7 أسباب تجعلك تشتهي المخللات فجأة.. خطر على صحتك    بعد تراجعه.. هل تستطيع مصر استعادة مستويات انتاج الغاز بحلول 2027؟    الأمن يقترب أكثر من المواطنين.. تدشين قسم شرطة زهراء أكتوبر 2| صور    أمن الفيوم يُعيد شخصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة لأسرته بعد تقديم الرعاية اللازمة    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    وصلة هزار بين أحمد وعمرو سعد على هامش حفله بالساحل الشمالي (فيديو)    وزارة العمل تعلن عن 11 فرصة عمل للمصريين في الأردن برواتب تصل إلى 350 دينارًا    مقاومة المضادات الحيوية: خطر جديد يهدد البشرية    أمر ملكي بإعفاء رئيس مؤسسة الصناعات العسكرية ومساعد وزير الدفاع السعودي    موعد انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر استعدادا لإثيوبيا وبوركينا فاسو .. تعرف عليه    مانشستر يونايتد يدرس التحرك لضم آدم وارتون    جوان ألفينا يبدأ مشواره مع الزمالك بأداء واعد أمام المقاولون العرب    رد فعل شتوتغارت على أداء فولتماد أمام بايرن    أس: تشابي ألونسو ينوي الدفع بماستانتونو ضد أوساسونا    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    الأعلى للجامعات يعلن موعد اختبار المواد التكميلية لشهر سبتمبر 2025    الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء: عدد سكان مصر يبلغ 108 ملايين نسمة    تحريات لكشف ملابسات اتهام مسن بمحاولة التهجم على سيدة وأطفالها بمدينة 6 أكتوبر    محافظ الجيزة يطمئن على الحالة الصحية لشهاب عبد العزيز بطل واقعة فتاة المنيب    إصابة 6 أشخاص فى انقلاب ميكروباص بطريق "الإسماعيلية- الزقازيق" الزراعى    وزير السياحة: حملة "إحنا مصر" تستهدف تحسين تجربة السائح والخدمة المقدمة    تصرف مفاجئ من أحمد حلمي خلال حفلة عمرو دياب بالساحل الشمالي    فنون شعبية وطرب أصيل في ليالي صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رد ساخر من البيت الأبيض بعد تقارير عن العثور على وثائق حساسة تخص قمة ألاسكا    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    وكيل صحه الأقصر يتفقد وحدة الكرنك القديم الصحية لمتابعة سير العمل    صحة الوادى الجديد: انتظام العمل فى المرحلة الثالثة من مبادرة "100 يوم صحة"    إلزام المؤسسات التعليمية بقبول 5% من ذوى الإعاقة في المنظومة.. اعرف التفاصيل    رئيس شئون القران بالأوقاف: مسابقة دولة التلاوة رحلة لاكتشاف جيل جديد من القراء    الداخلية تكشف ملابسات تداول منشور تضمن مشاجرة بين شخصين خلافا على انتظار سيارتيهما بمطروح    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    رئيس هيئة قناة السويس يوجه بصرف مليون جنيه دعما عاجلا لنادى الإسماعيلى    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    ربان مصري يدخل موسوعة جينيس بأطول غطسة تحت المياه لمريض بالشلل الرباعي    مصر تحصد ذهبية التتابع المختلط بختام بطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عامًا    وظائف شاغرة بالمطابع الأميرية.. تعرف على الشروط والتفاصيل    اللواء محمد إبراهيم الدويري: أوهام «إسرائيل الكبرى» لن تتحقق وتصريحات نتنياهو تدق ناقوس الخطر عربياً    136 مجلسا فقهيا لمناقشة خطورة سرقة الكهرباء بمطروح    محافظ كفر الشيخ يدشن مبادرة لزراعة الأشجار المثمرة ضمن مبادرة 100 مليون شجرة    مدير عام الطب البيطري سوهاج يناشد المواطنين سرعة تحصين حيواناتهم ضد العترة الجديدة    