الآن.. شروط القبول في أقسام كلية الآداب جامعة القاهرة 2025-2026 (انتظام)    «من حقك تعرف».. ما خطوات استخراج بدل فاقد لبطاقة الرقم القومي؟    وزير الدفاع يستعرض مع رجال المنطقة الشمالية العسكرية التحديات الدولية    تعاون علمي بين جامعة العريش والجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم بالسودان ببداية تعاملات الخميس 21 اغسطس 2025    عيار 21 بالمصنعية يسجل أقل مستوياته.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الهبوط الكبير    Avatr تطلق سياراتها ببطاريات جديدة وقدرات محسّنة للقيادة الذاتية    ابلغوا عن المخالفين.. محافظ الدقهلية: تعريفة التاكسي 9 جنيهات وغرامة عدم تشغيل العداد 1000 جنيه    الدفعة ال19 من شاحنات المساعدات تدخل القطاع    «عنده 28 سنة ومش قادر يجري».. أحمد بلال يفتح النار على رمضان صبحي    «ظهر من أول لمسة.. وعنده ثقة في نفسه».. علاء ميهوب يشيد بنجم الزمالك    إصابة مواطن ب«خرطوش» في «السلام»    درجة الحرارة تصل 43.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم    جريمة هزت الشارع المصري.. تنفيذ حكم الإعدام في سفاح الإسماعيلية عبد الرحمن دبور    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    سامح الصريطي عن انضمامه للجبهة الوطنية: المرحلة الجديدة تفتح ذراعيها لكل الأفكار والآراء    عامر خان| نجم استثنائي يختار أدواره بذكاء.. وأعماله تُحدث فرقًا في صناعة السينما    لماذا لا يستطيع برج العقرب النوم ليلاً؟    استشاري تغذية يُحذر: «الأغذية الخارقة» خدعة تجارية.. والسكر الدايت «كارثة»    استغلي انخفاض سعره.. طريقة تحضير مربى الليمون الإيطالية المنعشة والغنية بڤيتامين سي    «لجنة الأمومة الآمنة بالمنوفية» تناقش أسباب وفيات الأمهات| صور    الأونروا: تضاعف مقلق لحالات سوء التغذية بين أطفال غزة    الجبهة الوطنية يعين عددًا من الأمناء المساعدين بسوهاج    رئيس اتحاد الجاليات المصرية بألمانيا يزور مجمع عمال مصر    "أخطأ في رسم خط التسلل".. الإسماعيلي يقدم احتجاجا رسميا ضد حكم لقاء الاتحاد    عودة شيكو بانزا| قائمة الزمالك لمواجهة مودرن سبورت    محافظ كفر الشيخ يقدم واجب العزاء في وفاة والد الكابتن محمد الشناوي    اتحاد الكرة يفاوض اتحادات أوروبية لاختيار طاقم تحكيم أجنبي لمباراة الأهلي وبيراميدز    طارق سعدة: معركة الوعي مستمرة.. ومركز لمكافحة الشائعات يعمل على مدار الساعة    الجاليات المصرية بالخارج تدعم جهود OMC الاقتصادية في التنمية المستدامة    أخبار× 24 ساعة.. مياه الجيزة: عودة الخدمة تدريجيا لمنطقة كفر طهرمس    شراكة جديدة بين «المتحدة» و«تيك توك» لتعزيز الحضور الإعلامى وتوسيع الانتشار    ضربها ب ملة السرير.. مصرع ربة منزل على يد زوجها بسبب خلافات أسرية بسوهاج    استخدم أسد في ترويع عامل مصري.. النيابة العامة الليبية تٌقرر حبس ليبي على ذمة التحقيقات    حماس: عملية «عربات جدعون 2» إمعان في حرب الإبادة.. واحتلال غزة لن يكون نزهة    الصحة في غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا المجاعة وسوء التغذية إلى 269 بينهم 112 طفلًا    بعد معاناة مع السرطان.. وفاة القاضي الأمريكي "الرحيم" فرانك كابريو    ليلة فنية رائعة فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. النجم إيهاب توفيق يستحضر ذكريات قصص الحب وحكايات الشباب.. فرقة رسائل كنعان الفلسطينية تحمل