إصابة 10 أشخاص في انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج    إصابة 5 عمال في مشاجرة بسوهاج لتنافس على الزبائن    إسماعيل هنية كشف خيانة الثورة المضادة فباركوا قتله .. عام على اغتيال قائد حماس    الإخوان : وقف نزيف الحرب على غزة لن يمر عبر تل أبيب    سفير مصر باليونان: مشاركة المصريين فى انتخابات الشيوخ تعكس وعيهم بالواجب الوطنى    26 دولة تعلن غلق لجان تصويت المصريين بالخارج فى انتخابات مجلس الشيوخ 2025    رسميا الآن بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2 أغسطس 2025    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم بلدتين في الضفة الغربية    روسيا ومدغشقر تبحثان إمكانية إطلاق رحلات جوية بمشاركة شركات طيران إقليمية    أخبار × 24 ساعة.. وظائف فى البوسنة والهرسك بمرتبات تصل ل50 ألف جنيه    ماسك يؤكد وجود شخصيات ديمقراطية بارزة في "قائمة إبستين"    كواليس من محاكمة صدام حسين.. ممثل الدفاع: طلب جورج بوش وتوني بلير لهذا السبب    عبدالمنعم سعيد: الدمار الممنهج في غزة يكشف عن نية واضحة لتغيير هوية القطاع    الصفاقسي التونسي يكشف موعد الإعلان عن علي معلول وموقفهم من المثلوثي    نجم الزمالك السابق: فترة الإعداد "مثالية".. والصفقات جيدة وتحتاج إلى وقت    خناقة مرتقبة بين ممدوح عباس وجون إدوارد.. نجم الزمالك السابق يكشف    ستوري نجوم كرة القدم.. صلاح يودع لويس دياز.. ومحمد هاني يُشيد بأداء كريم فهمي    الزمالك يحسم صفقة الفلسطيني عدي الدباغ بعقد يمتد لأربع سنوات    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    بيراميدز يستهدف صفقة محلية سوبر (تفاصيل)    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    كيف يتصدى قانون الطفل للحسابات المحرضة على الانحراف؟    زفاف إلى الجنة، عريس الحامول يلحق ب"عروسه" ووالدتها في حادث كفر الشيخ المروع    مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة في سيوة    علا شوشة تكشف تفاصيل مشاجرة أم مكة بقناة الشمس    «الجو هيقلب».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار وانخفاض درجات الحرارة    مفاجأة عمرو دياب لجمهور العلمين في ختام حفله: مدفع يطلق «تي شيرتات» وهدايا (صور)    كلوي كتيلي تشعل مسرح العلمين ب"حرمت أحبك" و"حلوة يا بلدي".. فيديو    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    حدث بالفن| كارثة بسبب حفل محمد رمضان ومطرب يلغي حفله في الساحل حدادًا على المتوفي    "ظهور نجم الأهلي".. 10 صور من احتفال زوجة عماد متعب بعيد ميلاد ابنتهما    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    حسام موافي يوجه رسالة لشاب أدمن الحشيش بعد وفاة والده    وصول دفعة أطباء جديدة من عدة محافظات إلى مستشفى العريش العام    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    ترامب: نشرنا غواصتين نوويتين عقب تصريحات ميدفيديف "لإنقاذ الناس"    مركز رصد الزلازل الأوروبي: زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب شمال شرق أفغانستان    2 جنيه زيادة فى أسعار «كوكاكولا مصر».. وتجار: «بيعوضوا الخسائر»    منطقة بورسعيد تستضيف اختبارات المرحلة الثانية بمشروع تنمية المواهب "FIFA TDS"    تشييع جثمان فقيد القليوبية بعد مصرعه فى «حفل محمد رمضان»    الشيخ محمد أبو بكر بعد القبض على «أم مكة» و«أم سجدة»: ربنا استجاب دعائى    وزير النقل يتفقد مواقع الخط الأول للقطار الكهربائى السريع «السخنة- العلمين- مطروح»    انتخابات الشيوخ 2025| استمرار التصويت للمصريين بالخارج داخل 14 بلد وغلق الباب في باقي الدول    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يشهد فعاليات اليوم العلمى ل«الفنية العسكرية»    محافظ الإسكندرية يتابع مؤشرات حملة 100 يوم صحة على نطاق الثغر    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    الأسهم الأوروبية تتكبد خسائر أسبوعية بعد أسوأ جلسة منذ أبريل    فريق بحثي بمركز بحوث الصحراء يتابع مشروع زراعة عباد الشمس الزيتي بطور سيناء    مصر تتعاون مع شركات عالمية ومحلية لتنفيذ مشروع المسح الجوي للمعادن    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    إدارة مكافحة الآفات بالزراعة تنفذ 158 حملة مرور ميداني خلال يوليو    من تطوير الكوربة لافتتاح مجزر الحمام.. أبرز فعاليات التنمية المحلية في أسبوع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطل ياسمينة رضا يخنق زوجته عبثياً
نشر في صوت البلد يوم 22 - 11 - 2016

التراجيديا هي مسرحية هزلية بالمقلوب، وفقاً للكاتب المسرحي الفرنسي جورج فيدو. ولا شك في أن الكاتبة الفرنسية (من أصول إيرانية) ياسمينة رضا، الناشطة في الميدان المسرحي، تعرف ذلك جيداً، كما يظهر من روايتها الأخيرة «بابل» التي صدرت حديثاً عن دار «فلاماريون» الباريسية وحصدت قبل أيام جائزة «رونودو» العريقة.
