5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التونسية هدى بحروني في بحث فلسفي عن رمزيات الجسد
نشر في صوت البلد يوم 16 - 08 - 2017

يعتبر البحث في الجسد ودراسته بحثاً قديماً ومتجدّداً، ففي الثقافات الكلاسيكية التي تأسّست على رؤية اثنينية للإنسان (على أنه مكوّن من جسد وروح) اعتبر الجسد موطن الخطيئة، ونظر إليه على أنه الضدّ للروح ذات المصدر العلوي والمقدّس. غير أن تطوّر العلوم وانفتاح المعرفة في كل المجالات العلمية والاجتماعية في العصر الحديث اعتبرا الجسد ركناً أساسياً تقوم عليه هوية الإنسان، وتكتمل به ذاته.
الباحثة التونسية هدى بحروني في كتابها «شعرية الجسد من خلال نشيد الأناشيد، وإنجيل لوقا» الصادر عن دار «مؤمنون بلا حدود» تطرح من جديد مشكلة التعرّف الى الجسد في جميع أحواله، وذلك بالعودة الى الأشعار والأناشيد والتراتيل ونصوص الأديان وبوجه خاص النصوص التي تحكي عن الجسد في «نشيد الأناشيد» و «إنجيل لوقا».
إن تعريف الجسد ليس بالأمر الهين، فكل شيء في الكون يشير اليه، وهو يشير الى كل شيء في الكون، فجسدنا هو في الآن ذاته أداة كل أعمالنا وموضوعها، وكذلك أفكارنا. هكذا آثر المفكر الفرنسي أن يعرّف الجسد من خلال وصف قيمته في تحديد موقعنا في الكون وفي ضبط مسار انخراطنا في الحياة، وتواصلنا مع ذواتنا. ومن هذا المنظور بات الجسد مقولة أساسية في سجلّات شتّى القطاعات المعرفية والثقافية. فالجسد الذي تحكي عنه المؤسسة الإعلامية غير جسد التشريحيين المسجّى على طاولة التشريح، وجسد المؤسسة السياسية غير جسد المؤسسة الدينية أو الفنية أو الرياضية أو غيرها مما أنتجه الإنسان من مؤسسات.
لا يقلّ تعريف النص صعوبة عن تعريف الجسد. ذلك أن النص يشي برغبة اللغة في تثبيت وجودها وحماية كيانها من التلاشي. فالكلام حين يقتحم بياض الورق، ويجتاحه يضحي جسداً، بل يضحي من أجمل الأجساد التي يتاح لنا أن نفتتن بها وننجذب اليها. وما الزينة التي يطلبها النص بلاغياً ويتفنّن فيها إلا ضرب من ضروب اختراق الزمن، وانفتاح على الخلود. فالنص الخالد هو النص الجميل الفاتن. وقد نتج من الوشائج التي تجمع بين الجسد والنص أشكال عديدة من الغواية والإغراء، والحضّ على ترسّم اللذة، وهذا ما حدث لآدم وحواء اللذين لم يكتشفا فتنة جسديهما إلا باختراق الممنوع والاجتراء على المحظور، وكذا النص المبدع، لا يكون كذلك إلا بنسف المستقرّ من العلاقات بين الدوال والمدلولات، وبالجرأة على خرق القانون. إن خرق القانون من الجسد والنص يشهد على وجود تاريخ القمع الإنساني من خلال شتّى صنوف المراقبة والمعاقبة. فكثيراً ما تمّت معاقبة الكتاب المارقين عن نواميس السلطة قتلاً وحرقاً وصلباً.
ذكر «الجسد» في «العهد القديم» بكثافة وقد ورد ذكره في سياقات مختلفة، ففي سفر «اللاويين» بخاصة تعرض مختلف الحالات التي يعتبر فيها الجسد نجساً. وهذه النجاسة يترتب عليها تعطّل صلته بفضاء المقدس. فالجسد المصاب بالبرص يعرض على الكاهن لا على الطبيب، وثبوت المرض يؤدي الى الحكم بنجاسة المريض وإقصائه وعزله عن المجموعة، وكذلك المرأة الحائض، والمرأة إذا وضعت تظلّ نجسة ويقع تجنّبها الى أن تطهر من الدم.
يتكثّف حضور لفظة الجسد في العهد الجديد خلافاً للعهد القديم، إذ قلّ أن يوجد نص من نصوصه يخلو من ذكره، ومن الملاحظ أن هذا الحضور المكثّف لا يكشف عن احتفاء بالجسد وتبجيل لأعضائه، وإنما محاصرته وشجب غرائزه، وكسر نزعته الشهوانية، واتهامه بجلب الخطيئة الأصلية، ولذلك كان بمثابة الوثن الذي يجب أن يرجم ويقمع ويخضع للتقشف، تكفيراً عن وقوعه في الخطيئة الأصلية.
