حزب الوفد يحيي ذكرى رحيل سعد زغلول ومصطفى النحاس (صور)    عمدة "هوداك" برومانيا يكرم طلاب جامعة سيناء الفائزين بالجائزة الذهبية في مهرجان الفلكلور الدولي    اتحاد المقاولين يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ القطاع من التعثر    الخارجية الجزائرية: المجاعة بقطاع غزة خيار سياسي ونتاج تخطيط وتدبير الكيان الصهيوني    نهائي السوبر السعودي، الأهلي والنصر يتعادلان 2-2 بالوقت الأصلي ويحتكمان لركلات الترجيح (صور)    بمشاركة فريق مصري.. تعرف على المشاركين في البطولة العربية للأندية لليد    محافظ سوهاج يتابع حادث غرق الطالبات ب شاطئ العجمى في الإسكندرية    نائب وزير السياحة وأمين المجلس الأعلى للآثار يتفقدان أعمال ترميم المواقع بالإسكندرية    بدون أنظمة ريجيم قاسية، 10 نصائح لإنقاص الوزن الزائد    الإتجار في السموم وحيازة خرطوش.. جنايات شبرا تقضي بسجن متهمين 6 سنوات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزمن والهاوية في علاقة حب عاصف بين امرأة ومراهق
نشر في صوت البلد يوم 31 - 05 - 2017

أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة رواية "سيركٌ يَمرّ" للكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل لعام 2014. وقد ترجمتها إلى اللغة العربية الشاعرة اللبنانية دانيال صالح.
إن إحدى أهم سمات أعمال موديانو تكراره للصفات والتيمات نفسها التي تميز نصوصه الأولى. يبدل الكاتب الأحداث ويطور الشخصيات، تشيخ أفكاره وتنضج، ولكن يظل الموضوع واحداً.
وفي رواية "سيركٌ يَمرّ" ينعش الكاتب موضوعه الأثير: غرام مع امرأة أكبر سناً، وهي واحدة من صفات الحبيبات في رواياته. الراوي هو المحب وكان وقتذاك مراهقاً في الثامنة عشرة من عمره، لا يزال تحت السن القانونية وفقاً للقانون الفرنسي وقتذاك.
منتصف الستينات من القرن العشرين هو زمان الأحداث التي تقع في باريس، في قلب هذه الرواية الرومانسية وبعبارات بسيطة وبليغة يقودنا الكاتب إلى الشوارع والمطاعم والمرافئ والفنادق الرخيصة وأجمل علامات المدينة، وهناك يلتقي الحبيبان اللذان تدور حولهما الرواية ويفترقان.
علاقة هلامية
تبدأ الرواية بكلمات الراوي وهو يرجع بذاكرته إلى سنوات بعيدة ليستحضر هوى قصيراً حين كان تلميذاً يحاول التهرب من الخدمة العسكرية في باريس. يقابل المرأة التي سيقع في حبها في أحد أقسام الشرطة. ومع سؤال ظاهره البراءة من جانبها، “هل تسدي لي صنيعاً؟” يجد الصبي نفسه في علاقة غرامية أشد ما تكون خطراً ونذيراً بالسوء، حيث تتغير حياته التي كانت قائمة على الطمأنينة. فيضيق صدره عن الجميع سواها، و”لا يذل الحبيب إلا نفسه”.
مع تطوّر قصة الحب ثمة غطاء كثيف من السديم يعلو المدينة. فيعبر الحبيبان النهر في الظلمة وظلال من الناس وتحولات الرغبة ترتعش منعكسة على الطرقات. وتطرح مقاهي باريس أسئلة أكثر مما تجيب عنها، فالاثنان يرتادان مطاعم لا اسم لها ليلَ نهارَ، في حياة عاطلة لا هدف لها.
تروح المرأة وتجيء بحقيبتي سفر، قد تكون متزوجة وقد تكون عزباء. أخلاقها محل شك. اسمها جيزيل أو هكذا ادعت. ورغم سنها فهي عاطلة من أي حكمة. مدينة بالنقود لصحبة السوء. ولا أحد من ثلتها يكمل جملته، فالكل خائف من الإفصاح عن هويته.
