رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    رسميا بعد الهبوط الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 23 أغسطس 2025    تشيلسي يكتسح وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي الممتاز    محمد الشناوي خارج مباراة الأهلي وغزل المحلة.. هاني رمزي يكشف السبب    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    وزير الدفاع الإيراني: صواريخ جديدة برؤوس حربية متطورة لم تُستخدم في حرب ال12 يومًا    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    تشيلسي يدمر وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي.. فيديو    الحوثيون يعلنون تنفيذ 3 عمليات ضد أهداف في تل أبيب    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    أمم إفريقيا للمحليين - المليوي يقود المغرب إلى نصف النهائي.. ومدغشقر تقصي كينيا    فالنسيا من قمم المجد إلى هاوية النسيان.. حين تقودك الإدارة إلى اللعنة    تقرير: ليس فينيسيوس فقط.. أنشيلوتي يستبعد رودريجو من قائمة البرازيل    محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    ميرهان حسين جريئة وليلى علوي بإطلالة شبابية.. لقطات نجوم الفن في 24 ساعة    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    الزمالك يواصل استعداداته لمواجهة فاركو بتدريبات استشفائية وفنية    محمد طاهر: الكرة من أفضل أدوات التسويق ورعاية للزمالك لدعم الأندية الشعبية    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لينا هويان الحسن في منعطفات دمشق الخطرة
نشر في صوت البلد يوم 14 - 09 - 2017

تحرص الكاتبة السورية لينا هويان الحسن على إيلاء مشروعها الروائي الذي بدأته قبل عقد ونصف من الزمن كل ما يلزمه من أسباب المتابعة والجهد والكدح المعرفي، بما جعلها تحتل مكانة مرموقة على خارطة السرد العربي في الآونة الأخيرة. فالكاتبة التي بدأت متعثرة في عمليها الأولين اللذين أثقلتهما اللغة الشعرية الى حد الإرهاق، ما لبثت أن عثرت على الوصفة التي تضع فن السرد على سكته الملائمة، متخففة قدر الأمكان من حمولة البلاغة الزائدة وواضعة نزوعها الشعري في عهدة شخصياتها الروائية أو جاعلة منه خلفية للسرد حين تدعو الحاجة. وقد شكلت روايتها اللافتة «سلطانات الرمل» الانعطافة الأهم نحو النضج والنسج المحكم والبراعة في رسم الشخصيات، وصولاً الى البناء الملحمي للعمل الذي فاجأت به الكاتبة نفسها بقدر ما فاجأت قراءها ومتابعيها على حد سواء. والذين نعتوا صاحبة «بنات نعش» بكاتبة الصحراء لم يجافوا الحقيقة كثيراً، ليس فقط لأن الحسن جعلت من الصحراء موضوعها الأثير والخلفية والمسرح الملائمين للعديد من أعمالها الروائية والتوثيقية بل لأنها تحدّرت من عالم البادية السورية ومناخاتها وتقاليدها واتحدت في أعماق نفسها مع تضاريس ذلك العالم وجمالاته ومفارقاته الملغزة وترجيعاته الحسية والروحية. وإذا كان كل من عبد الرحمن منيف وابراهيم الكوني قد قدّما من الجهة الذكورية مقارباتهما العميقة لعوالم الصحراء ومناخاتها، فإن الحسن قدمت مقاربتها تلك من الزاوية الأنثوية التي حشدت لها كل ما تختزنه في داخلها من شغف، حيث يتشابك الدم والرغبة، الحب والموت، القسوة والعذوبة فوق ساحة اللغة الموارة بالحنين.
لكنّ تعلّق الحسن بالمكان لم يعد في الآونة الأخيرة حكراً على الصحراء وحدها بما هي الحاضنة الأم لملاعب الطفولة ونظام القيم القبلية وقواعد السلوك الفردي والجمعي وفضاء الحياة المفتوح والمغضي على أسراره. بل باتت المدينة، وبخاصة دمشق، بما هي محل لانصهار الجماعات المقيمة والوافدة ومنصة للتحولات الاجتماعية والثقافية، محلاً لاهتمامها ومحوراً أثيراً من محاور أعمالها اللاحقة.
