محافظ سوهاج يتابع انطلاق البرنامج التدريبي "المرأة تقود"    قرار جمهوري بترقية عدد من مستشاري هيئة قضايا الدولة    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    مصر تبحث مع «تويوتا» مستجدات تطوير محطة الرورو بميناء غرب بورسعيد    نزع ملكية أراضي وعقارات لإنشاء محور دار السلام على النيل    إحالة المخالفين للتحقيق..محافظ سوهاج يوجه بسرعة صرف الأسمدة ببرديس    السيسي يؤكد حرص مصر على مواصلة التنسيق والتعاون المشترك مع البحرين    نسف للمنازل وقصف إسرائيلي لا يتوقف لليوم الثامن على حي الزيتون    إسرائيل تقرر سحب تأشيرات الإقامة لممثلي أستراليا لدى السلطة الفلسطينية    إندبندنت: احتجاجات تل أبيب الأكبر والأعنف للمطالبة بوقف الحرب على غزة.. صور    تفاصيل ختام دورة تطوير مدربات ناشئات كرة القدم بالتعاون بين الاتحادين المصري والنرويجي    ضبط 7 أطنان دواجن ولحوم مجهولة المصدر بالشرقية    حبس تشكيل عصابي تقوده ربة منزل بتهمة سرقة الدراجات النارية في النزهة    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    أحمد الفيشاوي يبدأ تصوير سفاح التجمع    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    تعرف على إيرادات فيلم "أحمد وأحمد"    الصحة: إصدار 907 موافقات لعمليات زراعة أعضاء في 2025    طريقة عمل الكريب، أكلة سريعة ومناسبة لأجواء الصيف    رئيس "الجبهة الوطنية": الفرص متساوية في الترشح لانتخابات "النواب".. والشفافية تحكم الاختيار    "ما السبب؟".. رد حاسم من لجنة الحكام على طلب الأهلي بإيقاف معروف    "كان بيطفي النار".. إصابة شاب في حريق شقة سكنية بسوهاج (صور)    القومي للاتصالات يفتح باب التقديم في برنامج "سفراء الذكاء الاصطناعي"    بعثة يد الزمالك تطير إلى رومانيا لخوض معسكر الإعداد للموسم الجديد    أرباح "أموك" للزيوت المعدنية ترتفع طفيفا إلى 1.55 مليار جنيه في 6 أشهر    الفنانة مي عز الدين تخطف الأنظار فى أحدث ظهور من إجازتها الصيفية    المفتي يوضح حكم صلاة الجنازة على الغريق المفقود    ماذا نعرف عن طارق فايد رئيس المصرف المتحد الجديد؟    "عين شمس" ضمن أفضل 700 جامعة عالميا وفق تصنيف شنغهاي 2025    مقترح برلماني لتعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا    بالفيديو.. الغرف التجارية: متابعة دائمة من الأجهزة الرقابية لتطبيق التخفيضات خلال الأوكازيون    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: دخول 266 شاحنة مساعدات منذ الجمعة والاحتلال سهل سرقة معظمها    الجمعة.. ويجز يحيي حفلًا بمهرجان العلمين    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم الاثنين    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    نشأت الديهي يكشف مخططات «إخوان الخارج» لاستهداف مصر    وزيرة التضامن الاجتماعي: دعم مصر لقطاع غزة لم يكن وليد أحداث السابع من أكتوبر    أسعار اللحوم اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025 في أسواق الأقصر    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    "الأغذية العالمى": نصف مليون فلسطينى فى غزة على شفا المجاعة    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    «الصحة» تكشف عن 10 نصائح ذهبية للوقاية من الإجهاد الحراري    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    قوة إسرائيلية تفجر منزلا فى ميس الجبل جنوب لبنان    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    ماكرون: لا أستبعد أن تعترف أوكرانيا بفقدان أراضيها ضمن معاهدة سلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عدنان محسن في شعريَّة الفكرة الموجزة
