عبد الرحمن فيصل بعد فسخ عقده مع باريس سان جيرمان    قادة أوروبيون يبحثون ملف حرب أوكرانيا    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    وزارة العدل تقرر نقل مقرات 7 لجان لتوفيق المنازعات في 6 محافظات    وزير الثقافة يُطلق «بيت السرد» بالعريش ويدعو لتوثيق بطولات حرب أكتوبر| صور    وزير الداخلية يعقد اجتماعا مع القيادات الأمنية عبر تقنية (الفيديو كونفرانس)    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    محافظ المنوفية يضع حجر الأساس لإنشاء دار المناسبات الجديدة بحي شرق شبين الكوم    مصرع تاجر مخدرات وضبط آخرين في مداهمة بؤرة إجرامية ببني سويف    معبد الكرنك يشهد أولى الجولات الميدانية لملتقى ثقافة وفنون الفتاة والمرأة    تراجع معظم مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات الثلاثاء    فيديو.. متحدث الأوقاف يوضح أهداف برنامج «صحح قراءتك»    الصحة تنفذ المرحلة الأولى من خطة تدريب مسؤولي الإعلام    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    حكام مباريات غداً الأربعاء في كأس عاصمة مصر    أوكرانيا: مقتل وإصابة 1220 عسكريا روسيا خلال 24 ساعة    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    «هتحبس ليه؟ فرحي باظ وبيتي اتخرب».. أول تعليق من كروان مشاكل بعد أنباء القبض عليه    التموين تعلن اعتزامها رفع قيمة الدعم التمويني: 50 جنيه لا تكفي    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«صخرة بيتهوفن» .. أزمة الخلاص الفردي
نشر في صوت البلد يوم 02 - 11 - 2017

في روايته «صخرة بيتهوفن» (ميريت)، يبدو المصري محمد داود مشغولاً بتشريح الحالة المجتمعية الراهنة، مسائلاً هذا القدر الهائل من الخراب في بنية المجتمع وذهنيات المجموع المكبل بالفقر، والجهل، والخوف، والميتافيزيقا، والذي يمارس الاستبداد المتبادل بين شخوصه الغارقين في المأساة، والمعبرين عن ذوات مقهورة تعد مجلى لذات جماعية مأزومة، ومقموعة في آن.
يختار داود فضاءه الروائي بعناية، فثمة «ميكروباص» ينقل الركاب (شخوص الرواية) من البلدة إلى المدينة، والعكس، على رغم أنه ليس فضاءً إبداعياً جديداً، فحضور الناقلة/ المكان حيث عدد من البشر المأزومين، موجود مثلاً في مسرحية «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، ورواية «ميرامار» لنجيب محفوظ. في «صخرة بيتهوفن» ثمة خصوصية للفضاء الروائي، تتمثل في الوعي بالبيئة المحلية، ومشكلات المكان، وأنماط التفكير داخله، وبخاصة نمط التفكير الريفي الذي يسكن وعي الشخوص، والخليط المدهش من السخرية والمأساة. يضع الروائي متلقيه في متن الحدث مباشرة، فلا مقدمات زائدة، ولا افتتاحية تبتعد بالعمل عن بنائه الأساسي، ومن ثم يحضر المكان على نحو بارز، محطة الباصات، التي تحوي عشرات النماذج الإنسانية، وتتحدد المدة الزمنية هنا بالفترة التي تسبق ركوب الباص ثم خلاصهم بالركوب، وانطلاق السيارة صوب مبتغاها. خلال ذلك؛ يحدث التفاعل بين الشخوص، ونتبين حركتهم داخل النص، وينفتح الزمن الروائي على مساحات يتجادل فيها الماضي والحاضر، ويصبح الفلاش باك من التقنيات الفاعلة في النص، ويحضر أيضاً الاستباق في بعض مواضع السرد. يبدو السارد الرئيسي هنا متورطاً في الحكاية، إنه سارد من داخلها، وليس منفصلاً عنها، لكنه ليس بطلها المركزي. إنه يشبه عين الكاميرا التي تختار لنا ما تريد، وتمر على الشخوص والأشياء والأحداث: «أسبقنا في الحضور للموقف رجل يجلس على رصيف جانبي، بعده في ترتيب الحضور امرأة تحمل قفة، ثم بقيتنا، ذلك لا يعني شيئاً في الزحام، قد يركب أولاً آخر من حضر، بل ومن أول محاولة. واحد آخر منا مميز بصلعة مبقعة، توقف عند كشك الجرائد المجاور للمحطة، حمل صحيفة، وتمهل أمام الصحف المعروضة يطالع العناوين، ثم انتقل إلى موضع قريب من القفة ذاتها، لا يعرفها ولا تعرفه، ومن جيبه يظهر سلك رفيع إلى سماعة في أذنيه» (ص5).