كان الصبي حبيبها في السر، وأخاها أمام الغرباء. تقْسم له ويصدقها. يصدقها مع أنه يعلم بحقيقة كذبها. الواقع أن الأكاذيب مشتركة من الطرفين.
والحب لصيق بالكذب في روايات موديانو. وبالمثل يتطاير في الهواء إحساس بالشر والشك وهي تخطط للهرب إلى روما، “يمْكنك أن تشعر بالأمان في مدينة غريبة. لن يعرفنا أحد”.
ينسحب الصبي إلى عالم المرأة الملغز، فيلتف حوله أشخاص من معارفها، يجهلهم، ويدب في قلبه الخوف منهم. عالم سفلي يتورط فيه مراهق أعزل، أبواه أيضاً يتشحان الغموض. ولا أحد يعلم السر، فكما يقول الصبي “كلاهما في الخارج ولا علم لي متى سيعودان إن كانا سيعودان أبداً”.
يحتار المراهق إن كان معارف حبيبته من دم ولحم أم أنهم أشباح من ثمرة خياله أم أنه يحلم حلماً تتكرر صوره في كل ساعة.
وفي كل مرة تتباين الصور وتنقلب مسوخاً. يحكي الراوي، “لو بوسعي العودة إلى الماضي والرجوع إلى تلك الغرفة، لغيرت اللمبة. ولكن كل شيء قد يتلاشى في الضوء الساطع”.
يتعمد موديانو ألا يقحم الكثير من المنعطفات والتحولات في السرد. فقط يضمن حكيه إشارات ومفاتيح دلالية، ومع ذلك لا يجاهر بشيء، فأسلوبه خال تماماً من الحواشي. لا ندري كيف كان الجو أو الأزياء أو حال الشخصيات الثانوية، فهو لا يذكر شيئا من هذه التفاصيل.
بل إننا لا نعلم شكل المراهق بالضبط، حيث اعتاد الكاتب رمي جملة أو موقف دون الإفصاح عن مدلوله. هل بدأت علاقتهما أفلاطونية أم كانت جنسية بحتة؟ ثمة من الرموز ما يعضد الرأيين، فموديانو لا يروي قط ما يجري بينهما في الفراش. ولكن المراهق يقول ذات مرة، “مرة أخرى أشعر أني أحلم. وفي هذا الحلم، يخامرني إحساس بالنشوة”.
كراهية الذكرى
هكذا يرنو الراوي إلى ماضيه من خلال عدسة ضبابية. لا ينم صوت عن حنين إلى تاريخه والذكريات ترف عليه، بل إنه يوحي بقدر من الحكمة بأثر رجعي وإن كان ينسى بعض الأحداث، لتقدم عمره أو لكراهيته اجترارها.
يطلعنا الراوي بأن الصبي رغب ذات لحظة في أن يجرِّد نفسه من ماضيه، وأن ينزع عن روحه غرامها، إذ هناك مستقبل بلا معالم يتهدده. وفي النهاية تتحطم آماله على شاطئ الحب، ويتجرع غصص الأسى عندما تختفي الجميلة عن الأنظار لتصطبغ هذه الرواية بصبغة الروايات البوليسية. فلا يكاد المراهق يستوعب ما جرى لعلاقة وأدها القدر في المهد.
إن “سيركٌ يَمرّ” أشد روايات موديانو قتامة، وشخصياتها ما فتئت تحتجب وراء دوامات من دخان السجائر.
يسلط موديانو الضوء على توهج الحب وسذاجته، وفي الوقت ذاته على عثراته ومثالبه. فتفوح من الرواية روائح الشك والحيرة، وتنتثر فيها شظايا من الألغاز، وموديانو أستاذ الألغاز. من هي هذه المرأة؟ ولِمَ كانت الشرطة تستجوبها؟ كيف أقنعته بارتكاب الفعلة؟ أين راحت؟
فسيفساء من الأسئلة غير أن الصورة الكاملة لن تتضح قط. والأسئلة قد تفسر جانباً من حياتيْ المراهق والمرأة غير أنها تغلق علينا جوانب أخرى.