نشر في صوت البلد يوم 19 - 04 - 2017

في مختاراته الشعرية «أكثر من صوت لحنجرة واحدة - دار الجمل» يأنس عدنان محسن الشاعر العراقي المقيم في باريس إلى قصيدة الفكرة الواحدة، التي تكتفي باللقطة من المشهد كله، والفوتوغراف تعويضاً عن الشريط. فقصيدته قصيدة الوحدة التامة، الموغلة في إيجازها، بعيداً من الفهم العربي السيئ الشائع عن خصائص فنّ الهايكو الذي جرى فهمه عربياً فهماً مبتسراً وقاصراً من خلال شكله الخارجي وحجمه وعدد سطوره، لا من خلال شروطه الفنية والمضمونية الداخلية وارتباطه بثقافة وتقليد خاصين، لكن قصيدة عدنان محسن أقرب إلى أشكال فنية أخرى للقصيدة بينها الأبيغراما الرومانسية بتوصيف كولريدج حيث «اكتمالها في إيجازها، والمعمار الفني للقصيدة وجيز في بنائه، وفي الوقت نفسه ساخرٌ في روحه» وتأخذ الأبيغراما في شعر عدنان محسن أحياناَ شكل البوستر، وتستعير دور اليافطة الشعارية المرفوعة في تظاهرات احتجاجية على قسوة العالم من حوله، بينما تتحول في أحيان أخرى إلى مرثية وشاهدة على قبر الماضي، فهي بقدر ما ترثي ذلك الماضي فإنها تخلِّدهُ في هذا الإيجاز المؤثر، كما في قصيدة «عودة افتراضية»: بالقربِ من نهرٍ وِلدتُ/ وبالقربِ من نهرٍ أموتُ/ فارموا رفاتي في أيِّ نهرٍ/ أعرفُ أنَّ النهرَ لا يُخطئُ دربَ المياه/ فلعلَّه يقودُني يوماً/ حيث تركتُ مياهي» وهكذا يتحوَّل الوطن من المعنى السياسي وحتى الجغرافي، إلى المعنى الكوني. بل إننا لا يمكننا في هذا التوصيف لتقنياته الشعرية إغفال استفادته أحياناً من تراث الشعر العربي في حقبة ما سمي اعتباطاً «الفترة المظلمة» حيث تقنيات التلغيز والموضوعات القريبة والصغيرة التي نقلت القصيدة من وصف الموضوعات الكبرى في الشعر العربي كالطبيعة والجيوش والحرب والحب إلى وصف الأشياء اليومية الداخلة في صميم الحياة اليومية: الشمعة أو المخدة أو الملعقة أو المهفَّة.... الخ، وبهذا المعنى فهي لا تعبر عن حياة ملحمية، وفضاءات بعيدة، وإنما عن عالم قريب، بل عن عالم موغل في عاديته حدَّ القاع، لكنه حميم وشخصي إلى أقصى حد.
وبهذا المعنى يعمد صاحب «إلى آخره» إلى الاستفادة من المرجعيات الفنيَّة المتأخِّرة نسبياً في تجارب الشعر الإنساني والعربي والمحلي القريبة منه، ليس في تشكلها الإيقاعي العروضي بالتأكيد، وإنما في ظرافة روحها التي تتخلى عن الجزالة لمصلحة «الهلهلة» بمعنى إنها تميل إلى البساطة والرقة، فإلى جانب الأبيغراما نتذكر ونحن نقرأ قصائده منطق السونيتات في الصنعة، وكثافة الرباعيات ومفارقتها، وظرافة روح شعر «البَنْد» العراقي. وإذا كان «البَنْد» وسيطاً بين شعر الجزالة المعهود في التراث العربي، وبين تلقائية النثر، فإن عموم شعر عدنان محسن يبدو بهذا المعنى أقرب في التوصيف إلى هذا النوع المحلي المغمور، الذي يقترب من النثر، بل يكاد يلغي المسافة بينه وبين الشعر، عبر استثمار «الشعبي والمأثور» والسهل الممتنع، وترجيح الانسياب والانسجام وسهولة التخلص من الحشو وتوظيفه للوصول إلى المفارقة، إضافة إلى الاستعانة بالحيلة الذهنية والظرافة والألاعيب البسيطة في الخيال والمعنى لخلق قصيدة موجزة.