في النص ثمة شخوص متنوعون لا يأتي الكاتب على ذكرهم بل على صفاتهم السائدة، وكأنه يحيل على العام، فيشير إلى الخيط الواصل بين الذات الفردية وكونها صدى لذات جماعية وتعبيراً عنها، ومن ثم نجد أنفسنا أمام: (رجل الرصيف/ المرأة ذات القفة/ الحبيبين أو عاشقي الميكروباص/ ربيع القعيد/ الرجل المتين/ الرجل الصاعق/ الرجل الصلب/ المرأة الثدي)، وبما يعني أن الرغبة صوب رصد النموذج الإنساني مهيمنة على وعي الكاتب. وفي متن الحكاية نرى التفاعلات الاجتماعية التي تحيل على حيوات متعددة لأصحابها الذين لا يدينهم الكاتب ولا يتعاطف معهم، بل يكتفي بتقديمهم، تاركاً مساحات التفاعل لقارئه. فرجل الرصيف يدرس الفلسفة، ويبدو نموذجاً لذلك البطل الإشكالي الذي ينفصل عن الواقع ويتصل به في آن، فقط يراقب المشهد ولا يتورط فيه: «ولا أحد في المحطة يجلس مدخناً هكذا بلا محاولة للركوب، سوى رجل الرصيف، كأنما يتفرج على فيلم، يتأمل ألوان الأمس في نفسه، مختنقاً بما يشعر أنه غبار الأحجار المجروشة في الطاحونة. فرَّت من خاطره فكرة ما، فشل في تذكرها مرة بعد أخرى، كرغبة أثيرت من دون إشباع، قرّر الإقلاع عن مطاردتها، فيما تلوح له نادية؛ زميلته في الدراسة، شبحاً، يذوب ويتكوّن في غبار الذكرى» (ص8).
تعد تيمتا الرفض والمساءلة للواقع المعيش بمثابة البنية المهيمنة على الرواية، فعبرهما تتحدد رؤية العالم، سواء بخطاب الراوي الرئيسي دائماً، أو بخطاب البطل المركزي (رجل الرصيف) أحياناً، الذي يسخر من واقعه، ويتندر عليه، وإن ظل حاملاً بعض ملامح عدمية في شخصيته، فحينما يُقتل الرجل القروي الطيب «حمدي» على يد راكب آخر «الصاعق البلطجي»، يستأنف «رجل الرصيف» حياته بعدها بلحظات: «عبثَ بالهاتف، اتصل بربيع بضع مرات غير مجابة، وكفَّ عن المحاولة، تنبَّه لتلوث حذائه بالدم، وأرسل بصره إلى الجهة الأخرى مِن الطريق، هناك بعض القمامة، وقليل من طيور أبي قردان الهزيلة، متسخة البياض، أعاد السمَّاعة إلى أذنه، وأطلق الموسيقى» (ص 176).
يبدو الحوار في مركز بنية السرد، فعبره تتعدد لغات الشخوص، فتعبر عن تصوراتهم للعالم من جهة، وانحيازاتهم الفكرية من جهة ثانية، فيما الفضاء الروائي يشهد تفاعلاً منتجاً. وتمثل لغة النص إجمالاً إحدى أهم خصائصه الأسلوبية والدلالية هنا، فاللغة المحكية تستخدم في الحوارات، ولا يأتي السرد كلاسيكياً فصيحاً دائماً، بل يضفره الكاتب أحياناً بدوال عامية ابنة البيئة المحلية، فتصنع إيهاماً بواقعية الحدث الروائي مِن جهة، وتكشف عن ذهنية المكان الريفي وناسه مِن جهة ثانية.
يسائل الكاتب الموروث في مواضع عدة، ويأخذ الخطاب الروائي نزوعاً جسوراً في كشف الزيف الاجتماعي، والأقنعة المستترة، ولا يلجأ في ذلك إلى الصراخ الأيديولوجي ولكن يصنعه عبر المواقف السردية.
يمهد الكاتب للحادثة الروائية «مقتل حمدي على يد البلطجي» كثيراً، حتى أنها تأتي نصاً في نهاية الرواية، ويبدو (الرجل الصاعق) بمثابة الشخصية الحافزة أو المحركة للموقف السردي الراكد إلى الأمام، مثلما يمثل انطلاق الميكروباص مِن المحطة نقطة التحول الدرامي، نحو جملة من الأحداث المتواترة، والتذكر للفائت، والمونولوجات الداخلية، والحوارات المتبادلة.