يصارع الحبيبان حياتيهما الملغزتين وحيوات الآخرين. والكل يعد عداً تنازلياً وصولاً إلى الموت، إذ نلمس شعورا بتراجيديا وشيكة تدنو وبعدها ينفض اللغز. وتباغتنا النهاية، بزخمها العنيف، بكونها دون أي تفسير من أي نوع. التهديدات الهلامية تغدو حقيقة، والذكريات تنفصل عن الواقع فيما تلعب الذاكرة ألاعيبها فتتشوه أفكار الراوي الماضوية عن الحميمية والريبة.
أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة رواية "سيركٌ يَمرّ" للكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل لعام 2014. وقد ترجمتها إلى اللغة العربية الشاعرة اللبنانية دانيال صالح.
إن إحدى أهم سمات أعمال موديانو تكراره للصفات والتيمات نفسها التي تميز نصوصه الأولى. يبدل الكاتب الأحداث ويطور الشخصيات، تشيخ أفكاره وتنضج، ولكن يظل الموضوع واحداً.
وفي رواية "سيركٌ يَمرّ" ينعش الكاتب موضوعه الأثير: غرام مع امرأة أكبر سناً، وهي واحدة من صفات الحبيبات في رواياته. الراوي هو المحب وكان وقتذاك مراهقاً في الثامنة عشرة من عمره، لا يزال تحت السن القانونية وفقاً للقانون الفرنسي وقتذاك.
منتصف الستينات من القرن العشرين هو زمان الأحداث التي تقع في باريس، في قلب هذه الرواية الرومانسية وبعبارات بسيطة وبليغة يقودنا الكاتب إلى الشوارع والمطاعم والمرافئ والفنادق الرخيصة وأجمل علامات المدينة، وهناك يلتقي الحبيبان اللذان تدور حولهما الرواية ويفترقان.
علاقة هلامية
تبدأ الرواية بكلمات الراوي وهو يرجع بذاكرته إلى سنوات بعيدة ليستحضر هوى قصيراً حين كان تلميذاً يحاول التهرب من الخدمة العسكرية في باريس. يقابل المرأة التي سيقع في حبها في أحد أقسام الشرطة. ومع سؤال ظاهره البراءة من جانبها، “هل تسدي لي صنيعاً؟” يجد الصبي نفسه في علاقة غرامية أشد ما تكون خطراً ونذيراً بالسوء، حيث تتغير حياته التي كانت قائمة على الطمأنينة. فيضيق صدره عن الجميع سواها، و”لا يذل الحبيب إلا نفسه”.
مع تطوّر قصة الحب ثمة غطاء كثيف من السديم يعلو المدينة. فيعبر الحبيبان النهر في الظلمة وظلال من الناس وتحولات الرغبة ترتعش منعكسة على الطرقات. وتطرح مقاهي باريس أسئلة أكثر مما تجيب عنها، فالاثنان يرتادان مطاعم لا اسم لها ليلَ نهارَ، في حياة عاطلة لا هدف لها.
تروح المرأة وتجيء بحقيبتي سفر، قد تكون متزوجة وقد تكون عزباء. أخلاقها محل شك. اسمها جيزيل أو هكذا ادعت. ورغم سنها فهي عاطلة من أي حكمة. مدينة بالنقود لصحبة السوء. ولا أحد من ثلتها يكمل جملته، فالكل خائف من الإفصاح عن هويته.
كان الصبي حبيبها في السر، وأخاها أمام الغرباء. تقْسم له ويصدقها. يصدقها مع أنه يعلم بحقيقة كذبها. الواقع أن الأكاذيب مشتركة من الطرفين.
والحب لصيق بالكذب في روايات موديانو. وبالمثل يتطاير في الهواء إحساس بالشر والشك وهي تخطط للهرب إلى روما، “يمْكنك أن تشعر بالأمان في مدينة غريبة. لن يعرفنا أحد”.