إن حضور الجسد لفظاً في القرآن الكريم هو حضور محدود. ولكنه مع ذلك كان حاضراً بكثافة. فكل شيء يحيل اليه. إنه الآلية الأساس لأداء العبادات وممارستها، والشرط الفيزيقي لإقامة الشعائر. وقد رأى البعض أن قيمة الجسد في الإسلام ليست متأتية منه في ذاته لأنه طاقة شهوانية في نظر الدين، وإنما يكتسب قيمته من مدى تحوّله عن تلك الشهوانية نحو فضاء المقدّس، وقدرته على الاندماج في أداء الوظائف الدينية، والنجاح في الصوم عن غرائزه وتهذيبها وإخضاعها للفعل الإيماني. وقد ورد «الجسد» أو ما قام مقامه من مرادفات كالبدن والجسم في سياق حجاجي لإثبات الإعجاز الإلهي.
لئن ظلّ المقدّس يحاصر الجسد ويسعى الى التحكّم به، وإخضاعه لنواميس لا تنتهي، وقوانين لا تعرف هوادة، فإن الجسد لم يعلن خضوعه النهائي لهذه المحاصرة، بل ظلّ يطلب اللذة ويتدبّرها بشتّى السبل، ويترسّم أثرها في كل مكان، ولعله من المفارقات العجيبة أن النصوص الدينية التي تدين الجسد وتلزمه بالاقتصاد في شهواته، هي نصوص عاش فيها الجسد مغامرات مترعة، بعضها دنيوي موجود، وبعضها مقدّس موعود، غير أن هذه النصوص ظلت تحضّ المؤمن على ترك اللذة الحسية، وطلب اللذة الروحية الدائمة التي هي سبيل الخلاص.
يلتقي النصان في العهد القديم والعهد الجديد على جعل الرأس مسرحاً فسيحاً للذة بنوعيها الحسي والفكري، وقد اختير من الرأس بعض الأعضاء كالعين والأنف والأذن والفم. فالعين مثلاً التي هي بؤرة الافتتان والسحر والسلب، وهي في الوقت نفسه سلاح العاشق ليخترق الحواجز الثقافية التي تمنعه من تحقيق لذاته. وقد تقاسمت لذة البصر في «النشيد» عيون هي عين المحبوبة، وعين المحبّ، وعيون بنات أوروشليم. أما مواضيع الرؤية فهي جسد المحبوبة، وجسد المحبّ. وجسد الطبيعة. وتنصرف عين المحبوبة من جسدها الى جسد المحبّ تصوّر شتّى أعضائه وتترصده في مختلف أحواله وأعماله، وهي تترسّم خطاه وتقفو أثره أنّى ذهب، وتصفه مستيقظاً ونائماً، وترسم تفاصيله وتقطعه تقطيعاً يخبر عن عشق متأجج في امتلاكه لأنه جسد فائض السحر والوسامة. تقول العاشقة في «نشيد الأناشيد»: «اجعلني كخاتم على قلبك، كوشم على ذراعيك فإن المحبة قوية كالموت، والغيرة قاسية كالهاوية».
إذا كانت العين في «النشيد» موضوعاً للوصف، فإنها في «إنجيل لوقا» مصباح للجسد بمعنى أنه مثلما يكون المصباح مصدر النور المبدّد للظلمة، تكون العين أداة لإنارة سبيل الخلاص، أو النجاة للمؤمن المسؤول عن مصير جسده الذي لا يحيد عن مآلي الخلاص والهلاك، ففي سلامة العين نجاة الجسد، وفي عطبها هلاكه وتلفه.
يبدو الأنف في العهدين القديم والجديد مسرحاً شاسعاً يستقطب شتّى الروائح، وهو أكثر حضوراً في النشيد مما هو عليه في «إنجيل لوقا» وقد كانت لغة العطور لغة أنثوية بالأساس، يصدرها الجسد الأنثوي أو يتقبلها، ويفتتن بها كما فعلت مريم المجدلية في لقائها بالمسيح. وللفم في الكتابين نصيب وافر من اللذة فهو من بين أعضاء الرأس الأكثر طلباً للذة وأكثرها انغماساً في عالمها. أما الأذن في النشيد والإنجيل فلها تجليّات شتّى، ففي النشيد متعة الأذن تتأتى من صوت الحبيب المباشر أو من وقع أقدامه، أما في الإنجيل فإن اللذة التي تحصّلها الأذن وإن كانت عبر الجسد ليست لذة الحس، وإنما لذّة الروح.
كتاب هدى بحروني عن الجسد كتاب ممتع وثري بالمعارف، يضعنا أمام مقاربة جمالية تروم الوقوف على الأسرار الفنية التي توخّتها النصوص المقدسة في تشكيل صورة الجسد، وفي فهم الدلالات التي ينفتح عليها النصان موضوع التحليل.