وفي الحالين تحتل الأنوثة في تجلياتها المتغايرة موقع القلب من كل عمل جديد. وإذا كنا في «سلطانات الرمل» نتابع بشغف البورتريهات اللافتة التي رسمتها الكاتبة لأميرات الصحراء المترنحات أبداً بين وجهي الجمال والعنف الدموي، فإننا نتابع بالشغف نفسه شخصيات ألماظ وبرلنت وزوفيتار ونادجا المتمردات على واقعهن والموزعات بين الأوطان والمنافي في «الماس ونساء». كما نتعرف في الرواية التي تحمل اسمها الى «نازك خانم» وهي تتحدى تقاليد مجتمعها المحافظ في منتصف القرن العشرين وترتدي البيكيني على الشواطئ السورية وتقف شبه عارية أمام ريشة بيكاسو في باريس، قبل أن تقضي نحبها فوق أرض الوطن وبيد زوجها الغيور.
لا تبتعد رواية لينا هويان الحسن الجديدة «بنت الباشا» عن مناخات العملين اللذين سبقاها وبخاصة رواية «نازك خانم»، بحيث تتشابه نازك ونسليهان في النزوع الى التمرد والانقلاب على القيم السائدة ومواجهة المصير اياه، الذي يضع الأولى على طريق الموت قتلاً، ويترك الثانية في مهب المصير الغامض والمفتوح على اكثر من احتمال مأساوي.
وكما في أعمالها السابقة، تحتلّ النساء الدور الأبرز في رواية «بنت الباشا». فإلى البطلة نسليهان، تستدعي المؤلفة شخصية جدتها توركان خاتون التي توفيت يوم ولادتها بالذات تاركةً لها ثوب «النيلوفر» الملكي الذي يمزقه ابن عمها ناظم بك في لحظة غضب عارمة إثر رفضها له. ونتعرف ايضاً الى عالم «الحرملك الأخير» الذي شهده قصر محمود باشا في دمشق أواخر عهد السلطنة العثمانية، وما يغلي خلف أبوابه الموصدة من شهوات وضغائن ومكائد تذكرنا بمسلسل «حريم السلطان»، الذي ترك تأثيراته الواضحة في أكثر من عمل سردي لاحق.
نتعرف أيضاً إلى والدة البطلة فرلان، الجارية الوثنية التي اختطفت من احدى المستعمرات البرتغالية في الهند بعد تنصرها على يد المبشرين، لتهدى الى والي بغداد، الذي أهداها بدوره الى محمود باشا في دمشق ولتنجب منه مولودته الوحيدة نسليهان. وثمة شخصية آسيا، الصابئية التي تقدس الماء وتقرأ الأبراج وطوالع النجوم والمسؤولة عن انتقاء حريم الباشا والوقوف على مواصفاتهن الجمالية والسلوكية. إضافة الى الخادمة بحري التي أهداها أحد السلاطين الأفارقة الى الباشا الدمشقي، والتي تتظاهر بالإسلام فيما هي تعبد الأفعى إيللويا وتحملها معها أينما ذهبت. كما نتعرف الى نورجيهان، ابنة عم نسليهان وأخت ناظم بك، القادمة من أزمير والتي وقعت في غرام اليهودي يوسف لكثرة ما روت لها ابنة عمها عن علاقتها العاطفية به وعن افتتانها برجولته النبيلة وثقافته العميقة. ثمة ناستا الروسية، مربية نسليهان ومحظية والدها الأثيرة، التي قيل إن الألم الذي تسبب به هروبها مع عشيقها الروسي هو الذي قاده الى حتفه.
وسط ذلك العالم الدمشقي الحافل بالمفارقات، لا تحتاج بذرة المأساة الا الى اللحظة الملائمة لكي يتعرض الانفتاح الاجتماعي الى نكوص دراماتيكي مباغت، ولكي تتحد الشهوة بالألم وينقلب المشهد الوردي الى نقيضه. وقد بدت شخصية ناظم بك- الموازية لشخصية كمال بك في «نازك خانم»- بمثابة الصخرة الرمزية التي تتحطم فوقها براعم الأحلام وإرهاصات التغيير. وقد شكل تمزيق ناظم بك رداء النيلوفر الملكي الذي يخص ابنة عمه الواقعة في غرام شاب آخر، المنعطف التأسيسي لانقلاب السحر على أصحابه، بدءاً من رحيل الباشا عن دمشق لسنوات خمس ووفاته إثر عودته، مروراً بقرار نسليهان المباغت بالزواج من ناظم بك ووفاة نورجيهان متأثرة بصدمتها، ومن ثم وصول المأساة الى ذروتها الفاجعة حين استبق ناظم مؤامرة نسليهان ضده بإحراق قصر الباشا بمقتنياته وذخائره وسكانه، حيث قضت آسيا وبحري حرقاً أو اختناقاً بسحب الدخان، بينما ظل مصير نسليهان معلقاً بين الموت والاختفاء.
