التنمر الإلكتروني، جريمة جنائية في ألمانيا.. ما القصة؟    دليلك الكامل للالتحاق ب مدارس التمريض 2024.. شروط التسجيل والأوراق المطلوبة والمزايا    تنظيف الطريق السريع ورفع التراكمات والإشغالات بنجع حمادي    زعيم المعارضة الإسرائيلية: لا حدود ل فساد وإهمال نتنياهو وعليه الخروج من حياتنا    كهربا يتقدم بهدف الأهلي الأول في شباك الاتحاد السكندري    حالة الطقس غدًا الأربعاء 19-6-2024 بوادي النطرون    قتل 4 مصريين وقطع أجسادهم.. القبض على مصري في العراق    إقبال كثيف على سينمات وسط البلد في ثالث أيام عيد الأضحى (صور)    لسهرة مميزة في العيد، حلويات سريعة التحضير قدميها لأسرتك    تنسيق الجامعات 2024.. قائمة المعاهد الخاصة العليا للهندسة المعتمدة    وزير الخارجية الإسرائيلي يتوعد حزب الله بالدمار الشامل    خبير علاقات دولية: الناتو وروسيا يعودان لتبادل الاتهامات والتهديدات بلغة السلاح النووي    التشكيل الرسمي لمباراة تركيا ضد جورجيا في يورو 2024    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج إنتاج وتكنولوجيا القطن بزراعة سابا باشا جامعة الإسكندرية    أخبار الأهلي : تصنيف "فيفا" الجديد ل منتخب مصر يفاجئ حسام حسن    مطران مطاي يهنئ رئيس مدينة سمالوط بعيد الأضحى    زراعة 609 آلاف شجرة بالطرق العامة والرئيسية بالشرقية خلال الأيام الماضية    اتهام عامل بالتسبب فى سقوط ابن زوجته من الطابق الرابع بمدينة 6 أكتوبر    سعر متر التصالح في مخالفات البناء بالمدن والقرى 2024    غارة إسرائيلية بصاروخين "جو - أرض" تستهدف بلدة عيتا الشعب جنوبي لبنان    سامح حسين عن مسرحية عامل قلق : أعلى إيرادات إفتتاحية فى تاريخ مسرح الدولة    «دعم اجتماعي ومبادرات خيرية» كيف غيّرت قصة بائع غزل البنات من حياته؟    عودة الاقتصاد المصرى إلى مسار أكثر استقرارا فى عدد اليوم السابع غدا    لمتبعي الريجيم.. ما الحد المسموح به لتناول اللحوم يوميًا؟    إسماعيل فرغلي يكشف عن تفاصيل إصابته بالسرطان    تامر عبدالمنعم يقدم روائع الثمانينات والتسعينات في نوستالجيا 90/80 على مسرح السامر    خروجة عيد الأضحى.. المتحف المصري بالقاهرة يواصل استقبال زواره    «البيئة» توضح تفاصيل العثور على حوت نافق بالساحل الشمالي    "تخاذل من التحكيم".. نبيل الحلفاوي يعلق على أزمة ركلة جزاء الزمالك أمام المصري    شرطة الاحتلال تفض مظاهرة معارضة للحكومة بعد إغلاق أحد شوارع القدس الغربية    جدول مباريات ريال مدريد بالكامل فى الدورى الإسبانى 2024-2025    مصرع 13 شخصا بسبب الفيضانات فى السلفادور وجواتيمالا    «الصحة» تقدم نصائح لتجنب زيادة الوزن في عطلة عيد الأضحى    هل يؤاخذ الإنسان على الأفكار والهواجس السلبية التي تخطر بباله؟    مجدي يعقوب يشيد بمشروع التأمين الصحي الشامل ويوجه رسالة للرئيس السيسي    محافظ الجيزة يعتمد المخطط التفصيلي للمنطقة الصناعية بعرب أبو ساعد بمركز الصف    ميدو: طالبت بانضمام نجم المصري ل الزمالك و«اتريقوا عليا»    تفاصيل جديدة في واقعة وفاة الطيار المصري حسن عدس خلال رحلة للسعودية    شد الحبل وكراسى موسيقية وبالونات.. مراكز شباب الأقصر تبهج الأطفال فى العيد.. صور    تنسيق الأزهر 2025.. ما هي الكليات التي يتطلب الالتحاق بها عقد اختبارات قدرات؟    