الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    ستارمر يخطط للتشاور مع حلفاء أوكرانيا بعد تقارير عن سعي ترامب لاتفاق حول الأراضي    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    السكك الحديدية تعلن تشغيل 49 رحلة يوميا على هذا الخط    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    انطلاق المؤتمر الدولي السادس ل«تكنولوجيا الأغشية وتطبيقاتها» بالغردقة    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بين السَّماء والأرض.. زائر ليلي يُروّع أهل تبسة الجزائرية على التوالي بين 2024 و2025    الأمم المتحدة: نصف مليون فلسطيني في غزة مهددون بالمجاعة    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    ماكرون: بوتين يريد استسلام أوكرانيا لا السلام    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    أمير هشام: الأهلي سيقوم بتحويل قيمة جلب حكام اجانب إلى الجبلاية    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في أسيوط    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    سامح حسين يعلن وفاة الطفل حمزة ابن شقيقه عن عمر يناهز ال 4 سنوات    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    "بفستان جريء".. نادين الراسي تخطف الأنظار من أحدث جلسة تصوير    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    أمسية دينية بلمسة ياسين التهامى فى حفل مهرجان القلعة    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    الخارجية الأمريكية: لن نتعاون مع أى جماعات لها صلات أو تعاطف مع حماس    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    «الصيف يُلملم أوراقه».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض جوى قادم    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    4 أبراج «مرهقون في التعامل»: صارمون ينتظرون من الآخرين مقابل ويبحثون عن الكمال    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    وائل القباني عن انتقاده ل الزمالك: «ماليش أغراض شخصية»    رغم وفاته منذ 3 سنوات.. أحمد موسى يكشف سبب إدراج القرضاوي بقوائم الإرهاب    حماية المستهلك: نلمس استجابة سريعة من معظم التجار تجاه مبادرة خفض الأسعار    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    حلاوة المولد، طريقة عمل السمسمية في البيت بمكونات بسيطة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لينا هويان الحسن في منعطفات دمشق الخطرة
نشر في صوت البلد يوم 14 - 09 - 2017

تحرص الكاتبة السورية لينا هويان الحسن على إيلاء مشروعها الروائي الذي بدأته قبل عقد ونصف من الزمن كل ما يلزمه من أسباب المتابعة والجهد والكدح المعرفي، بما جعلها تحتل مكانة مرموقة على خارطة السرد العربي في الآونة الأخيرة. فالكاتبة التي بدأت متعثرة في عمليها الأولين اللذين أثقلتهما اللغة الشعرية الى حد الإرهاق، ما لبثت أن عثرت على الوصفة التي تضع فن السرد على سكته الملائمة، متخففة قدر الأمكان من حمولة البلاغة الزائدة وواضعة نزوعها الشعري في عهدة شخصياتها الروائية أو جاعلة منه خلفية للسرد حين تدعو الحاجة. وقد شكلت روايتها اللافتة «سلطانات الرمل» الانعطافة الأهم نحو النضج والنسج المحكم والبراعة في رسم الشخصيات، وصولاً الى البناء الملحمي للعمل الذي فاجأت به الكاتبة نفسها بقدر ما فاجأت قراءها ومتابعيها على حد سواء. والذين نعتوا صاحبة «بنات نعش» بكاتبة الصحراء لم يجافوا الحقيقة كثيراً، ليس فقط لأن الحسن جعلت من الصحراء موضوعها الأثير والخلفية والمسرح الملائمين للعديد من أعمالها الروائية والتوثيقية بل لأنها تحدّرت من عالم البادية السورية ومناخاتها وتقاليدها واتحدت في أعماق نفسها مع تضاريس ذلك العالم وجمالاته ومفارقاته الملغزة وترجيعاته الحسية والروحية. وإذا كان كل من عبد الرحمن منيف وابراهيم الكوني قد قدّما من الجهة الذكورية مقارباتهما العميقة لعوالم الصحراء ومناخاتها، فإن الحسن قدمت مقاربتها تلك من الزاوية الأنثوية التي حشدت لها كل ما تختزنه في داخلها من شغف، حيث يتشابك الدم والرغبة، الحب والموت، القسوة والعذوبة فوق ساحة اللغة الموارة بالحنين.
