تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    وزير الإسكان يتفقد مشروع مرافق الأراضى الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة    روسيا: تحرير بلدة "ألكساندرو كالينوفو" في دونيتسك والقضاء على 205 مسلحين أوكرانيين    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    عدي الدباغ على أعتاب الظهور بقميص الزمالك.. اللاعب يصل القاهرة غداً    تفاصيل القبض على سوزي الأردنية وحبس أم سجدة.. فيديو    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق "بلبيس - السلام" بالشرقية    «تيشيرتات في الجو».. عمرو دياب يفاجئ جمهور حفله: اختراع جديد لأحمد عصام (فيديو)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت 26 مليونا و742 ألف خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    "قومي حقوق الإنسان": غرفة عمليات إعلامية لمتابعة انتخابات الشيوخ 2025    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    الثقافة تطلق الدورة الخامسة من مهرجان "صيف بلدنا" برأس البر.. صور    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    وزير الرياضة يشهد تتويج منتخب الناشئين والناشئات ببطولة كأس العالم للاسكواش    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالعزيز جاسم شاعر المعاينة الوجودية
نشر في صوت البلد يوم 15 - 10 - 2017

منذ المجموعة الشعريّة الأولى للشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم، «لا لزوم لي» (دار الجديد)، الصادرة في بيروت في 1995، والتي يضمّها هذا الجزء الأوّل من أعماله الشعريّة (منشورات التنوير، بيروت، 2017)، يلاحظ القارئ حذقاً مبكّراً في الكتابة الشعريّة يتجلّى في أشعار طويلة محكمة الإيقاع تتشعّب في جهات عدّة ثمّ تلتمّ على نفسها مستندةً إلى نابض متين لا يخطئ. هي في أغلبها رثائيّات كونية، حصص أو كتل ضخمة من الألم لا سوداوية فيها، بل إمعان في التحديق بالظلام والتماس للّنور من مسارب خفيّة وواعدة. ألمٌ يمنحه هو أبعاداً كونيّة وبداية متمادية ونشأةَ الخليقة: «قبل النحاس والفوتغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمّى الصفراء. ولدَ العالم ميتاً، ومقطوعاً من الرقبة كلولب الساكسفون».
في البدء كان إذاً الموت، لا الموات بمعنى الجفاف والسّديم وعدم الأشياء، بل الموت يعصف بادئ ذي بدء بالأحياء، موت ينبغي اقتياده بخفاءٍ وحنكةٍ إلى ما يشبه حياة متملّصة وذات عناد بطوليّ في المعاودة من لا شيء في كلّ مرّة. الموت ورديفه المتمثّل في الشرّ: «قبل النحاس والفوتغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمّى الصفراء. ولد الشرّ بألفِ قلبٍ من الحصى، كانت تدقّ في صدره كأجراس حِداد [...] هكذا، بتاجٍ وصولجان، عُلِّقت القلوب على أعواد المشانق».
مفاجئاً يأتي مشهد الرعب، وعلى حين غرّة، بلا تمهيد ولا سابقِ إنذار يلفي الكائن نفسه مقذوفاً خارج ذاتيّته، بل خارج إمكان الحياة نفسه. حضور سلبيّ ما، منتشرٌ وخفيّ، يعمل في السرّ ويصمّم للكائن نهايات: «نمت بالأمس وصحوتُ/ فلم أجدني/ في مكاني./ من رماني فوق هذه الجزيرة؟ من أوقد ناره عند رأسي؟ أين بيتي؟ أين بلدي؟ أين عائلتي وعصفوري الشارد اللّب؟ وزندي لمَ هو مجروح؟ ولحيتي كيف وصلتْ إلى صدري؟ وحذائي كيف نمتْ عليه الأعشاب؟ وثياب المحكوم بالإعدام هذه من ألبسني إيّاها؟». وفي موضع آخر من الديوان: «يناديني من بعيد/ من قارّة لا توجد على الخريطة/ ويهيل التراب عليّ/ من دون توقّف!».