يعتبر البحث في الجسد ودراسته بحثاً قديماً ومتجدّداً، ففي الثقافات الكلاسيكية التي تأسّست على رؤية اثنينية للإنسان (على أنه مكوّن من جسد وروح) اعتبر الجسد موطن الخطيئة، ونظر إليه على أنه الضدّ للروح ذات المصدر العلوي والمقدّس. غير أن تطوّر العلوم وانفتاح المعرفة في كل المجالات العلمية والاجتماعية في العصر الحديث اعتبرا الجسد ركناً أساسياً تقوم عليه هوية الإنسان، وتكتمل به ذاته.
الباحثة التونسية هدى بحروني في كتابها «شعرية الجسد من خلال نشيد الأناشيد، وإنجيل لوقا» الصادر عن دار «مؤمنون بلا حدود» تطرح من جديد مشكلة التعرّف الى الجسد في جميع أحواله، وذلك بالعودة الى الأشعار والأناشيد والتراتيل ونصوص الأديان وبوجه خاص النصوص التي تحكي عن الجسد في «نشيد الأناشيد» و «إنجيل لوقا».
إن تعريف الجسد ليس بالأمر الهين، فكل شيء في الكون يشير اليه، وهو يشير الى كل شيء في الكون، فجسدنا هو في الآن ذاته أداة كل أعمالنا وموضوعها، وكذلك أفكارنا. هكذا آثر المفكر الفرنسي أن يعرّف الجسد من خلال وصف قيمته في تحديد موقعنا في الكون وفي ضبط مسار انخراطنا في الحياة، وتواصلنا مع ذواتنا. ومن هذا المنظور بات الجسد مقولة أساسية في سجلّات شتّى القطاعات المعرفية والثقافية. فالجسد الذي تحكي عنه المؤسسة الإعلامية غير جسد التشريحيين المسجّى على طاولة التشريح، وجسد المؤسسة السياسية غير جسد المؤسسة الدينية أو الفنية أو الرياضية أو غيرها مما أنتجه الإنسان من مؤسسات.
لا يقلّ تعريف النص صعوبة عن تعريف الجسد. ذلك أن النص يشي برغبة اللغة في تثبيت وجودها وحماية كيانها من التلاشي. فالكلام حين يقتحم بياض الورق، ويجتاحه يضحي جسداً، بل يضحي من أجمل الأجساد التي يتاح لنا أن نفتتن بها وننجذب اليها. وما الزينة التي يطلبها النص بلاغياً ويتفنّن فيها إلا ضرب من ضروب اختراق الزمن، وانفتاح على الخلود. فالنص الخالد هو النص الجميل الفاتن. وقد نتج من الوشائج التي تجمع بين الجسد والنص أشكال عديدة من الغواية والإغراء، والحضّ على ترسّم اللذة، وهذا ما حدث لآدم وحواء اللذين لم يكتشفا فتنة جسديهما إلا باختراق الممنوع والاجتراء على المحظور، وكذا النص المبدع، لا يكون كذلك إلا بنسف المستقرّ من العلاقات بين الدوال والمدلولات، وبالجرأة على خرق القانون. إن خرق القانون من الجسد والنص يشهد على وجود تاريخ القمع الإنساني من خلال شتّى صنوف المراقبة والمعاقبة. فكثيراً ما تمّت معاقبة الكتاب المارقين عن نواميس السلطة قتلاً وحرقاً وصلباً.
ذكر «الجسد» في «العهد القديم» بكثافة وقد ورد ذكره في سياقات مختلفة، ففي سفر «اللاويين» بخاصة تعرض مختلف الحالات التي يعتبر فيها الجسد نجساً. وهذه النجاسة يترتب عليها تعطّل صلته بفضاء المقدس. فالجسد المصاب بالبرص يعرض على الكاهن لا على الطبيب، وثبوت المرض يؤدي الى الحكم بنجاسة المريض وإقصائه وعزله عن المجموعة، وكذلك المرأة الحائض، والمرأة إذا وضعت تظلّ نجسة ويقع تجنّبها الى أن تطهر من الدم.
يتكثّف حضور لفظة الجسد في العهد الجديد خلافاً للعهد القديم، إذ قلّ أن يوجد نص من نصوصه يخلو من ذكره، ومن الملاحظ أن هذا الحضور المكثّف لا يكشف عن احتفاء بالجسد وتبجيل لأعضائه، وإنما محاصرته وشجب غرائزه، وكسر نزعته الشهوانية، واتهامه بجلب الخطيئة الأصلية، ولذلك كان بمثابة الوثن الذي يجب أن يرجم ويقمع ويخضع للتقشف، تكفيراً عن وقوعه في الخطيئة الأصلية.