شئون البيئة بالشرقية: التفتيش على 63 منشآة غذائية وصناعية وتحرير محاضر للمخالفين    رئيسة القومي للمرأة تهنئ المستشار محمد الشناوي بتوليه رئاسة هيئة النيابة الإدارية    في 3 خطوات بس.. للاستمتاع بحلوى تشيز كيك الفراولة على البارد بطريقة بسيطة    المفتي يوضح حكم النية عند الاغتسال من الجنابة    حزب الجبهة الوطنية: تلقينا أكثر من 170 طلب ترشح لانتخابات مجلس النواب    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يعلن تفاصيل مسابقة "أبو الحسن سلام" للبحث العلمي    مصرع شخص وإصابة 24 آخرين إثر انحراف قطار عن مساره في شرق باكستان    دعوى قضائية أمريكية تتهم منصة روبلوكس ب"تسهيل استغلال الأطفال"    فتنة إسرائيلية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    رويترز: سماع دوي انفجارات قرب محطة للكهرباء في العاصمة اليمنية صنعاء    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    الأونروا: معظم أطفال غزة معرضون للموت إذا لم يتلقوا العلاج فورًا    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس محليًا وعالميًا (تفاصيل)    ملخص وأهداف مباراة ريال مايوركا ضد برشلونة 3-0 فى الدورى الإسبانى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا نحن معا.. وهل هناك بديل آخر؟
نشر في صوت البلد يوم 12 - 11 - 2016

تعرّف المجتمعات بنفسها عبر خطابات حاملة لرؤى متعددة ومركبة، كما تمضي في إعادة التعريف هذه بصورة متعاقبة، بوصفها عملية تعيين لوجود اجتماعي في مواجهة الآخر، لكنها أثناء ذلك تبقى عالقة عند تصنيفات أخرى، موازية ومتناقضة، وهي غالبا حديثة العهد، ممّا يجعل الهوية الوطنية موضع تساؤل، كذلك الأمر في سؤال القومية إزاء العولمة، الولاء للمواطنة أمام مفهوم الهجرة، اختيارية كانت أم قسرية.. تلك الأسئلة، وبقدر ما تبدو شائكة، هي في الوقت ذاته باعثة على التشويش.
ربما كان ذلك ناتجا عما سببته الحربان العالميتان في القرن الماضي وتداعيات كل منهما، والمتمثلة في سقوط دول وظهور أخرى، أو في ضعف ذلك القاسم المشترك الذي كان يجمع المجتمع العالمي، ما أدى إلى ممارسات متعارضة عند النظر إلى الكثير من المجتمعات وهوياتها، حينا بتوسيع فكرتها في نسخة معدلة عن النموذج الكولنيالي، بذريعة توحيد الأمم عبر مؤسسات دولية، كالاتحاد الأوربي، أو البلدان المطلة على المحيط الهادي، أو جامعة الدول العربية، وحينا آخر بتقسيم المجتمع إلى دويلات مجتمعية أصغر، كإقليم الباسك، كيبيك الكندية، كوسوفو وغيرها، هذا بالإضافة إلى تلك العوارض التي تلاحق مجتمعات متعددة الثقافات: أعمال شغب، جرائم سياسية، عمليات إرهابية.
في عصر ينطوي على هكذا مشكلات سياسية وإثنية، لا بد أن تكون فكرة الهوية الشخصية أو المجتمعية شديدة الاضطراب بل خاضعة لآثار التشظي.
التعريفات تحتوي وتقصي في الوقت ذاته، ولكن ماذا عن الآخر، ذاك الذي نعيش إلى جواره، أو الذي يقبع في مكان آخر بعيد؟ كيف يمضي التفاعل معه بتعريف أنفسنا وتعريفه؟ بمعنى كيف يمكن لنا تحديد هويتنا وهوية من حولنا، أو لماذا نحن معا؟
ذلك ما يعاينه الكاتب والروائي الأرجنتيني (كندي الجنسية) ألبرتو مانغويل (مواليد 1948)، في كتابه " مدينة الكلمات"، ترجمة يزن الحاج، دار الساقي، 2016، عبر ما اعتبره "مجموعة أسئلة بدلا من سؤال وحيد، سلسلة ملاحظات بدلا من محاجّة"، والتي جاءت في شكل خمس محاضرات ألقيت ضمن "محاضرات ماسي" التي ألقاها عام 2007، والتي تنطوي على ثيمة أساسية تتعلق ب"العيش المشترك".