وفعلاً، نضحك ونحزن مراراً لدى قراءة هذه الرواية التي تنطلق أحداثها خلال سهرة بورجوازية في إحدى ضواحي باريس بين أصدقاء على مشارف الشيخوخة، وتفضي بسرعة إلى جريمة يرتكبها رجل خانقاً زوجته فور عودتهما إلى المنزل لسببين تافهين: اختلاف في وجهتي نظرهما حول موضوع تربية الدجاج، ورفْس الزوجة القط الذي يعيش معهما من أجل إخراجه من غرفة النوم.
ولسرد قصّتها، تضع رضا منذ الصفحات الأولى الديكور الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية: شقّتان، الواحدة فوق الأخرى، ودرج المبنى ومصعده. وفي هذا الديكور تقدّم شخصياتها الرئيسة: جان لينو، وهو إيطالي رقيق يعمل في متجر لبيع الأدوات المنزلية الكهربائية، زوجته ليدي المغنية والناشطة في مجال حقوق الحيوان، جارتهما إليزابيت الباحثة في معهد «باستور» العلمي في باريس وزوجها بيار.
إليزابيت التي تؤدّي دور الراوية هي التي ستنظّم السهرة المذكورة في مناسبة حلول «عيد الربيع». سهرة يمضي جميع المدعوين خلالها وقتاً ممتعاً، وينجح جان لينو في إضحاكهم عبر سخريته اللطيفة من زوجته ليدي التي لا تأكل الدجاج إلا إذا كان قد تربّى بحرّية خارج الأقفاص. ولكن بعد منتصف الليل، تستيقظ إليزابيت وزوجها بيار على صوت طرقات خفيفة على باب شقّتهما. إنه جان لينو مجدداً الذي نزل من شقّته لإخبارهما بأنه خنق ليدي إثر مجادلة بينهما.
فقدت إليزابيت قبل أيامٍ قليلة أمّها التي لم تكن تتّفق كثيراً معها، ونجدها تتحمّل أختها الصغرى التي تراكم العلاقات العاطفية التعيسة. ولتلطيف واقعها اليومي المملّ، ترتبط مع جان لينو بصداقة رقيقة وعفيفة مبنية على شعور مشترك بعزلةٍ وعدم انتماء إلى هذا العالم وأشيائه، وفي الوقت نفسه على رغبة في عدم الرضوخ لهذا الشعور، تماماً مثل تلك الشخصيات الضائعة التي صوّرها الفنان روبرت فرانك في كتابه الشهير «الأميركيون» الذي تعود الراوية إليه مراراً للتعليق على صوره.