البساطة الخادعة
بساطة اللغة في مثل هذه الفقرات خدّاعة تماماً. البساطة التي أصبحت في الأدب العالميّ الحديث أداة الكاتب للنفاذ إلى عمق الأشياء تعرب لدى شاعرنا عن فاعلية عالية وتصدر عن انهمامٍ حقيقيّ. والاستهلال المتكرّر، كما في القبستين الأوليَين أعلاه، هو استعادة للمعنى ذاته، سرعان ما تقذف به أبعد وتجعله يتوالد من نفسه ويأتي بجديد. تكرار يرفد النشيد، استئناف لا تطابقيّ، بل هو وسيلة تنويعٍ ومغايرة. والمفردات المفاجئة والصور التوليدية هي هنا ديدن العمل، لا بمعنى مفردات نادرة يُبحَث عنها في المَعاجم، فالشاعر الحقّ أكبر من القواميس، لأنّه هضم اللّغة بكامل امتدادها التاريخيّ وتعدّد مستوياتها وأداءاتها؛ بل هي مفاجئة بانخراطها في تجاورات وعُقَد غير متوقّعة، قادرة على تقريب المتنافر وتوليف المختلف بمهارة وتلقائيّة عاليتين. كلّما كبرت المسافة بين طرفَي الاستعارة أو الصورة كثرَ مبلغ التعجيب أو الإثارة الشعرية، على ما كان يرى عبد القاهر الجرجانيّ في فصله المجيد عن الاستعارة. هكذا هي الشذرة الآنفة الذكر: «عُلِّقت القلوب على أعواد المشانق». إنّ كلمة «القلوب» المموقَعة في وسط المشهد، بدلاً من «الرقاب» أو «الأجساد» مثلاً، وعلى بساطتها الظاهرية، هي هنا اللقية الفذّة التي بفضلها ينتشل الشاعر خطابه من الكليشيّات والمواطئ المشتركة ويرفعها إلى علوّ شعريّ لا غبار عليه. هكذا يشتغل القول الشعريّ لعبدالعزيز جاسم على امتداد عمله كلّه: «آلام طويلة كظلال القطارت»؛ «للذكريات تهوي كالصواعق.../ للربّ الكونكريتيّ المستريح فوق سهم البورصة»؛ «هناك حياة شوكيّة على ظهره/ يريد إنزالَها هنا»...
في هذه اللّغة الشعريّة تجتمع إذاً البساطة الحاذقة والتعبيرات المقتصدة والترميز البارع والتصوير الثريّ. بساطة تقول نثر العالَم أو الحياة، وتسوقنا إلى قلب الواقع الأسود المحدَّق به حتّى الثمالة، وإلى بداهة العيش في ثقلها الباهظ وشظفها المرير. بها يعلو نثر الحياة إلى أسمى ذروات النشيد. مبدأ تحويلٍ ومغايرة للّغة، وتنويع لأفانين القول يتأتّى لا من جهد ذهنيّ واعتمال بل من قريحة ثريّة تزوّدت بأصفى عصارات الموروث الأدبيّ للعرب وثقافات أخرى وأفلحت في اجتراح تركيبتها الشخصيّة تماماً.
بقرار وتصميم وإرادة، ينتصب الشّاعر هنا فنّاناً للّغة، رسّاماً وموسيقيّاً للكلمات. يجدّد شكل القصيدة ومنطقها النحويّ بهذه الطريقة الأثيرة عنده في وضع النقاط بدل الفواصل، حتّى في أواسط العبارات، مجبراً إيّانا على قراءة إيقاعيّة ومتمهّلة، أي أنّه يمعن، بمهارة، في وضع النقاط حيث لا توضع في العادة (...).
«ثمرتي صخرة، وأنا ثمرتها»؛ «نأيتُ بنفسي بعيداً، أبعد من حياتي ذاتها» كتب الشاعر. هكذا يتقدّم مسلَّحاً بمعرفة بالموت البدئيّ موروثة (أمّه قالت له: «تحسّسِ الموت بأصابعك»). ومن أبيه البحّار ورث هذه السياحة الاستكشافية أو نزعة الترحال الفعّال هذه التي تخترق الديوان كلّه، ومنه تَعلّمَ هذا الاكتراث بالمصائر، اكتراث هو مشاركة سخيّة وإخاء فنيّ لا يُفصَم.