عطور أشجار الزيتون.. وعلم فلسطين يرفرف فى سماء المهرجان.. صور    بالصور.. أحدث جلسة تصوير جريئة ل دينا الشربيني بفستان قصير    افتتاح معرض "آثار المدينة الغارقة" بالمتحف القومي (صور)    الجنائية الدولية: العقوبات الأمريكية هجوم صارخ على استقلالنا    لبنان: ارتفاع عدد ضحايا الغارة الإسرائيلية على بلدة "الحوش" إلى 7 جرحى    السفير الفلسطيني بالقاهرة: مصر وقفت سدًا منيعًا أمام مخطط التهجير    زعيم كوريا الشمالية يدعو لتوسيع الترسانة النووية لبلاده    جمال شعبان: سرعة تناول الأدوية التي توضع تحت اللسان لخفض الضغط خطر    كلب ضال جديد يعقر 12 شخصا جديدا في بيانكي وارتفاع العدد إلى 21 حالة خلال 24 ساعة    نتائج مباريات اليوم في تصفيات دوري أبطال أوروبا    الكرة الطائرة، السويحلي الليبي يعلن تجديد عقود أحمد صلاح وعبد الله عبد السلام    مروة يسري تعترف: مستشارة مرسي قالت لي أنت بنت مبارك وهذا سر عدائي ل وفاء عامر    وفاة أكثر قاض محبوب في العالم وولاية رود آيلاند الأمريكية تنكس الأعلام (فيديو وصور)    اعترافات المتهمة بحريق مستشفى حلوان| شروق: «أنا اللي حرقت قسم العناية المركزة»!    افتتاح قمة الإبداع الإعلامي للشباب العربي بحضور هنو ومبارك وعمار وعبدالغفار وسعده    حدث ليلًا| أسعار عمرة أغسطس 2026 وموجة حارة جديدة بهذا الموعد    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    الأوقاف تعقد 681 ندوة بعنوان "حفظ الجوارح عن المعاصى والمخالفات"    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصيدة قبل أن يتلف العالم.. عن أصابع المرأة الشاعرة في 2016
نشر في صوت البلد يوم 04 - 01 - 2017

صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، مجموعة من الدواوين الشعرية، لأقلام نسوية عربية، بعضها خلال العام 2016. ولعل الخيط "الأوليّ" المشترك، الذي يقود إلى التعاطي مع هذه الأعمال، هو أنها تفتح مجالًا للتحرر، والانزياح خارج السائد الجمالي، والراسخ المجتمعي.
على سبيل المثال، لا الحصر، في ديوانها "كمكان لا يُعَوّل عليه" (منشورات دار "الوطن اليوم"، 2016)، تقترح الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش ألعابًا أخرى بديلة عن لعبة الحياة غير مأمونة العواقب، وهي ألعاب خاسرة بالضرورة، لكنها تبدو محاولات لترك أثر ما، قبل تلف كل شيء، في وجودٍ عنوانه الوحيد "العدم". ولأن الحياة ليست لعبة يمكن ضبطها على وضعية الصفر، في حالة الخسارة، وتشغيلها من جديد، فإنها لا تبدو لعبة مُرحَّبًا بها، فلا أحد يتوقع فوزًا، مهما بلغ من مهارة، أو حرص، أو إقدام. تقول:
"كلعبة سريعة التلف
آهلة بالعطب
نعبرها على عجل
نغادرها على عجل
كحشرجة منذورة لتفاصيل العدم
هي الحياة"
تدرك الشاعرة نوارة لحرش أن لعبتها الأكثر قيمة، أو الأجدر بالتجربة، هي لعبة التحرر من أسر الحياة "الضيقة"، وخلق فضاءات بديلة للمعاني أرحب من كُنه الإقامة على هذه الأرض، والتمسّك بما لا يمكن التمسّك به. فسلالم الحياة، بالمعنى النمطي، ليست إلا وهمًا، ولا يقود صعودها إلا إلى هاوية. تقول:
"أتسلق عمري
عثرة عثرة،
وعند تخوم الخدوش،
أسقط متعثرة بخيبة عالية"
إنه "الضيق" الخانق، الذي لا يترك مجالًا لحراك: "كل هذا الأفق ضيق، وهذا الغيم قحل، والشتاء ضيق، والينابيع يباس، وهذي الرياح أرجوحتي، وهذي المواويل أنيني". ولا ملاذ للذات الشاعرة سوى استبطان جوهر جديد، خارج التأويل الاستهلاكي للمعنى.