باختصار، تستعين رضا بقصّة تصلح لخبر عام في جريدة، وبشخصيات رقيقة ومؤثّرة في مواصفاتها العادية، للتأمّل في غرابة الأشياء التي تحيط بنا، وفي حركة الحياة اليومية التي تدفعنا إلى الاعتناء بمظهرنا والبحث عن علاقات وروابط مع الآخرين، وفي الوقت نفسه، إلى قتل أقرب الأشخاص إلينا خلال نوبة جنون. ولتسيير تأمّلاتها هذه واستطراداتها الغزيرة، الطريفة تارةً والقارصة في سخريتها تارةً أخرى، تلجأ إلى الملموس والواقعي، وإلى أسلوبٍ كتابي حاد يساعدها برشاقته وقدراته التعبيرية الكبيرة على تعرية مفاهيمنا الفارغة وعبثية وجودنا في هذا الكون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رضا توحي بما تريد إيصاله إلى القارئ أكثر مما تسعى إلى الإفصاح عنه. من هنا ذلك الإحساس بحزنٍ وألمٍ يكمنان لنا بصمتٍ على طول صفحات روايتها التي لا نبالغ في اعتبارها رواية الضياع بامتياز. ضياع قصة حب أولى عرفتها إليزابيت في شبابها ولم تشفَ من تجربتها الجميلة وحيويتها، وضياع انتمائي بالنسبة إلى جان لينو الذي فشل في التأقّلم في فرنسا بسبب ماضي والديه الإيطاليين المأسوي.
وهذا ما يقودنا إلى الموضوع الرئيس في «بابل»، ونقصد المنفى. ففي مجتمع فرنسي يهاب أفراده اليوم توافُد آلاف اللاجئين إليه، تهمس رضا في أذن قارئها بأن هذا المنفى هو في قلب كل واحدٍ منا. منفى من الذات لأنه «لا يمكن أن نأمل بأي استمرارية في هذا الوجود». منفى من الآخرين لأن «اللغة لا تترجم سوى عجزها عن التعبير»، على رغم قدرتها على قول بعضٍ من أسرارنا المخفية ومخاوفنا الباطنة التي لا نرغب في مشاركتها مع أحد. ومنفى من الوطن الأم الذي يعكسه وضع جان لينو وتدلّل عليه بقوة فقرة من مزامير النبي داوود كان يقرأها والد هذا الأخير له كل ليلة قبل أن ينام: «على أنهار بابل، هناك جلسنا، بَكَيْنا أيضاً عندما تذكّرنا صهيون».
وهنالك أيضاً المنفى من سنيّ الطفولة والشباب الذي تعانيه جميع شخصيات الرواية التي تجاوزت سنّ الستين وتبدو مندهشة من إيجاد نفسها في هذه المرحلة المتأخّرة من العمر. ولهذا نراها متلفة، تعيش في ذكرياتها وتحاول الاعتناء بشكلها وملبسها أملاً بعيش قصة حبٍّ جديدة وأخيرة. ولا ننسى الضاحية الباريسية التي تسكنها هذه الشخصيات وتشكّل أيضاً منفى بأجوائها الباردة وحدائقها المهملة وقططها العجوزة وظروف العيش فيها.
وخلف هذا الشعور بالنفي والغربة، يتسلل شبح الموت إلى داخل الرواية، غالباً في شكلٍ خبيث وخفي: «لا أحد يحذّرنا من المحتم. لا يعبر أيُّ ظلٍّ خاطف وبيده منجل»، تقول إليزابيت التي تبدو مع ذلك غريبة عن الموت وفاقدة لأي شعور تجاهه حين تموت أمّها: «توفّيت أمي منذ عشرة أيام. لم أكن أراها كثيراً. لا شيء يُذكر سيتغيّر في حياتي سوى أنه كانت لدي أم في مكانٍ ما على هذه الأرض»، وأيضاً حين تعتني مع جان لينو بجثّة زوجته ليدي، قبل أن تعيره حقيبة سفر حمراء من أجل نقل الجثة من المنزل إلى مكانٍ آخر وإبعاد شبهة القتل عنه.
وبالتالي، تُقابل الروائية المأساة والإحساس بالمنفى والموت بلامبالاة رقيقة تتميّز بها جميع شخصياتها، كما لو أن شيئاً داخل هذه الشخصيات يقيها من العتمة المطلقة، شيئاً غامضاً أو معرفة بأن دورها سيحين عاجلاً أم آجلاً وبأنها في النهاية لا تزن كثيراً في هذا العالم: «ما أهمية ما نحن عليه، ما نفكّر به، وما سنكونه؟ نحن في مكانٍ ما داخل هذا المشهد، إلى أن يأتي اليوم الذي نتوارى فيه».
