في أزقة بغداد وبين ثنايا تاريخها كانت سيدة فارهة الطول، رقيقة القوام تتنقّل بثبات وعزيمة متنشقة رائحة بخور النساء العراقيات المتلحّفات بالسواد اللاتي رحن يطردن الشياطين القادمة مع تلك المرأة الغريبة. هي غيرترود بيل، خاتون بغداد، كما يطيب للعراقيين أن يسمّوها، أحبّت بلاد ما بين النهرين وعلى رغم مهمتها الاستخباراتية والسياسية لمصلحة المملكة البريطانية كانت تمثّل احتلالاً من نوع آخر، في هذه البلاد المشبعة منذ عصور وعصور بعبق العلم والمعرفة، حيث أسست المكتبة الوطنية العراقية، المتحف البريطاني في بغداد وأرست دعائم النظام الملكي في العراق. إنّها «مس بيل» بطلة رواية «خاتون بغداد» (دار كتّاب للنشر والتوزيع) للكاتب العراقي شاكر نوري، والتي تزامن صدورها مع مرور 100 عام على الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917. وال «خاتون» لغوياً تعني باختصار السيدة المعظّمة أو السلطانة (ص348). اعتمد نوري في هذه الرواية على الوثائق من دون أن يحصرها في نطاق العمل الوثائقي الصرف، فطوّع التاريخ لخدمة العمل الروائي ونفخ فيه الحياة من خلال شخصيات روايته التي خلّدت ذكرى الخاتون عبر السينما، المراسلات، المسرح، السيناريو والسرد. «مس بيل»، تلك الشخصية الفذة، بقيت، وعلى امتداد صفحات الرواية، في مواجهة وتحدٍّ مع ذاتها ومع الآخرين، هي التي تطلّعت دوماً إلى أن تكون لها مكانتها الخاصة، فلم تجد ضالتها في حفلات الزواج التي اضطرت، كفتاة برجوازية، على المشاركة بها في ريعان شبابها، بل أرادت أن تسبر أغوار المعرفة ورأت في الرجل الشريك الذي يحاكي عقلها وروحها، فكان حبها ل «هنري كادوغان» الموظّف في القنصلية الإنكليزية في طهران، إذ أثار إعجابها بميوله الشعرية التي كانت توليها هي اهتماماً خاصاً. هذا الحب، لم يحظَ بمباركة أبيها وزوجته التي كانت بمنزلة أمها، وعاكسه القدر أيضاً بحيث قضى «هنري» متجمّداً في بحيرة «لارا» بعد أن زلّت قدمه. وجاءت معرفتها ب «ريتشارد داوني وايلي» المتزوّج، والذي ربطتها صداقة بزوجته، لتكرّس مفهوم الحب المستحيل بينهما، على رغم انصياعها لعواطفها غالباً، نظراً إلى ما يربطهما من تناغم فكري. إلا أنّ موعده مع الموت كان قريباً وكأن قدرها كان أن يأخذ منها الموت حبيبها مرتين. وعلى رغم أن الرواية هي، كما أسلفنا، تاريخية وليست تأريخية إلا أن الكاتب لم يهمل المعطيات التاريخية وراح يطوِّع قالبه الروائي مطعّماً إياه بتفاصيل الحقائق التاريخية على اعتبار أنّه لا يغفل أياً من جوانب الحكاية إلا ويلقي الضوء عليه. فجاءت الأحداث الروائية رهينة التاريخ مع سبر أغوار العمل الدرامي، ما جعل من العمل رواية سردية وعملاً درامياً، لكن هذا لم ينج زمام العقدة أحيانًا من السقوط في مطبّات التاريخ. إذ سلّط الكاتب الضوء على يوميات عمل «مس بيل» وتفاصيلها متوقفاً عند الإعجاب الذي حظيت به من السلطة البريطانية وقتذاك. فكانت مهتمة بالتعرّف إلى كبار الشخصيات الذين عملت معهم لاحقاً، وقابلت في بداياتها اثنين من أفضل من عرف العرب هما «هوغارت» و «لورنس» اللذين جاء لقاؤها بهما على مائدة