وعلى رغم العقود التي قضاها داخل الثقافة الفرنسية وترجمته أشعاراً منها، نرى الشاعر يعبر عن صلته الأقوى بالشعر العربي، ساعةَ الحقيقة وحينَ الاعتراف، عبر هذا التصويت للاوعي: «أحببتُ لوتريامون وأناشيدَه/ بودلير لأيِّ سببٍ كان/ رامبو لأسبابٍ شتَّى/ لم أفهمْ مالارميه كما كان عليَّ أنْ أفعل/ وكدتُ أحبُّ كلوديل/ بروتون كان من الممكن أنْ يكونَ صديقي/ وأراغون أبي/ ولكنَّني عندما أدخلُ في غيبوبتي/ أردِّد بصوتٍ واهنٍ: ذَهبَ الذينَ أحبُّهمْ وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردَا»
وإذ يندر أن نقرأ قصيدة أتمت صفحة او تجاوزتها بقليل، يعلن عدنان بوضوح إنه شاعر قصيدة قصيرة، ويصبح الشكل المختزل للقصيدة نفسها موضوعاً شعرياً لديه: «كلَّ ما سعيتُ لهُ في حياتي/ هو أنْ اختزلَ أوجاعاً كثيرةً ببضعةِ أسطر» ومع هذا فسرعان ما يضيق حتى بتلك المساحة الوجيزة، ويعتريه الملل من تلك اللعبة التي تستغرق زمناً أطول! فيكتب قسماً تحت عنوان «ومضات» ثم يضيق أكثر فيكتب قسماً آخر أكثر اختزلاً بعنوان «شذرات» محاولاً أن يخلق بينها فارقاً فنياً مفترضاً ليس بالاختلاف الشكلي في طول القصيدة أو قصرها وإنما في الأداء النفسي والفني الذي تؤديه الجملة الواحدة بين «الومضات» و«الشذرات»
يعي صاحب «نصوص عن الغير» الخصائص النقدية للقصيدة القصيرة ومراجعها التي تدخل في تكوينها لذلك فهو يعيد صياغة الأقوال المأثورة، والأمثال، والتعريفات، ويلتقط الشفاهي من اليومي ويزجها في الشعري، والمفارقة التهكمية التي يخلقها مع السائد: «في لسانِ العرب أكثر من 100000 كلمة/ وحده لسانُ العرب أطولُ من لساني!» أو بتحويل التناص مع عبارة سعدي الشهيرة: «أسير مع الجميع وخطوتي وحدي» فيكتب: «أتوسَّدُ الجميعَ/ وأنا معي» بيد أن هذا التناص لا يخص سعدي وحده، إذ يذكّر كذلك بأحمد الصافي النجفي الذي يعبر عن نفوره وأنه «وحده مع الجميع»: يُبعِّدُني طبعٌ عنِ الناسِ نافرٌ/فأحسبُني بينَ الورى جالِساً وحدي".
وفي هذا السياق لا تنجو جملته الشعرية أحياناً من الكليشيهات الجاهزة للمصادر المستقاة منها: «صمتي من فضَّةٍ وضجيجي مِنْ ذَهَب».