لكن أكثر ما يفتننا في هذه الرواية، ويشكّل قيمة مركزية فيها، هو قدرة رضا على استخلاص أعمق الأسئلة من أحداثٍ عادية وأفعال يومية بسيطة، ومهارتها في تصوير تلك الأشياء الصغيرة، العابرة، المفرحة تارةً والمحزنة تارةً أخرى، التي تشكّل مجتمعةً حياة ما.
التراجيديا هي مسرحية هزلية بالمقلوب، وفقاً للكاتب المسرحي الفرنسي جورج فيدو. ولا شك في أن الكاتبة الفرنسية (من أصول إيرانية) ياسمينة رضا، الناشطة في الميدان المسرحي، تعرف ذلك جيداً، كما يظهر من روايتها الأخيرة «بابل» التي صدرت حديثاً عن دار «فلاماريون» الباريسية وحصدت قبل أيام جائزة «رونودو» العريقة.
وفعلاً، نضحك ونحزن مراراً لدى قراءة هذه الرواية التي تنطلق أحداثها خلال سهرة بورجوازية في إحدى ضواحي باريس بين أصدقاء على مشارف الشيخوخة، وتفضي بسرعة إلى جريمة يرتكبها رجل خانقاً زوجته فور عودتهما إلى المنزل لسببين تافهين: اختلاف في وجهتي نظرهما حول موضوع تربية الدجاج، ورفْس الزوجة القط الذي يعيش معهما من أجل إخراجه من غرفة النوم.
ولسرد قصّتها، تضع رضا منذ الصفحات الأولى الديكور الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية: شقّتان، الواحدة فوق الأخرى، ودرج المبنى ومصعده. وفي هذا الديكور تقدّم شخصياتها الرئيسة: جان لينو، وهو إيطالي رقيق يعمل في متجر لبيع الأدوات المنزلية الكهربائية، زوجته ليدي المغنية والناشطة في مجال حقوق الحيوان، جارتهما إليزابيت الباحثة في معهد «باستور» العلمي في باريس وزوجها بيار.
إليزابيت التي تؤدّي دور الراوية هي التي ستنظّم السهرة المذكورة في مناسبة حلول «عيد الربيع». سهرة يمضي جميع المدعوين خلالها وقتاً ممتعاً، وينجح جان لينو في إضحاكهم عبر سخريته اللطيفة من زوجته ليدي التي لا تأكل الدجاج إلا إذا كان قد تربّى بحرّية خارج الأقفاص. ولكن بعد منتصف الليل، تستيقظ إليزابيت وزوجها بيار على صوت طرقات خفيفة على باب شقّتهما. إنه جان لينو مجدداً الذي نزل من شقّته لإخبارهما بأنه خنق ليدي إثر مجادلة بينهما.
فقدت إليزابيت قبل أيامٍ قليلة أمّها التي لم تكن تتّفق كثيراً معها، ونجدها تتحمّل أختها الصغرى التي تراكم العلاقات العاطفية التعيسة. ولتلطيف واقعها اليومي المملّ، ترتبط مع جان لينو بصداقة رقيقة وعفيفة مبنية على شعور مشترك بعزلةٍ وعدم انتماء إلى هذا العالم وأشيائه، وفي الوقت نفسه على رغبة في عدم الرضوخ لهذا الشعور، تماماً مثل تلك الشخصيات الضائعة التي صوّرها الفنان روبرت فرانك في كتابه الشهير «الأميركيون» الذي تعود الراوية إليه مراراً للتعليق على صوره.
باختصار، تستعين رضا بقصّة تصلح لخبر عام في جريدة، وبشخصيات رقيقة ومؤثّرة في مواصفاتها العادية، للتأمّل في غرابة الأشياء التي تحيط بنا، وفي حركة الحياة اليومية التي تدفعنا إلى الاعتناء بمظهرنا والبحث عن علاقات وروابط مع الآخرين، وفي الوقت نفسه، إلى قتل أقرب الأشخاص إلينا خلال نوبة جنون. ولتسيير تأمّلاتها هذه واستطراداتها الغزيرة، الطريفة تارةً والقارصة في سخريتها تارةً أخرى، تلجأ إلى الملموس والواقعي، وإلى أسلوبٍ كتابي حاد يساعدها برشاقته وقدراته التعبيرية الكبيرة على تعرية مفاهيمنا الفارغة وعبثية وجودنا في هذا الكون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رضا توحي بما تريد إيصاله إلى القارئ أكثر مما تسعى إلى الإفصاح عنه. من هنا ذلك الإحساس بحزنٍ وألمٍ يكمنان لنا بصمتٍ على طول صفحات روايتها التي لا نبالغ في اعتبارها رواية الضياع بامتياز. ضياع قصة حب أولى عرفتها إليزابيت في شبابها ولم تشفَ من تجربتها الجميلة وحيويتها، وضياع انتمائي بالنسبة إلى جان لينو الذي فشل في التأقّلم في فرنسا بسبب ماضي والديه الإيطاليين المأسوي.
