منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" ضوء القمر" يجمع بين جمال الصورة وبراعة الأداء
نشر في صوت البلد يوم 27 - 03 - 2017

يهزم فيلم “ضوء القمر” (Moonlight) بالتأكيد تصنيفه داخل إطار أفلام المثليين أو أفلام الأقليات الملوّنة، منذ اللحظة الأولى، إنه عمل يتميّز بالحساسية الخاصة والرقة في التعامل مع موضوعه والسلاسة في السرد وجمال الصورة وبراعة الأداء.
ومن خلال المونتاج المحكم، يكشف الفيلم تدريجيا، عمّا يكمُن تحت جلد شخصيته الرئيسية، من مشاعر مضطربة ومتناقضة، فبطل الفيلم الصبي “شيرون” الذي نتابعه إلى أن يكبر، خلال نحو ستة عشر عاما أو أكثر، شخصية تحت التكوين، فهو باحث عن حقيقة نفسه، يريد أن يُحدّد موقفه من العالم ومن الأسرة والمجتمع والدنيا، والجنس أيضا، لكنه يبدو كما لو كان في حاجة إلى من يرشده إلى الطريق.
ومخرج الفيلم باري جنكنز، وهذا فيلمه الروائي الطويل الثاني، يعرف جيدا تضاريس وأبعاد موضوعه، وطبيعة المكان الذي تدور فيه أحداثه، وقد درس مع مصوّره نغماته اللونية، ونجح في نقل حرارته وقيظه وظلاله وعتمة لياليه للمشاهدين.
بطل الفيلم الصبي يبدو وكأنه يتجه من البداية نحو وجهة معاكسة للصورة الشائعة عن أبناء الأسر الفقيرة من السود الأميركيين الذين يعيشون على هامش المجتمع، فهو يختلف عن أقرانه من تلاميذ المدرسة، بميله للصمت، وللعزلة وللانكفاء على الذات، لتجنّب المشاجرات والعنف، مما يعرّضه لسخرية الكثيرين من زملائه الذين يعتبرونه “مخنثا”، بل وتتهكم أمه أيضا على طريقة مشيته.
بطلنا شيرون لا يزال في التاسعة أو العاشرة، يقيم مع أمه دون الأب الغائب الذي لا وجود له، داخل مجتمع يبدو مغلقا تماما على قاطنيه من “السود”، كما لو كان في إحدى المدن الأفريقية، فلا توجد ضمن شخصيات الفيلم شخصية من البيض الأميركيين، وعندما يظهر هؤلاء فيما بعد، فإنهم يتجسّدون في رجال الشرطة الذين يهرعون في نهاية القسم الثاني من الفيلم للقبض على شيرون، وهو اختيار مقصود تماما، بغية الابتعاد عن نمطية الصراع التقليدي في مثل هذا النوع من الأفلام. والمكان في الواقع، هو إحدى ضواحي ميامي في جنوب فلوريدا، حيث ترتفع نسبة المهاجرين وأبناء المهاجرين من الأصول الكوبية.
في ضوء القمر
الفيلم المستقل، الذي لم تتجاوز ميزانيته مليون ونصف مليون دولار، مقتبس ببراعة من المسرحية القصيرة “في ضوء القمر يكتسب الأولاد السود زرقة” للكاتب تاريل ألفين مكارني (36 سنة)، كتب له السيناريو مخرجه باري جنكنز، وحصل الفيلم عن جدارة على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو معد ّعن أصل أدبي، فهو من حيث طريقة السرد وتضمّنه الكثير من التفاصيل الموحية، يجعل الشخصية الرئيسية في الفيلم، أي شيرون محور أحداثه، لكنه يبدأ من خلال شخصية أخرى هي شخصية “خوان”، ثم ينتقل لإظهار غيرها من الشخصيات في توازن دقيق مبتعدا تماما عن “العادي والمتوقع” في فيلم يدور في مجتمع السود الأميركيين.
ورغم أن الفيلم يتعامل، ولو على نحو خافت، مع موضوع تهميش السود وحياة الفقر والفاقة والحرمان التي يعيشون فيها، مصوّرا انعكاس هذا النمط القاسي على الشخصيات، من ناحية إدمان تعاطي المخدرات كما تفعل والدة شيرون، والتي تصل في قسوتها عندما تستبد بها “الحاجة” إلى المخدّر للتشاجر مع ابنها وانتزاع ما معه من قروش قليلة ربما حصل عليها بدافع التعاطف والشفقة من “الأب البديل” الذي عثر عليه في شخص خوان، وهو مدخلنا إلى الفيلم وإلى الدراما.