تقول: "في طيات المعنى، ثمة ملاذي".
هي شاعرة تحررت بالقصيدة، بقدر ما منحت الحياة فرصة أخيرة، كي تصافح ذاتها الحقيقية، تحت شجر المعاني والكلمات.
وبقطرات من العشق، معسولة ومالحة في آن، مكثفة دائمًا، مسحورة بالضرورة، وببخور روحاني مصّاعد، لا يخلو من رماد الجسد المحترق بغير نار، تحاول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس استحضار ماردها العاصي، الذي لا يحضر، في طقس من طقوس الجنون الكامل. ولا يظل الصمت بطلًا للمشهد، إذ تتشكل الحروف من تلقاء ذاتها خارج المعنى المألوف.
في ديوانها الرابع "على حافة عمر هارب" (دار البدوي، تونس، 2016)، يبدو البيت العاصم من الفتنة أوهن من خيمة، وأخف من غيمة، فكل النوافذ والأبواب، والحوائط أيضًا، مفتوحة على الريح، تلك التي يحرّكها العشق الجارف، في ملكوت ليس فيه سوى دين واحد، تفصح عنه الشاعرة صراحة في تقديم الديوان، مستحضرة عبارة ابن عربي "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهتْ ركائبه".
في ديوان فاطمة الزهراء بنيس، ليس تناقضًا استسلام الأنثى لرهافتها المفرطة، وتسلحها في الوقت نفسه ببارود التمرد، الذي تستطيع بواسطته تفجير كل شيء: ذاتها، الرجل، مفردات العالم. تلك معادلة أولية من معادلات القصيدة، إذ يبدو افتتان الفراشة بألوانها غاية كبرى في حياة تلك الفراشة، لكنه لا يُنسيها أنها خُلقت أيضًا من أجل التحليق، والتجاوز، وربما التغريد أحيانًا بصوت طازج، مقطوف من رحيق الشِّعر:
"كفراشة افتتنتْ بفائها
أتبع ألفي
ولا يُتعبني تحليقي/
هو الشعرُ يعصر أعنابهُ
في عينيَّ
يبثّ رحيقه
في جسدي".
هي شاعرة ولدتْ عريانة منها، بحد تعبيرها، لا تريد أن تشبه حوّاء، ولا أن ترضي آدم، الذي لجناحيه لذة الغرق. للإيحاءات المُشمسة تركت ذاتها، فاستدرجتها إلى عَتَه الصبا، حيث اللعب، والركض، والبوح، والضحك، والبكاء، والتلذّذ، والصعود، والسقوط، والموت، والانبعاث، وهكذا يكون الشعر.
وفي ديوانها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية)، لا تفقد الشاعرة السورية بسمة شيخو القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة.
احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟ تقول الشاعرة بسمة شيخو:
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود. وتسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
وتطرح الشاعرة التونسية هدى الدغاري، في ديوانها "ما يجعل الحب ساقًا على ساق" (نقوش عربية، تونس)، فضاءً داخليًّا للذات، يتسق مع فضاء خارجي لا سقف له، ولا قرار. الطيران هنا له معنيان، الطيران بالأجنحة، وبالأفكار. ألوان الأجنحة ذاتها تتجاوز الحيّز الضيق لقوس قزح، لتقبض المخيلة على سماء مكتملة، فيما تتسع أدغال الروح لتتمشى فيها غابة إثر غابة.