قدَّم محمد داود خمس روايات مِن قبل، منها «قف على قبري شوية/ السما والعمى/ أمنا الغولة»، مسكونا بدأب وتطور لافتين، إذ نجد التوظيف المغاير للغة السرد، ومساءلة الوعي الماضوي، وتشابك الحكايات الفرعية مع المتن الرئيسي، والاختيار الدال للفضاء الروائي، واللعب على المفارقات الساخرة. وفي «صخرة بيتهوفن» تبدو الموسيقى عازلاً إنسانياً ضد القبح، يقدمها الكاتب بوصفها قادرة على أن تحول بين بطله المركزي وواقعه البائس، في محاولة للخلاص الفردي بعد أن بدا الخلاص الجماعي مستحيلاً.
في روايته «صخرة بيتهوفن» (ميريت)، يبدو المصري محمد داود مشغولاً بتشريح الحالة المجتمعية الراهنة، مسائلاً هذا القدر الهائل من الخراب في بنية المجتمع وذهنيات المجموع المكبل بالفقر، والجهل، والخوف، والميتافيزيقا، والذي يمارس الاستبداد المتبادل بين شخوصه الغارقين في المأساة، والمعبرين عن ذوات مقهورة تعد مجلى لذات جماعية مأزومة، ومقموعة في آن.
يختار داود فضاءه الروائي بعناية، فثمة «ميكروباص» ينقل الركاب (شخوص الرواية) من البلدة إلى المدينة، والعكس، على رغم أنه ليس فضاءً إبداعياً جديداً، فحضور الناقلة/ المكان حيث عدد من البشر المأزومين، موجود مثلاً في مسرحية «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، ورواية «ميرامار» لنجيب محفوظ. في «صخرة بيتهوفن» ثمة خصوصية للفضاء الروائي، تتمثل في الوعي بالبيئة المحلية، ومشكلات المكان، وأنماط التفكير داخله، وبخاصة نمط التفكير الريفي الذي يسكن وعي الشخوص، والخليط المدهش من السخرية والمأساة. يضع الروائي متلقيه في متن الحدث مباشرة، فلا مقدمات زائدة، ولا افتتاحية تبتعد بالعمل عن بنائه الأساسي، ومن ثم يحضر المكان على نحو بارز، محطة الباصات، التي تحوي عشرات النماذج الإنسانية، وتتحدد المدة الزمنية هنا بالفترة التي تسبق ركوب الباص ثم خلاصهم بالركوب، وانطلاق السيارة صوب مبتغاها. خلال ذلك؛ يحدث التفاعل بين الشخوص، ونتبين حركتهم داخل النص، وينفتح الزمن الروائي على مساحات يتجادل فيها الماضي والحاضر، ويصبح الفلاش باك من التقنيات الفاعلة في النص، ويحضر أيضاً الاستباق في بعض مواضع السرد. يبدو السارد الرئيسي هنا متورطاً في الحكاية، إنه سارد من داخلها، وليس منفصلاً عنها، لكنه ليس بطلها المركزي. إنه يشبه عين الكاميرا التي تختار لنا ما تريد، وتمر على الشخوص والأشياء والأحداث: «أسبقنا في الحضور للموقف رجل يجلس على رصيف جانبي، بعده في ترتيب الحضور امرأة تحمل قفة، ثم بقيتنا، ذلك لا يعني شيئاً في الزحام، قد يركب أولاً آخر من حضر، بل ومن أول محاولة. واحد آخر منا مميز بصلعة مبقعة، توقف عند كشك الجرائد المجاور للمحطة، حمل صحيفة، وتمهل أمام الصحف المعروضة يطالع العناوين، ثم انتقل إلى موضع قريب من القفة ذاتها، لا يعرفها ولا تعرفه، ومن جيبه يظهر سلك رفيع إلى سماعة في أذنيه» (ص5).