في شعر عدنان محسن «سذاجة» موصوفة ومستحبة بمعنى إنها معادل للفطرة والتلقائية بدل الحكمة: «أنا مَنْ تنبتُ الزهورُ في بيتِهِ مِنْ تلقاءِ نفسِها»: والواقع إنه يُظهر نفسه في كثير من القصائد، مرتبكاً في تدبير أموره وتصريف شؤونه، ولا يحسنُ إلا أشياء قليلة في عالم يحتاج إلى كثير من الحيل والمراوغة، لهذا تأتي قصائد بالقليل من الاستعارات البلاغية والتزويقات اللفظية والتراكيب الوحشية، حتى موضوعاته غاية في البساطة فكل ما جرى في حياته يمكن اختزاله بومضة من سطر واحد: «لو أكتبُ سيرتي لكتبتُ سطراً واحداً/ هذا طفلٌ كَبرَ سهواً» ومع هذا الابتعاد الجلي عن شعر الألاعيب الشكلية والاستغناء عن الاستغراق في غرابة الصور ووحشي الكلام، فإن كل قصيدة لدى عدنان محسن هي في الواقع لعب من نوع آخر، لعب طفل يحاول بعبث منظم الجمع بين أكثر الأشياء ألفةً من حوله، وبهذا المعنى فإن شعره ينحو إلى التآلف بين الأشياء والأفكار الطفولية، وليس إلى التأليف البياني والصوري لعوالم أخرى.
قصيدة عدنان محسن ليست راجزة، لكنها مبتسمة ابتسامة صعبة في كثير من الأحيان حتى وهي تقارب موضوعات مأساوية: «مقبرة مقاعدُها شاغرةٌ للجميعِ/ تلكَ بلادي» لذا فهو ينحاز للحياة بديلاً عن المخيلة والمعنى بديلاً عن البلاغة كما يقول الشاعر عبد الكريم كاصد في تقديمه للمختارات. وما العنوان «أكثر من صوت لحنجرة واحدة» سوى دريئة أراد من خلالها الإشارة إلى كتبه الشعرية التي اختار منها هذه المنتخبات، فتعدد الأصوات لا يبدو واضحاً، ذلك أن الصوت واحد ومنسجم هو صوت الشاعر نفسه، وحتى تنوع مستوى النبرة في كل قصائد المنتخبات يبدو منحسراً حدَّ السكون «فالصمت أطول قصيدة كتبتُها لحد الآن» وشكله الشعري يكاد يتماثل في انحيازه الحاسم للقصيدة القصيرة، وإن تباينت التقنيات الأدائية، نسبياً، داخل الشكل الواحد.
في مختاراته الشعرية «أكثر من صوت لحنجرة واحدة - دار الجمل» يأنس عدنان محسن الشاعر العراقي المقيم في باريس إلى قصيدة الفكرة الواحدة، التي تكتفي باللقطة من المشهد كله، والفوتوغراف تعويضاً عن الشريط. فقصيدته قصيدة الوحدة التامة، الموغلة في إيجازها، بعيداً من الفهم العربي السيئ الشائع عن خصائص فنّ الهايكو الذي جرى فهمه عربياً فهماً مبتسراً وقاصراً من خلال شكله الخارجي وحجمه وعدد سطوره، لا من خلال شروطه الفنية والمضمونية الداخلية وارتباطه بثقافة وتقليد خاصين، لكن قصيدة عدنان محسن أقرب إلى أشكال فنية أخرى للقصيدة بينها الأبيغراما الرومانسية بتوصيف كولريدج حيث «اكتمالها في إيجازها، والمعمار الفني للقصيدة وجيز في بنائه، وفي الوقت نفسه ساخرٌ في روحه» وتأخذ الأبيغراما في شعر عدنان محسن أحياناَ شكل البوستر، وتستعير دور اليافطة الشعارية المرفوعة في تظاهرات احتجاجية على قسوة العالم من حوله، بينما تتحول في أحيان أخرى إلى مرثية وشاهدة على قبر الماضي، فهي بقدر ما ترثي ذلك الماضي فإنها تخلِّدهُ في هذا الإيجاز المؤثر، كما في قصيدة «عودة افتراضية»: بالقربِ من نهرٍ وِلدتُ/ وبالقربِ من نهرٍ أموتُ/ فارموا رفاتي في أيِّ نهرٍ/ أعرفُ أنَّ النهرَ لا يُخطئُ دربَ المياه/ فلعلَّه يقودُني يوماً/ حيث تركتُ مياهي» وهكذا يتحوَّل الوطن من المعنى السياسي وحتى الجغرافي، إلى المعنى الكوني. بل إننا لا يمكننا في هذا التوصيف لتقنياته الشعرية إغفال استفادته أحياناً من تراث الشعر العربي في حقبة ما سمي اعتباطاً «الفترة المظلمة» حيث تقنيات التلغيز والموضوعات القريبة والصغيرة التي نقلت القصيدة من وصف الموضوعات الكبرى في الشعر العربي كالطبيعة والجيوش والحرب والحب إلى وصف الأشياء اليومية الداخلة في صميم الحياة اليومية: الشمعة أو المخدة أو الملعقة أو المهفَّة.... الخ، وبهذا المعنى فهي لا تعبر عن حياة ملحمية، وفضاءات بعيدة، وإنما عن عالم قريب، بل عن عالم موغل في عاديته حدَّ القاع، لكنه حميم وشخصي إلى أقصى حد.