الجثمان مفقود.. غرق شاب في مياه البحر بالكيلو 21 بالإسكندرية    خبير سياحي: الدولة وفرت الخدمات بالمحميات الطبيعية استعدادا لاستقبال الزوار    في ثالث أيام عيد الأضحى.. المجازر الحكومية بالمنيا تواصل ذبح أضاحي الأهالي بالمجان    الصحة: فحص 14 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى.. «اللهم إياك أرجو ولك أدعو»    يورو 2024، التشكيل المتوقع لمباراة البرتغال والتشيك    دار الإفتاء: ترك مخلفات الذبح في الشوارع حرام شرعًا    وزارة التخطيط: 21 مليون مواطن مستفيد من المرحلة الثانية لمبادرة حياة كريمة    دعاء ثالث أيام عيد الأضحى.. اللهم إني أسألك إيمانا دائما وعلما نافعا    "سويلم" يوجه باتخاذ الإجراءات اللازمة للاطمئنان على حالة الري خلال عيد الأضحى    انقطاع الكهرباء عن قرى جنوبية في لبنان جراء قصف إسرائيلي    هل يجوز للزوجة المشاركة في ثمن الأضحية؟ دار الإفتاء تحسم الأمر    عبد الله غلوش: «إفيهات» الزعيم عادل إمام لا تفقد جاذبيتها رغم مرور الزمن    مدرب بلجيكا: لم نقصر ضد سلوفاكيا ولو سجلنا لاختلف الحديث تماما    تعرف على حكام مباراة الاتحاد والأهلي    العثور على جثة شخص بجوار حوض صرف صحى فى قنا    مصرع شخص وإصابة 5 فى حادث تصادم بالدقهلية    البطريرك يزور كاتدرائية السيّدة العذراء في مدينة ستراسبورغ – فرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المملوكي
نشر في صوت البلد يوم 29 - 12 - 2016

أسماك وأحصنة، ومخلوقات أسطورية، بالأبيض والأسود، ولكنها تبدو كمنحوتات، وسفن وموسيقى، تشكل تلك العناصر عامل الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق، أو العم جميل كما كنا نناديه دائما. رحل جميل شفيق أمس، وكان رحيله مفاجأة صادمة لمثقفي مصر، وفنانيها. لم يكن مريضا، بل على العكس، تغلب على مرضه بقوة وإرادة نحات مصري قديم، ينحت تلك الصروح الضخمة والمعابد الهائلة. لم يتوقف عن المشاركة في الأنشطة التشكيلية، أو زيارة المعارض، سافر منذ أيام إلى الأقصر للمشاركة في «ملتقى الأقصر للفنون».. وهناك اختار موته، وكأنه لم يرد أن يرحل بعيدا عن أجداده النحاتين صناع الحضارة.
لم يتوقف جميل شفيق (الملود عام 1938) عن التجريب وطرح الأسئلة على كل أعماله الفنية، لوحات أو منحوتات، من معرض إلى آخر. هو صاحب البصمة والخطوط المتميزة، من القلائل الذين يمكنك أن تتعرف على إبداعهم التشكيلي بدون توقيع. لم يكن يخفي علاقته بالبحر، والصيد في الوقت ذاته.. الذي يعتبره مثل رياضة «اليوغا».. يؤمن شفيق بمقولة طاغور الشهيرة: «الحب والفن كلاهما لا يفسر».. لذا لا يحب تفسير أعماله أو إحالتها إلى دلالات ورموز مباشرة، برغم أن «الخيول» تحتل مساحات كبيرة فى رسوماته باعتبارها «موروثا مصريا» أثار انتباهه منذ الطفولة في مولد السيد البدوي بمدينة طنطا التي ولد فيها.