من الصعب أن نتحدث عن رواية لينا هويان الحسن من دون أن نشير الى الحب الغامر الذي تكنّه الكاتبة لمدينتها دمشق والذي لا يقل عن عشقها بادية حماه، حيث ولدت ونشأت. وبقدر ما أضفى هذا الحب على الرواية طابع النوستالجيا العاطفية المؤثرة، أكسبها في المقابل طابع الوثيقة التاريخية والاجتماعية، بحيث تزودنا الكاتبة بفيض من المعلومات عن نظام العمران وتصميمات الأزياء والمجوهرات وأدوات الزينة، وصولاً الى التناقضات الضدية الحادة بين ضفتي المدينة المتباعدتين. فهي من جهة مدينة شبه كوزموبوليتية منفتحة على الحضارة الوافدة ومحتشدة بالوافدين من جنسيات مختلفة وبالشرائح النخبوية المثقفة التي يتقن أفرادها العديد من اللغات، ومكان للتعايش الرحب بين الأديان والمذاهب، وهي من جهة أخرى محكومة بمناخات السحر والشعوذة والقيم المحافظة والعصبيات العائلية والعقائدية والتقاليد.
أما بطلات الحسن المتنورات فيدفعن غاليًا ثمن صحوتهنّ المبكّرة وتبشيرهنّ الجريء بالحرية والانفتاح وفجر التغيير. ثمة ملاحظات أخيرة تتعلق بمقدمات الفصول وغزارة الاستشهادات التي تحيل على أسماء ومقولات كثيرة كان يمكن الاستغناء عنها كونها متضمّنة في السياق، ولأن استحضارها بهذه الغزارة يبدو متكلفاً في بعض الأحيان، كما أنها لا تكسر عنصر «الاستيهام» والعودة الصافية الى زمن السرد وإحالاته الوجدانية والنفسية، فضلاً عن بعض الصياغات النحوية غير المستساغة كتقديم الخبر على المبتدأ والفاعل على الفعل في شكل متكرر ومن دون مبرر يذكر. لكنّ هذه الملاحظات لا تحجب في أية حال رشاقة أسلوب الكاتبة وافتتانها باللغة ومناخات كتابتها ذات العصب الساخن والخلفية الشعرية التي تنصهر بالسرد من دون أن ترهقه بالمبالغات.
تحرص الكاتبة السورية لينا هويان الحسن على إيلاء مشروعها الروائي الذي بدأته قبل عقد ونصف من الزمن كل ما يلزمه من أسباب المتابعة والجهد والكدح المعرفي، بما جعلها تحتل مكانة مرموقة على خارطة السرد العربي في الآونة الأخيرة. فالكاتبة التي بدأت متعثرة في عمليها الأولين اللذين أثقلتهما اللغة الشعرية الى حد الإرهاق، ما لبثت أن عثرت على الوصفة التي تضع فن السرد على سكته الملائمة، متخففة قدر الأمكان من حمولة البلاغة الزائدة وواضعة نزوعها الشعري في عهدة شخصياتها الروائية أو جاعلة منه خلفية للسرد حين تدعو الحاجة. وقد شكلت روايتها اللافتة «سلطانات الرمل» الانعطافة الأهم نحو النضج والنسج المحكم والبراعة في رسم الشخصيات، وصولاً الى البناء الملحمي للعمل الذي فاجأت به الكاتبة نفسها بقدر ما فاجأت قراءها ومتابعيها على حد سواء. والذين نعتوا صاحبة «بنات نعش» بكاتبة الصحراء لم يجافوا الحقيقة كثيراً، ليس فقط لأن الحسن جعلت من الصحراء موضوعها الأثير والخلفية والمسرح الملائمين للعديد من أعمالها الروائية والتوثيقية بل لأنها تحدّرت من عالم البادية السورية ومناخاتها وتقاليدها واتحدت في أعماق نفسها مع تضاريس ذلك العالم وجمالاته ومفارقاته الملغزة وترجيعاته الحسية والروحية. وإذا كان كل من عبد الرحمن منيف وابراهيم الكوني قد قدّما من الجهة الذكورية مقارباتهما العميقة لعوالم الصحراء ومناخاتها، فإن الحسن قدمت مقاربتها تلك من الزاوية الأنثوية التي حشدت لها كل ما تختزنه في داخلها من شغف، حيث يتشابك الدم والرغبة، الحب والموت، القسوة والعذوبة فوق ساحة اللغة الموارة بالحنين.