الشعرية، في تجربة هدى الدغاري، بإمكانها تسليم قرص الشمس تفاحًا، ينضج على وهجها. الإشعاع انطلاق دائم، يفيض حرية وتمردًا وجنونًا. حتى مدارات الجسد، تتسع لما يخرج عن التشهي المألوف، إلى منعطف ينتشي فيه العسل نفسه على خريطة الشفتين المعسولتين.
أما الآخر، الذي ربما يكون الرجل، فتنبني العلاقة معه في تجربة هدى الدغاري على ندية واضحة، وتكامل، بما يطلق العنان لبراحٍ جديد متسع، ناتج من تلاقي واشتباك إرادتين، ليتخلق ربيع لا تتهدده مخاطر الذبول.
المشاركة، والإقدام، والإيجابية، والمبادرة، من ملامح تفاعل الذات الأنثوية مع الأخرى الذكورية، فالحب ليس ساقًا واحدة، بل هو ساق على ساق، وفراشات الفرح إن لم يكن لها وجود في الكون، فبالإمكان تخليقها، في لحظة يرتوي فيها النهر. هنا، الانطلاق يخلق وجودًا بأكمله، تقول:
"نهري عطشان،
لانسياب الكوب على شفتيكَ،
لفراشات فرح،
يطوّقن خصري".
صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، مجموعة من الدواوين الشعرية، لأقلام نسوية عربية، بعضها خلال العام 2016. ولعل الخيط "الأوليّ" المشترك، الذي يقود إلى التعاطي مع هذه الأعمال، هو أنها تفتح مجالًا للتحرر، والانزياح خارج السائد الجمالي، والراسخ المجتمعي.
على سبيل المثال، لا الحصر، في ديوانها "كمكان لا يُعَوّل عليه" (منشورات دار "الوطن اليوم"، 2016)، تقترح الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش ألعابًا أخرى بديلة عن لعبة الحياة غير مأمونة العواقب، وهي ألعاب خاسرة بالضرورة، لكنها تبدو محاولات لترك أثر ما، قبل تلف كل شيء، في وجودٍ عنوانه الوحيد "العدم". ولأن الحياة ليست لعبة يمكن ضبطها على وضعية الصفر، في حالة الخسارة، وتشغيلها من جديد، فإنها لا تبدو لعبة مُرحَّبًا بها، فلا أحد يتوقع فوزًا، مهما بلغ من مهارة، أو حرص، أو إقدام. تقول:
"كلعبة سريعة التلف
آهلة بالعطب
نعبرها على عجل
نغادرها على عجل
كحشرجة منذورة لتفاصيل العدم
هي الحياة"
تدرك الشاعرة نوارة لحرش أن لعبتها الأكثر قيمة، أو الأجدر بالتجربة، هي لعبة التحرر من أسر الحياة "الضيقة"، وخلق فضاءات بديلة للمعاني أرحب من كُنه الإقامة على هذه الأرض، والتمسّك بما لا يمكن التمسّك به. فسلالم الحياة، بالمعنى النمطي، ليست إلا وهمًا، ولا يقود صعودها إلا إلى هاوية. تقول:
"أتسلق عمري
عثرة عثرة،
وعند تخوم الخدوش،
أسقط متعثرة بخيبة عالية"
إنه "الضيق" الخانق، الذي لا يترك مجالًا لحراك: "كل هذا الأفق ضيق، وهذا الغيم قحل، والشتاء ضيق، والينابيع يباس، وهذي الرياح أرجوحتي، وهذي المواويل أنيني". ولا ملاذ للذات الشاعرة سوى استبطان جوهر جديد، خارج التأويل الاستهلاكي للمعنى.
تقول: "في طيات المعنى، ثمة ملاذي".
هي شاعرة تحررت بالقصيدة، بقدر ما منحت الحياة فرصة أخيرة، كي تصافح ذاتها الحقيقية، تحت شجر المعاني والكلمات.
وبقطرات من العشق، معسولة ومالحة في آن، مكثفة دائمًا، مسحورة بالضرورة، وببخور روحاني مصّاعد، لا يخلو من رماد الجسد المحترق بغير نار، تحاول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس استحضار ماردها العاصي، الذي لا يحضر، في طقس من طقوس الجنون الكامل. ولا يظل الصمت بطلًا للمشهد، إذ تتشكل الحروف من تلقاء ذاتها خارج المعنى المألوف.
