حزب الوفد يحيي ذكرى رحيل سعد زغلول ومصطفى النحاس (صور)    عمدة "هوداك" برومانيا يكرم طلاب جامعة سيناء الفائزين بالجائزة الذهبية في مهرجان الفلكلور الدولي    اتحاد المقاولين يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ القطاع من التعثر    الخارجية الجزائرية: المجاعة بقطاع غزة خيار سياسي ونتاج تخطيط وتدبير الكيان الصهيوني    نهائي السوبر السعودي، الأهلي والنصر يتعادلان 2-2 بالوقت الأصلي ويحتكمان لركلات الترجيح (صور)    بمشاركة فريق مصري.. تعرف على المشاركين في البطولة العربية للأندية لليد    محافظ سوهاج يتابع حادث غرق الطالبات ب شاطئ العجمى في الإسكندرية    نائب وزير السياحة وأمين المجلس الأعلى للآثار يتفقدان أعمال ترميم المواقع بالإسكندرية    بدون أنظمة ريجيم قاسية، 10 نصائح لإنقاص الوزن الزائد    الإتجار في السموم وحيازة خرطوش.. جنايات شبرا تقضي بسجن متهمين 6 سنوات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المملوكي
نشر في صوت البلد يوم 29 - 12 - 2016

أسماك وأحصنة، ومخلوقات أسطورية، بالأبيض والأسود، ولكنها تبدو كمنحوتات، وسفن وموسيقى، تشكل تلك العناصر عامل الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق، أو العم جميل كما كنا نناديه دائما. رحل جميل شفيق أمس، وكان رحيله مفاجأة صادمة لمثقفي مصر، وفنانيها. لم يكن مريضا، بل على العكس، تغلب على مرضه بقوة وإرادة نحات مصري قديم، ينحت تلك الصروح الضخمة والمعابد الهائلة. لم يتوقف عن المشاركة في الأنشطة التشكيلية، أو زيارة المعارض، سافر منذ أيام إلى الأقصر للمشاركة في «ملتقى الأقصر للفنون».. وهناك اختار موته، وكأنه لم يرد أن يرحل بعيدا عن أجداده النحاتين صناع الحضارة.
لم يتوقف جميل شفيق (الملود عام 1938) عن التجريب وطرح الأسئلة على كل أعماله الفنية، لوحات أو منحوتات، من معرض إلى آخر. هو صاحب البصمة والخطوط المتميزة، من القلائل الذين يمكنك أن تتعرف على إبداعهم التشكيلي بدون توقيع. لم يكن يخفي علاقته بالبحر، والصيد في الوقت ذاته.. الذي يعتبره مثل رياضة «اليوغا».. يؤمن شفيق بمقولة طاغور الشهيرة: «الحب والفن كلاهما لا يفسر».. لذا لا يحب تفسير أعماله أو إحالتها إلى دلالات ورموز مباشرة، برغم أن «الخيول» تحتل مساحات كبيرة فى رسوماته باعتبارها «موروثا مصريا» أثار انتباهه منذ الطفولة في مولد السيد البدوي بمدينة طنطا التي ولد فيها.
