نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    شهادة تقدير ودرع المحافظة.. أسوان تكرم الخامسة على الجمهورية في الثانوية الأزهرية    تنفيذي الشرقية يُناقش خطة استثمارية ب1.14 مليار جنيه لتحسين الخدمات بالمراكز والمدن    وزير البترول يلتقي وفدا رفيع المستوى من شركة شل العالمية    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    انقسام بين قادة الاتحاد الأوروبي بعد إعلان ترامب عن الاتفاق التجاري الجديد    أطباء بلا حدود: حالات الإسهال المائي ترتفع مجددا في جميع أنحاء اليمن    «أكسيوس»: مسؤولان إسرائيليان يصلان واشنطن لبحث ملفي غزة وإيران    حجز محاكمة متهمين بوفاة لاعب كاراتيه بالإسكندرية لجلسة 22 سبتمبر للنطق بالحكم    أحمد حسن يكشف مفاجأة بشأن مستقبل حسين الشحات مع الأهلي    دون خسائر.. السيطرة على حريق بمحل مأكولات شهير في المنتزه بالإسكندرية    تكريم 30 طالبًا من أوائل الثانوية العامة في القاهرة بديوان عام المحافظة    انهيار لطيفة بالبكاء أثناء تقديم واجب العزاء ل فيروز في نجلها زياد الرحباني (فيديو)    فى يومه ال 11.. "برنامج اليوم" يتابع فعاليات مهرجان العلمين بدورته الثالثة    "فتح" تُثمن دعوة الرئيس السيسي ومواقف مصر الداعمة لفلسطين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض الوضوء؟ الإفتاء تُجيب    هل وجود مستحضرات التجميل على وجه المرأة يُعد من الأعذار التي تبيح التيمم؟ الإفتاء تجيب    في اليوم العالمي لالتهاب الكبد.. الوشم والإبر يسببان العدوى (الأعراض وطرق الوقاية)    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    البحيرة: قافلة طبية مجانية بقرية الأمل وأرياف أبو المطامير ضمن جهود العدالة الصحية غدا    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    بنك مصر يوقع بروتوكول تعاون مع دوبيزل لدعم خدمات التمويل العقاري    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    قرارات هامة من الأعلى للإعلام ل 3 مواقع إخبارية بشأن مخالفة الضوابط    تجديد حبس متهم بقتل سيدة وسرقة 5700 جنيه من منزلها بالشرقية بسبب "المراهنات"    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    الهلال الأحمر المصري يواصل دعمه لقطاع غزة رغم التحديات الإنسانية    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    طرائف الانتقالات الصيفية.. الزمالك وبيراميدز كشفا عن صفقتين بالخطأ (صور)    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" أم " : فيلم صادم يفتح الباب مشرعا للتأويلات
نشر في صوت البلد يوم 11 - 09 - 2017

منذ بدء دورته الرابعة والسبعين، لم يشهد مهرجان فينيسا فيلما على هذه الدرجة من الشحن النفسي، وهذه الدرجة من إثارة الجدل واستقطاب الآراء قبل عرض فيلم "أم" !
للمخرج الأمريكي دارين أرنوفسكي، المتنافس على الأسد الذهبي في المهرجان، فبعد انتهاء عرض الفيلم تعالت صيحات الاستهجان التي بلغت درجة السباب بالقدر نفسه الذي ضجت فيه القاعة بالتصفيق ترحيبا بالفيلم. انقسام نقدي وجماهيري كبير إزاء الفيلم، ولكن أيا كان الحال، وأيا كان الجانب الذي انضممت إليه، فإن الفيلم لن يتركك قط على الحياد، وسيثير في عقلك الكثير من التساؤلات، في محاولة للوصول إلى تأويل لهذا الفيلم الصادم الذي ينقض على أعصابك وعقلك ويفتك بهما.
