حزب الوفد يحيي ذكرى رحيل سعد زغلول ومصطفى النحاس (صور)    عمدة "هوداك" برومانيا يكرم طلاب جامعة سيناء الفائزين بالجائزة الذهبية في مهرجان الفلكلور الدولي    اتحاد المقاولين يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ القطاع من التعثر    الخارجية الجزائرية: المجاعة بقطاع غزة خيار سياسي ونتاج تخطيط وتدبير الكيان الصهيوني    نهائي السوبر السعودي، الأهلي والنصر يتعادلان 2-2 بالوقت الأصلي ويحتكمان لركلات الترجيح (صور)    بمشاركة فريق مصري.. تعرف على المشاركين في البطولة العربية للأندية لليد    محافظ سوهاج يتابع حادث غرق الطالبات ب شاطئ العجمى في الإسكندرية    نائب وزير السياحة وأمين المجلس الأعلى للآثار يتفقدان أعمال ترميم المواقع بالإسكندرية    بدون أنظمة ريجيم قاسية، 10 نصائح لإنقاص الوزن الزائد    الإتجار في السموم وحيازة خرطوش.. جنايات شبرا تقضي بسجن متهمين 6 سنوات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«اسمي آدم» روايات متعددة في رواية لا تنتهي
نشر في صوت البلد يوم 30 - 11 - 2016

أنجز إلياس خوري في روايته الأخيرة «أولاد الغيتو - اسمي آدم» عمله الروائي الأكثر طموحاً. رسم الكارثة الفلسطينية وسرد وجوه الإرهاب الصهيوني، وساجل الأدب الفلسطيني وعلّق على الأدب الصهيوني، وأعطى الكتابة الروائية تصوراً جديداً. أغلق نصه، الذي ترفض حكاياته الانغلاق، بفكرة تقول: لا تستنفذ الكتابة الروائية الإبداعية موضوع: الكارثة، إذ لكل فلسطيني رعبه المستمر، وإذ اللغة تضيء الرعب وتحجبه، فما روّع الفلسطيني عام 1948 يتجاوز إمكانيات اللغة.
اقترب الروائي من موضوعه متوسلاً نصوصاً أدبية انطوت على حكاية «وضّاح اليمن»، الشاعر القديم الذي قتله عشقه، ورواية الأميركي هيرمن مليفل «موبي ديك»، حيث الحوت الأبيض يطارد صياداً عصابياً ويرسل بضحاياه إلى قاع المحيط، ورواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، التي قضت على فلسطينيين «هربوا» من أرضهم بالموت. ساجل الروائي نصوصاً من الأدب والحياة تنفتح على الموت، أنتج نصاً له فلسفة أدبية تتكئ على معنى الحكاية، إذ الحكاية جزء من الحياة والحكايات لها حياتها وموتها معاً، وتظل ناقصة في الحالين.
استعار الروائي حكاية «وضاح اليمن» في مقولاتها الثلاث: الحب والفقد والصمت. فكل حب جدير بحكايته ينتظره الفقدان، ولكل عاشق حقيقي صمته الأخير. رحل «وضّاح» مختنقاً بعشقه وصمته، أخمد صوته «زوج» جمع بين مهابة السلطة وضرورة الأسرار. تتكشّف في حكاية الصمت القاتل مصائر فلسطينيين عشقوا أرضهم وانتظروا مجزرة، حال أهل بلدة «اللّد»، وهم موضوع الرواية، الذين رفضوا الهرب وحسم الإرهاب الصهيوني أمرهم في تموز(يوليو) عام 1948. تصرف الروائي بحكاية «الشاعر اليمني»، وجعل منها مجازاً، يضيء وشائج العشق والانتظار المميت.