خلية ثقافية
درس جميل شفيق الفن، حسب رغبته، وبتشجيع الأم التي قضت سنوات طويلة تتستر على كراسات الرسم، خوفا من غضب الأب الذي لم يرد للابن العمل بالرسم، عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، كما يقول: «لم تكن الأجواء الثقافية والفنية المفعمة بأحلام الثورة غريبة عني. بعد تأميم قناة السويس في 1956، رسمت لوحة كبيرة عن المقاومة في بورسعيد وعرضت في مدرستي: كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة، تحتضن الهوايات، كانت هناك غرفتا رسم، وغرفة أشغال، وجمعية رسم، وكنت مسؤولا عن جمعية الرسم، وقد ملأنا المدرسة بصور عرابي مع زميلي الفنان حجازي الذي أصبح رسام كاريكاتير شهيراً. وفي القاهرة، تقاسم السكن مع نبيل تاج ومحيي الدين اللباد. ثم كان عمله بالصحافة، التي كانت حسب تعبيره مغرية جدا، تحديدا ما يسميه صحافة للفلاحين، تحديدا في جريدة التعاون في ظل هذا السياق الموجود بعد 1952 والحديث عن دور العمال والفلاحين، الأمر الذي كان يعني الوصول إلى هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا. في ذلك الوقت كان الوضع أشبه بخلية ثقافية.. كل شيء يتنفس صحافة وسياسة.. عمله في الصحافة تحديدا، صحافة الفلاحين، قدم له نوعا خاصا من المتعة .. كما يقول: «عملي في صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة في القاهرة أن توفره لي حيث كنت أدور في مصر كلها فأذهب إلى الواحات والى سيناء. صحافة القاهرة ربما تصنع منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتني رصيدا ثريا جدا، فمن الرحلات التي لا أستطيع نسيانها طوال عمري رحلة وقت بناء السد العالي وغرق النوبة. فالصحافة جعلتني أكثر قربا من الناس. ماذا يحبون وكيف يمكن أن تقدم لهم أنت شيئا مختلفا. كما أتاحت لي أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلى أقصاها. سمحت لي هذه التجربة بأن «ألف مصر» من الدلتا إلى الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلى النوبة، في إطار قافلة نظمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة، عدت مفتوناً بمتعة الصحراء وبخزين داخلي، وعدد لا بأس به من الاسكتشات.
أمواج كل يوم
في لوحاته، كما في منحوتاته، ثمة حكاية، أو سرد يشبه سرد الرواية... معرضه الأخير «طرح بحر» (الذي أقيم منذ عدة شهور) جمع فيه بين لوحة الأبيض والأسود (الذي اشتهر به) وفن النحت. قدم فيه نماذج من تجربته في التشكيل بالأخشاب التي بدأها في تسعينيات القرن العشرين، إلى جوار عدد من أعماله المرسومة بالأبيض والأسود. لماذا حدثت هذه النقلة من اللوحة إلى المنحوتة يجيب: «منذ أن تركت القاهرة إلى الساحل الشمالي، تعودت أن أجلس أمام البحر، الذي تحمل أمواجه كل يوم أشكالا خشبية تلقي بها على الشاطئ، شدنى الشكل، بدأت فى جمع الأخشاب ذات الأشكال الغريبة المنحوتة..».
كانت القطع المنحوتة نحتا طبيعيا، نحتا تحت تأثير الطبيعة. أشكال منحوتة، بعضها ملون، ربما تكون من مركب قديم غارق، بعضها أكله السوس، والطبيعة تترك تأثيرها على القطعة الخشبية، وأحيانا السوس. كنت أسأل نفسي عن هذه القطعة الخشبية، قصتها في البحر، تاريخها، حركتها، عمرها، هل كانت في مركب، هل غرق المركب بفعل حرب أم بفعل قرصنة أم بفعل الطبيعة.. متى؟ أين؟ كل قطعة تثير أسئلتها الخاصة، وتثير شجنا يدفعك إلى التأمل. في البداية. بدأ شفيق في جمع هذه القطع، ليصنع منها رفوفا، ومناضد، وأشكالا فنية أخرى عديدة... شمعدانات، وشوشا، ثم تطور الأمر إلى نحت ثماثيل كاملة. نحت بحر لم يكن هو المعرض الأول والوحيد لمنحوتات شفيق.. سبقته ثلاثة معارض لنفس الموضوع.. وبالعنوان نفسه «طرح بحر».. الخامات واحدة.. ولكن الأسئلة مختلفة.
يقول جميل شفيق: الفنان هو سؤال، والأسئلة لا تنتهي أساسا، كل ما أطرحه أسئلة تعني استمرارية الحوار مع الطبيعة!
- التجربة الأولى مع النحت.. لم تكن نحتا خالصا.. حتى أن الناقد محمود بقيش أطلق عليها فن «نحوير».. وهو فن يجمع بين النحت والتصوير.. هل ترى المصطلح مناسبا؟
- في معرضي الأول في تجربة النحت، كان هناك نحت داخل إطار اللوحة، ولذا أسماه بقيش بهذا المصطلح، ولكنْ في مرحلتي الثالثة نحت كامل، كتل خشبية كاملة عملت عليها بالإزميل ليخرج فورم كاملا وأشكالا متعددة، سواء أحصنة، أو أسماك.