لكنّ تعلّق الحسن بالمكان لم يعد في الآونة الأخيرة حكراً على الصحراء وحدها بما هي الحاضنة الأم لملاعب الطفولة ونظام القيم القبلية وقواعد السلوك الفردي والجمعي وفضاء الحياة المفتوح والمغضي على أسراره. بل باتت المدينة، وبخاصة دمشق، بما هي محل لانصهار الجماعات المقيمة والوافدة ومنصة للتحولات الاجتماعية والثقافية، محلاً لاهتمامها ومحوراً أثيراً من محاور أعمالها اللاحقة.
وفي الحالين تحتل الأنوثة في تجلياتها المتغايرة موقع القلب من كل عمل جديد. وإذا كنا في «سلطانات الرمل» نتابع بشغف البورتريهات اللافتة التي رسمتها الكاتبة لأميرات الصحراء المترنحات أبداً بين وجهي الجمال والعنف الدموي، فإننا نتابع بالشغف نفسه شخصيات ألماظ وبرلنت وزوفيتار ونادجا المتمردات على واقعهن والموزعات بين الأوطان والمنافي في «الماس ونساء». كما نتعرف في الرواية التي تحمل اسمها الى «نازك خانم» وهي تتحدى تقاليد مجتمعها المحافظ في منتصف القرن العشرين وترتدي البيكيني على الشواطئ السورية وتقف شبه عارية أمام ريشة بيكاسو في باريس، قبل أن تقضي نحبها فوق أرض الوطن وبيد زوجها الغيور.
لا تبتعد رواية لينا هويان الحسن الجديدة «بنت الباشا» عن مناخات العملين اللذين سبقاها وبخاصة رواية «نازك خانم»، بحيث تتشابه نازك ونسليهان في النزوع الى التمرد والانقلاب على القيم السائدة ومواجهة المصير اياه، الذي يضع الأولى على طريق الموت قتلاً، ويترك الثانية في مهب المصير الغامض والمفتوح على اكثر من احتمال مأساوي.
وكما في أعمالها السابقة، تحتلّ النساء الدور الأبرز في رواية «بنت الباشا». فإلى البطلة نسليهان، تستدعي المؤلفة شخصية جدتها توركان خاتون التي توفيت يوم ولادتها بالذات تاركةً لها ثوب «النيلوفر» الملكي الذي يمزقه ابن عمها ناظم بك في لحظة غضب عارمة إثر رفضها له. ونتعرف ايضاً الى عالم «الحرملك الأخير» الذي شهده قصر محمود باشا في دمشق أواخر عهد السلطنة العثمانية، وما يغلي خلف أبوابه الموصدة من شهوات وضغائن ومكائد تذكرنا بمسلسل «حريم السلطان»، الذي ترك تأثيراته الواضحة في أكثر من عمل سردي لاحق.
نتعرف أيضاً إلى والدة البطلة فرلان، الجارية الوثنية التي اختطفت من احدى المستعمرات البرتغالية في الهند بعد تنصرها على يد المبشرين، لتهدى الى والي بغداد، الذي أهداها بدوره الى محمود باشا في دمشق ولتنجب منه مولودته الوحيدة نسليهان. وثمة شخصية آسيا، الصابئية التي تقدس الماء وتقرأ الأبراج وطوالع النجوم والمسؤولة عن انتقاء حريم الباشا والوقوف على مواصفاتهن الجمالية والسلوكية. إضافة الى الخادمة بحري التي أهداها أحد السلاطين الأفارقة الى الباشا الدمشقي، والتي تتظاهر بالإسلام فيما هي تعبد الأفعى إيللويا وتحملها معها أينما ذهبت. كما نتعرف الى نورجيهان، ابنة عم نسليهان وأخت ناظم بك، القادمة من أزمير والتي وقعت في غرام اليهودي يوسف لكثرة ما روت لها ابنة عمها عن علاقتها العاطفية به وعن افتتانها برجولته النبيلة وثقافته العميقة. ثمة ناستا الروسية، مربية نسليهان ومحظية والدها الأثيرة، التي قيل إن الألم الذي تسبب به هروبها مع عشيقها الروسي هو الذي قاده الى حتفه.