وخوان شاب أسود فارع وقوي، يدير حلقة صغيرة من موزعي المخدرات، إلا أنه في المقابل يخالف الصورة النمطية لهذا النوع من الشخصيات السائدة في الأفلام الأميركية، فهو يتمتع بنظرة إنسانية وأفق منفتح، ويبدو منقسما من داخله، بين طفولته التعيسة التي يتطرق إليها في حديثه مع شيرون، وبين واقعه الحالي الذي يبدو كما لو كان قدره، وما انتشاله للصبي ومحاولة تعليمه أشياء جديدة في الحياة سوى تعبير عن ما فشل في تعلمه في طفولته. إنه يلتقيه بالحماية عندما يهرب شيرون لكي لا يفتك به الأولاد في المدرسة، ليضعه خوان تحت حمايته، وفي ظل رعاية صديقته الجميلة تيريزا التي يشاركها السكن.
بين الفصول الثلاثة
ينقسم الفيلم إلى ثلاثة فصول، يصوّر كل منها فصلا من فصول حياة بطلنا الصغير الذي ينتقل من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب، ويحمل كل فصل اسما من الأسماء المختلفة التي تطلق على البطل الصغير، وهي “ليتل” (أي الصغير)، وشيرون (وهو اسمه الحقيقي)، و”بلاك” (أسود) وهو الاسم الذي يطلقه عليه صديقه الحميم “كيفن” الذي يعتبر الأقرب إليه، والذي سيلعب ربما من حيث لا يدري، دورا كبيرا في إطلاع الفتى على حقيقة نفسه.
سيظل شيرون في البداية يجد المأوى والأمان والطعام الجيّد، في منزل الأم البديلة تيريزا التي تعتني به وتعلمه كيف يعتني بنفسه، بينما تهمله أمه الحقيقية بولا التي تغرق تدريجيا في مستنقع المخدرات إلى أن تصل لمرحلة الدمار الكامل في النهاية. وفي مشهد صادم، يقوم خوان بتوصليه إليها محاولا لفت نظرها إلى ضرورة أن توليه عناية أكبر، فتسخر مما تعتبره “وصاية” مزعومة، وتتساءل في تهكم “وهل ستتولى أنت تربيته الآن؟ أنت الذي تبيعني المخدرات؟”
وفي أحد المشاهد البديعة يصطحب خوان الصبي إلى شاطئ البحر، ثم يسبح معه ليعلمه السباحة، كيف يتحكم في حركة جسده وفي التعامل مع الأمواج. وتطغي زرقة البحر على الصورة، في ترجمة شعرية للعنوان الأصلي.
واللون الأزرق عموما هو أحد الألوان الأساسية في الفيلم، مع البرتقالي والأسود والأبيض، فالمصوّر جيمس لاكستون، يستخدم الألوان الصريحة الحارة، كما حركة الكاميرا المحمولة والمتحركة، بحيث يجعل الشخصية طول الوقت في علاقة مع المكان، إن الكاميرا المهتزّة المتأرجحة خاصة في الجزء الأول من الفيلم، تمنح الشعور بالاضطراب وبارتباك البطل الصغيروبحيرته وبرغبته في الفرار من واقعه.
وفي الفصل الثاني يمر بطلنا “ليتل” للمرة الأولى، بتجربة التلامس الجسدي مع صديقه كيفن، وهو ليس مثليا، بل إنه يطارد الفتيات، وعندما يذهب صاحبنا لقضاء الليلة وحده في منزل تيريزا الجميلة المغرية تتطلع إليه بعد أن أصبح فتى ممشوق القوام، ويتطلع هو إليها خفية وتأمل قوامها المغري وهي تعلمه كيف يقوم بإعداد الفراش، يلمح نهديها من تحت قميصها المكشوف، لكنه لا يقترب منها، بل يذهب مباشرة للنوم.
تتحرك الكاميرا في فراغ الغرفة، تقترب تدريجيا من الضوء في الخارج عبر شرفة مع صبغة برتقالية، لنرى شيرون يسير بظهره لنا، نحو الحديقة ليرى صديقه كيفن وهو يضاجع صديقته ثم يلتفت إليه متسائلا “هل يعجبك ما تراه؟”، وتتبدى على وجه بطلنا مشاعر متضاربة غير محددة ثم يستيقظ من نومه.