يذكر مانغويل في نقاشه مع الكاتب الكندي رونالد رايت، أنه فكر في أن يطلق سؤال "لماذا نحن معا؟" عنوانا لمحاضراته، وكان رد الكاتب "وهل هناك بديل آخر؟".
كان ثمة نهجا مختلفا في محاضراته تلك، كونها اعتمدت القصص، لأنها لا تنتظر إجابات قاطعة -عكس المعادلات العلمية- بل ستبقى بمثابة أسئلة، مصاغة بكلمات الآخرين، وبأثر ممارسة مستمدة من القراءة في كتبهم، خاصة رواياتهم، حكاياتهم وقصصهم، يقول مانغويل “انظُر إلى ما يقوله الكتاب، فربما تخبركَ الكتب والقصص عن مفاتيح سرية للقلبِ البشري".
ربما لا يخلو الأمر من الحيرة بل هو اعتراف بها، ذلك ما يستدعي استحضار العديد من الأسئلة المضافة: كيف يمكن إيجاد الهوية بالكلمات، بوصفها أداة نتواصل بها في فهمنا للعالم؟ ما هو دور الراوي في مثل هذا المسعى؟ كيف تساعدنا القصص على إدراك أنفسنا وتصور الآخرين، وهل بإمكانها أن تمنح هوية لمجتمع بأكمله؟ هل يمكن للقصص أن تغيرنا وتغير العالم الذي نعيشه؟
مفاتيح سرية للقلب البشري
كاسندرا، الكاهنة الإغريقية التي وهبها الإله أبولو نعمة التنبؤ شرط ألّا يصدقها أحد، جاء اسمها استعارة لمحاضرة أولى في الكتاب عنوانها "صوت كاسندرا". يبين الكاتب، في البداية، أن فكرة اللغة بوصفها أداة تعبير مشتركة تصوغ وتسمي الواقع أثناء تشكله، مازالت فكرة صالحة حتى هذا اليوم. وهي اللغة ذاتها التي ظهرت قبل خمسة آلاف عام، أداة مشتركة مكّنت الرجال والنساء من أن تصبح مرجعياتهم متماثلة، وأن تكون كلماتهم قادرة على أن تكشف هذا الواقع المدرك. في سنوات العالم الأولى، بدت اللغة وكأنها تمثل الزمان والمكان معا، ومن هنا كانت الكتابة السومرية رموزا توصّف أحداث الواقع.
الكاتب مانغويل يستعين بنتاج وحياة الروائي الألماني، الفريد دوبلن، والذي يصفه بكونه أعظم روائيي القرن العشرين. وكانت موضوعات كتاباته الأساسية تدور حول فكرة الهوية المتغيرة في القرن العشرين.
كتب هذا الروائي في الخمسينات مؤلفاته الأبرز، مبينا الإساءة التي تعرض لها المعنى في ظل الرايخ الثالث. اللغة حسب دوبلن، لا تعيد حكاية الماضي بل تتصوّره، إنها بمعنى ما " ترغم الواقع على إظهار نفسه، تنقّب في أعماقه، وتعرض المواقف الجوهرية، الكبيرة والصغيرة من الوضع البشري"، وتسمح لنا فعليا بمعرفة لِمَ نحن معا، هي أيضا صيغة من صيغ حب الآخر.
وكما يذكر دوبلن، ستكون القصص عندئذ وسيلة تسجيل لتجاربنا وتجارب الآخرين، تمنح صيغا سردية لذاكرتنا، تعلمنا ألا ننسى، ومعها ستكون المكتبات مخازن تلك الذاكرة. القصص تساعد بتنويرنا وتبيان الطريق لنا، بتغذية وعينا، وهي إدراك للمشترك ما بيننا والآخرين، فيما الكلمات ستدافع عنا بالتأكيد.