حركيّة السّفر هذه تفضي به إلى مدن تجمعه بمشاهد غريبة وكائنات فريدة، وإلى صحارى ذات امتداد أسطوريّ، يستنطق فضاءاتها بولوعٍ وبلا هوادة. وهذا الترحال في المَشاهد والأمكنة يقابله ويحتضنه ترحال في الأشكال. الومضة أو الشذرة تتجاور هنا والامتداد الملحميّ، والسّرد المشبوب لتجليّات العالم يلتحم بالغناء. يقابله كذلك ترحال في اللّغات الشعرية أو مستويات الكلام الشعريّ ذكرنا للتمثيل عليه قوّة الترميز العالية والقدرة الدائمة على رفد المعاينة المحض بالتصوير البارع. والحادثة، أو المفارقة أو النكتة، بالمعنى الفنيّ لهذه الكلمات، ليست هي سيّدة هذه الكتابة كما نرى في الكثير ممّا يُكتَب من شعر متشبّه بقصيدة النثر. بل الحادثة مقولة هنا باقتضاب نافذ وفي مراهنة دائمة على التناول اللّماح والتكثيف المبهر. وهي على الدوام مضاءة من مصدر للنور غير متوقّع، أي هي دوماً محوَّلة.
بدأ الشاعر باستحضار أبيه البحّار ولكنّه لم يطنب في تعظيمه (كانا يلتقيان ليفترقا: «كنت لا أبكي ولا أتكّلم، حين يترك قبلة يتيمة على قلب أمّي، ويمضي بلا وداعٍ منّي». بل أسّس لسيرة شعريّة جماعية لبحّارة يصنعون مجد أماكنه وأماكنهم الأولى. هكذا يجهر الشاعر بتحدّره من سلالة بحّارة. ويمكن القول إنّه يتحدّر أيضاً من سلالة بحريّة بالمعنى الشامل للكلمة، ما دام يشمل بتعاطفه وصداقته كائنات البحر كلّها ويبدو مغتنياً برفقة مديدة يعلن عنها علامة هويّة وشهادة انتماء إلى أرض وحيدة عليها يتأكّد هيامه بالمعنى ويتأصّل مسعاه الشعريّ: «شعب من القصائد. شعب من الأسماك الملوّنة والقتلى. هذا هو دمي النقيّ، المعطَّر، والمجروح كعِرق الذهب في ساحة الكلاب. هذه هي أرضي الوحيدة: ظلّ الأختام، في الكأس، والجمرة، والمعنى. هذا هو مجدكم المتفحّم، كرأس مومياء فوق الحافّة الحافية».
ثمّة مسألة مهمّة، يثيرها عبدالعزيز جاسم في حواره مع الشاعر والروائيّ عبده وازن (جريدة «الحياة»، الأربعاء، 26 تموز- يوليو 2017)، ويدعنا نقف عليها في كامل أشعاره، تلكم هي مسألة وضوح القصيدة. فهنا يتجلّى وضوح مقصود ومربّى بعناية، يريك أنّ البداهة ليست نقيض التعمّق، وأنّ السلاسة لا تشكّل نفياً لمتانة العبارة ومهابتها. يريك أنّ الترميز البارع يمكن أن يُنال بكلمات قريبة تُفهَم بلا لبس ولا معاضلة. فما معنى نصّ لا يفلح في إيصال مكنوناته إلى القارئ الحصيف؟ هذا لا ينسف بالطبع احتمالات التأويل، لأنّ التأويل السخيّ وثراء المعاني والإيحاءات لا تتأتّى من طلاسم الكلام ومعميّات الأسلوب، بل من إشعاع تحبل به الكلمات وينتشر في ثناياها وفي ما بين الأسطر.