يبدأ الفيلم بداية هادئة لا تشي بالصدمات والذعر والاختناق الذي يثيره، خاصة في ثلثه الأخير. ليس بالفيلم الذي تسهل مشاهدته، ولكنه يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتحليل. يمكن، إن أردنا، أن نتابعه وفقا لأحداثه الظاهرية، ولكن يمكن أيضا استخلاص الكثير من الرمزية والبعد الأسطوري والبعد الديني في رؤيته. ويمكن أيضا قراءته كفيلم عن الإبداع الأدبي، عن «خلق» قصيدة جديدة ومولدها، ليس من رحم الأديب، ولكن من رحم ملهمته، التي تكون أولى ضحايا عملية الميلاد الأدبي تلك.
يبدأ الفيلم في بيت زوجين (جينيفر لورانس وخافيير بارديم)، لم يشأ أرنوفسكي أن يضع لهما اسما، في إحالة إلى أنهما قد يكونان رمزين أكثر من كونهما فردين. الزوج أديب وشاعر، نعرف في سياق الأحداث أنه حقق شهرة واسعة نجاحات كبيرة، ولكن خياله نضب ويحاول عبثا البدء في خلق عمل أدبي جديد. عقمه الأدبي يوازي عقمه في علاقته الزوجية، فهو زوج لامرأة شابة جميلة تصغره بكثير من الأعوام، ولكن رغم شبابها وجمالها، ورغم السعادة الظاهرة فوق السطح، إلا أن العلاقة بينهما فاترة لا نشوة فيها ولا جذوة متقدة.
يرسم الفيلم منذ لحظاته الأولى إطار العلاقة بين الزوجين. الزوج يبدو بعيدا منعزلا في غرفة الكتابة التي لا يسمح لأحد أن يعبر بابها إلا بإذنه. هي من تعمر البيت، وهي التي أخذت على عاتقها إعادة بنائه وطلائه، وتزيين غرفتيه. نعرف لاحقا أن البيت يعود إلى زوجها منذ أمد طويل ولكنه دُمر في حريق التهمه تماما. وعلى الرغم من أنها من يضطلع بالعمل وببناء المنزل وإعادته إلى أوجه، إلا أنه هو الذي يضع قواعد التصرف في المنزل، وهو من يمنح الإذن لمن يبقى ومن لا يبقى، وهو من يحمل سر المنزل وما حل به في الماضي. العلاقة إذن ليست متكافئة وليست مجرد علاقة زوج بزوجة. هي أشبه بعلاقة إله بسدنة المعبد، أو بين سيد بمحظيته أو ملهمته. هي تقدم الراحة والسكن وهو من يملك زمام الأمر.
ولكن ما هو هذا المنزل الذي دمر في الحريق، والذي تعيد الزوجة تشييده؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن أحداث الفيلم جميعا، باستثناء ثوانٍ معدودة تدور داخل ذلك المنزل. إنه منزل في منطقة معزولة أو نائية لا تحيط به منازل أخرى، يبدو الزوجان أول من يقطن تلك المنطقة وأول من يعمرها. هي تقول في سياق الفيلم إنها تريد أن تجعل من المنزل «فردوسا»، فهل في هذا إشارة إلى آدم وحواء وبداية نزولهما إلى الأرض لإعمارها؟ أم هل هو أمل العثور على فردوس مفقود؟ أم هل هذا البيت هو خيال الأديب، الخيال الذي يفرغ معينه فور الانتهاء من عمل أدبي، ويحتاج إلى يد وجسد ملهمة أخرى لتتجدد قدرته على الخلق؟
يبقى المنزل على هدوئه إلى أن يصل الزائر الغريب، الزائر غير المتوقع (إد هاريس). يصل هكذا يدق الباب، قائلا إنه طبيب جاء للعمل في مستشفى المنطقة، وظن البيت نُزلا، فجاء لاستئجار غرفة. يرحب به الزوج، بينما تبقى الزوجة على حذرها، رافضة أن يدخل غريب دارها، أو أن يعبث بترتيب المنزل. مع دخول الغريب، يدخل الفيلم مرحلته الكابوسية الأولى، ونشهد بدايات الدمار للمنزل الذي تصحبه بدايات من الدمار النفسي والعصبي للزوجة. هذا الغريب الذي جاء، سريعا ما تلحق به زوجته ليقوما بشبه احتلال للبيت، احتلال يبدو صاحب البيت سعيدا به، بعد أن علم أن الضيف من معجبي أدبه المخلصين، بينما تحاول الزوجة بقدر الإمكان أن تتخلص منه.