وهذا ما يقودنا إلى الموضوع الرئيس في «بابل»، ونقصد المنفى. ففي مجتمع فرنسي يهاب أفراده اليوم توافُد آلاف اللاجئين إليه، تهمس رضا في أذن قارئها بأن هذا المنفى هو في قلب كل واحدٍ منا. منفى من الذات لأنه «لا يمكن أن نأمل بأي استمرارية في هذا الوجود». منفى من الآخرين لأن «اللغة لا تترجم سوى عجزها عن التعبير»، على رغم قدرتها على قول بعضٍ من أسرارنا المخفية ومخاوفنا الباطنة التي لا نرغب في مشاركتها مع أحد. ومنفى من الوطن الأم الذي يعكسه وضع جان لينو وتدلّل عليه بقوة فقرة من مزامير النبي داوود كان يقرأها والد هذا الأخير له كل ليلة قبل أن ينام: «على أنهار بابل، هناك جلسنا، بَكَيْنا أيضاً عندما تذكّرنا صهيون».
وهنالك أيضاً المنفى من سنيّ الطفولة والشباب الذي تعانيه جميع شخصيات الرواية التي تجاوزت سنّ الستين وتبدو مندهشة من إيجاد نفسها في هذه المرحلة المتأخّرة من العمر. ولهذا نراها متلفة، تعيش في ذكرياتها وتحاول الاعتناء بشكلها وملبسها أملاً بعيش قصة حبٍّ جديدة وأخيرة. ولا ننسى الضاحية الباريسية التي تسكنها هذه الشخصيات وتشكّل أيضاً منفى بأجوائها الباردة وحدائقها المهملة وقططها العجوزة وظروف العيش فيها.
وخلف هذا الشعور بالنفي والغربة، يتسلل شبح الموت إلى داخل الرواية، غالباً في شكلٍ خبيث وخفي: «لا أحد يحذّرنا من المحتم. لا يعبر أيُّ ظلٍّ خاطف وبيده منجل»، تقول إليزابيت التي تبدو مع ذلك غريبة عن الموت وفاقدة لأي شعور تجاهه حين تموت أمّها: «توفّيت أمي منذ عشرة أيام. لم أكن أراها كثيراً. لا شيء يُذكر سيتغيّر في حياتي سوى أنه كانت لدي أم في مكانٍ ما على هذه الأرض»، وأيضاً حين تعتني مع جان لينو بجثّة زوجته ليدي، قبل أن تعيره حقيبة سفر حمراء من أجل نقل الجثة من المنزل إلى مكانٍ آخر وإبعاد شبهة القتل عنه.
وبالتالي، تُقابل الروائية المأساة والإحساس بالمنفى والموت بلامبالاة رقيقة تتميّز بها جميع شخصياتها، كما لو أن شيئاً داخل هذه الشخصيات يقيها من العتمة المطلقة، شيئاً غامضاً أو معرفة بأن دورها سيحين عاجلاً أم آجلاً وبأنها في النهاية لا تزن كثيراً في هذا العالم: «ما أهمية ما نحن عليه، ما نفكّر به، وما سنكونه؟ نحن في مكانٍ ما داخل هذا المشهد، إلى أن يأتي اليوم الذي نتوارى فيه».
لكن أكثر ما يفتننا في هذه الرواية، ويشكّل قيمة مركزية فيها، هو قدرة رضا على استخلاص أعمق الأسئلة من أحداثٍ عادية وأفعال يومية بسيطة، ومهارتها في تصوير تلك الأشياء الصغيرة، العابرة، المفرحة تارةً والمحزنة تارةً أخرى، التي تشكّل مجتمعةً حياة ما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.