سيتعرض شيرون للاعتداء البدني العنيف من جانب صديقه كيفن، الذي يضطر لضربه تحت تهديد من زعيم عصابة الفتية الأشقياء في المدرسة الذين ينتهزون كل فرصة للتنكيل بشيرون وإهانته بسبب اختلاف شخصيته عنهم، هذا الاعتداء المُهين أمام الجميع، سيولّد طاقة العنف المكبوت لدى شيرون، فلا يصبح أمامه سوى أن يردّ الصاع صاعين، لكنه سيرتكب هنا جريمته الأولى، وليولد بفعل هذه “الخطيئة” ويخرج إلى الحياة الحقيقية. إلى السجن!
لا نعرف كم من الوقت يغيب شيرون وراء القضبان، كما لا نعرف سبب اختفاء خوان من الفيلم تماما منذ الفصل الثاني، وربما يكون السبب أن المخرج أراد أن يترك شيرون وقد أصبح بلا أب، يتعين عليه أن يواجه العالم بمفرده، متسلحا بما علمه إياه خوان وبما يمكن أن يتعلمه في السجن.
في الفصل الثالث يكون شيرون قد غادر السجن ومرت سنوات أصبح خلالها رجلا يمتلك إرادته وقراره بنفسه، بل وأصبح متماثلا مع صورة معلمه الأول وراعيه خوان سواء من حيث شكله الخارجي، أو بعد أن أصبح مثله منغمسا في تجارة المخدرات، التي تعتبر الوسيلة الوحيدة لدى أبناء تلك الشريحة المهمشة اجتماعيا، لإثبات الوجود وتحقيق نوع من العيش خارج مستنقع الحرمان.
يلتقي شيرون مجددا بصديقه القديم كيفن الذي تزوج وأصبح طاهيا في مطعم، لكنه لا يزال يحن إلى صديقه، هل يمكن أن يستأنف الاثنان علاقتهما القديمة على مستوى الحب أو الرفقة الإنسانية؟ لا نعرف، فنهاية الفيلم شاء لها المخرج أن تبقى مفتوحة.
...
ناقد سينمائي من مصر
يهزم فيلم “ضوء القمر” (Moonlight) بالتأكيد تصنيفه داخل إطار أفلام المثليين أو أفلام الأقليات الملوّنة، منذ اللحظة الأولى، إنه عمل يتميّز بالحساسية الخاصة والرقة في التعامل مع موضوعه والسلاسة في السرد وجمال الصورة وبراعة الأداء.
ومن خلال المونتاج المحكم، يكشف الفيلم تدريجيا، عمّا يكمُن تحت جلد شخصيته الرئيسية، من مشاعر مضطربة ومتناقضة، فبطل الفيلم الصبي “شيرون” الذي نتابعه إلى أن يكبر، خلال نحو ستة عشر عاما أو أكثر، شخصية تحت التكوين، فهو باحث عن حقيقة نفسه، يريد أن يُحدّد موقفه من العالم ومن الأسرة والمجتمع والدنيا، والجنس أيضا، لكنه يبدو كما لو كان في حاجة إلى من يرشده إلى الطريق.
ومخرج الفيلم باري جنكنز، وهذا فيلمه الروائي الطويل الثاني، يعرف جيدا تضاريس وأبعاد موضوعه، وطبيعة المكان الذي تدور فيه أحداثه، وقد درس مع مصوّره نغماته اللونية، ونجح في نقل حرارته وقيظه وظلاله وعتمة لياليه للمشاهدين.
بطل الفيلم الصبي يبدو وكأنه يتجه من البداية نحو وجهة معاكسة للصورة الشائعة عن أبناء الأسر الفقيرة من السود الأميركيين الذين يعيشون على هامش المجتمع، فهو يختلف عن أقرانه من تلاميذ المدرسة، بميله للصمت، وللعزلة وللانكفاء على الذات، لتجنّب المشاجرات والعنف، مما يعرّضه لسخرية الكثيرين من زملائه الذين يعتبرونه “مخنثا”، بل وتتهكم أمه أيضا على طريقة مشيته.