مات الشاعر في صندوق خشبي محكم الإغلاق صنع في بلاد الشام. ومات فلسطينيو غسان، الذي لا يختلفون عن أهل «اللّد»، في صهريج معدني خانق الهواء. أنتج الشاعر حكاية عشقه المضيء بموته، وحوّل الفلسطينيون الثلاثة موتهم بحكاية كثيرة الأسئلة تصرّف الأول بحياته، أهدرها بصمته، وتصرف الفلسطينيون المغلوبون بحياتهم وقضوا اختناقاً. كأن العشق لا وجود له إلا بصمت ضروري، وكأن الحكاية لا تصبح حكاية إلا إذا أغلقها موت جدير بها. طرح الروائي وهو يضيء موتاً بآخر سؤالين: كيف تُنطق الكتابةُ الصمتَ؟ هل ينفذ المؤرخ إلى ما ينفذ إليه الروائي؟ أنطق الروائي الصمت بالمجاز، وبحوار النصوص الأدبية، الواضح والملتبس معاً، وبلغة مليئة بالإيحاء تقلق الكلمات التي تحجب المعنى، وأنطقه بلعبة «المرايا المتوالدة»، إذ في شظايا كل حكاية ما يستكمل شظايا حكاية أخرى، وفي قدر الإنسان البسيط ما يعبّر عن أقدار جماعة، حال الصبي البريء الذي أرداه الرصاص قتيلاً على الأسلاك الشائكة. حاذر إلياس اللغة البلاغية الجاهزة، واستولد أخرى من الرعب والحب ومفارقات الحياة. أما المؤرخون الذين يستخفّون بالأدب، كما يقول السارد، فلهم أعراف جامدة، يأتي بها «ولع الوثيقة»، التي تختصر عذابات المغلوبين في لغة تقريرية باردة لها شكل القاعدة.
الجريمة والعقاب
في عمل إلياس خوري الكبير ما يستحضر، من قريب أو بعيد، رواية «موبي ديك». فبطل ملفل حاول الانتحار قبل ذهابه إلى السفينة الهالكة، وعاد من رحلة الموت ليسرد رعب ما رآه، وله اسمه التوراتي «أخاب»، الذي تلوح فيه الجريمة والعقاب. ... وللبطل الفلسطيني الذي وزعه إلياس على طرق متعددة، اسمه التوراتي: «آدم» ابن التراب، وله هواجسه الانتحارية، وله «بعثه الغريب» الأقرب إلى مصادفة عجيبة، فقد التقى بأكثر من موت وانتهى غريباً. سرد «آخاب» غضب الحوت الدامي، وعاش الفلسطيني الموت في «اللّد» التي استباحها الإرهاب المسلح، حيث لغة الرصاص والجثث المنتفخة والعطش المهين، وذلك «البياض» الذي يصاحب الموت، ويرسل في الهواء رائحة مرعبة. توزعت «النجاة» على الشخصيتين فكل منهما له صفة «الناجي»، التي استعار الفلسطيني منها اسمه، فأصبح آدم وناجي معاً. نجاة مجزوءة محوّطة بالكآبة.
تصدر أهمية رواية إلياس خوري الاستثنائية من لقاء الكتابة بالكارثة، فالرواية تكتب عادة عن «المعيش»، أو «الواقعي» بلغة أخرى، بعيداً عن الكارثة التي تتضمن «استثنائياً» لا يمكن القبض عليه، تقبض على آثاره ويستعصي عليها ما تبقّى والرواية تكتب، عادة، عن مفرد مغترب، هجرته روحه أو هجره الله، أو عن أفراد متخاصمين لهم أقدارهم المتضاربة، على خلاف رواية الكارثة التي ترصد جمعاً بشرياً يقتنصه الموت ليلاً ونهاراً، وتطارده كوابيس طويلة الإقامة لا يمكن بلوغ قرارها. وضع إلياس المأساة الفلسطينية، المستمرة، في رواية، واشتق منها مأساة الفرد والجماعة، مأساة الإنسان في كل الأزمنة. ولعل ما يفصل بين المعيش المغترب والاغتراب الدامي، الذي يفيض على المكان والزمان، هو ما وزع اللغة على مقامات مختلفة، وحولها إلى سؤال أكثر. فهناك لغة تشبه لغة المؤرخين ولا تشبهها، تصف وتسرد، ولغة روائية لا تشبه إلا ذاتها، تنشق وتنقسم وتتناثر، محدثة عن ذاكرة الروح وبياض الموت وصفرة الهواء وبلاغة المرايا وعنف الموت العاري الموزع على شظايا حكائية لا تنتهي. انطوت اللغة على ما يمزج «الشهادة» بالتاريخ - شهادة على وقائع المجزرة، وعلى ما يواجه وقائع الموت بجمالية اللغة. عبّر إلياس في كتابته عن «مفارقة الكتابة»، التي تصف أرواحاً معذبة وتحتفظ بجمالها الخاص، كما لو كانت الكتابة المبدعة اختباراً وعذاب ومسرّة. وفي هذه اللغة أكثر من لغة، فهي سرد وبوح ورؤيا وهي الأدب والجمال كما يقول السارد.