ثمة مقارنة تفرض نفسها بين العلاقة بين صاحب البيت وزوجته والضيف الغامض وزوجته. تبدو العلاقة بين الزوجين الضيفين أكثر حسية وأكثر حميمية، وهي ليست بالعلاقة العقيمة فلهما من الأبناء ولدان. تباهي الزوجة الضيفة بأبنيها قائلة إن المنزل وطلائه ليس سوى قشرة خارجية، ولكن ما يجعل الزيجة زيجة حقا ويجعل البيت أسرة هو وجود طفل. وتبدأ في توبيخ الزوجة لأنها لا تقدم الإغراء الكافي للزوج ليجعلها حبلى. هل الزوجان الضيفان موجودان حقا؟ هل يحاولان حقا فرض سطوتيهما على المنزل؟ أم هل هما مجرد هلاوس تعبث بمخيلة الزوجة التي تشعر بأن زواجها على المحك، رغم صورته الهادئة على السطح؟ هل الضيف وزوجته مصادر إلهام أخرى للأديب تأبى ملهمته أن تشاركهما فيه؟ هل هما إرهاصات لثقافة القطيع وثقافة التابعين للأنبياء مثلا، هذا إذا أحلنا الأديب إلى صورة أخرى من الأدب: الكتب التي يتبعها أصحاب الديانات، سواء كانوا أنبياء أم رسلا؟ يزداد الأمر تعقيدا بوصول ابني الضيف والضيفة، الابنان الشابان اللذان يقتتلان ويتصارعان على حب أبيهما، حتى يصرع أحدهما الآخر على أرض المنزل، في إشارة واضحة لهابيل وقابيل. هل ذلك البيت الذي تدور فيه الأحداث صورة للبشرية بكل صراعاتها وآلامها وشرورها وأطماعها؟
يراق الدم في المنزل، ويقتل الأخ أخاه، ولكن هذا الدم المراق والضيوف الكثر الذين يغزون المنزل ويدنسون حرمته لتأبين الابن القتيل، هم ما يحرك الزيجة الفاترة بين الأديب وزوجته، فتحمل الزوجة وتدب فيها حياة جديدة بينما تدب الحياة في مخيلة الأديب. إنه الخلق بكل صوره، الخلق في مواجهة شرور البشرية، الخلق في مواجهة الموت، والخلق الإبداعي شعرا. الإنسان يعيث في الأرض فسادا ويقتل ويخرب ويستبيح حرمات البيوت والحرمات جميعا، ولكنه أيضا ينتج الفن والأدب والقصيدة وينجب أبناء لعمارة الأرض!
يدخله الفيلم ثلثه الأخير الأكثر جنونا وصخبا وكابوسية بعد أن يفرغ الشاعر من كتابة قصيدته بينما تقارب الزوجة المخاض. «أنجب» الشاعر قصيدته بعد أن ألهمه حمل الزوجة أن يكتب. الزوجة هي أم الجنين المتشكل في الرحم وهي أيضا «أم» القصيدة التي كتبها الشاعر. هي الملهمة وجالبة الحياة، ولكنها لا تحظى قط باهتمام الزوج، فهي مجرد محفز له على الإبداع، يفرغ منها تماما فور انتهائه من كتابة القصيدة.