نماذج أثيرة
وضوح اللّغة، ومن الأفضل القول شفافيتها ونصاعتها، الموازَنة بفرادة الصور وفجائيّتها، تقابله أيضاً بساطة الوجوه المعروضة واكتنازها في ما وراء بساطتها هذه. وجوه «عاديّة» في الظاهر، يعرف الشاعر كيف يجعل منها نماذج أثيرة وبؤراً باهرة للكشف الوجوديّ والشعريّ. يعرف كيف يجبرها على إبراز معيشها الملحميّ وما تتخفّى عليه «عاديّتها» من كثافة وامتلاء. كما هي حال «بائعة الليمون» التي تُطالب بأن تدفن هناك حيث كانت تفرش بسطتها كلّ يوم: «لا تبعدوني أبداً عن حشاشتي، ولا أريد نائحاً منكم يمشي ورائي. فأنا فلّاحة. حرثتُ بئري وبستاني بيديّ هاتين. أطعمتكم ثماري. وعشت بين العباد مثل أميرة معطّرة تتجوّل على حمار». أو هذه المرثيّة لمهاجر أو لاجئ نيجيريّ: «البارحة، مات مع فسلته/ مع فسلته مات/ النيجيريّ ذو الملامح المحطَّمة/ هناك وسط غابة «أمريكان»/ عند البئر المردوم بالحجارة/ حيث طيرُ الشرقرق/ تحلّل إلى الأبد». أو أخيراً هذه القوّة في تصوير اكتراث الشاعر، من دون أن يتخلّى عن غواية الصّور الفعّالة أو يستسلم لسهولة الخطاب: «في آخِر الليل، هنا أنا ألتقي جاري وهو يُصرصر كطاحونةٍ، إنّه رجُل أسود. يبكي ثلاث مرّاتٍ في اليوم، بعدد الوجبات، وينير دارَه بقمعٍ كبيرٍ يوجّهه نحو القمر. فيسيل الضوء من الثقب كالعسل».
عموماً، لقد موقعَ الشاعر نفسه في ما يدعوه في عنوان إحدى قصائده «رؤية الواقف على النّطع». في مجابهة الموت هذه وفي هذا الموقف القصيّ يتكشّف له الوجود في أكثف حالاته. فإذا بالرّعب يتفتّق عن أملٍ عارم وغناء مديد: «رأى، وكما لو أنّه واقف على بساط الدم، مع جلّاد بوجهين كالسكّين، في حفرة الحشو الأخيرة، رأى وقبلَ أن يُطاح برأسه، بلاداً تشرق كالفلق. بكلّ أبّهاتها وحدائقها ومنازلها ذات الرئات المهفهفة كالشراشف. /.../ والماء من فوقها غمام عابر، والخلق فيها أسماك وأرواح ناعمة. لا تخاف السقوط وليس لها وزن./ ولكن لا وجود لها على الصفاف. ليس لها انعكاسٌ ولا صورةُ ولا اسمٌ، ولا ينفد إليها الموت ولا الكآبة مطلقاً».
بنجاح مؤكّد، جمع عبدالعزيز جاسم خيوط معاينة وجودية وانهمام إنسانيّ شامل وشغف باليوميّ، وانخطاف بالرؤيا القاصية والمعاينات الممضّة، وتغمّد هذا كلّه بعناية فائقة بالشكل الشعريّ ومتانة الإيقاع وجدّة الصّور، فجاء كلامه نشيداً شعرياً متماسكاً ومفاجئاً، ثريّاً وشديد الكثافة في كلّ صفحاته.
منذ المجموعة الشعريّة الأولى للشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم، «لا لزوم لي» (دار الجديد)، الصادرة في بيروت في 1995، والتي يضمّها هذا الجزء الأوّل من أعماله الشعريّة (منشورات التنوير، بيروت، 2017)، يلاحظ القارئ حذقاً مبكّراً في الكتابة الشعريّة يتجلّى في أشعار طويلة محكمة الإيقاع تتشعّب في جهات عدّة ثمّ تلتمّ على نفسها مستندةً إلى نابض متين لا يخطئ. هي في أغلبها رثائيّات كونية، حصص أو كتل ضخمة من الألم لا سوداوية فيها، بل إمعان في التحديق بالظلام والتماس للّنور من مسارب خفيّة وواعدة. ألمٌ يمنحه هو أبعاداً كونيّة وبداية متمادية ونشأةَ الخليقة: «قبل النحاس والفوتغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمّى الصفراء. ولدَ العالم ميتاً، ومقطوعاً من الرقبة كلولب الساكسفون».
في البدء كان إذاً الموت، لا الموات بمعنى الجفاف والسّديم وعدم الأشياء، بل الموت يعصف بادئ ذي بدء بالأحياء، موت ينبغي اقتياده بخفاءٍ وحنكةٍ إلى ما يشبه حياة متملّصة وذات عناد بطوليّ في المعاودة من لا شيء في كلّ مرّة. الموت ورديفه المتمثّل في الشرّ: «قبل النحاس والفوتغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمّى الصفراء. ولد الشرّ بألفِ قلبٍ من الحصى، كانت تدقّ في صدره كأجراس حِداد [...] هكذا، بتاجٍ وصولجان، عُلِّقت القلوب على أعواد المشانق».