الخوف من الآخر هو الخوف من أنفسنا
كان الشعراء الأيرلنديون في العصور الوسطى يحمون حقول القمح والشعير، بإلقاء الشعر في الحقول التي احتلتها القوارض، تلك القصائد التي ستدفع الجرذان إلى الموت.. نعم، فعبر الكلمة يصوغ المبدعون الأشياء، ويمنحونها هويتها الجوهرية.
لكن المبدعين يعانون لعنة كاسندرا، وهي عزوف الآخرين عن الإنصات لهم وتصديق حكاياتهم. كانت كاسندرا تصوغ رؤيتها للعالم بحساسية تختلف عما يرغب فيه أبناء مدينتها الطرواديون، وكان واجبها أيضا أن تبوح لا أن تقنع، وكأي عرّاف لا بد لها من لغة مشتركة، لكنها تبقى غامضة.
يؤكد مانغويل على أن من مزايا القصص أن تسرد الوقائع دونما إجابات حاسمة، أو إطلاق افتراضات غير قابلة للنقاش، أو حتى تقديم تصنيفات للآخرين، أي بجعل الواقع الثقيل شفافا عند سرده عبر القصص.
تقر القصص كذلك بأن الآخر يمكننا من الوجود على نحو أفضل، ولعلّ ملحمة غلغامش خير مثال على ذلك. القصة الأسطورية المكتوبة باللهجة الأكادية في الألفية الثانية قبل الميلاد، المستندة إلى أصل سومري قديم، تحكي عن قصة مغامرة ملك مدينة أوروك غلغامش، والتي تبدأ من لحظة صداقة أنكيدو الرجل البري، قليل المعرفة ببشريته، حيث سيواجهان معا الأخطار التي تهدد المدينة.
كان ذلك دالاّ على أن الحياة ليست فردانية تماما، بل هي قائمة بحضور الآخر، وقد تتضاءل بغيابه. بعد موت أنكيدو سيعرف الملك أنّ صديقه كان جزءا من هويته، و لم يعد باستطاعته تحقيق أفعال مجيدة.
يبقى تاريخ القصص تاريخ ثنائيات، الصديقان، العاشقان، العدوّان، المعلم والتلميذ، تلك التي تكمل بعضها البعض أو تعارض بعضها البعض.
كانت فكرة الآخر التي تم اكتشافها في أوروبا في القرن ال19 ، جراء الخوف من بدايات العصر الصناعي وتأثيره كما تصوروه على إنسانيتنا، هي السر المجهول، الباعث على دوافع شتى لاكتشافه.
في روايتي "الدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون، و"صورة دوريان غري" لأوسكار وايلد، في تلك الروايتين يتضح أن الخوف من الآخر هو الخوف من أنفسنا، الخوف المتأصل من أن اكتشاف ذواتنا، يستلزم طرح الهوية غير المكتشفة بعد، وذلك عبر نفي الآخر، خارج أسوار المدينة.
لكن ملحمة غلغامش تقول العكس، لا يمكن أن تكون كاملا، إلا بعد اتحادك مع الآخر. أثناء هذه المشاركة سيصون كل منا فردانيته في شكل يمنحه التحرر من الانحياز، وهو ما يحتاجه العالم المعاصر متعدد الوجوه.
يذكر المؤلف في محاضرته الثالثة التي أسماها "أحجار بابل"، أن خلط اللغات في بابل كان عقابا إلهيا لهؤلاء الذين بنوها، حتى يعجز كل منهم عن فهم ما يقوله الآخر، جراء طموحهم الجنوني إلى غزو مملكة الإله كما تذكره الأسطورة التوراتية، إذ قاتل بعضهم البعض، بعد أن تناسوا أنهم كانوا يحتفظون بلغة واحدة قبل طموحهم. يخلص الكاتب إلى أن الفشل في التصور الصحيح للمختلف، هو من أسباب النزاعات التي يشهدها العالم في كل مكان اليوم.
تنطوي هذه الفكرة في بعدها الآخر، على كون اللغة تنبّه إلى إيجاد وسيلة مشتركة للتواصل ومعرفة الآخر، أي بجعل أنفسنا مفهومين، كي نكسر لعنة بابل.