ولعل عنف الكارثة، كما بياض الموت المخيف، هو الذي أطلق متواليات من الحكايات، فلكل قتيل قصته وللشخصيات الملفعة بالبياض وبالسواد حكاياتها، التي تتضمن أباً استشهد وتحوّل إلى حكاية، وأماً مات زوجها واحتضنت صبياً مات أبوه، وأعمى الحرب البصير وأكثر من «بلدة قتيلة» مشبعة بالأشباح. وفي الحكايات المتوالية مقارنات أدبية، اقتفت آ ثار «الموت الفلسطيني» في كتابة غسان، الذي وحّد بين الخروج والعار، وإميل حبيبي الذي اشتق روايته من حياته، وجبرا الذي أوكل الحكايات إلى الذاكرة «الرومانسية»، ومحمود درويش الذي اشتق كتابة الشعر من بلاغة الصمت، والرسام إسماعيل شموط، الذي رسم الوطن المفقود بعيون الذين فقدوه.
الزمن اللولبي
أنتج نص إلياس خوري فلسفته الأدبية، وهو يتأمل علاقة الحكاية بالموت الحياة، وأنتجها بزمن سردي ثنائي البعد: خطي ولولبي معاً، إذ في الخطي زمن مستقيم يصاحب الفلسطيني السائر إلى المجزرة والمنفى والشتات، وفي الزمن اللولبي الذي يجعل المجزرة الفلسطينية واقعة مستمرة. فالرعب الذي مضى استقر في الحاضر وفي الروح المخنوقة بالذكريات. عبّرت في حكاياتها المتعددة عن الرواية في: اللايقين، مساءلة ما كانه الفلسطيني وما «تبقى» منه، وهو الراحل من اللد إلى حيفا إلى عكا، إلى نيويورك، حيث لا رجوع. ولهذا يأخذ بطل الرواية، وهو مشتق من غيره، أسماء كثيرة فهو: آدم، ابن الأرض، الاسم الأول الذي أسبغه عليه سكان «اللّد القتيلة»، أي الفلسطينيون الذين غدوا ضحية جلاد كان بدوره ضحية، وهو «حسن»، ابن القائد الذي أخد مسدسه من شهيد وأعطاه لشهيد قادم، وهو «ناجي»، الوليد الذي كان أن يقتله الجفاف، وانتهى إلى امرأة عاقر أعطته الحياة وكثيراً من الحكايات.
في اللايقين»، الصادر عن تعدد الأحوال والأشياء، ما يشي بمعنى طويل وبعودة محتملة، فآدم ابن التراب الفلسطيني، وبمجازر لا تنتهي، ففي لعبة الموت في صبرا وشاتيلا ما يستأنف «مجزرة اللد» وغيرها. كسر الروائي «اللايقين» المشبع بالتشاؤم بمنطق «الحكاية»، التي هي حياة وصوراً من الحياة، والحكايات لا تنتهي. ولعل ما تأتي به الحياة ولا تأتي به، هو ما وضع في الرواية مكاناً واسعاً «للذاكرة»، التي ترى ما يراه صاحبها، أكان فلسطينياً أعمى انتهى إلى القاهرة، أو حاصرته أكثر من خيبة وانتهى إلى نيويورك.
أوكل إلياس خوري إلى موهبته، المصقولة بالاجتهاد والمعرفة، الجمع بين الروائي و «المؤرخ المختلف»، مستكملاً ما بدأه في «باب الشمس»، محاوراً عمله الروائي السابق بروايته اللاحقة، وهما ترسمان فلسطينياً محتضراً وفلسطينية غريبة ترقص في ساحة الموت البذيئة. قدّم الروائي اللبناني شهادة عن فلسطن عن طريق اللغة، وشهادة عن إبداع اللغة بمواد فلسطينية، وبنى رواية واسعة بمواد أدبية، تستعير «التاريخ» وترفضه، وتعرف تفاصيله وتمنحه تأويلاً جديداً. ذلك أن في طبقات الحكاية، المحدثة عن فلسطين المستمرة في نكبتها، ما يستولد «التباساً» خصيباً يتحث عن الموت والحياة وما بينهما وعن إنسان ينصر قضيته ويهزمها معاً.