ينسحب الصبي إلى عالم المرأة الملغز، فيلتف حوله أشخاص من معارفها، يجهلهم، ويدب في قلبه الخوف منهم. عالم سفلي يتورط فيه مراهق أعزل، أبواه أيضاً يتشحان الغموض. ولا أحد يعلم السر، فكما يقول الصبي “كلاهما في الخارج ولا علم لي متى سيعودان إن كانا سيعودان أبداً”.
يحتار المراهق إن كان معارف حبيبته من دم ولحم أم أنهم أشباح من ثمرة خياله أم أنه يحلم حلماً تتكرر صوره في كل ساعة.
وفي كل مرة تتباين الصور وتنقلب مسوخاً. يحكي الراوي، “لو بوسعي العودة إلى الماضي والرجوع إلى تلك الغرفة، لغيرت اللمبة. ولكن كل شيء قد يتلاشى في الضوء الساطع”.
يتعمد موديانو ألا يقحم الكثير من المنعطفات والتحولات في السرد. فقط يضمن حكيه إشارات ومفاتيح دلالية، ومع ذلك لا يجاهر بشيء، فأسلوبه خال تماماً من الحواشي. لا ندري كيف كان الجو أو الأزياء أو حال الشخصيات الثانوية، فهو لا يذكر شيئا من هذه التفاصيل.
بل إننا لا نعلم شكل المراهق بالضبط، حيث اعتاد الكاتب رمي جملة أو موقف دون الإفصاح عن مدلوله. هل بدأت علاقتهما أفلاطونية أم كانت جنسية بحتة؟ ثمة من الرموز ما يعضد الرأيين، فموديانو لا يروي قط ما يجري بينهما في الفراش. ولكن المراهق يقول ذات مرة، “مرة أخرى أشعر أني أحلم. وفي هذا الحلم، يخامرني إحساس بالنشوة”.
كراهية الذكرى
هكذا يرنو الراوي إلى ماضيه من خلال عدسة ضبابية. لا ينم صوت عن حنين إلى تاريخه والذكريات ترف عليه، بل إنه يوحي بقدر من الحكمة بأثر رجعي وإن كان ينسى بعض الأحداث، لتقدم عمره أو لكراهيته اجترارها.
يطلعنا الراوي بأن الصبي رغب ذات لحظة في أن يجرِّد نفسه من ماضيه، وأن ينزع عن روحه غرامها، إذ هناك مستقبل بلا معالم يتهدده. وفي النهاية تتحطم آماله على شاطئ الحب، ويتجرع غصص الأسى عندما تختفي الجميلة عن الأنظار لتصطبغ هذه الرواية بصبغة الروايات البوليسية. فلا يكاد المراهق يستوعب ما جرى لعلاقة وأدها القدر في المهد.
إن “سيركٌ يَمرّ” أشد روايات موديانو قتامة، وشخصياتها ما فتئت تحتجب وراء دوامات من دخان السجائر.
يسلط موديانو الضوء على توهج الحب وسذاجته، وفي الوقت ذاته على عثراته ومثالبه. فتفوح من الرواية روائح الشك والحيرة، وتنتثر فيها شظايا من الألغاز، وموديانو أستاذ الألغاز. من هي هذه المرأة؟ ولِمَ كانت الشرطة تستجوبها؟ كيف أقنعته بارتكاب الفعلة؟ أين راحت؟
فسيفساء من الأسئلة غير أن الصورة الكاملة لن تتضح قط. والأسئلة قد تفسر جانباً من حياتيْ المراهق والمرأة غير أنها تغلق علينا جوانب أخرى.
يصارع الحبيبان حياتيهما الملغزتين وحيوات الآخرين. والكل يعد عداً تنازلياً وصولاً إلى الموت، إذ نلمس شعورا بتراجيديا وشيكة تدنو وبعدها ينفض اللغز. وتباغتنا النهاية، بزخمها العنيف، بكونها دون أي تفسير من أي نوع. التهديدات الهلامية تغدو حقيقة، والذكريات تنفصل عن الواقع فيما تلعب الذاكرة ألاعيبها فتتشوه أفكار الراوي الماضوية عن الحميمية والريبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.