بطلنا شيرون لا يزال في التاسعة أو العاشرة، يقيم مع أمه دون الأب الغائب الذي لا وجود له، داخل مجتمع يبدو مغلقا تماما على قاطنيه من “السود”، كما لو كان في إحدى المدن الأفريقية، فلا توجد ضمن شخصيات الفيلم شخصية من البيض الأميركيين، وعندما يظهر هؤلاء فيما بعد، فإنهم يتجسّدون في رجال الشرطة الذين يهرعون في نهاية القسم الثاني من الفيلم للقبض على شيرون، وهو اختيار مقصود تماما، بغية الابتعاد عن نمطية الصراع التقليدي في مثل هذا النوع من الأفلام. والمكان في الواقع، هو إحدى ضواحي ميامي في جنوب فلوريدا، حيث ترتفع نسبة المهاجرين وأبناء المهاجرين من الأصول الكوبية.
في ضوء القمر
الفيلم المستقل، الذي لم تتجاوز ميزانيته مليون ونصف مليون دولار، مقتبس ببراعة من المسرحية القصيرة “في ضوء القمر يكتسب الأولاد السود زرقة” للكاتب تاريل ألفين مكارني (36 سنة)، كتب له السيناريو مخرجه باري جنكنز، وحصل الفيلم عن جدارة على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو معد ّعن أصل أدبي، فهو من حيث طريقة السرد وتضمّنه الكثير من التفاصيل الموحية، يجعل الشخصية الرئيسية في الفيلم، أي شيرون محور أحداثه، لكنه يبدأ من خلال شخصية أخرى هي شخصية “خوان”، ثم ينتقل لإظهار غيرها من الشخصيات في توازن دقيق مبتعدا تماما عن “العادي والمتوقع” في فيلم يدور في مجتمع السود الأميركيين.
ورغم أن الفيلم يتعامل، ولو على نحو خافت، مع موضوع تهميش السود وحياة الفقر والفاقة والحرمان التي يعيشون فيها، مصوّرا انعكاس هذا النمط القاسي على الشخصيات، من ناحية إدمان تعاطي المخدرات كما تفعل والدة شيرون، والتي تصل في قسوتها عندما تستبد بها “الحاجة” إلى المخدّر للتشاجر مع ابنها وانتزاع ما معه من قروش قليلة ربما حصل عليها بدافع التعاطف والشفقة من “الأب البديل” الذي عثر عليه في شخص خوان، وهو مدخلنا إلى الفيلم وإلى الدراما.
وخوان شاب أسود فارع وقوي، يدير حلقة صغيرة من موزعي المخدرات، إلا أنه في المقابل يخالف الصورة النمطية لهذا النوع من الشخصيات السائدة في الأفلام الأميركية، فهو يتمتع بنظرة إنسانية وأفق منفتح، ويبدو منقسما من داخله، بين طفولته التعيسة التي يتطرق إليها في حديثه مع شيرون، وبين واقعه الحالي الذي يبدو كما لو كان قدره، وما انتشاله للصبي ومحاولة تعليمه أشياء جديدة في الحياة سوى تعبير عن ما فشل في تعلمه في طفولته. إنه يلتقيه بالحماية عندما يهرب شيرون لكي لا يفتك به الأولاد في المدرسة، ليضعه خوان تحت حمايته، وفي ظل رعاية صديقته الجميلة تيريزا التي يشاركها السكن.
بين الفصول الثلاثة
ينقسم الفيلم إلى ثلاثة فصول، يصوّر كل منها فصلا من فصول حياة بطلنا الصغير الذي ينتقل من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب، ويحمل كل فصل اسما من الأسماء المختلفة التي تطلق على البطل الصغير، وهي “ليتل” (أي الصغير)، وشيرون (وهو اسمه الحقيقي)، و”بلاك” (أسود) وهو الاسم الذي يطلقه عليه صديقه الحميم “كيفن” الذي يعتبر الأقرب إليه، والذي سيلعب ربما من حيث لا يدري، دورا كبيرا في إطلاع الفتى على حقيقة نفسه.