لكنّ تعلّق الحسن بالمكان لم يعد في الآونة الأخيرة حكراً على الصحراء وحدها بما هي الحاضنة الأم لملاعب الطفولة ونظام القيم القبلية وقواعد السلوك الفردي والجمعي وفضاء الحياة المفتوح والمغضي على أسراره. بل باتت المدينة، وبخاصة دمشق، بما هي محل لانصهار الجماعات المقيمة والوافدة ومنصة للتحولات الاجتماعية والثقافية، محلاً لاهتمامها ومحوراً أثيراً من محاور أعمالها اللاحقة.
وفي الحالين تحتل الأنوثة في تجلياتها المتغايرة موقع القلب من كل عمل جديد. وإذا كنا في «سلطانات الرمل» نتابع بشغف البورتريهات اللافتة التي رسمتها الكاتبة لأميرات الصحراء المترنحات أبداً بين وجهي الجمال والعنف الدموي، فإننا نتابع بالشغف نفسه شخصيات ألماظ وبرلنت وزوفيتار ونادجا المتمردات على واقعهن والموزعات بين الأوطان والمنافي في «الماس ونساء». كما نتعرف في الرواية التي تحمل اسمها الى «نازك خانم» وهي تتحدى تقاليد مجتمعها المحافظ في منتصف القرن العشرين وترتدي البيكيني على الشواطئ السورية وتقف شبه عارية أمام ريشة بيكاسو في باريس، قبل أن تقضي نحبها فوق أرض الوطن وبيد زوجها الغيور.
لا تبتعد رواية لينا هويان الحسن الجديدة «بنت الباشا» عن مناخات العملين اللذين سبقاها وبخاصة رواية «نازك خانم»، بحيث تتشابه نازك ونسليهان في النزوع الى التمرد والانقلاب على القيم السائدة ومواجهة المصير اياه، الذي يضع الأولى على طريق الموت قتلاً، ويترك الثانية في مهب المصير الغامض والمفتوح على اكثر من احتمال مأساوي.
وكما في أعمالها السابقة، تحتلّ النساء الدور الأبرز في رواية «بنت الباشا». فإلى البطلة نسليهان، تستدعي المؤلفة شخصية جدتها توركان خاتون التي توفيت يوم ولادتها بالذات تاركةً لها ثوب «النيلوفر» الملكي الذي يمزقه ابن عمها ناظم بك في لحظة غضب عارمة إثر رفضها له. ونتعرف ايضاً الى عالم «الحرملك الأخير» الذي شهده قصر محمود باشا في دمشق أواخر عهد السلطنة العثمانية، وما يغلي خلف أبوابه الموصدة من شهوات وضغائن ومكائد تذكرنا بمسلسل «حريم السلطان»، الذي ترك تأثيراته الواضحة في أكثر من عمل سردي لاحق.
نتعرف أيضاً إلى والدة البطلة فرلان، الجارية الوثنية التي اختطفت من احدى المستعمرات البرتغالية في الهند بعد تنصرها على يد المبشرين، لتهدى الى والي بغداد، الذي أهداها بدوره الى محمود باشا في دمشق ولتنجب منه مولودته الوحيدة نسليهان. وثمة شخصية آسيا، الصابئية التي تقدس الماء وتقرأ الأبراج وطوالع النجوم والمسؤولة عن انتقاء حريم الباشا والوقوف على مواصفاتهن الجمالية والسلوكية. إضافة الى الخادمة بحري التي أهداها أحد السلاطين الأفارقة الى الباشا الدمشقي، والتي تتظاهر بالإسلام فيما هي تعبد الأفعى إيللويا وتحملها معها أينما ذهبت. كما نتعرف الى نورجيهان، ابنة عم نسليهان وأخت ناظم بك، القادمة من أزمير والتي وقعت في غرام اليهودي يوسف لكثرة ما روت لها ابنة عمها عن علاقتها العاطفية به وعن افتتانها برجولته النبيلة وثقافته العميقة. ثمة ناستا الروسية، مربية نسليهان ومحظية والدها الأثيرة، التي قيل إن الألم الذي تسبب به هروبها مع عشيقها الروسي هو الذي قاده الى حتفه.