عندما سألته عن تراث الأجداد القدماء.. المثقل به الفنان المصري، أي فنان مصري، ويطرح عليه سؤال التجاوز؟ أجابني: «أنت ابن زمنك، ابن تراثك، ابن وجودك. أنت لست بعدا واحدا بل مجموعة أبعاد تتشكل. مزيج من الفرعوني والقبطي والإسلامي والشعبي.. أنت مزيج من كل هؤلاء، تمتص كل هذه الثقافات والمدارس وتفرز ما هو خاص بك. النحت الفرعوني له خصائصه وتكوينه ودوره، في المعبد، ولكن عندما تذهب إلى المتحف المصري ستجد منحوتات خشبية صغيرة، هي نحت الشعب أو ما يمكن تسميته اللعب الشعبي. كذا الروماني... وبالنسبة لي أعمالي النحتية أميل فيها إلى التلقائية، هي أشبه بالنحت الطفولي. أنحت ما يشعرني بالانبساط والبهجة بغض النظر عن مصطلحات أبعاد الكتلة، وقوانينها. وقوانين النحت الكلاسيكية».
تجربته الفنية هي تجربة الأبيض والأسود.. يبدو أنه ضد اللون، كان يقول: «كان لي بعض المحاولات في اللون، لكنني سرعان ما كنت أعود مرة أخرى إلى الأبيض والأسود، فأنا أعشق الرسم بهما رغم صعوبة التعامل مع الأحبار، فهي خامة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز. فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره أبداً. عكس التعامل مع خامات اللون تماماً، التي تعطيك المجال للتراجع. هذا الأمر يتطلب من الرسام المزيد من التركيز والصبر والوقت أيضاً.
عشق الفنان الراحل الصيد، كان يرى فيه شيئا من اليوغا، مع الصيد تنفصل عن الواقع الذي تعيش فيه، تبتعد عن مشكلاته، وعن قضايا السياسة..المخ مشغول بالتركيز في المجهول الذي تصطاده، وأنت تفكر في المجهول تستدعي مجاهيل أخرى، تصبح في عالم آخر من التفكير والرؤى والتخيلات.. الصيد ممتع بهذا المعنى، يجعلك فى حالة حوار مع ذاتك ووجودك».. الصيد انعكس على عمله الفني.. لوحاته ومنحوتاته مليئة برموز بحرية، مراكب وأسماك.. ولهذا ترك شفيق القاهرة قبل سنوات، ليقيم في مملكته في الساحل الشمالي حيث البحر.. في الساحل، كما يقول «أعتبر نفسي ملكا، في القاهرة أنا مملوك»!
أسماك وأحصنة، ومخلوقات أسطورية، بالأبيض والأسود، ولكنها تبدو كمنحوتات، وسفن وموسيقى، تشكل تلك العناصر عامل الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق، أو العم جميل كما كنا نناديه دائما. رحل جميل شفيق أمس، وكان رحيله مفاجأة صادمة لمثقفي مصر، وفنانيها. لم يكن مريضا، بل على العكس، تغلب على مرضه بقوة وإرادة نحات مصري قديم، ينحت تلك الصروح الضخمة والمعابد الهائلة. لم يتوقف عن المشاركة في الأنشطة التشكيلية، أو زيارة المعارض، سافر منذ أيام إلى الأقصر للمشاركة في «ملتقى الأقصر للفنون».. وهناك اختار موته، وكأنه لم يرد أن يرحل بعيدا عن أجداده النحاتين صناع الحضارة.
لم يتوقف جميل شفيق (الملود عام 1938) عن التجريب وطرح الأسئلة على كل أعماله الفنية، لوحات أو منحوتات، من معرض إلى آخر. هو صاحب البصمة والخطوط المتميزة، من القلائل الذين يمكنك أن تتعرف على إبداعهم التشكيلي بدون توقيع. لم يكن يخفي علاقته بالبحر، والصيد في الوقت ذاته.. الذي يعتبره مثل رياضة «اليوغا».. يؤمن شفيق بمقولة طاغور الشهيرة: «الحب والفن كلاهما لا يفسر».. لذا لا يحب تفسير أعماله أو إحالتها إلى دلالات ورموز مباشرة، برغم أن «الخيول» تحتل مساحات كبيرة فى رسوماته باعتبارها «موروثا مصريا» أثار انتباهه منذ الطفولة في مولد السيد البدوي بمدينة طنطا التي ولد فيها.