ثم يأتي الدهماء، يأتون من كل حدب وصوب ويغزون المنزل. إنهم المعجبون بالأديب ومحبوه، ولكنهم ليسوا كمن نراهم في ندوة شعرية يستمعون إلى الشاعر. إنهم الجموع حين تعتريها اللوثة، أقرب إلى تابعي رجال الدين، الذين يريدون الحصول على قطعة من أثر إمامهم أو قسهم للتبرك بها أو لتحل فيهم روحه. تحاول الأم التي على وشك المخاض الدفاع عن بيتها وعن جنينها الذي يوشك أن يولد. لكن الجحافل تأتي على كل ما في البيت. يتناكحون ويلتهمون البيت التهاما ويدمرونه بمباركة الشاعر المنتشي بمريديه وأتباعه ولا يحرك ساكنا لإنقاذ زوجته أو مولودها.
في الثلث الأخير من الفيلم يضاعف أرنوفسكي التوتر أضعافا حتى أننا نكاد نختنق اختناقا. المشاهد الأخيرة في الفيلم بما فيها من التهام للحم البشر وذلك القربان البشري الذي لا حول له ولا قوة صادمة للغاية، ولكنها أيضا تأتي محملة بمستويات المعنى والتأويل.
يمكن رؤية الدهماء الذين غزوا المنزل على أنهم الصحافة والجماهير التي تقحم نفسها في حياة المشاهير أو أنها جحافل أتباع رجل دين أو ديانة. الفيلم لا يقدم الكثير من الإجابات الشافية ويتركنا في حالة من الصدمة البالغة، ولكن ثراءه يكمن في أنه يفتح لنا أبواب الفكر والخيال والتفسير لنجد نحن تأويلنا الخاص.
منذ بدء دورته الرابعة والسبعين، لم يشهد مهرجان فينيسا فيلما على هذه الدرجة من الشحن النفسي، وهذه الدرجة من إثارة الجدل واستقطاب الآراء قبل عرض فيلم "أم" !
للمخرج الأمريكي دارين أرنوفسكي، المتنافس على الأسد الذهبي في المهرجان، فبعد انتهاء عرض الفيلم تعالت صيحات الاستهجان التي بلغت درجة السباب بالقدر نفسه الذي ضجت فيه القاعة بالتصفيق ترحيبا بالفيلم. انقسام نقدي وجماهيري كبير إزاء الفيلم، ولكن أيا كان الحال، وأيا كان الجانب الذي انضممت إليه، فإن الفيلم لن يتركك قط على الحياد، وسيثير في عقلك الكثير من التساؤلات، في محاولة للوصول إلى تأويل لهذا الفيلم الصادم الذي ينقض على أعصابك وعقلك ويفتك بهما.
يبدأ الفيلم بداية هادئة لا تشي بالصدمات والذعر والاختناق الذي يثيره، خاصة في ثلثه الأخير. ليس بالفيلم الذي تسهل مشاهدته، ولكنه يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتحليل. يمكن، إن أردنا، أن نتابعه وفقا لأحداثه الظاهرية، ولكن يمكن أيضا استخلاص الكثير من الرمزية والبعد الأسطوري والبعد الديني في رؤيته. ويمكن أيضا قراءته كفيلم عن الإبداع الأدبي، عن «خلق» قصيدة جديدة ومولدها، ليس من رحم الأديب، ولكن من رحم ملهمته، التي تكون أولى ضحايا عملية الميلاد الأدبي تلك.
يبدأ الفيلم في بيت زوجين (جينيفر لورانس وخافيير بارديم)، لم يشأ أرنوفسكي أن يضع لهما اسما، في إحالة إلى أنهما قد يكونان رمزين أكثر من كونهما فردين. الزوج أديب وشاعر، نعرف في سياق الأحداث أنه حقق شهرة واسعة نجاحات كبيرة، ولكن خياله نضب ويحاول عبثا البدء في خلق عمل أدبي جديد. عقمه الأدبي يوازي عقمه في علاقته الزوجية، فهو زوج لامرأة شابة جميلة تصغره بكثير من الأعوام، ولكن رغم شبابها وجمالها، ورغم السعادة الظاهرة فوق السطح، إلا أن العلاقة بينهما فاترة لا نشوة فيها ولا جذوة متقدة.