وسط ذلك العالم الدمشقي الحافل بالمفارقات، لا تحتاج بذرة المأساة الا الى اللحظة الملائمة لكي يتعرض الانفتاح الاجتماعي الى نكوص دراماتيكي مباغت، ولكي تتحد الشهوة بالألم وينقلب المشهد الوردي الى نقيضه. وقد بدت شخصية ناظم بك- الموازية لشخصية كمال بك في «نازك خانم»- بمثابة الصخرة الرمزية التي تتحطم فوقها براعم الأحلام وإرهاصات التغيير. وقد شكل تمزيق ناظم بك رداء النيلوفر الملكي الذي يخص ابنة عمه الواقعة في غرام شاب آخر، المنعطف التأسيسي لانقلاب السحر على أصحابه، بدءاً من رحيل الباشا عن دمشق لسنوات خمس ووفاته إثر عودته، مروراً بقرار نسليهان المباغت بالزواج من ناظم بك ووفاة نورجيهان متأثرة بصدمتها، ومن ثم وصول المأساة الى ذروتها الفاجعة حين استبق ناظم مؤامرة نسليهان ضده بإحراق قصر الباشا بمقتنياته وذخائره وسكانه، حيث قضت آسيا وبحري حرقاً أو اختناقاً بسحب الدخان، بينما ظل مصير نسليهان معلقاً بين الموت والاختفاء.
من الصعب أن نتحدث عن رواية لينا هويان الحسن من دون أن نشير الى الحب الغامر الذي تكنّه الكاتبة لمدينتها دمشق والذي لا يقل عن عشقها بادية حماه، حيث ولدت ونشأت. وبقدر ما أضفى هذا الحب على الرواية طابع النوستالجيا العاطفية المؤثرة، أكسبها في المقابل طابع الوثيقة التاريخية والاجتماعية، بحيث تزودنا الكاتبة بفيض من المعلومات عن نظام العمران وتصميمات الأزياء والمجوهرات وأدوات الزينة، وصولاً الى التناقضات الضدية الحادة بين ضفتي المدينة المتباعدتين. فهي من جهة مدينة شبه كوزموبوليتية منفتحة على الحضارة الوافدة ومحتشدة بالوافدين من جنسيات مختلفة وبالشرائح النخبوية المثقفة التي يتقن أفرادها العديد من اللغات، ومكان للتعايش الرحب بين الأديان والمذاهب، وهي من جهة أخرى محكومة بمناخات السحر والشعوذة والقيم المحافظة والعصبيات العائلية والعقائدية والتقاليد.
أما بطلات الحسن المتنورات فيدفعن غاليًا ثمن صحوتهنّ المبكّرة وتبشيرهنّ الجريء بالحرية والانفتاح وفجر التغيير. ثمة ملاحظات أخيرة تتعلق بمقدمات الفصول وغزارة الاستشهادات التي تحيل على أسماء ومقولات كثيرة كان يمكن الاستغناء عنها كونها متضمّنة في السياق، ولأن استحضارها بهذه الغزارة يبدو متكلفاً في بعض الأحيان، كما أنها لا تكسر عنصر «الاستيهام» والعودة الصافية الى زمن السرد وإحالاته الوجدانية والنفسية، فضلاً عن بعض الصياغات النحوية غير المستساغة كتقديم الخبر على المبتدأ والفاعل على الفعل في شكل متكرر ومن دون مبرر يذكر. لكنّ هذه الملاحظات لا تحجب في أية حال رشاقة أسلوب الكاتبة وافتتانها باللغة ومناخات كتابتها ذات العصب الساخن والخلفية الشعرية التي تنصهر بالسرد من دون أن ترهقه بالمبالغات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.