وسط ذلك العالم الدمشقي الحافل بالمفارقات، لا تحتاج بذرة المأساة الا الى اللحظة الملائمة لكي يتعرض الانفتاح الاجتماعي الى نكوص دراماتيكي مباغت، ولكي تتحد الشهوة بالألم وينقلب المشهد الوردي الى نقيضه. وقد بدت شخصية ناظم بك- الموازية لشخصية كمال بك في «نازك خانم»- بمثابة الصخرة الرمزية التي تتحطم فوقها براعم الأحلام وإرهاصات التغيير. وقد شكل تمزيق ناظم بك رداء النيلوفر الملكي الذي يخص ابنة عمه الواقعة في غرام شاب آخر، المنعطف التأسيسي لانقلاب السحر على أصحابه، بدءاً من رحيل الباشا عن دمشق لسنوات خمس ووفاته إثر عودته، مروراً بقرار نسليهان المباغت بالزواج من ناظم بك ووفاة نورجيهان متأثرة بصدمتها، ومن ثم وصول المأساة الى ذروتها الفاجعة حين استبق ناظم مؤامرة نسليهان ضده بإحراق قصر الباشا بمقتنياته وذخائره وسكانه، حيث قضت آسيا وبحري حرقاً أو اختناقاً بسحب الدخان، بينما ظل مصير نسليهان معلقاً بين الموت والاختفاء.
من الصعب أن نتحدث عن رواية لينا هويان الحسن من دون أن نشير الى الحب الغامر الذي تكنّه الكاتبة لمدينتها دمشق والذي لا يقل عن عشقها بادية حماه، حيث ولدت ونشأت. وبقدر ما أضفى هذا الحب على الرواية طابع النوستالجيا العاطفية المؤثرة، أكسبها في المقابل طابع الوثيقة التاريخية والاجتماعية، بحيث تزودنا الكاتبة بفيض من المعلومات عن نظام العمران وتصميمات الأزياء والمجوهرات وأدوات الزينة، وصولاً الى التناقضات الضدية الحادة بين ضفتي المدينة المتباعدتين. فهي من جهة مدينة شبه كوزموبوليتية منفتحة على الحضارة الوافدة ومحتشدة بالوافدين من جنسيات مختلفة وبالشرائح النخبوية المثقفة التي يتقن أفرادها العديد من اللغات، ومكان للتعايش الرحب بين الأديان والمذاهب، وهي من جهة أخرى محكومة بمناخات السحر والشعوذة والقيم المحافظة والعصبيات العائلية والعقائدية والتقاليد.
أما بطلات الحسن المتنورات فيدفعن غاليًا ثمن صحوتهنّ المبكّرة وتبشيرهنّ الجريء بالحرية والانفتاح وفجر التغيير. ثمة ملاحظات أخيرة تتعلق بمقدمات الفصول وغزارة الاستشهادات التي تحيل على أسماء ومقولات كثيرة كان يمكن الاستغناء عنها كونها متضمّنة في السياق، ولأن استحضارها بهذه الغزارة يبدو متكلفاً في بعض الأحيان، كما أنها لا تكسر عنصر «الاستيهام» والعودة الصافية الى زمن السرد وإحالاته الوجدانية والنفسية، فضلاً عن بعض الصياغات النحوية غير المستساغة كتقديم الخبر على المبتدأ والفاعل على الفعل في شكل متكرر ومن دون مبرر يذكر. لكنّ هذه الملاحظات لا تحجب في أية حال رشاقة أسلوب الكاتبة وافتتانها باللغة ومناخات كتابتها ذات العصب الساخن والخلفية الشعرية التي تنصهر بالسرد من دون أن ترهقه بالمبالغات.
تحرص الكاتبة السورية لينا هويان الحسن على إيلاء مشروعها الروائي الذي بدأته قبل عقد ونصف من الزمن كل ما يلزمه من أسباب المتابعة والجهد والكدح المعرفي، بما جعلها تحتل مكانة مرموقة على خارطة السرد العربي في الآونة الأخيرة. فالكاتبة التي بدأت متعثرة في عمليها الأولين اللذين أثقلتهما اللغة الشعرية الى حد الإرهاق، ما لبثت أن عثرت على الوصفة التي تضع فن السرد على سكته الملائمة، متخففة قدر الأمكان من حمولة البلاغة الزائدة وواضعة نزوعها الشعري في عهدة شخصياتها الروائية أو جاعلة منه خلفية للسرد حين تدعو الحاجة. وقد شكلت روايتها اللافتة «سلطانات الرمل» الانعطافة الأهم نحو النضج والنسج المحكم والبراعة في رسم الشخصيات، وصولاً الى البناء الملحمي للعمل الذي فاجأت به الكاتبة نفسها بقدر ما فاجأت قراءها ومتابعيها على حد سواء. والذين نعتوا صاحبة «بنات نعش» بكاتبة الصحراء لم يجافوا الحقيقة كثيراً، ليس فقط لأن الحسن جعلت من الصحراء موضوعها الأثير والخلفية والمسرح الملائمين للعديد من أعمالها الروائية والتوثيقية بل لأنها تحدّرت من عالم البادية السورية ومناخاتها وتقاليدها واتحدت في أعماق نفسها مع تضاريس ذلك العالم وجمالاته ومفارقاته الملغزة وترجيعاته الحسية والروحية. وإذا كان كل من عبد الرحمن منيف وابراهيم الكوني قد قدّما من الجهة الذكورية مقارباتهما العميقة لعوالم الصحراء ومناخاتها، فإن الحسن قدمت مقاربتها تلك من الزاوية الأنثوية التي حشدت لها كل ما تختزنه في داخلها من شغف، حيث يتشابك الدم والرغبة، الحب والموت، القسوة والعذوبة فوق ساحة اللغة الموارة بالحنين.