يرسم الفيلم منذ لحظاته الأولى إطار العلاقة بين الزوجين. الزوج يبدو بعيدا منعزلا في غرفة الكتابة التي لا يسمح لأحد أن يعبر بابها إلا بإذنه. هي من تعمر البيت، وهي التي أخذت على عاتقها إعادة بنائه وطلائه، وتزيين غرفتيه. نعرف لاحقا أن البيت يعود إلى زوجها منذ أمد طويل ولكنه دُمر في حريق التهمه تماما. وعلى الرغم من أنها من يضطلع بالعمل وببناء المنزل وإعادته إلى أوجه، إلا أنه هو الذي يضع قواعد التصرف في المنزل، وهو من يمنح الإذن لمن يبقى ومن لا يبقى، وهو من يحمل سر المنزل وما حل به في الماضي. العلاقة إذن ليست متكافئة وليست مجرد علاقة زوج بزوجة. هي أشبه بعلاقة إله بسدنة المعبد، أو بين سيد بمحظيته أو ملهمته. هي تقدم الراحة والسكن وهو من يملك زمام الأمر.
ولكن ما هو هذا المنزل الذي دمر في الحريق، والذي تعيد الزوجة تشييده؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن أحداث الفيلم جميعا، باستثناء ثوانٍ معدودة تدور داخل ذلك المنزل. إنه منزل في منطقة معزولة أو نائية لا تحيط به منازل أخرى، يبدو الزوجان أول من يقطن تلك المنطقة وأول من يعمرها. هي تقول في سياق الفيلم إنها تريد أن تجعل من المنزل «فردوسا»، فهل في هذا إشارة إلى آدم وحواء وبداية نزولهما إلى الأرض لإعمارها؟ أم هل هو أمل العثور على فردوس مفقود؟ أم هل هذا البيت هو خيال الأديب، الخيال الذي يفرغ معينه فور الانتهاء من عمل أدبي، ويحتاج إلى يد وجسد ملهمة أخرى لتتجدد قدرته على الخلق؟
يبقى المنزل على هدوئه إلى أن يصل الزائر الغريب، الزائر غير المتوقع (إد هاريس). يصل هكذا يدق الباب، قائلا إنه طبيب جاء للعمل في مستشفى المنطقة، وظن البيت نُزلا، فجاء لاستئجار غرفة. يرحب به الزوج، بينما تبقى الزوجة على حذرها، رافضة أن يدخل غريب دارها، أو أن يعبث بترتيب المنزل. مع دخول الغريب، يدخل الفيلم مرحلته الكابوسية الأولى، ونشهد بدايات الدمار للمنزل الذي تصحبه بدايات من الدمار النفسي والعصبي للزوجة. هذا الغريب الذي جاء، سريعا ما تلحق به زوجته ليقوما بشبه احتلال للبيت، احتلال يبدو صاحب البيت سعيدا به، بعد أن علم أن الضيف من معجبي أدبه المخلصين، بينما تحاول الزوجة بقدر الإمكان أن تتخلص منه.