سيظل شيرون في البداية يجد المأوى والأمان والطعام الجيّد، في منزل الأم البديلة تيريزا التي تعتني به وتعلمه كيف يعتني بنفسه، بينما تهمله أمه الحقيقية بولا التي تغرق تدريجيا في مستنقع المخدرات إلى أن تصل لمرحلة الدمار الكامل في النهاية. وفي مشهد صادم، يقوم خوان بتوصليه إليها محاولا لفت نظرها إلى ضرورة أن توليه عناية أكبر، فتسخر مما تعتبره “وصاية” مزعومة، وتتساءل في تهكم “وهل ستتولى أنت تربيته الآن؟ أنت الذي تبيعني المخدرات؟”
وفي أحد المشاهد البديعة يصطحب خوان الصبي إلى شاطئ البحر، ثم يسبح معه ليعلمه السباحة، كيف يتحكم في حركة جسده وفي التعامل مع الأمواج. وتطغي زرقة البحر على الصورة، في ترجمة شعرية للعنوان الأصلي.
واللون الأزرق عموما هو أحد الألوان الأساسية في الفيلم، مع البرتقالي والأسود والأبيض، فالمصوّر جيمس لاكستون، يستخدم الألوان الصريحة الحارة، كما حركة الكاميرا المحمولة والمتحركة، بحيث يجعل الشخصية طول الوقت في علاقة مع المكان، إن الكاميرا المهتزّة المتأرجحة خاصة في الجزء الأول من الفيلم، تمنح الشعور بالاضطراب وبارتباك البطل الصغيروبحيرته وبرغبته في الفرار من واقعه.
وفي الفصل الثاني يمر بطلنا “ليتل” للمرة الأولى، بتجربة التلامس الجسدي مع صديقه كيفن، وهو ليس مثليا، بل إنه يطارد الفتيات، وعندما يذهب صاحبنا لقضاء الليلة وحده في منزل تيريزا الجميلة المغرية تتطلع إليه بعد أن أصبح فتى ممشوق القوام، ويتطلع هو إليها خفية وتأمل قوامها المغري وهي تعلمه كيف يقوم بإعداد الفراش، يلمح نهديها من تحت قميصها المكشوف، لكنه لا يقترب منها، بل يذهب مباشرة للنوم.
تتحرك الكاميرا في فراغ الغرفة، تقترب تدريجيا من الضوء في الخارج عبر شرفة مع صبغة برتقالية، لنرى شيرون يسير بظهره لنا، نحو الحديقة ليرى صديقه كيفن وهو يضاجع صديقته ثم يلتفت إليه متسائلا “هل يعجبك ما تراه؟”، وتتبدى على وجه بطلنا مشاعر متضاربة غير محددة ثم يستيقظ من نومه.
سيتعرض شيرون للاعتداء البدني العنيف من جانب صديقه كيفن، الذي يضطر لضربه تحت تهديد من زعيم عصابة الفتية الأشقياء في المدرسة الذين ينتهزون كل فرصة للتنكيل بشيرون وإهانته بسبب اختلاف شخصيته عنهم، هذا الاعتداء المُهين أمام الجميع، سيولّد طاقة العنف المكبوت لدى شيرون، فلا يصبح أمامه سوى أن يردّ الصاع صاعين، لكنه سيرتكب هنا جريمته الأولى، وليولد بفعل هذه “الخطيئة” ويخرج إلى الحياة الحقيقية. إلى السجن!
لا نعرف كم من الوقت يغيب شيرون وراء القضبان، كما لا نعرف سبب اختفاء خوان من الفيلم تماما منذ الفصل الثاني، وربما يكون السبب أن المخرج أراد أن يترك شيرون وقد أصبح بلا أب، يتعين عليه أن يواجه العالم بمفرده، متسلحا بما علمه إياه خوان وبما يمكن أن يتعلمه في السجن.
في الفصل الثالث يكون شيرون قد غادر السجن ومرت سنوات أصبح خلالها رجلا يمتلك إرادته وقراره بنفسه، بل وأصبح متماثلا مع صورة معلمه الأول وراعيه خوان سواء من حيث شكله الخارجي، أو بعد أن أصبح مثله منغمسا في تجارة المخدرات، التي تعتبر الوسيلة الوحيدة لدى أبناء تلك الشريحة المهمشة اجتماعيا، لإثبات الوجود وتحقيق نوع من العيش خارج مستنقع الحرمان.
يلتقي شيرون مجددا بصديقه القديم كيفن الذي تزوج وأصبح طاهيا في مطعم، لكنه لا يزال يحن إلى صديقه، هل يمكن أن يستأنف الاثنان علاقتهما القديمة على مستوى الحب أو الرفقة الإنسانية؟ لا نعرف، فنهاية الفيلم شاء لها المخرج أن تبقى مفتوحة.
...
ناقد سينمائي من مصر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.