مفاجئاً يأتي مشهد الرعب، وعلى حين غرّة، بلا تمهيد ولا سابقِ إنذار يلفي الكائن نفسه مقذوفاً خارج ذاتيّته، بل خارج إمكان الحياة نفسه. حضور سلبيّ ما، منتشرٌ وخفيّ، يعمل في السرّ ويصمّم للكائن نهايات: «نمت بالأمس وصحوتُ/ فلم أجدني/ في مكاني./ من رماني فوق هذه الجزيرة؟ من أوقد ناره عند رأسي؟ أين بيتي؟ أين بلدي؟ أين عائلتي وعصفوري الشارد اللّب؟ وزندي لمَ هو مجروح؟ ولحيتي كيف وصلتْ إلى صدري؟ وحذائي كيف نمتْ عليه الأعشاب؟ وثياب المحكوم بالإعدام هذه من ألبسني إيّاها؟». وفي موضع آخر من الديوان: «يناديني من بعيد/ من قارّة لا توجد على الخريطة/ ويهيل التراب عليّ/ من دون توقّف!».

البساطة الخادعة
بساطة اللغة في مثل هذه الفقرات خدّاعة تماماً. البساطة التي أصبحت في الأدب العالميّ الحديث أداة الكاتب للنفاذ إلى عمق الأشياء تعرب لدى شاعرنا عن فاعلية عالية وتصدر عن انهمامٍ حقيقيّ. والاستهلال المتكرّر، كما في القبستين الأوليَين أعلاه، هو استعادة للمعنى ذاته، سرعان ما تقذف به أبعد وتجعله يتوالد من نفسه ويأتي بجديد. تكرار يرفد النشيد، استئناف لا تطابقيّ، بل هو وسيلة تنويعٍ ومغايرة. والمفردات المفاجئة والصور التوليدية هي هنا ديدن العمل، لا بمعنى مفردات نادرة يُبحَث عنها في المَعاجم، فالشاعر الحقّ أكبر من القواميس، لأنّه هضم اللّغة بكامل امتدادها التاريخيّ وتعدّد مستوياتها وأداءاتها؛ بل هي مفاجئة بانخراطها في تجاورات وعُقَد غير متوقّعة، قادرة على تقريب المتنافر وتوليف المختلف بمهارة وتلقائيّة عاليتين. كلّما كبرت المسافة بين طرفَي الاستعارة أو الصورة كثرَ مبلغ التعجيب أو الإثارة الشعرية، على ما كان يرى عبد القاهر الجرجانيّ في فصله المجيد عن الاستعارة. هكذا هي الشذرة الآنفة الذكر: «عُلِّقت القلوب على أعواد المشانق». إنّ كلمة «القلوب» المموقَعة في وسط المشهد، بدلاً من «الرقاب» أو «الأجساد» مثلاً، وعلى بساطتها الظاهرية، هي هنا اللقية الفذّة التي بفضلها ينتشل الشاعر خطابه من الكليشيّات والمواطئ المشتركة ويرفعها إلى علوّ شعريّ لا غبار عليه. هكذا يشتغل القول الشعريّ لعبدالعزيز جاسم على امتداد عمله كلّه: «آلام طويلة كظلال القطارت»؛ «للذكريات تهوي كالصواعق.../ للربّ الكونكريتيّ المستريح فوق سهم البورصة»؛ «هناك حياة شوكيّة على ظهره/ يريد إنزالَها هنا»...
في هذه اللّغة الشعريّة تجتمع إذاً البساطة الحاذقة والتعبيرات المقتصدة والترميز البارع والتصوير الثريّ. بساطة تقول نثر العالَم أو الحياة، وتسوقنا إلى قلب الواقع الأسود المحدَّق به حتّى الثمالة، وإلى بداهة العيش في ثقلها الباهظ وشظفها المرير. بها يعلو نثر الحياة إلى أسمى ذروات النشيد. مبدأ تحويلٍ ومغايرة للّغة، وتنويع لأفانين القول يتأتّى لا من جهد ذهنيّ واعتمال بل من قريحة ثريّة تزوّدت بأصفى عصارات الموروث الأدبيّ للعرب وثقافات أخرى وأفلحت في اجتراح تركيبتها الشخصيّة تماماً.