وبهذا المعنى يعمد صاحب «إلى آخره» إلى الاستفادة من المرجعيات الفنيَّة المتأخِّرة نسبياً في تجارب الشعر الإنساني والعربي والمحلي القريبة منه، ليس في تشكلها الإيقاعي العروضي بالتأكيد، وإنما في ظرافة روحها التي تتخلى عن الجزالة لمصلحة «الهلهلة» بمعنى إنها تميل إلى البساطة والرقة، فإلى جانب الأبيغراما نتذكر ونحن نقرأ قصائده منطق السونيتات في الصنعة، وكثافة الرباعيات ومفارقتها، وظرافة روح شعر «البَنْد» العراقي. وإذا كان «البَنْد» وسيطاً بين شعر الجزالة المعهود في التراث العربي، وبين تلقائية النثر، فإن عموم شعر عدنان محسن يبدو بهذا المعنى أقرب في التوصيف إلى هذا النوع المحلي المغمور، الذي يقترب من النثر، بل يكاد يلغي المسافة بينه وبين الشعر، عبر استثمار «الشعبي والمأثور» والسهل الممتنع، وترجيح الانسياب والانسجام وسهولة التخلص من الحشو وتوظيفه للوصول إلى المفارقة، إضافة إلى الاستعانة بالحيلة الذهنية والظرافة والألاعيب البسيطة في الخيال والمعنى لخلق قصيدة موجزة.
وعلى رغم العقود التي قضاها داخل الثقافة الفرنسية وترجمته أشعاراً منها، نرى الشاعر يعبر عن صلته الأقوى بالشعر العربي، ساعةَ الحقيقة وحينَ الاعتراف، عبر هذا التصويت للاوعي: «أحببتُ لوتريامون وأناشيدَه/ بودلير لأيِّ سببٍ كان/ رامبو لأسبابٍ شتَّى/ لم أفهمْ مالارميه كما كان عليَّ أنْ أفعل/ وكدتُ أحبُّ كلوديل/ بروتون كان من الممكن أنْ يكونَ صديقي/ وأراغون أبي/ ولكنَّني عندما أدخلُ في غيبوبتي/ أردِّد بصوتٍ واهنٍ: ذَهبَ الذينَ أحبُّهمْ وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردَا»
وإذ يندر أن نقرأ قصيدة أتمت صفحة او تجاوزتها بقليل، يعلن عدنان بوضوح إنه شاعر قصيدة قصيرة، ويصبح الشكل المختزل للقصيدة نفسها موضوعاً شعرياً لديه: «كلَّ ما سعيتُ لهُ في حياتي/ هو أنْ اختزلَ أوجاعاً كثيرةً ببضعةِ أسطر» ومع هذا فسرعان ما يضيق حتى بتلك المساحة الوجيزة، ويعتريه الملل من تلك اللعبة التي تستغرق زمناً أطول! فيكتب قسماً تحت عنوان «ومضات» ثم يضيق أكثر فيكتب قسماً آخر أكثر اختزلاً بعنوان «شذرات» محاولاً أن يخلق بينها فارقاً فنياً مفترضاً ليس بالاختلاف الشكلي في طول القصيدة أو قصرها وإنما في الأداء النفسي والفني الذي تؤديه الجملة الواحدة بين «الومضات» و«الشذرات»
يعي صاحب «نصوص عن الغير» الخصائص النقدية للقصيدة القصيرة ومراجعها التي تدخل في تكوينها لذلك فهو يعيد صياغة الأقوال المأثورة، والأمثال، والتعريفات، ويلتقط الشفاهي من اليومي ويزجها في الشعري، والمفارقة التهكمية التي يخلقها مع السائد: «في لسانِ العرب أكثر من 100000 كلمة/ وحده لسانُ العرب أطولُ من لساني!» أو بتحويل التناص مع عبارة سعدي الشهيرة: «أسير مع الجميع وخطوتي وحدي» فيكتب: «أتوسَّدُ الجميعَ/ وأنا معي» بيد أن هذا التناص لا يخص سعدي وحده، إذ يذكّر كذلك بأحمد الصافي النجفي الذي يعبر عن نفوره وأنه «وحده مع الجميع»: يُبعِّدُني طبعٌ عنِ الناسِ نافرٌ/فأحسبُني بينَ الورى جالِساً وحدي".