خلية ثقافية
درس جميل شفيق الفن، حسب رغبته، وبتشجيع الأم التي قضت سنوات طويلة تتستر على كراسات الرسم، خوفا من غضب الأب الذي لم يرد للابن العمل بالرسم، عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، كما يقول: «لم تكن الأجواء الثقافية والفنية المفعمة بأحلام الثورة غريبة عني. بعد تأميم قناة السويس في 1956، رسمت لوحة كبيرة عن المقاومة في بورسعيد وعرضت في مدرستي: كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة، تحتضن الهوايات، كانت هناك غرفتا رسم، وغرفة أشغال، وجمعية رسم، وكنت مسؤولا عن جمعية الرسم، وقد ملأنا المدرسة بصور عرابي مع زميلي الفنان حجازي الذي أصبح رسام كاريكاتير شهيراً. وفي القاهرة، تقاسم السكن مع نبيل تاج ومحيي الدين اللباد. ثم كان عمله بالصحافة، التي كانت حسب تعبيره مغرية جدا، تحديدا ما يسميه صحافة للفلاحين، تحديدا في جريدة التعاون في ظل هذا السياق الموجود بعد 1952 والحديث عن دور العمال والفلاحين، الأمر الذي كان يعني الوصول إلى هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا. في ذلك الوقت كان الوضع أشبه بخلية ثقافية.. كل شيء يتنفس صحافة وسياسة.. عمله في الصحافة تحديدا، صحافة الفلاحين، قدم له نوعا خاصا من المتعة .. كما يقول: «عملي في صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة في القاهرة أن توفره لي حيث كنت أدور في مصر كلها فأذهب إلى الواحات والى سيناء. صحافة القاهرة ربما تصنع منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتني رصيدا ثريا جدا، فمن الرحلات التي لا أستطيع نسيانها طوال عمري رحلة وقت بناء السد العالي وغرق النوبة. فالصحافة جعلتني أكثر قربا من الناس. ماذا يحبون وكيف يمكن أن تقدم لهم أنت شيئا مختلفا. كما أتاحت لي أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلى أقصاها. سمحت لي هذه التجربة بأن «ألف مصر» من الدلتا إلى الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلى النوبة، في إطار قافلة نظمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة، عدت مفتوناً بمتعة الصحراء وبخزين داخلي، وعدد لا بأس به من الاسكتشات.
أمواج كل يوم
في لوحاته، كما في منحوتاته، ثمة حكاية، أو سرد يشبه سرد الرواية... معرضه الأخير «طرح بحر» (الذي أقيم منذ عدة شهور) جمع فيه بين لوحة الأبيض والأسود (الذي اشتهر به) وفن النحت. قدم فيه نماذج من تجربته في التشكيل بالأخشاب التي بدأها في تسعينيات القرن العشرين، إلى جوار عدد من أعماله المرسومة بالأبيض والأسود. لماذا حدثت هذه النقلة من اللوحة إلى المنحوتة يجيب: «منذ أن تركت القاهرة إلى الساحل الشمالي، تعودت أن أجلس أمام البحر، الذي تحمل أمواجه كل يوم أشكالا خشبية تلقي بها على الشاطئ، شدنى الشكل، بدأت فى جمع الأخشاب ذات الأشكال الغريبة المنحوتة..».
كانت القطع المنحوتة نحتا طبيعيا، نحتا تحت تأثير الطبيعة. أشكال منحوتة، بعضها ملون، ربما تكون من مركب قديم غارق، بعضها أكله السوس، والطبيعة تترك تأثيرها على القطعة الخشبية، وأحيانا السوس. كنت أسأل نفسي عن هذه القطعة الخشبية، قصتها في البحر، تاريخها، حركتها، عمرها، هل كانت في مركب، هل غرق المركب بفعل حرب أم بفعل قرصنة أم بفعل الطبيعة.. متى؟ أين؟ كل قطعة تثير أسئلتها الخاصة، وتثير شجنا يدفعك إلى التأمل. في البداية. بدأ شفيق في جمع هذه القطع، ليصنع منها رفوفا، ومناضد، وأشكالا فنية أخرى عديدة... شمعدانات، وشوشا، ثم تطور الأمر إلى نحت ثماثيل كاملة. نحت بحر لم يكن هو المعرض الأول والوحيد لمنحوتات شفيق.. سبقته ثلاثة معارض لنفس الموضوع.. وبالعنوان نفسه «طرح بحر».. الخامات واحدة.. ولكن الأسئلة مختلفة.
يقول جميل شفيق: الفنان هو سؤال، والأسئلة لا تنتهي أساسا، كل ما أطرحه أسئلة تعني استمرارية الحوار مع الطبيعة!