خلية ثقافية
درس جميل شفيق الفن، حسب رغبته، وبتشجيع الأم التي قضت سنوات طويلة تتستر على كراسات الرسم، خوفا من غضب الأب الذي لم يرد للابن العمل بالرسم، عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، كما يقول: «لم تكن الأجواء الثقافية والفنية المفعمة بأحلام الثورة غريبة عني. بعد تأميم قناة السويس في 1956، رسمت لوحة كبيرة عن المقاومة في بورسعيد وعرضت في مدرستي: كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة، تحتضن الهوايات، كانت هناك غرفتا رسم، وغرفة أشغال، وجمعية رسم، وكنت مسؤولا عن جمعية الرسم، وقد ملأنا المدرسة بصور عرابي مع زميلي الفنان حجازي الذي أصبح رسام كاريكاتير شهيراً. وفي القاهرة، تقاسم السكن مع نبيل تاج ومحيي الدين اللباد. ثم كان عمله بالصحافة، التي كانت حسب تعبيره مغرية جدا، تحديدا ما يسميه صحافة للفلاحين، تحديدا في جريدة التعاون في ظل هذا السياق الموجود بعد 1952 والحديث عن دور العمال والفلاحين، الأمر الذي كان يعني الوصول إلى هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا. في ذلك الوقت كان الوضع أشبه بخلية ثقافية.. كل شيء يتنفس صحافة وسياسة.. عمله في الصحافة تحديدا، صحافة الفلاحين، قدم له نوعا خاصا من المتعة .. كما يقول: «عملي في صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة في القاهرة أن توفره لي حيث كنت أدور في مصر كلها فأذهب إلى الواحات والى سيناء. صحافة القاهرة ربما تصنع منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتني رصيدا ثريا جدا، فمن الرحلات التي لا أستطيع نسيانها طوال عمري رحلة وقت بناء السد العالي وغرق النوبة. فالصحافة جعلتني أكثر قربا من الناس. ماذا يحبون وكيف يمكن أن تقدم لهم أنت شيئا مختلفا. كما أتاحت لي أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلى أقصاها. سمحت لي هذه التجربة بأن «ألف مصر» من الدلتا إلى الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلى النوبة، في إطار قافلة نظمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة، عدت مفتوناً بمتعة الصحراء وبخزين داخلي، وعدد لا بأس به من الاسكتشات.
أمواج كل يوم
في لوحاته، كما في منحوتاته، ثمة حكاية، أو سرد يشبه سرد الرواية... معرضه الأخير «طرح بحر» (الذي أقيم منذ عدة شهور) جمع فيه بين لوحة الأبيض والأسود (الذي اشتهر به) وفن النحت. قدم فيه نماذج من تجربته في التشكيل بالأخشاب التي بدأها في تسعينيات القرن العشرين، إلى جوار عدد من أعماله المرسومة بالأبيض والأسود. لماذا حدثت هذه النقلة من اللوحة إلى المنحوتة يجيب: «منذ أن تركت القاهرة إلى الساحل الشمالي، تعودت أن أجلس أمام البحر، الذي تحمل أمواجه كل يوم أشكالا خشبية تلقي بها على الشاطئ، شدنى الشكل، بدأت فى جمع الأخشاب ذات الأشكال الغريبة المنحوتة..».