إن حضور الجسد لفظاً في القرآن الكريم هو حضور محدود. ولكنه مع ذلك كان حاضراً بكثافة. فكل شيء يحيل اليه. إنه الآلية الأساس لأداء العبادات وممارستها، والشرط الفيزيقي لإقامة الشعائر. وقد رأى البعض أن قيمة الجسد في الإسلام ليست متأتية منه في ذاته لأنه طاقة شهوانية في نظر الدين، وإنما يكتسب قيمته من مدى تحوّله عن تلك الشهوانية نحو فضاء المقدّس، وقدرته على الاندماج في أداء الوظائف الدينية، والنجاح في الصوم عن غرائزه وتهذيبها وإخضاعها للفعل الإيماني. وقد ورد «الجسد» أو ما قام مقامه من مرادفات كالبدن والجسم في سياق حجاجي لإثبات الإعجاز الإلهي.
لئن ظلّ المقدّس يحاصر الجسد ويسعى الى التحكّم به، وإخضاعه لنواميس لا تنتهي، وقوانين لا تعرف هوادة، فإن الجسد لم يعلن خضوعه النهائي لهذه المحاصرة، بل ظلّ يطلب اللذة ويتدبّرها بشتّى السبل، ويترسّم أثرها في كل مكان، ولعله من المفارقات العجيبة أن النصوص الدينية التي تدين الجسد وتلزمه بالاقتصاد في شهواته، هي نصوص عاش فيها الجسد مغامرات مترعة، بعضها دنيوي موجود، وبعضها مقدّس موعود، غير أن هذه النصوص ظلت تحضّ المؤمن على ترك اللذة الحسية، وطلب اللذة الروحية الدائمة التي هي سبيل الخلاص.
يلتقي النصان في العهد القديم والعهد الجديد على جعل الرأس مسرحاً فسيحاً للذة بنوعيها الحسي والفكري، وقد اختير من الرأس بعض الأعضاء كالعين والأنف والأذن والفم. فالعين مثلاً التي هي بؤرة الافتتان والسحر والسلب، وهي في الوقت نفسه سلاح العاشق ليخترق الحواجز الثقافية التي تمنعه من تحقيق لذاته. وقد تقاسمت لذة البصر في «النشيد» عيون هي عين المحبوبة، وعين المحبّ، وعيون بنات أوروشليم. أما مواضيع الرؤية فهي جسد المحبوبة، وجسد المحبّ. وجسد الطبيعة. وتنصرف عين المحبوبة من جسدها الى جسد المحبّ تصوّر شتّى أعضائه وتترصده في مختلف أحواله وأعماله، وهي تترسّم خطاه وتقفو أثره أنّى ذهب، وتصفه مستيقظاً ونائماً، وترسم تفاصيله وتقطعه تقطيعاً يخبر عن عشق متأجج في امتلاكه لأنه جسد فائض السحر والوسامة. تقول العاشقة في «نشيد الأناشيد»: «اجعلني كخاتم على قلبك، كوشم على ذراعيك فإن المحبة قوية كالموت، والغيرة قاسية كالهاوية».
إذا كانت العين في «النشيد» موضوعاً للوصف، فإنها في «إنجيل لوقا» مصباح للجسد بمعنى أنه مثلما يكون المصباح مصدر النور المبدّد للظلمة، تكون العين أداة لإنارة سبيل الخلاص، أو النجاة للمؤمن المسؤول عن مصير جسده الذي لا يحيد عن مآلي الخلاص والهلاك، ففي سلامة العين نجاة الجسد، وفي عطبها هلاكه وتلفه.
يبدو الأنف في العهدين القديم والجديد مسرحاً شاسعاً يستقطب شتّى الروائح، وهو أكثر حضوراً في النشيد مما هو عليه في «إنجيل لوقا» وقد كانت لغة العطور لغة أنثوية بالأساس، يصدرها الجسد الأنثوي أو يتقبلها، ويفتتن بها كما فعلت مريم المجدلية في لقائها بالمسيح. وللفم في الكتابين نصيب وافر من اللذة فهو من بين أعضاء الرأس الأكثر طلباً للذة وأكثرها انغماساً في عالمها. أما الأذن في النشيد والإنجيل فلها تجليّات شتّى، ففي النشيد متعة الأذن تتأتى من صوت الحبيب المباشر أو من وقع أقدامه، أما في الإنجيل فإن اللذة التي تحصّلها الأذن وإن كانت عبر الجسد ليست لذة الحس، وإنما لذّة الروح.
كتاب هدى بحروني عن الجسد كتاب ممتع وثري بالمعارف، يضعنا أمام مقاربة جمالية تروم الوقوف على الأسرار الفنية التي توخّتها النصوص المقدسة في تشكيل صورة الجسد، وفي فهم الدلالات التي ينفتح عليها النصان موضوع التحليل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.