- التجربة الأولى مع النحت.. لم تكن نحتا خالصا.. حتى أن الناقد محمود بقيش أطلق عليها فن «نحوير».. وهو فن يجمع بين النحت والتصوير.. هل ترى المصطلح مناسبا؟
- في معرضي الأول في تجربة النحت، كان هناك نحت داخل إطار اللوحة، ولذا أسماه بقيش بهذا المصطلح، ولكنْ في مرحلتي الثالثة نحت كامل، كتل خشبية كاملة عملت عليها بالإزميل ليخرج فورم كاملا وأشكالا متعددة، سواء أحصنة، أو أسماك.
عندما سألته عن تراث الأجداد القدماء.. المثقل به الفنان المصري، أي فنان مصري، ويطرح عليه سؤال التجاوز؟ أجابني: «أنت ابن زمنك، ابن تراثك، ابن وجودك. أنت لست بعدا واحدا بل مجموعة أبعاد تتشكل. مزيج من الفرعوني والقبطي والإسلامي والشعبي.. أنت مزيج من كل هؤلاء، تمتص كل هذه الثقافات والمدارس وتفرز ما هو خاص بك. النحت الفرعوني له خصائصه وتكوينه ودوره، في المعبد، ولكن عندما تذهب إلى المتحف المصري ستجد منحوتات خشبية صغيرة، هي نحت الشعب أو ما يمكن تسميته اللعب الشعبي. كذا الروماني... وبالنسبة لي أعمالي النحتية أميل فيها إلى التلقائية، هي أشبه بالنحت الطفولي. أنحت ما يشعرني بالانبساط والبهجة بغض النظر عن مصطلحات أبعاد الكتلة، وقوانينها. وقوانين النحت الكلاسيكية».
تجربته الفنية هي تجربة الأبيض والأسود.. يبدو أنه ضد اللون، كان يقول: «كان لي بعض المحاولات في اللون، لكنني سرعان ما كنت أعود مرة أخرى إلى الأبيض والأسود، فأنا أعشق الرسم بهما رغم صعوبة التعامل مع الأحبار، فهي خامة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز. فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره أبداً. عكس التعامل مع خامات اللون تماماً، التي تعطيك المجال للتراجع. هذا الأمر يتطلب من الرسام المزيد من التركيز والصبر والوقت أيضاً.
عشق الفنان الراحل الصيد، كان يرى فيه شيئا من اليوغا، مع الصيد تنفصل عن الواقع الذي تعيش فيه، تبتعد عن مشكلاته، وعن قضايا السياسة..المخ مشغول بالتركيز في المجهول الذي تصطاده، وأنت تفكر في المجهول تستدعي مجاهيل أخرى، تصبح في عالم آخر من التفكير والرؤى والتخيلات.. الصيد ممتع بهذا المعنى، يجعلك فى حالة حوار مع ذاتك ووجودك».. الصيد انعكس على عمله الفني.. لوحاته ومنحوتاته مليئة برموز بحرية، مراكب وأسماك.. ولهذا ترك شفيق القاهرة قبل سنوات، ليقيم في مملكته في الساحل الشمالي حيث البحر.. في الساحل، كما يقول «أعتبر نفسي ملكا، في القاهرة أنا مملوك»!
أسماك وأحصنة، ومخلوقات أسطورية، بالأبيض والأسود، ولكنها تبدو كمنحوتات، وسفن وموسيقى، تشكل تلك العناصر عامل الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق، أو العم جميل كما كنا نناديه دائما. رحل جميل شفيق أمس، وكان رحيله مفاجأة صادمة لمثقفي مصر، وفنانيها. لم يكن مريضا، بل على العكس، تغلب على مرضه بقوة وإرادة نحات مصري قديم، ينحت تلك الصروح الضخمة والمعابد الهائلة. لم يتوقف عن المشاركة في الأنشطة التشكيلية، أو زيارة المعارض، سافر منذ أيام إلى الأقصر للمشاركة في «ملتقى الأقصر للفنون».. وهناك اختار موته، وكأنه لم يرد أن يرحل بعيدا عن أجداده النحاتين صناع الحضارة.