العشاء أشبه بساحة مباراة في المعلومات عن الفوارق الجوهرية بين مسلمي الهند والبدو العرب في السلوك والعبادة والمعتقدات. وكانت الخاتون بصحبة الجنرال «مود» فاتح بغداد عندما سمِّم له في كأس الشاي بفيروس الكوليرا، فما إن شربه حتى تهاوى بسرعة، حاولت إسعافه لكن من دون جدوى (ص 28). لعلّ هذا خير دليل على شجاعة «مس بيل» التي صمّمت على متابعة طريقها حتى النهاية، رغم أنّها رأت مصير الجنرال «مود» أمام عينيها. شاكر نوري، الذي اعتبر أن «مس بيل»، على رغم الطابع الاستعماري لوجودها في بغداد راحت تسعى جاهدة إلى تكوين مكتبة ومتحف لتنهض بالبلاد فكرياً وثقافياً، جعل قارئه أحياناً أسير إعجابه بهذه الشخصية الفذة إلى درجة أنّه فاضل بين احتلال وآخر (الاحتلال الأميركي للعراق) وكأنه يعيش نوعاً من التصالح مع فكرة الاستعمار بذاتها. وعلى رغم أن مواقف «مس بيل» بالنسبة إلى وعد بلفور واتفاق سايكس بيكو كانت قريبة من مصالح العرب إلا أن ذلك لا يبرر تنزيهها، فهي تمثّل المستعمر ومصالحه في العراق. وفي النهاية لم تكن «مس بيل» سوى تلك المرأة «المتسلطة»، كما كان يحلو للبعض أن يصفها، في مكتب المندوب السامي الإنكليزي على العراق (ص148). وتجدر الإشارة إلى حضور والد «مس بيل» القوي في حياتها، فقد كانت تعلمه بمحتوى رسائلها وتطلّعاتها وما يحصل معها، وهنا لا بدّ لنا من أن نتوقف عند الطابع الإنساني المحض الذي نجح الكاتب في إضفائه على شخصية بطلة روايته حين كشف عن مراسلاتلها مع أبيها وزوجته: «أبي العزيز، ما زالت صورة ذلك الجندي راسخة في ذهني، وقد نهض ليسألني من بين الجرحى: هل تتقدم ثورة الشريف حسين يا مس بيل؟ رأيت في عينيه حزناً لا يمكن قياس حجمه (...) لم يكن الانتصار سهلًا يا أبي، كانوا يؤمنون بنا ونحن لا نريد أن نخيّب آمالهم في إمبراطوريتنا العتيدة» (ص150). ولإغناء تلك الحقبة بالأدلة والشواهد لم يتوانَ الكاتب عن ذكر تفاصيل كثيرة في حياة «مس بيل» التي لم تعش كثيراً، فلجأ نوري إلى خلق شخصيات ست ليطيل بواسطتهم مراحل حياتها، بحيث كانوا يستقون منها إلهامهم، وهم: يونس (كاتب سيناريو)، نعمان (سينمائي)، هاشم (مشغّل آلة عرض في سينما غرناطة)، فرناندو (المحقق في احتراق مكتبة بغداد)، منصور (حارس المقبرة الإنجليزية)، وأبو سقراط (فيلسوف بغداد). وعلى رغم أنّه لم يبقَ من «مس بيل» إلا لوحة مرمية وتمثالاً في أقبية المتحف الوطني من دون أن ينتبه إليهما أحد، وقبرها وحده ما زال في بغداد بجدرانه الباردة، إلا أنها كانت الحاضر الدائم بجلساتهم في الحانة. ويترك نوري قارئه حائراً في أمره، ماذا يحاول الكاتب أن يثبت من خلال تلك المقارنة؟ فنحن لا شكّ أمام شخصية مفصلية تركت أثرها في حياة العراقيين، كاتبة وضعت ستة عشر كتاباً عن العراق، باحثة شغوفة أغرتها سمرة هذا الشرق وأوحت لها الكثير، مستكشفة حطّت رحالها في بلاد الرافدين، إلا أنها تبقى أحد رموز سلطة المحتلّ التي أحكمت سيطرتها على العراق ودرست مصالح امبراطوريتها وراحت تبحث عنها بين كل ذلك. هل حاول نوري إظهار الوجهين المختلفين للمستعمر؟ أم تراهما فعلاً وجهين لعملة واحدة! في أزقة بغداد وبين ثنايا تاريخها كانت سيدة فارهة الطول، رقيقة القوام تتنقّل بثبات وعزيمة متنشقة رائحة بخور النساء العراقيات المتلحّفات بالسواد اللاتي رحن يطردن الشياطين القادمة مع تلك المرأة الغريبة. هي غيرترود بيل، خاتون بغداد، كما يطيب للعراقيين أن يسمّوها، أحبّت بلاد ما بين النهرين وعلى رغم مهمتها الاستخباراتية والسياسية لمصلحة المملكة البريطانية كانت تمثّل احتلالاً من نوع آخر، في هذه البلاد المشبعة منذ عصور وعصور بعبق العلم والمعرفة، حيث أسست المكتبة الوطنية العراقية، المتحف البريطاني في بغداد وأرست دعائم النظام الملكي في العراق. إنّها «مس بيل» بطلة رواية «خاتون بغداد» (دار كتّاب للنشر والتوزيع) للكاتب العراقي شاكر نوري، والتي تزامن صدورها مع مرور 100 عام على الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917. وال «خاتون» لغوياً تعني باختصار السيدة المعظّمة أو السلطانة (ص348). اعتمد نوري في هذه الرواية على الوثائق من دون أن يحصرها في نطاق العمل الوثائقي الصرف، فطوّع التاريخ لخدمة العمل الروائي ونفخ فيه الحياة من خلال شخصيات روايته التي خلّدت ذكرى الخاتون عبر السينما، المراسلات، المسرح، السيناريو والسرد. «مس بيل»، تلك الشخصية الفذة، بقيت، وعلى امتداد صفحات الرواية، في مواجهة وتحدٍّ مع ذاتها ومع الآخرين، هي التي تطلّعت دوماً إلى أن تكون لها مكانتها الخاصة، فلم تجد ضالتها في حفلات الزواج التي اضطرت، كفتاة برجوازية، على المشاركة بها في ريعان شبابها، بل أرادت أن تسبر أغوار المعرفة ورأت في الرجل الشريك الذي يحاكي عقلها وروحها، فكان حبها ل «هنري كادوغان» الموظّف في القنصلية الإنكليزية في طهران، إذ أثار إعجابها بميوله الشعرية التي كانت توليها هي اهتماماً خاصاً. هذا الحب، لم يحظَ بمباركة أبيها وزوجته التي كانت بمنزلة أمها، وعاكسه القدر أيضاً بحيث قضى «هنري» متجمّداً في بحيرة «لارا» بعد أن زلّت قدمه. وجاءت معرفتها ب «ريتشارد داوني وايلي» المتزوّج، والذي ربطتها صداقة بزوجته، لتكرّس مفهوم الحب المستحيل بينهما، على رغم انصياعها لعواطفها غالباً، نظراً إلى ما يربطهما من تناغم فكري. إلا أنّ موعده مع الموت كان قريباً وكأن قدرها كان أن يأخذ منها الموت حبيبها مرتين. وعلى رغم أن الرواية هي، كما أسلفنا، تاريخية وليست تأريخية إلا أن الكاتب لم يهمل المعطيات التاريخية وراح يطوِّع قالبه الروائي مطعّماً إياه بتفاصيل الحقائق التاريخية على اعتبار أنّه لا يغفل أياً من جوانب الحكاية إلا ويلقي الضوء عليه. فجاءت الأحداث الروائية رهينة التاريخ مع سبر أغوار العمل الدرامي، ما جعل من العمل رواية سردية وعملاً درامياً، لكن هذا لم ينج زمام العقدة أحيانًا من السقوط في مطبّات التاريخ. إذ سلّط الكاتب الضوء على يوميات عمل «مس بيل» وتفاصيلها متوقفاً عند الإعجاب الذي حظيت به من السلطة البريطانية وقتذاك. فكانت مهتمة بالتعرّف إلى كبار الشخصيات الذين عملت معهم لاحقاً، وقابلت في بداياتها اثنين من أفضل من عرف العرب هما «هوغارت» و «لورنس» اللذين جاء لقاؤها بهما على مائدة