انتهى إلياس إلى «شهادة» إبداعية مؤرقة وإلى أكثر من رواية، يقول السارد: «أقنع نفسي بأنني أكتب رواية، لا تشبه الروايات، لأنها تنتمي إلى جنس أدبي لا أعرف له اسماً، ولست متأكداً من وجوده أصلاً». في رواية إلياس أشياء مما قال به سارده، وفي السارد أشياء من تراب فلسطين وعذابها، وفي السارد والرواية فتنة الأدب الكبير، الذي يمحو حدود «الإيديولوجيا»، ويأمر بالاحتفاء بالإبداع الكتابي بعيداً من «نافل إيديولوجي» لا يفيد في شيء.
أنجز إلياس خوري في روايته الأخيرة «أولاد الغيتو - اسمي آدم» عمله الروائي الأكثر طموحاً. رسم الكارثة الفلسطينية وسرد وجوه الإرهاب الصهيوني، وساجل الأدب الفلسطيني وعلّق على الأدب الصهيوني، وأعطى الكتابة الروائية تصوراً جديداً. أغلق نصه، الذي ترفض حكاياته الانغلاق، بفكرة تقول: لا تستنفذ الكتابة الروائية الإبداعية موضوع: الكارثة، إذ لكل فلسطيني رعبه المستمر، وإذ اللغة تضيء الرعب وتحجبه، فما روّع الفلسطيني عام 1948 يتجاوز إمكانيات اللغة.
اقترب الروائي من موضوعه متوسلاً نصوصاً أدبية انطوت على حكاية «وضّاح اليمن»، الشاعر القديم الذي قتله عشقه، ورواية الأميركي هيرمن مليفل «موبي ديك»، حيث الحوت الأبيض يطارد صياداً عصابياً ويرسل بضحاياه إلى قاع المحيط، ورواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، التي قضت على فلسطينيين «هربوا» من أرضهم بالموت. ساجل الروائي نصوصاً من الأدب والحياة تنفتح على الموت، أنتج نصاً له فلسفة أدبية تتكئ على معنى الحكاية، إذ الحكاية جزء من الحياة والحكايات لها حياتها وموتها معاً، وتظل ناقصة في الحالين.
استعار الروائي حكاية «وضاح اليمن» في مقولاتها الثلاث: الحب والفقد والصمت. فكل حب جدير بحكايته ينتظره الفقدان، ولكل عاشق حقيقي صمته الأخير. رحل «وضّاح» مختنقاً بعشقه وصمته، أخمد صوته «زوج» جمع بين مهابة السلطة وضرورة الأسرار. تتكشّف في حكاية الصمت القاتل مصائر فلسطينيين عشقوا أرضهم وانتظروا مجزرة، حال أهل بلدة «اللّد»، وهم موضوع الرواية، الذين رفضوا الهرب وحسم الإرهاب الصهيوني أمرهم في تموز(يوليو) عام 1948. تصرف الروائي بحكاية «الشاعر اليمني»، وجعل منها مجازاً، يضيء وشائج العشق والانتظار المميت.
مات الشاعر في صندوق خشبي محكم الإغلاق صنع في بلاد الشام. ومات فلسطينيو غسان، الذي لا يختلفون عن أهل «اللّد»، في صهريج معدني خانق الهواء. أنتج الشاعر حكاية عشقه المضيء بموته، وحوّل الفلسطينيون الثلاثة موتهم بحكاية كثيرة الأسئلة تصرّف الأول بحياته، أهدرها بصمته، وتصرف الفلسطينيون المغلوبون بحياتهم وقضوا اختناقاً. كأن العشق لا وجود له إلا بصمت ضروري، وكأن الحكاية لا تصبح حكاية إلا إذا أغلقها موت جدير بها. طرح الروائي وهو يضيء موتاً بآخر سؤالين: كيف تُنطق الكتابةُ الصمتَ؟ هل ينفذ المؤرخ إلى ما ينفذ إليه الروائي؟ أنطق الروائي الصمت بالمجاز، وبحوار النصوص الأدبية، الواضح والملتبس معاً، وبلغة مليئة بالإيحاء تقلق الكلمات التي تحجب المعنى، وأنطقه بلعبة «المرايا المتوالدة»، إذ في شظايا كل حكاية ما يستكمل شظايا حكاية أخرى، وفي قدر الإنسان البسيط ما يعبّر عن أقدار جماعة، حال الصبي البريء الذي أرداه الرصاص قتيلاً على الأسلاك الشائكة. حاذر إلياس اللغة البلاغية الجاهزة، واستولد أخرى من الرعب والحب ومفارقات الحياة. أما المؤرخون الذين يستخفّون بالأدب، كما يقول السارد، فلهم أعراف جامدة، يأتي بها «ولع الوثيقة»، التي تختصر عذابات المغلوبين في لغة تقريرية باردة لها شكل القاعدة.