بقرار وتصميم وإرادة، ينتصب الشّاعر هنا فنّاناً للّغة، رسّاماً وموسيقيّاً للكلمات. يجدّد شكل القصيدة ومنطقها النحويّ بهذه الطريقة الأثيرة عنده في وضع النقاط بدل الفواصل، حتّى في أواسط العبارات، مجبراً إيّانا على قراءة إيقاعيّة ومتمهّلة، أي أنّه يمعن، بمهارة، في وضع النقاط حيث لا توضع في العادة (...).
«ثمرتي صخرة، وأنا ثمرتها»؛ «نأيتُ بنفسي بعيداً، أبعد من حياتي ذاتها» كتب الشاعر. هكذا يتقدّم مسلَّحاً بمعرفة بالموت البدئيّ موروثة (أمّه قالت له: «تحسّسِ الموت بأصابعك»). ومن أبيه البحّار ورث هذه السياحة الاستكشافية أو نزعة الترحال الفعّال هذه التي تخترق الديوان كلّه، ومنه تَعلّمَ هذا الاكتراث بالمصائر، اكتراث هو مشاركة سخيّة وإخاء فنيّ لا يُفصَم.
حركيّة السّفر هذه تفضي به إلى مدن تجمعه بمشاهد غريبة وكائنات فريدة، وإلى صحارى ذات امتداد أسطوريّ، يستنطق فضاءاتها بولوعٍ وبلا هوادة. وهذا الترحال في المَشاهد والأمكنة يقابله ويحتضنه ترحال في الأشكال. الومضة أو الشذرة تتجاور هنا والامتداد الملحميّ، والسّرد المشبوب لتجليّات العالم يلتحم بالغناء. يقابله كذلك ترحال في اللّغات الشعرية أو مستويات الكلام الشعريّ ذكرنا للتمثيل عليه قوّة الترميز العالية والقدرة الدائمة على رفد المعاينة المحض بالتصوير البارع. والحادثة، أو المفارقة أو النكتة، بالمعنى الفنيّ لهذه الكلمات، ليست هي سيّدة هذه الكتابة كما نرى في الكثير ممّا يُكتَب من شعر متشبّه بقصيدة النثر. بل الحادثة مقولة هنا باقتضاب نافذ وفي مراهنة دائمة على التناول اللّماح والتكثيف المبهر. وهي على الدوام مضاءة من مصدر للنور غير متوقّع، أي هي دوماً محوَّلة.
بدأ الشاعر باستحضار أبيه البحّار ولكنّه لم يطنب في تعظيمه (كانا يلتقيان ليفترقا: «كنت لا أبكي ولا أتكّلم، حين يترك قبلة يتيمة على قلب أمّي، ويمضي بلا وداعٍ منّي». بل أسّس لسيرة شعريّة جماعية لبحّارة يصنعون مجد أماكنه وأماكنهم الأولى. هكذا يجهر الشاعر بتحدّره من سلالة بحّارة. ويمكن القول إنّه يتحدّر أيضاً من سلالة بحريّة بالمعنى الشامل للكلمة، ما دام يشمل بتعاطفه وصداقته كائنات البحر كلّها ويبدو مغتنياً برفقة مديدة يعلن عنها علامة هويّة وشهادة انتماء إلى أرض وحيدة عليها يتأكّد هيامه بالمعنى ويتأصّل مسعاه الشعريّ: «شعب من القصائد. شعب من الأسماك الملوّنة والقتلى. هذا هو دمي النقيّ، المعطَّر، والمجروح كعِرق الذهب في ساحة الكلاب. هذه هي أرضي الوحيدة: ظلّ الأختام، في الكأس، والجمرة، والمعنى. هذا هو مجدكم المتفحّم، كرأس مومياء فوق الحافّة الحافية».