لم يتوقف جميل شفيق (الملود عام 1938) عن التجريب وطرح الأسئلة على كل أعماله الفنية، لوحات أو منحوتات، من معرض إلى آخر. هو صاحب البصمة والخطوط المتميزة، من القلائل الذين يمكنك أن تتعرف على إبداعهم التشكيلي بدون توقيع. لم يكن يخفي علاقته بالبحر، والصيد في الوقت ذاته.. الذي يعتبره مثل رياضة «اليوغا».. يؤمن شفيق بمقولة طاغور الشهيرة: «الحب والفن كلاهما لا يفسر».. لذا لا يحب تفسير أعماله أو إحالتها إلى دلالات ورموز مباشرة، برغم أن «الخيول» تحتل مساحات كبيرة فى رسوماته باعتبارها «موروثا مصريا» أثار انتباهه منذ الطفولة في مولد السيد البدوي بمدينة طنطا التي ولد فيها.
خلية ثقافية
درس جميل شفيق الفن، حسب رغبته، وبتشجيع الأم التي قضت سنوات طويلة تتستر على كراسات الرسم، خوفا من غضب الأب الذي لم يرد للابن العمل بالرسم، عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، كما يقول: «لم تكن الأجواء الثقافية والفنية المفعمة بأحلام الثورة غريبة عني. بعد تأميم قناة السويس في 1956، رسمت لوحة كبيرة عن المقاومة في بورسعيد وعرضت في مدرستي: كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة، تحتضن الهوايات، كانت هناك غرفتا رسم، وغرفة أشغال، وجمعية رسم، وكنت مسؤولا عن جمعية الرسم، وقد ملأنا المدرسة بصور عرابي مع زميلي الفنان حجازي الذي أصبح رسام كاريكاتير شهيراً. وفي القاهرة، تقاسم السكن مع نبيل تاج ومحيي الدين اللباد. ثم كان عمله بالصحافة، التي كانت حسب تعبيره مغرية جدا، تحديدا ما يسميه صحافة للفلاحين، تحديدا في جريدة التعاون في ظل هذا السياق الموجود بعد 1952 والحديث عن دور العمال والفلاحين، الأمر الذي كان يعني الوصول إلى هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا. في ذلك الوقت كان الوضع أشبه بخلية ثقافية.. كل شيء يتنفس صحافة وسياسة.. عمله في الصحافة تحديدا، صحافة الفلاحين، قدم له نوعا خاصا من المتعة .. كما يقول: «عملي في صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة في القاهرة أن توفره لي حيث كنت أدور في مصر كلها فأذهب إلى الواحات والى سيناء. صحافة القاهرة ربما تصنع منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتني رصيدا ثريا جدا، فمن الرحلات التي لا أستطيع نسيانها طوال عمري رحلة وقت بناء السد العالي وغرق النوبة. فالصحافة جعلتني أكثر قربا من الناس. ماذا يحبون وكيف يمكن أن تقدم لهم أنت شيئا مختلفا. كما أتاحت لي أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلى أقصاها. سمحت لي هذه التجربة بأن «ألف مصر» من الدلتا إلى الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلى النوبة، في إطار قافلة نظمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة، عدت مفتوناً بمتعة الصحراء وبخزين داخلي، وعدد لا بأس به من الاسكتشات.
أمواج كل يوم
في لوحاته، كما في منحوتاته، ثمة حكاية، أو سرد يشبه سرد الرواية... معرضه الأخير «طرح بحر» (الذي أقيم منذ عدة شهور) جمع فيه بين لوحة الأبيض والأسود (الذي اشتهر به) وفن النحت. قدم فيه نماذج من تجربته في التشكيل بالأخشاب التي بدأها في تسعينيات القرن العشرين، إلى جوار عدد من أعماله المرسومة بالأبيض والأسود. لماذا حدثت هذه النقلة من اللوحة إلى المنحوتة يجيب: «منذ أن تركت القاهرة إلى الساحل الشمالي، تعودت أن أجلس أمام البحر، الذي تحمل أمواجه كل يوم أشكالا خشبية تلقي بها على الشاطئ، شدنى الشكل، بدأت فى جمع الأخشاب ذات الأشكال الغريبة المنحوتة..».