لكنّ تعلّق الحسن بالمكان لم يعد في الآونة الأخيرة حكراً على الصحراء وحدها بما هي الحاضنة الأم لملاعب الطفولة ونظام القيم القبلية وقواعد السلوك الفردي والجمعي وفضاء الحياة المفتوح والمغضي على أسراره. بل باتت المدينة، وبخاصة دمشق، بما هي محل لانصهار الجماعات المقيمة والوافدة ومنصة للتحولات الاجتماعية والثقافية، محلاً لاهتمامها ومحوراً أثيراً من محاور أعمالها اللاحقة.
وفي الحالين تحتل الأنوثة في تجلياتها المتغايرة موقع القلب من كل عمل جديد. وإذا كنا في «سلطانات الرمل» نتابع بشغف البورتريهات اللافتة التي رسمتها الكاتبة لأميرات الصحراء المترنحات أبداً بين وجهي الجمال والعنف الدموي، فإننا نتابع بالشغف نفسه شخصيات ألماظ وبرلنت وزوفيتار ونادجا المتمردات على واقعهن والموزعات بين الأوطان والمنافي في «الماس ونساء». كما نتعرف في الرواية التي تحمل اسمها الى «نازك خانم» وهي تتحدى تقاليد مجتمعها المحافظ في منتصف القرن العشرين وترتدي البيكيني على الشواطئ السورية وتقف شبه عارية أمام ريشة بيكاسو في باريس، قبل أن تقضي نحبها فوق أرض الوطن وبيد زوجها الغيور.
لا تبتعد رواية لينا هويان الحسن الجديدة «بنت الباشا» عن مناخات العملين اللذين سبقاها وبخاصة رواية «نازك خانم»، بحيث تتشابه نازك ونسليهان في النزوع الى التمرد والانقلاب على القيم السائدة ومواجهة المصير اياه، الذي يضع الأولى على طريق الموت قتلاً، ويترك الثانية في مهب المصير الغامض والمفتوح على اكثر من احتمال مأساوي.
وكما في أعمالها السابقة، تحتلّ النساء الدور الأبرز في رواية «بنت الباشا». فإلى البطلة نسليهان، تستدعي المؤلفة شخصية جدتها توركان خاتون التي توفيت يوم ولادتها بالذات تاركةً لها ثوب «النيلوفر» الملكي الذي يمزقه ابن عمها ناظم بك في لحظة غضب عارمة إثر رفضها له. ونتعرف ايضاً الى عالم «الحرملك الأخير» الذي شهده قصر محمود باشا في دمشق أواخر عهد السلطنة العثمانية، وما يغلي خلف أبوابه الموصدة من شهوات وضغائن ومكائد تذكرنا بمسلسل «حريم السلطان»، الذي ترك تأثيراته الواضحة في أكثر من عمل سردي لاحق.