في ديوانها الرابع "على حافة عمر هارب" (دار البدوي، تونس، 2016)، يبدو البيت العاصم من الفتنة أوهن من خيمة، وأخف من غيمة، فكل النوافذ والأبواب، والحوائط أيضًا، مفتوحة على الريح، تلك التي يحرّكها العشق الجارف، في ملكوت ليس فيه سوى دين واحد، تفصح عنه الشاعرة صراحة في تقديم الديوان، مستحضرة عبارة ابن عربي "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهتْ ركائبه".
في ديوان فاطمة الزهراء بنيس، ليس تناقضًا استسلام الأنثى لرهافتها المفرطة، وتسلحها في الوقت نفسه ببارود التمرد، الذي تستطيع بواسطته تفجير كل شيء: ذاتها، الرجل، مفردات العالم. تلك معادلة أولية من معادلات القصيدة، إذ يبدو افتتان الفراشة بألوانها غاية كبرى في حياة تلك الفراشة، لكنه لا يُنسيها أنها خُلقت أيضًا من أجل التحليق، والتجاوز، وربما التغريد أحيانًا بصوت طازج، مقطوف من رحيق الشِّعر:
"كفراشة افتتنتْ بفائها
أتبع ألفي
ولا يُتعبني تحليقي/
هو الشعرُ يعصر أعنابهُ
في عينيَّ
يبثّ رحيقه
في جسدي".
هي شاعرة ولدتْ عريانة منها، بحد تعبيرها، لا تريد أن تشبه حوّاء، ولا أن ترضي آدم، الذي لجناحيه لذة الغرق. للإيحاءات المُشمسة تركت ذاتها، فاستدرجتها إلى عَتَه الصبا، حيث اللعب، والركض، والبوح، والضحك، والبكاء، والتلذّذ، والصعود، والسقوط، والموت، والانبعاث، وهكذا يكون الشعر.
وفي ديوانها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية)، لا تفقد الشاعرة السورية بسمة شيخو القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة.
احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟ تقول الشاعرة بسمة شيخو:
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود. وتسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
وتطرح الشاعرة التونسية هدى الدغاري، في ديوانها "ما يجعل الحب ساقًا على ساق" (نقوش عربية، تونس)، فضاءً داخليًّا للذات، يتسق مع فضاء خارجي لا سقف له، ولا قرار. الطيران هنا له معنيان، الطيران بالأجنحة، وبالأفكار. ألوان الأجنحة ذاتها تتجاوز الحيّز الضيق لقوس قزح، لتقبض المخيلة على سماء مكتملة، فيما تتسع أدغال الروح لتتمشى فيها غابة إثر غابة.
الشعرية، في تجربة هدى الدغاري، بإمكانها تسليم قرص الشمس تفاحًا، ينضج على وهجها. الإشعاع انطلاق دائم، يفيض حرية وتمردًا وجنونًا. حتى مدارات الجسد، تتسع لما يخرج عن التشهي المألوف، إلى منعطف ينتشي فيه العسل نفسه على خريطة الشفتين المعسولتين.
أما الآخر، الذي ربما يكون الرجل، فتنبني العلاقة معه في تجربة هدى الدغاري على ندية واضحة، وتكامل، بما يطلق العنان لبراحٍ جديد متسع، ناتج من تلاقي واشتباك إرادتين، ليتخلق ربيع لا تتهدده مخاطر الذبول.
المشاركة، والإقدام، والإيجابية، والمبادرة، من ملامح تفاعل الذات الأنثوية مع الأخرى الذكورية، فالحب ليس ساقًا واحدة، بل هو ساق على ساق، وفراشات الفرح إن لم يكن لها وجود في الكون، فبالإمكان تخليقها، في لحظة يرتوي فيها النهر. هنا، الانطلاق يخلق وجودًا بأكمله، تقول:
"نهري عطشان،
لانسياب الكوب على شفتيكَ،
لفراشات فرح،
يطوّقن خصري".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.