الجريمة والعقاب
في عمل إلياس خوري الكبير ما يستحضر، من قريب أو بعيد، رواية «موبي ديك». فبطل ملفل حاول الانتحار قبل ذهابه إلى السفينة الهالكة، وعاد من رحلة الموت ليسرد رعب ما رآه، وله اسمه التوراتي «أخاب»، الذي تلوح فيه الجريمة والعقاب. ... وللبطل الفلسطيني الذي وزعه إلياس على طرق متعددة، اسمه التوراتي: «آدم» ابن التراب، وله هواجسه الانتحارية، وله «بعثه الغريب» الأقرب إلى مصادفة عجيبة، فقد التقى بأكثر من موت وانتهى غريباً. سرد «آخاب» غضب الحوت الدامي، وعاش الفلسطيني الموت في «اللّد» التي استباحها الإرهاب المسلح، حيث لغة الرصاص والجثث المنتفخة والعطش المهين، وذلك «البياض» الذي يصاحب الموت، ويرسل في الهواء رائحة مرعبة. توزعت «النجاة» على الشخصيتين فكل منهما له صفة «الناجي»، التي استعار الفلسطيني منها اسمه، فأصبح آدم وناجي معاً. نجاة مجزوءة محوّطة بالكآبة.
تصدر أهمية رواية إلياس خوري الاستثنائية من لقاء الكتابة بالكارثة، فالرواية تكتب عادة عن «المعيش»، أو «الواقعي» بلغة أخرى، بعيداً عن الكارثة التي تتضمن «استثنائياً» لا يمكن القبض عليه، تقبض على آثاره ويستعصي عليها ما تبقّى والرواية تكتب، عادة، عن مفرد مغترب، هجرته روحه أو هجره الله، أو عن أفراد متخاصمين لهم أقدارهم المتضاربة، على خلاف رواية الكارثة التي ترصد جمعاً بشرياً يقتنصه الموت ليلاً ونهاراً، وتطارده كوابيس طويلة الإقامة لا يمكن بلوغ قرارها. وضع إلياس المأساة الفلسطينية، المستمرة، في رواية، واشتق منها مأساة الفرد والجماعة، مأساة الإنسان في كل الأزمنة. ولعل ما يفصل بين المعيش المغترب والاغتراب الدامي، الذي يفيض على المكان والزمان، هو ما وزع اللغة على مقامات مختلفة، وحولها إلى سؤال أكثر. فهناك لغة تشبه لغة المؤرخين ولا تشبهها، تصف وتسرد، ولغة روائية لا تشبه إلا ذاتها، تنشق وتنقسم وتتناثر، محدثة عن ذاكرة الروح وبياض الموت وصفرة الهواء وبلاغة المرايا وعنف الموت العاري الموزع على شظايا حكائية لا تنتهي. انطوت اللغة على ما يمزج «الشهادة» بالتاريخ - شهادة على وقائع المجزرة، وعلى ما يواجه وقائع الموت بجمالية اللغة. عبّر إلياس في كتابته عن «مفارقة الكتابة»، التي تصف أرواحاً معذبة وتحتفظ بجمالها الخاص، كما لو كانت الكتابة المبدعة اختباراً وعذاب ومسرّة. وفي هذه اللغة أكثر من لغة، فهي سرد وبوح ورؤيا وهي الأدب والجمال كما يقول السارد.
ولعل عنف الكارثة، كما بياض الموت المخيف، هو الذي أطلق متواليات من الحكايات، فلكل قتيل قصته وللشخصيات الملفعة بالبياض وبالسواد حكاياتها، التي تتضمن أباً استشهد وتحوّل إلى حكاية، وأماً مات زوجها واحتضنت صبياً مات أبوه، وأعمى الحرب البصير وأكثر من «بلدة قتيلة» مشبعة بالأشباح. وفي الحكايات المتوالية مقارنات أدبية، اقتفت آ ثار «الموت الفلسطيني» في كتابة غسان، الذي وحّد بين الخروج والعار، وإميل حبيبي الذي اشتق روايته من حياته، وجبرا الذي أوكل الحكايات إلى الذاكرة «الرومانسية»، ومحمود درويش الذي اشتق كتابة الشعر من بلاغة الصمت، والرسام إسماعيل شموط، الذي رسم الوطن المفقود بعيون الذين فقدوه.