كانت القطع المنحوتة نحتا طبيعيا، نحتا تحت تأثير الطبيعة. أشكال منحوتة، بعضها ملون، ربما تكون من مركب قديم غارق، بعضها أكله السوس، والطبيعة تترك تأثيرها على القطعة الخشبية، وأحيانا السوس. كنت أسأل نفسي عن هذه القطعة الخشبية، قصتها في البحر، تاريخها، حركتها، عمرها، هل كانت في مركب، هل غرق المركب بفعل حرب أم بفعل قرصنة أم بفعل الطبيعة.. متى؟ أين؟ كل قطعة تثير أسئلتها الخاصة، وتثير شجنا يدفعك إلى التأمل. في البداية. بدأ شفيق في جمع هذه القطع، ليصنع منها رفوفا، ومناضد، وأشكالا فنية أخرى عديدة... شمعدانات، وشوشا، ثم تطور الأمر إلى نحت ثماثيل كاملة. نحت بحر لم يكن هو المعرض الأول والوحيد لمنحوتات شفيق.. سبقته ثلاثة معارض لنفس الموضوع.. وبالعنوان نفسه «طرح بحر».. الخامات واحدة.. ولكن الأسئلة مختلفة.
يقول جميل شفيق: الفنان هو سؤال، والأسئلة لا تنتهي أساسا، كل ما أطرحه أسئلة تعني استمرارية الحوار مع الطبيعة!
- التجربة الأولى مع النحت.. لم تكن نحتا خالصا.. حتى أن الناقد محمود بقيش أطلق عليها فن «نحوير».. وهو فن يجمع بين النحت والتصوير.. هل ترى المصطلح مناسبا؟
- في معرضي الأول في تجربة النحت، كان هناك نحت داخل إطار اللوحة، ولذا أسماه بقيش بهذا المصطلح، ولكنْ في مرحلتي الثالثة نحت كامل، كتل خشبية كاملة عملت عليها بالإزميل ليخرج فورم كاملا وأشكالا متعددة، سواء أحصنة، أو أسماك.
عندما سألته عن تراث الأجداد القدماء.. المثقل به الفنان المصري، أي فنان مصري، ويطرح عليه سؤال التجاوز؟ أجابني: «أنت ابن زمنك، ابن تراثك، ابن وجودك. أنت لست بعدا واحدا بل مجموعة أبعاد تتشكل. مزيج من الفرعوني والقبطي والإسلامي والشعبي.. أنت مزيج من كل هؤلاء، تمتص كل هذه الثقافات والمدارس وتفرز ما هو خاص بك. النحت الفرعوني له خصائصه وتكوينه ودوره، في المعبد، ولكن عندما تذهب إلى المتحف المصري ستجد منحوتات خشبية صغيرة، هي نحت الشعب أو ما يمكن تسميته اللعب الشعبي. كذا الروماني... وبالنسبة لي أعمالي النحتية أميل فيها إلى التلقائية، هي أشبه بالنحت الطفولي. أنحت ما يشعرني بالانبساط والبهجة بغض النظر عن مصطلحات أبعاد الكتلة، وقوانينها. وقوانين النحت الكلاسيكية».
تجربته الفنية هي تجربة الأبيض والأسود.. يبدو أنه ضد اللون، كان يقول: «كان لي بعض المحاولات في اللون، لكنني سرعان ما كنت أعود مرة أخرى إلى الأبيض والأسود، فأنا أعشق الرسم بهما رغم صعوبة التعامل مع الأحبار، فهي خامة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز. فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره أبداً. عكس التعامل مع خامات اللون تماماً، التي تعطيك المجال للتراجع. هذا الأمر يتطلب من الرسام المزيد من التركيز والصبر والوقت أيضاً.
عشق الفنان الراحل الصيد، كان يرى فيه شيئا من اليوغا، مع الصيد تنفصل عن الواقع الذي تعيش فيه، تبتعد عن مشكلاته، وعن قضايا السياسة..المخ مشغول بالتركيز في المجهول الذي تصطاده، وأنت تفكر في المجهول تستدعي مجاهيل أخرى، تصبح في عالم آخر من التفكير والرؤى والتخيلات.. الصيد ممتع بهذا المعنى، يجعلك فى حالة حوار مع ذاتك ووجودك».. الصيد انعكس على عمله الفني.. لوحاته ومنحوتاته مليئة برموز بحرية، مراكب وأسماك.. ولهذا ترك شفيق القاهرة قبل سنوات، ليقيم في مملكته في الساحل الشمالي حيث البحر.. في الساحل، كما يقول «أعتبر نفسي ملكا، في القاهرة أنا مملوك»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.