قيل إن أغرب نغم يطلقه طائر البجع بعد رحلته القصيرة على الأرض هي أغنيته الأخيرة لحظة توديعه للحياة، وأنشودة الجاهلي الأخيرة، متجسدة في شعر رثاء الذات، التي وقفت معها هذه الدراسة لتكشف عن آفاقها الجمالية والإنسانية والثقافية من خلال استشفاف دلالات الصوت والتراكيب والصورة والبناء داخل بنية قصيدة رثاء الذات، لتنطلق معانيها الكامنة متفجرة بالأسى اللاذع لشموخ منكسر، أو استسلام فاجع لا يغيب عنه معنى الفخر والجلال، أو إحساس لاهف بقيمة ممزوجة بعبثيتها وبطلانها. في بداية دراسة "رثاء الذات في الخطاب الشعري الجاهلي"، التي صدرت في كتاب يشير الباحث محمد رمضان زامل إلى بنية الأوزان قائلا: لا يختار الشاعر البحر الذي تجيء فيه قصيدته، فاختيار الوزن لا يخضع لإرادة الشاعر إنما تمليه عليه التجربة والإحساس، بالإضافة لسليقته الشعرية. ومن إيقاعات البحر، بحر الطويل، بحر الوافر، بحر الكامل، بحر البسيط، الرجز، لم يحظ شعر رثاء الذات إلا بثلاثة أبيات تامة من الرجز وثلاثة من مشطوره. وهو من البحور وحيدة التفعيلة، وتفعيلته الأساسية مستفعلن، وقد سمي الرجز قديما مطية الشعراء ليسره وسهولته وارتباطه بأعمال الحياة اليومية من حداء وسقاء. أما عن مفهوم الصورة الشعرية، فيقول: يتوسع البعض في مفهوم الصورة الشعرية فيجعلها تشمل كل عناصر الإبداع الشعري بدءا من الإيقاع ومرورا بالنحو والبديع إلى معطيات الخيال البيانية، فالصورة الشعرية هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقة اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتراكيب. ويضيف الباحث: وباستقراء شعر رثاء الذات وجد ثمة مشبهات رئيسية شكلت قطب فضاء النصوص التي دارت حولها المشبهات بها وسنتخذها محورا. المشبهات وتشمل: الإنسان وما يتعلق به: “الذات، الأخلاق، المرض، المصائب، الموت، الآخر، الإنسان عموما، المرأة، الرجل”، ثم تأتي الحرب وما يتعلق بها، الحيوان، المكان، وأخيرا الزمان. ويذكر الباحث: تفتقر المرأة في شعر رثاء الذات إلى التفاصيل فليس لها وجه أو ملامح مميزة، فهي أنثى وحسب، وإذا حدد الشاعر سنها في قليل من صوره، فهي عند امرئ القيس في سن الشباب: يرعن إلى صوتي إذا ما سمعته ** كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا وعند لبيب أبكار وعون: في ربرب كنعاج صا ** رة يبتئسن بما لقينا متسليات في مسو ** ح الشعر أبكارا وعونا ويتناول الكتاب ظاهرة الإضمار ودورها في بناء الشعر وخلق فضاء يحيط بالنفس يوسع مساحة المتلقي. وما يتفرع عنها من ظاهرة جلية الخطر هي الالتفات الذي قيل عنه “إنه باب من أبواب فقه الصنعة لا يزال في مهجعه من الشعر صامتا لم ينطقه بعد”. ثم تأتي ظاهرتا الحذف والإطناب وكلاهما مقابل للآخر، أولا: الضمائر ودلالاتها: ضمائر الحضور، ضمائر المفرد، ضمائر الغياب، ضمائر المتكلم، وأخيرا جاءت ضمائر الخطاب. ويتعرض لموضوع الحذف بداية من الحرف ومرورا بجزء الكلمة، فالمبتدأ والخبر والجملة اسمية وفعلية، والمكملات كالمفعول والنعت، وقد تكرر الحذف في شعر رثاء الذات 139 مرة، بنسبة 38.29% من عدد الأبيات البالغ 363 بيتا. في حذف الحروف، ومنها الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي ومنه الترخيم، وقد ورد الترخيم في ثمانية مواضع، وحذف الشاعر مع الترخيم أداة النداء في أربعة مواضع من هذه الثمانية، دلالة على قرب المنادى من الشاعر. ومنه قول بشر بن أبي خازم: فإن أهلك عمير فرب زحف ** يشبه نقعه عدوا ضبابا وقول ساعدة بن جؤبة: جمالك إنما يجديك عيش ** أميم – وقد خلا عمري – قليل ولا نسب سمعت به فلاني ** أخالطه – أميم – ولا خليل وغودر ثاويا وتأوبته ** مدرعة – أميم – لها قليل وسوف تجد فروقا دلالية بين هذا المنادى المصغر في الثلاثة مواضع من قول ساعدة، ففي البيت الثالث يلفت الشاعر نظر صاحبته إلى أن عمره أوشك على الأفول ويأتي نداء أمامة مع حذف أداء النداء والتصغير استعطافا وتحنانا إليها. وفي البيت الخامس يبدو كما لو أن الشاعر يحذر أمامة ويدللها في نفس الوقت كما يداعب الإنسان صغيرا له ويتصل البيت الأخير ببيت حاتم الذي يطلب إلى ماوية أن تندي قبره بالخمر التي كانت عنده معادلة لزمن الصبوة والمتعة والشباب. أمادي إما مت فاسعى بنطفة ** من الخمر ربا فانضجن بها قبري يشار إلى أن كتاب “رثاء الذات في الخطاب الشعري الجاهلي” للكاتب محمد رمضان زامل، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويقع في نحو 452 صفحة من القطع المتوسط. قيل