نتعرف أيضاً إلى والدة البطلة فرلان، الجارية الوثنية التي اختطفت من احدى المستعمرات البرتغالية في الهند بعد تنصرها على يد المبشرين، لتهدى الى والي بغداد، الذي أهداها بدوره الى محمود باشا في دمشق ولتنجب منه مولودته الوحيدة نسليهان. وثمة شخصية آسيا، الصابئية التي تقدس الماء وتقرأ الأبراج وطوالع النجوم والمسؤولة عن انتقاء حريم الباشا والوقوف على مواصفاتهن الجمالية والسلوكية. إضافة الى الخادمة بحري التي أهداها أحد السلاطين الأفارقة الى الباشا الدمشقي، والتي تتظاهر بالإسلام فيما هي تعبد الأفعى إيللويا وتحملها معها أينما ذهبت. كما نتعرف الى نورجيهان، ابنة عم نسليهان وأخت ناظم بك، القادمة من أزمير والتي وقعت في غرام اليهودي يوسف لكثرة ما روت لها ابنة عمها عن علاقتها العاطفية به وعن افتتانها برجولته النبيلة وثقافته العميقة. ثمة ناستا الروسية، مربية نسليهان ومحظية والدها الأثيرة، التي قيل إن الألم الذي تسبب به هروبها مع عشيقها الروسي هو الذي قاده الى حتفه.
وسط ذلك العالم الدمشقي الحافل بالمفارقات، لا تحتاج بذرة المأساة الا الى اللحظة الملائمة لكي يتعرض الانفتاح الاجتماعي الى نكوص دراماتيكي مباغت، ولكي تتحد الشهوة بالألم وينقلب المشهد الوردي الى نقيضه. وقد بدت شخصية ناظم بك- الموازية لشخصية كمال بك في «نازك خانم»- بمثابة الصخرة الرمزية التي تتحطم فوقها براعم الأحلام وإرهاصات التغيير. وقد شكل تمزيق ناظم بك رداء النيلوفر الملكي الذي يخص ابنة عمه الواقعة في غرام شاب آخر، المنعطف التأسيسي لانقلاب السحر على أصحابه، بدءاً من رحيل الباشا عن دمشق لسنوات خمس ووفاته إثر عودته، مروراً بقرار نسليهان المباغت بالزواج من ناظم بك ووفاة نورجيهان متأثرة بصدمتها، ومن ثم وصول المأساة الى ذروتها الفاجعة حين استبق ناظم مؤامرة نسليهان ضده بإحراق قصر الباشا بمقتنياته وذخائره وسكانه، حيث قضت آسيا وبحري حرقاً أو اختناقاً بسحب الدخان، بينما ظل مصير نسليهان معلقاً بين الموت والاختفاء.
من الصعب أن نتحدث عن رواية لينا هويان الحسن من دون أن نشير الى الحب الغامر الذي تكنّه الكاتبة لمدينتها دمشق والذي لا يقل عن عشقها بادية حماه، حيث ولدت ونشأت. وبقدر ما أضفى هذا الحب على الرواية طابع النوستالجيا العاطفية المؤثرة، أكسبها في المقابل طابع الوثيقة التاريخية والاجتماعية، بحيث تزودنا الكاتبة بفيض من المعلومات عن نظام العمران وتصميمات الأزياء والمجوهرات وأدوات الزينة، وصولاً الى التناقضات الضدية الحادة بين ضفتي المدينة المتباعدتين. فهي من جهة مدينة شبه كوزموبوليتية منفتحة على الحضارة الوافدة ومحتشدة بالوافدين من جنسيات مختلفة وبالشرائح النخبوية المثقفة التي يتقن أفرادها العديد من اللغات، ومكان للتعايش الرحب بين الأديان والمذاهب، وهي من جهة أخرى محكومة بمناخات السحر والشعوذة والقيم المحافظة والعصبيات العائلية والعقائدية والتقاليد.
أما بطلات الحسن المتنورات فيدفعن غاليًا ثمن صحوتهنّ المبكّرة وتبشيرهنّ الجريء بالحرية والانفتاح وفجر التغيير. ثمة ملاحظات أخيرة تتعلق بمقدمات الفصول وغزارة الاستشهادات التي تحيل على أسماء ومقولات كثيرة كان يمكن الاستغناء عنها كونها متضمّنة في السياق، ولأن استحضارها بهذه الغزارة يبدو متكلفاً في بعض الأحيان، كما أنها لا تكسر عنصر «الاستيهام» والعودة الصافية الى زمن السرد وإحالاته الوجدانية والنفسية، فضلاً عن بعض الصياغات النحوية غير المستساغة كتقديم الخبر على المبتدأ والفاعل على الفعل في شكل متكرر ومن دون مبرر يذكر. لكنّ هذه الملاحظات لا تحجب في أية حال رشاقة أسلوب الكاتبة وافتتانها باللغة ومناخات كتابتها ذات العصب الساخن والخلفية الشعرية التي تنصهر بالسرد من دون أن ترهقه بالمبالغات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.