ثمة مقارنة تفرض نفسها بين العلاقة بين صاحب البيت وزوجته والضيف الغامض وزوجته. تبدو العلاقة بين الزوجين الضيفين أكثر حسية وأكثر حميمية، وهي ليست بالعلاقة العقيمة فلهما من الأبناء ولدان. تباهي الزوجة الضيفة بأبنيها قائلة إن المنزل وطلائه ليس سوى قشرة خارجية، ولكن ما يجعل الزيجة زيجة حقا ويجعل البيت أسرة هو وجود طفل. وتبدأ في توبيخ الزوجة لأنها لا تقدم الإغراء الكافي للزوج ليجعلها حبلى. هل الزوجان الضيفان موجودان حقا؟ هل يحاولان حقا فرض سطوتيهما على المنزل؟ أم هل هما مجرد هلاوس تعبث بمخيلة الزوجة التي تشعر بأن زواجها على المحك، رغم صورته الهادئة على السطح؟ هل الضيف وزوجته مصادر إلهام أخرى للأديب تأبى ملهمته أن تشاركهما فيه؟ هل هما إرهاصات لثقافة القطيع وثقافة التابعين للأنبياء مثلا، هذا إذا أحلنا الأديب إلى صورة أخرى من الأدب: الكتب التي يتبعها أصحاب الديانات، سواء كانوا أنبياء أم رسلا؟ يزداد الأمر تعقيدا بوصول ابني الضيف والضيفة، الابنان الشابان اللذان يقتتلان ويتصارعان على حب أبيهما، حتى يصرع أحدهما الآخر على أرض المنزل، في إشارة واضحة لهابيل وقابيل. هل ذلك البيت الذي تدور فيه الأحداث صورة للبشرية بكل صراعاتها وآلامها وشرورها وأطماعها؟
يراق الدم في المنزل، ويقتل الأخ أخاه، ولكن هذا الدم المراق والضيوف الكثر الذين يغزون المنزل ويدنسون حرمته لتأبين الابن القتيل، هم ما يحرك الزيجة الفاترة بين الأديب وزوجته، فتحمل الزوجة وتدب فيها حياة جديدة بينما تدب الحياة في مخيلة الأديب. إنه الخلق بكل صوره، الخلق في مواجهة شرور البشرية، الخلق في مواجهة الموت، والخلق الإبداعي شعرا. الإنسان يعيث في الأرض فسادا ويقتل ويخرب ويستبيح حرمات البيوت والحرمات جميعا، ولكنه أيضا ينتج الفن والأدب والقصيدة وينجب أبناء لعمارة الأرض!
يدخله الفيلم ثلثه الأخير الأكثر جنونا وصخبا وكابوسية بعد أن يفرغ الشاعر من كتابة قصيدته بينما تقارب الزوجة المخاض. «أنجب» الشاعر قصيدته بعد أن ألهمه حمل الزوجة أن يكتب. الزوجة هي أم الجنين المتشكل في الرحم وهي أيضا «أم» القصيدة التي كتبها الشاعر. هي الملهمة وجالبة الحياة، ولكنها لا تحظى قط باهتمام الزوج، فهي مجرد محفز له على الإبداع، يفرغ منها تماما فور انتهائه من كتابة القصيدة.
ثم يأتي الدهماء، يأتون من كل حدب وصوب ويغزون المنزل. إنهم المعجبون بالأديب ومحبوه، ولكنهم ليسوا كمن نراهم في ندوة شعرية يستمعون إلى الشاعر. إنهم الجموع حين تعتريها اللوثة، أقرب إلى تابعي رجال الدين، الذين يريدون الحصول على قطعة من أثر إمامهم أو قسهم للتبرك بها أو لتحل فيهم روحه. تحاول الأم التي على وشك المخاض الدفاع عن بيتها وعن جنينها الذي يوشك أن يولد. لكن الجحافل تأتي على كل ما في البيت. يتناكحون ويلتهمون البيت التهاما ويدمرونه بمباركة الشاعر المنتشي بمريديه وأتباعه ولا يحرك ساكنا لإنقاذ زوجته أو مولودها.
في الثلث الأخير من الفيلم يضاعف أرنوفسكي التوتر أضعافا حتى أننا نكاد نختنق اختناقا. المشاهد الأخيرة في الفيلم بما فيها من التهام للحم البشر وذلك القربان البشري الذي لا حول له ولا قوة صادمة للغاية، ولكنها أيضا تأتي محملة بمستويات المعنى والتأويل.
يمكن رؤية الدهماء الذين غزوا المنزل على أنهم الصحافة والجماهير التي تقحم نفسها في حياة المشاهير أو أنها جحافل أتباع رجل دين أو ديانة. الفيلم لا يقدم الكثير من الإجابات الشافية ويتركنا في حالة من الصدمة البالغة، ولكن ثراءه يكمن في أنه يفتح لنا أبواب الفكر والخيال والتفسير لنجد نحن تأويلنا الخاص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.