وفي هذا السياق لا تنجو جملته الشعرية أحياناً من الكليشيهات الجاهزة للمصادر المستقاة منها: «صمتي من فضَّةٍ وضجيجي مِنْ ذَهَب».
في شعر عدنان محسن «سذاجة» موصوفة ومستحبة بمعنى إنها معادل للفطرة والتلقائية بدل الحكمة: «أنا مَنْ تنبتُ الزهورُ في بيتِهِ مِنْ تلقاءِ نفسِها»: والواقع إنه يُظهر نفسه في كثير من القصائد، مرتبكاً في تدبير أموره وتصريف شؤونه، ولا يحسنُ إلا أشياء قليلة في عالم يحتاج إلى كثير من الحيل والمراوغة، لهذا تأتي قصائد بالقليل من الاستعارات البلاغية والتزويقات اللفظية والتراكيب الوحشية، حتى موضوعاته غاية في البساطة فكل ما جرى في حياته يمكن اختزاله بومضة من سطر واحد: «لو أكتبُ سيرتي لكتبتُ سطراً واحداً/ هذا طفلٌ كَبرَ سهواً» ومع هذا الابتعاد الجلي عن شعر الألاعيب الشكلية والاستغناء عن الاستغراق في غرابة الصور ووحشي الكلام، فإن كل قصيدة لدى عدنان محسن هي في الواقع لعب من نوع آخر، لعب طفل يحاول بعبث منظم الجمع بين أكثر الأشياء ألفةً من حوله، وبهذا المعنى فإن شعره ينحو إلى التآلف بين الأشياء والأفكار الطفولية، وليس إلى التأليف البياني والصوري لعوالم أخرى.
قصيدة عدنان محسن ليست راجزة، لكنها مبتسمة ابتسامة صعبة في كثير من الأحيان حتى وهي تقارب موضوعات مأساوية: «مقبرة مقاعدُها شاغرةٌ للجميعِ/ تلكَ بلادي» لذا فهو ينحاز للحياة بديلاً عن المخيلة والمعنى بديلاً عن البلاغة كما يقول الشاعر عبد الكريم كاصد في تقديمه للمختارات. وما العنوان «أكثر من صوت لحنجرة واحدة» سوى دريئة أراد من خلالها الإشارة إلى كتبه الشعرية التي اختار منها هذه المنتخبات، فتعدد الأصوات لا يبدو واضحاً، ذلك أن الصوت واحد ومنسجم هو صوت الشاعر نفسه، وحتى تنوع مستوى النبرة في كل قصائد المنتخبات يبدو منحسراً حدَّ السكون «فالصمت أطول قصيدة كتبتُها لحد الآن» وشكله الشعري يكاد يتماثل في انحيازه الحاسم للقصيدة القصيرة، وإن تباينت التقنيات الأدائية، نسبياً، داخل الشكل الواحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.