العشاء أشبه بساحة مباراة في المعلومات عن الفوارق الجوهرية بين مسلمي الهند والبدو العرب في السلوك والعبادة والمعتقدات. وكانت الخاتون بصحبة الجنرال «مود» فاتح بغداد عندما سمِّم له في كأس الشاي بفيروس الكوليرا، فما إن شربه حتى تهاوى بسرعة، حاولت إسعافه لكن من دون جدوى (ص 28). لعلّ هذا خير دليل على شجاعة «مس بيل» التي صمّمت على متابعة طريقها حتى النهاية، رغم أنّها رأت مصير الجنرال «مود» أمام عينيها. شاكر نوري، الذي اعتبر أن «مس بيل»، على رغم الطابع الاستعماري لوجودها في بغداد راحت تسعى جاهدة إلى تكوين مكتبة ومتحف لتنهض بالبلاد فكرياً وثقافياً، جعل قارئه أحياناً أسير إعجابه بهذه الشخصية الفذة إلى درجة أنّه فاضل بين احتلال وآخر (الاحتلال الأميركي للعراق) وكأنه يعيش نوعاً من التصالح مع فكرة الاستعمار بذاتها. وعلى رغم أن مواقف «مس بيل» بالنسبة إلى وعد بلفور واتفاق سايكس بيكو كانت قريبة من مصالح العرب إلا أن ذلك لا يبرر تنزيهها، فهي تمثّل المستعمر ومصالحه في العراق. وفي النهاية لم تكن «مس بيل» سوى تلك المرأة «المتسلطة»، كما كان يحلو للبعض أن يصفها، في مكتب المندوب السامي الإنكليزي على العراق (ص148). وتجدر الإشارة إلى حضور والد «مس بيل» القوي في حياتها، فقد كانت تعلمه بمحتوى رسائلها وتطلّعاتها وما يحصل معها، وهنا لا بدّ لنا من أن نتوقف عند الطابع الإنساني المحض الذي نجح الكاتب في إضفائه على شخصية بطلة روايته حين كشف عن مراسلاتلها مع أبيها وزوجته: «أبي العزيز، ما زالت صورة ذلك الجندي راسخة في ذهني، وقد نهض ليسألني من بين الجرحى: هل تتقدم ثورة الشريف حسين يا مس بيل؟ رأيت في عينيه حزناً لا يمكن قياس حجمه (...) لم يكن الانتصار سهلًا يا أبي، كانوا يؤمنون بنا ونحن لا نريد أن نخيّب آمالهم في إمبراطوريتنا العتيدة» (ص150). ولإغناء تلك الحقبة بالأدلة والشواهد لم يتوانَ الكاتب عن ذكر تفاصيل كثيرة في حياة «مس بيل» التي لم تعش كثيراً، فلجأ نوري إلى خلق شخصيات ست ليطيل بواسطتهم مراحل حياتها، بحيث كانوا يستقون منها إلهامهم، وهم: يونس (كاتب سيناريو)، نعمان (سينمائي)، هاشم (مشغّل آلة عرض في سينما غرناطة)، فرناندو (المحقق في احتراق مكتبة بغداد)، منصور (حارس المقبرة الإنجليزية)، وأبو سقراط (فيلسوف بغداد). وعلى رغم أنّه لم يبقَ من «مس بيل» إلا لوحة مرمية وتمثالاً في أقبية المتحف الوطني من دون أن ينتبه إليهما أحد، وقبرها وحده ما زال في بغداد بجدرانه الباردة، إلا أنها كانت الحاضر الدائم بجلساتهم في الحانة. ويترك نوري قارئه حائراً في أمره، ماذا يحاول الكاتب أن يثبت من خلال تلك المقارنة؟ فنحن لا شكّ أمام شخصية مفصلية تركت أثرها في حياة العراقيين، كاتبة وضعت ستة عشر كتاباً عن العراق، باحثة شغوفة أغرتها سمرة هذا الشرق وأوحت لها الكثير، مستكشفة حطّت رحالها في بلاد الرافدين، إلا أنها تبقى أحد رموز سلطة المحتلّ التي أحكمت سيطرتها على العراق ودرست مصالح امبراطوريتها وراحت تبحث عنها بين كل ذلك. هل حاول نوري إظهار الوجهين المختلفين للمستعمر؟ أم تراهما فعلاً وجهين لعملة واحدة!