في النص ثمة شخوص متنوعون لا يأتي الكاتب على ذكرهم بل على صفاتهم السائدة، وكأنه يحيل على العام، فيشير إلى الخيط الواصل بين الذات الفردية وكونها صدى لذات جماعية وتعبيراً عنها، ومن ثم نجد أنفسنا أمام: (رجل الرصيف/ المرأة ذات القفة/ الحبيبين أو عاشقي الميكروباص/ ربيع القعيد/ الرجل المتين/ الرجل الصاعق/ الرجل الصلب/ المرأة الثدي)، وبما يعني أن الرغبة صوب رصد النموذج الإنساني مهيمنة على وعي الكاتب. وفي متن الحكاية نرى التفاعلات الاجتماعية التي تحيل على حيوات متعددة لأصحابها الذين لا يدينهم الكاتب ولا يتعاطف معهم، بل يكتفي بتقديمهم، تاركاً مساحات التفاعل لقارئه. فرجل الرصيف يدرس الفلسفة، ويبدو نموذجاً لذلك البطل الإشكالي الذي ينفصل عن الواقع ويتصل به في آن، فقط يراقب المشهد ولا يتورط فيه: «ولا أحد في المحطة يجلس مدخناً هكذا بلا محاولة للركوب، سوى رجل الرصيف، كأنما يتفرج على فيلم، يتأمل ألوان الأمس في نفسه، مختنقاً بما يشعر أنه غبار الأحجار المجروشة في الطاحونة. فرَّت من خاطره فكرة ما، فشل في تذكرها مرة بعد أخرى، كرغبة أثيرت من دون إشباع، قرّر الإقلاع عن مطاردتها، فيما تلوح له نادية؛ زميلته في الدراسة، شبحاً، يذوب ويتكوّن في غبار الذكرى» (ص8).
تعد تيمتا الرفض والمساءلة للواقع المعيش بمثابة البنية المهيمنة على الرواية، فعبرهما تتحدد رؤية العالم، سواء بخطاب الراوي الرئيسي دائماً، أو بخطاب البطل المركزي (رجل الرصيف) أحياناً، الذي يسخر من واقعه، ويتندر عليه، وإن ظل حاملاً بعض ملامح عدمية في شخصيته، فحينما يُقتل الرجل القروي الطيب «حمدي» على يد راكب آخر «الصاعق البلطجي»، يستأنف «رجل الرصيف» حياته بعدها بلحظات: «عبثَ بالهاتف، اتصل بربيع بضع مرات غير مجابة، وكفَّ عن المحاولة، تنبَّه لتلوث حذائه بالدم، وأرسل بصره إلى الجهة الأخرى مِن الطريق، هناك بعض القمامة، وقليل من طيور أبي قردان الهزيلة، متسخة البياض، أعاد السمَّاعة إلى أذنه، وأطلق الموسيقى» (ص 176).
يبدو الحوار في مركز بنية السرد، فعبره تتعدد لغات الشخوص، فتعبر عن تصوراتهم للعالم من جهة، وانحيازاتهم الفكرية من جهة ثانية، فيما الفضاء الروائي يشهد تفاعلاً منتجاً. وتمثل لغة النص إجمالاً إحدى أهم خصائصه الأسلوبية والدلالية هنا، فاللغة المحكية تستخدم في الحوارات، ولا يأتي السرد كلاسيكياً فصيحاً دائماً، بل يضفره الكاتب أحياناً بدوال عامية ابنة البيئة المحلية، فتصنع إيهاماً بواقعية الحدث الروائي مِن جهة، وتكشف عن ذهنية المكان الريفي وناسه مِن جهة ثانية.
يسائل الكاتب الموروث في مواضع عدة، ويأخذ الخطاب الروائي نزوعاً جسوراً في كشف الزيف الاجتماعي، والأقنعة المستترة، ولا يلجأ في ذلك إلى الصراخ الأيديولوجي ولكن يصنعه عبر المواقف السردية.
يمهد الكاتب للحادثة الروائية «مقتل حمدي على يد البلطجي» كثيراً، حتى أنها تأتي نصاً في نهاية الرواية، ويبدو (الرجل الصاعق) بمثابة الشخصية الحافزة أو المحركة للموقف السردي الراكد إلى الأمام، مثلما يمثل انطلاق الميكروباص مِن المحطة نقطة التحول الدرامي، نحو جملة من الأحداث المتواترة، والتذكر للفائت، والمونولوجات الداخلية، والحوارات المتبادلة.
قدَّم محمد داود خمس روايات مِن قبل، منها «قف على قبري شوية/ السما والعمى/ أمنا الغولة»، مسكونا بدأب وتطور لافتين، إذ نجد التوظيف المغاير للغة السرد، ومساءلة الوعي الماضوي، وتشابك الحكايات الفرعية مع المتن الرئيسي، والاختيار الدال للفضاء الروائي، واللعب على المفارقات الساخرة. وفي «صخرة بيتهوفن» تبدو الموسيقى عازلاً إنسانياً ضد القبح، يقدمها الكاتب بوصفها قادرة على أن تحول بين بطله المركزي وواقعه البائس، في محاولة للخلاص الفردي بعد أن بدا الخلاص الجماعي مستحيلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.