كانت القطع المنحوتة نحتا طبيعيا، نحتا تحت تأثير الطبيعة. أشكال منحوتة، بعضها ملون، ربما تكون من مركب قديم غارق، بعضها أكله السوس، والطبيعة تترك تأثيرها على القطعة الخشبية، وأحيانا السوس. كنت أسأل نفسي عن هذه القطعة الخشبية، قصتها في البحر، تاريخها، حركتها، عمرها، هل كانت في مركب، هل غرق المركب بفعل حرب أم بفعل قرصنة أم بفعل الطبيعة.. متى؟ أين؟ كل قطعة تثير أسئلتها الخاصة، وتثير شجنا يدفعك إلى التأمل. في البداية. بدأ شفيق في جمع هذه القطع، ليصنع منها رفوفا، ومناضد، وأشكالا فنية أخرى عديدة... شمعدانات، وشوشا، ثم تطور الأمر إلى نحت ثماثيل كاملة. نحت بحر لم يكن هو المعرض الأول والوحيد لمنحوتات شفيق.. سبقته ثلاثة معارض لنفس الموضوع.. وبالعنوان نفسه «طرح بحر».. الخامات واحدة.. ولكن الأسئلة مختلفة.
يقول جميل شفيق: الفنان هو سؤال، والأسئلة لا تنتهي أساسا، كل ما أطرحه أسئلة تعني استمرارية الحوار مع الطبيعة!
- التجربة الأولى مع النحت.. لم تكن نحتا خالصا.. حتى أن الناقد محمود بقيش أطلق عليها فن «نحوير».. وهو فن يجمع بين النحت والتصوير.. هل ترى المصطلح مناسبا؟
- في معرضي الأول في تجربة النحت، كان هناك نحت داخل إطار اللوحة، ولذا أسماه بقيش بهذا المصطلح، ولكنْ في مرحلتي الثالثة نحت كامل، كتل خشبية كاملة عملت عليها بالإزميل ليخرج فورم كاملا وأشكالا متعددة، سواء أحصنة، أو أسماك.
عندما سألته عن تراث الأجداد القدماء.. المثقل به الفنان المصري، أي فنان مصري، ويطرح عليه سؤال التجاوز؟ أجابني: «أنت ابن زمنك، ابن تراثك، ابن وجودك. أنت لست بعدا واحدا بل مجموعة أبعاد تتشكل. مزيج من الفرعوني والقبطي والإسلامي والشعبي.. أنت مزيج من كل هؤلاء، تمتص كل هذه الثقافات والمدارس وتفرز ما هو خاص بك. النحت الفرعوني له خصائصه وتكوينه ودوره، في المعبد، ولكن عندما تذهب إلى المتحف المصري ستجد منحوتات خشبية صغيرة، هي نحت الشعب أو ما يمكن تسميته اللعب الشعبي. كذا الروماني... وبالنسبة لي أعمالي النحتية أميل فيها إلى التلقائية، هي أشبه بالنحت الطفولي. أنحت ما يشعرني بالانبساط والبهجة بغض النظر عن مصطلحات أبعاد الكتلة، وقوانينها. وقوانين النحت الكلاسيكية».
تجربته الفنية هي تجربة الأبيض والأسود.. يبدو أنه ضد اللون، كان يقول: «كان لي بعض المحاولات في اللون، لكنني سرعان ما كنت أعود مرة أخرى إلى الأبيض والأسود، فأنا أعشق الرسم بهما رغم صعوبة التعامل مع الأحبار، فهي خامة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز. فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره أبداً. عكس التعامل مع خامات اللون تماماً، التي تعطيك المجال للتراجع. هذا الأمر يتطلب من الرسام المزيد من التركيز والصبر والوقت أيضاً.
عشق الفنان الراحل الصيد، كان يرى فيه شيئا من اليوغا، مع الصيد تنفصل عن الواقع الذي تعيش فيه، تبتعد عن مشكلاته، وعن قضايا السياسة..المخ مشغول بالتركيز في المجهول الذي تصطاده، وأنت تفكر في المجهول تستدعي مجاهيل أخرى، تصبح في عالم آخر من التفكير والرؤى والتخيلات.. الصيد ممتع بهذا المعنى، يجعلك فى حالة حوار مع ذاتك ووجودك».. الصيد انعكس على عمله الفني.. لوحاته ومنحوتاته مليئة برموز بحرية، مراكب وأسماك.. ولهذا ترك شفيق القاهرة قبل سنوات، ليقيم في مملكته في الساحل الشمالي حيث البحر.. في الساحل، كما يقول «أعتبر نفسي ملكا، في القاهرة أنا مملوك»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.