إن أغرب نغم يطلقه طائر البجع بعد رحلته القصيرة على الأرض هي أغنيته الأخيرة لحظة توديعه للحياة، وأنشودة الجاهلي الأخيرة، متجسدة في شعر رثاء الذات، التي وقفت معها هذه الدراسة لتكشف عن آفاقها الجمالية والإنسانية والثقافية من خلال استشفاف دلالات الصوت والتراكيب والصورة والبناء داخل بنية قصيدة رثاء الذات، لتنطلق معانيها الكامنة متفجرة بالأسى اللاذع لشموخ منكسر، أو استسلام فاجع لا يغيب عنه معنى الفخر والجلال، أو إحساس لاهف بقيمة ممزوجة بعبثيتها وبطلانها. في بداية دراسة "رثاء الذات في الخطاب الشعري الجاهلي"، التي صدرت في كتاب يشير الباحث محمد رمضان زامل إلى بنية الأوزان قائلا: لا يختار الشاعر البحر الذي تجيء فيه قصيدته، فاختيار الوزن لا يخضع لإرادة الشاعر إنما تمليه عليه التجربة والإحساس، بالإضافة لسليقته الشعرية. ومن إيقاعات البحر، بحر الطويل، بحر الوافر، بحر الكامل، بحر البسيط، الرجز، لم يحظ شعر رثاء الذات إلا بثلاثة أبيات تامة من الرجز وثلاثة من مشطوره. وهو من البحور وحيدة التفعيلة، وتفعيلته الأساسية مستفعلن، وقد سمي الرجز قديما مطية الشعراء ليسره وسهولته وارتباطه بأعمال الحياة اليومية من حداء وسقاء. أما عن مفهوم الصورة الشعرية، فيقول: يتوسع البعض في مفهوم الصورة الشعرية فيجعلها تشمل كل عناصر الإبداع الشعري بدءا من الإيقاع ومرورا بالنحو والبديع إلى معطيات الخيال البيانية، فالصورة الشعرية هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقة اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتراكيب. ويضيف الباحث: وباستقراء شعر رثاء الذات وجد ثمة مشبهات رئيسية شكلت قطب فضاء النصوص التي دارت حولها المشبهات بها وسنتخذها محورا. المشبهات وتشمل: الإنسان وما يتعلق به: “الذات، الأخلاق، المرض، المصائب، الموت، الآخر، الإنسان عموما، المرأة، الرجل”، ثم تأتي الحرب وما يتعلق بها، الحيوان، المكان، وأخيرا الزمان. ويذكر الباحث: تفتقر المرأة في شعر رثاء الذات إلى التفاصيل فليس لها وجه أو ملامح مميزة، فهي أنثى وحسب، وإذا حدد الشاعر سنها في قليل من صوره، فهي عند امرئ القيس في سن الشباب: يرعن إلى صوتي إذا ما سمعته ** كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا وعند لبيب أبكار وعون: في ربرب كنعاج صا ** رة يبتئسن بما لقينا متسليات في مسو ** ح الشعر أبكارا وعونا ويتناول الكتاب ظاهرة الإضمار ودورها في بناء الشعر وخلق فضاء يحيط بالنفس يوسع مساحة المتلقي. وما يتفرع عنها من ظاهرة جلية الخطر هي الالتفات الذي قيل عنه “إنه باب من أبواب فقه الصنعة لا يزال في مهجعه من الشعر صامتا لم ينطقه بعد”. ثم تأتي ظاهرتا الحذف والإطناب وكلاهما مقابل للآخر، أولا: الضمائر ودلالاتها: ضمائر الحضور، ضمائر المفرد، ضمائر الغياب، ضمائر المتكلم، وأخيرا جاءت ضمائر الخطاب. ويتعرض لموضوع الحذف بداية من الحرف ومرورا بجزء الكلمة، فالمبتدأ والخبر والجملة اسمية وفعلية، والمكملات كالمفعول والنعت، وقد تكرر الحذف في شعر رثاء الذات 139 مرة، بنسبة 38.29% من عدد الأبيات البالغ 363 بيتا. في حذف الحروف، ومنها الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي ومنه الترخيم، وقد ورد الترخيم في ثمانية مواضع، وحذف الشاعر مع الترخيم أداة النداء في أربعة مواضع من هذه الثمانية، دلالة على قرب المنادى من الشاعر. ومنه قول بشر بن أبي خازم: فإن أهلك عمير فرب زحف ** يشبه نقعه عدوا ضبابا وقول ساعدة بن جؤبة: جمالك إنما يجديك عيش ** أميم – وقد خلا عمري – قليل ولا نسب سمعت به فلاني ** أخالطه – أميم – ولا خليل وغودر ثاويا وتأوبته ** مدرعة – أميم – لها قليل وسوف تجد فروقا دلالية بين هذا المنادى المصغر في الثلاثة مواضع من قول ساعدة، ففي البيت الثالث يلفت الشاعر نظر صاحبته إلى أن عمره أوشك على الأفول ويأتي نداء أمامة مع حذف أداء النداء والتصغير استعطافا وتحنانا إليها. وفي البيت الخامس يبدو كما لو أن الشاعر يحذر أمامة ويدللها في نفس الوقت كما يداعب الإنسان صغيرا له ويتصل البيت الأخير ببيت حاتم الذي يطلب إلى ماوية أن تندي قبره بالخمر التي كانت عنده معادلة لزمن الصبوة والمتعة والشباب. أمادي إما مت فاسعى بنطفة ** من الخمر ربا فانضجن بها قبري يشار إلى أن كتاب “رثاء الذات في الخطاب الشعري الجاهلي” للكاتب محمد رمضان زامل، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويقع في نحو 452 صفحة من القطع المتوسط.