ثمّة مسألة مهمّة، يثيرها عبدالعزيز جاسم في حواره مع الشاعر والروائيّ عبده وازن (جريدة «الحياة»، الأربعاء، 26 تموز- يوليو 2017)، ويدعنا نقف عليها في كامل أشعاره، تلكم هي مسألة وضوح القصيدة. فهنا يتجلّى وضوح مقصود ومربّى بعناية، يريك أنّ البداهة ليست نقيض التعمّق، وأنّ السلاسة لا تشكّل نفياً لمتانة العبارة ومهابتها. يريك أنّ الترميز البارع يمكن أن يُنال بكلمات قريبة تُفهَم بلا لبس ولا معاضلة. فما معنى نصّ لا يفلح في إيصال مكنوناته إلى القارئ الحصيف؟ هذا لا ينسف بالطبع احتمالات التأويل، لأنّ التأويل السخيّ وثراء المعاني والإيحاءات لا تتأتّى من طلاسم الكلام ومعميّات الأسلوب، بل من إشعاع تحبل به الكلمات وينتشر في ثناياها وفي ما بين الأسطر.

نماذج أثيرة
وضوح اللّغة، ومن الأفضل القول شفافيتها ونصاعتها، الموازَنة بفرادة الصور وفجائيّتها، تقابله أيضاً بساطة الوجوه المعروضة واكتنازها في ما وراء بساطتها هذه. وجوه «عاديّة» في الظاهر، يعرف الشاعر كيف يجعل منها نماذج أثيرة وبؤراً باهرة للكشف الوجوديّ والشعريّ. يعرف كيف يجبرها على إبراز معيشها الملحميّ وما تتخفّى عليه «عاديّتها» من كثافة وامتلاء. كما هي حال «بائعة الليمون» التي تُطالب بأن تدفن هناك حيث كانت تفرش بسطتها كلّ يوم: «لا تبعدوني أبداً عن حشاشتي، ولا أريد نائحاً منكم يمشي ورائي. فأنا فلّاحة. حرثتُ بئري وبستاني بيديّ هاتين. أطعمتكم ثماري. وعشت بين العباد مثل أميرة معطّرة تتجوّل على حمار». أو هذه المرثيّة لمهاجر أو لاجئ نيجيريّ: «البارحة، مات مع فسلته/ مع فسلته مات/ النيجيريّ ذو الملامح المحطَّمة/ هناك وسط غابة «أمريكان»/ عند البئر المردوم بالحجارة/ حيث طيرُ الشرقرق/ تحلّل إلى الأبد». أو أخيراً هذه القوّة في تصوير اكتراث الشاعر، من دون أن يتخلّى عن غواية الصّور الفعّالة أو يستسلم لسهولة الخطاب: «في آخِر الليل، هنا أنا ألتقي جاري وهو يُصرصر كطاحونةٍ، إنّه رجُل أسود. يبكي ثلاث مرّاتٍ في اليوم، بعدد الوجبات، وينير دارَه بقمعٍ كبيرٍ يوجّهه نحو القمر. فيسيل الضوء من الثقب كالعسل».
عموماً، لقد موقعَ الشاعر نفسه في ما يدعوه في عنوان إحدى قصائده «رؤية الواقف على النّطع». في مجابهة الموت هذه وفي هذا الموقف القصيّ يتكشّف له الوجود في أكثف حالاته. فإذا بالرّعب يتفتّق عن أملٍ عارم وغناء مديد: «رأى، وكما لو أنّه واقف على بساط الدم، مع جلّاد بوجهين كالسكّين، في حفرة الحشو الأخيرة، رأى وقبلَ أن يُطاح برأسه، بلاداً تشرق كالفلق. بكلّ أبّهاتها وحدائقها ومنازلها ذات الرئات المهفهفة كالشراشف. /.../ والماء من فوقها غمام عابر، والخلق فيها أسماك وأرواح ناعمة. لا تخاف السقوط وليس لها وزن./ ولكن لا وجود لها على الصفاف. ليس لها انعكاسٌ ولا صورةُ ولا اسمٌ، ولا ينفد إليها الموت ولا الكآبة مطلقاً».
بنجاح مؤكّد، جمع عبدالعزيز جاسم خيوط معاينة وجودية وانهمام إنسانيّ شامل وشغف باليوميّ، وانخطاف بالرؤيا القاصية والمعاينات الممضّة، وتغمّد هذا كلّه بعناية فائقة بالشكل الشعريّ ومتانة الإيقاع وجدّة الصّور، فجاء كلامه نشيداً شعرياً متماسكاً ومفاجئاً، ثريّاً وشديد الكثافة في كلّ صفحاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.