الزمن اللولبي
أنتج نص إلياس خوري فلسفته الأدبية، وهو يتأمل علاقة الحكاية بالموت الحياة، وأنتجها بزمن سردي ثنائي البعد: خطي ولولبي معاً، إذ في الخطي زمن مستقيم يصاحب الفلسطيني السائر إلى المجزرة والمنفى والشتات، وفي الزمن اللولبي الذي يجعل المجزرة الفلسطينية واقعة مستمرة. فالرعب الذي مضى استقر في الحاضر وفي الروح المخنوقة بالذكريات. عبّرت في حكاياتها المتعددة عن الرواية في: اللايقين، مساءلة ما كانه الفلسطيني وما «تبقى» منه، وهو الراحل من اللد إلى حيفا إلى عكا، إلى نيويورك، حيث لا رجوع. ولهذا يأخذ بطل الرواية، وهو مشتق من غيره، أسماء كثيرة فهو: آدم، ابن الأرض، الاسم الأول الذي أسبغه عليه سكان «اللّد القتيلة»، أي الفلسطينيون الذين غدوا ضحية جلاد كان بدوره ضحية، وهو «حسن»، ابن القائد الذي أخد مسدسه من شهيد وأعطاه لشهيد قادم، وهو «ناجي»، الوليد الذي كان أن يقتله الجفاف، وانتهى إلى امرأة عاقر أعطته الحياة وكثيراً من الحكايات.
في اللايقين»، الصادر عن تعدد الأحوال والأشياء، ما يشي بمعنى طويل وبعودة محتملة، فآدم ابن التراب الفلسطيني، وبمجازر لا تنتهي، ففي لعبة الموت في صبرا وشاتيلا ما يستأنف «مجزرة اللد» وغيرها. كسر الروائي «اللايقين» المشبع بالتشاؤم بمنطق «الحكاية»، التي هي حياة وصوراً من الحياة، والحكايات لا تنتهي. ولعل ما تأتي به الحياة ولا تأتي به، هو ما وضع في الرواية مكاناً واسعاً «للذاكرة»، التي ترى ما يراه صاحبها، أكان فلسطينياً أعمى انتهى إلى القاهرة، أو حاصرته أكثر من خيبة وانتهى إلى نيويورك.
أوكل إلياس خوري إلى موهبته، المصقولة بالاجتهاد والمعرفة، الجمع بين الروائي و «المؤرخ المختلف»، مستكملاً ما بدأه في «باب الشمس»، محاوراً عمله الروائي السابق بروايته اللاحقة، وهما ترسمان فلسطينياً محتضراً وفلسطينية غريبة ترقص في ساحة الموت البذيئة. قدّم الروائي اللبناني شهادة عن فلسطن عن طريق اللغة، وشهادة عن إبداع اللغة بمواد فلسطينية، وبنى رواية واسعة بمواد أدبية، تستعير «التاريخ» وترفضه، وتعرف تفاصيله وتمنحه تأويلاً جديداً. ذلك أن في طبقات الحكاية، المحدثة عن فلسطين المستمرة في نكبتها، ما يستولد «التباساً» خصيباً يتحث عن الموت والحياة وما بينهما وعن إنسان ينصر قضيته ويهزمها معاً.
انتهى إلياس إلى «شهادة» إبداعية مؤرقة وإلى أكثر من رواية، يقول السارد: «أقنع نفسي بأنني أكتب رواية، لا تشبه الروايات، لأنها تنتمي إلى جنس أدبي لا أعرف له اسماً، ولست متأكداً من وجوده أصلاً». في رواية إلياس أشياء مما قال به سارده، وفي السارد أشياء من تراب فلسطين وعذابها، وفي السارد والرواية فتنة الأدب الكبير، الذي يمحو حدود «الإيديولوجيا»، ويأمر بالاحتفاء بالإبداع الكتابي بعيداً من «نافل إيديولوجي» لا يفيد في شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.