تبقى للغة قدرة محاسبة قوية، حتى للقصص المتشكلة من كلمات، والمنقولة عبرها، فالقصص ليست نتاج تجارب من خلال اللغة، بل هي نتاج اللغة التي تروى بها، وهي السرديات التي تتأصل عند كل بوح.
كل قصة جيدة هي هوية فردية ومجتمعية، حينما يمنح الحكي وظيفة التعبير بإحالة التجارب الشخصية إلى أن تكون معنى جماعيا مشتركا، بذلك تكون القصص ملكا للجماعات التي تصونها. في المجتمعات غير المدنية، والتي لا تحيل تدفقاتها الإبداعية إلى وحدات ثابتة، راسخة في كتب مطبوعة، مثلا، تتغير القصص كي تحافظ على تدفق الذاكرة، أي أنها تنتمي إلى الزمن لا إلى نفسها، فما يروى ليس سوى القصة التي قيلت الآن.
في محاضرته "كتب دون كيشوت"، مستعيرا اسم الرواية التي أصبحت من أكثر الكتب رواجا في العالم، وباتت قصة أسبانيا الرائعة، وأسطورتها التخيليّة -كما هي رمزها الثقافي- يعين ثرفانتس مؤلفها، عبر حكاياتها الغريبة، تنبّه إلى أنّ ما نعتبره أجنبيا ليس سوى أنفسنا وقد حكم عليها بالمنفى.
القصص تنبئنا بالنهايات السعيدة
دون كيشوت وحامل درعه سانشو، شخصيتان متعارضتان، لكنهما سيتحولان عبر هذه القصة إلى مرآتين نبيلتين تعكس إحداهما الأخرى.
يذكر مانغويل أننا نتمنى دائما عالما أفضل وأكثر سعادة، لكننا في الوقت ذاته نحمّل شرورنا، على نحو ما، الجار، الآخر الدخيل، الخارجي المتربص بنا خارج الأسوار.
لذا تنفتح قصص غلغامش، أو دون كيشوت أو غيرهما من القصص على أفق آخر للمعنى، هو ليس ذلك الأفق الدوغمائي الذي تقره السلطة، هادفة من خلاله إلى منع رواية القصص الحقيقية، بل ذلك الأفق الذي يصوغه الأدب، بلغته الملتبسة، المفتوحة، القادرة على الإثراء على نحو غير نهائي، وفي كون ما ينتج هو بمثابة أفق مفتوح غير مغلق، وغير حاسم، حيث يتأمل الأدب فيما هو أكثر من البدايات.
تقول لنا القصص إن عالمنا الأفضل، السعيد، يقع خارج متناولنا، وعلينا السعي لبلوغه. هذه القصص لا تحمينا، لكنها يمكن أن تنبئنا بما قد يحدث، وتدعونا كي نكون يقظين، تمنحنا طرقا كي نبقى أحياء، معا، على هذه الأرض المنتهكة. القصص هي من تسمي تجاربنا، وتوعدنا بالنهايات السعيدة.
تعرّف المجتمعات بنفسها عبر خطابات حاملة لرؤى متعددة ومركبة، كما تمضي في إعادة التعريف هذه بصورة متعاقبة، بوصفها عملية تعيين لوجود اجتماعي في مواجهة الآخر، لكنها أثناء ذلك تبقى عالقة عند تصنيفات أخرى، موازية ومتناقضة، وهي غالبا حديثة العهد، ممّا يجعل الهوية الوطنية موضع تساؤل، كذلك الأمر في سؤال القومية إزاء العولمة، الولاء للمواطنة أمام مفهوم الهجرة، اختيارية كانت أم قسرية.. تلك الأسئلة، وبقدر ما تبدو شائكة، هي في الوقت ذاته باعثة على التشويش.
ربما كان ذلك ناتجا عما سببته الحربان العالميتان في القرن الماضي وتداعيات كل منهما، والمتمثلة في سقوط دول وظهور أخرى، أو في ضعف ذلك القاسم المشترك الذي كان يجمع المجتمع العالمي، ما أدى إلى ممارسات متعارضة عند النظر إلى الكثير من المجتمعات وهوياتها، حينا بتوسيع فكرتها في نسخة معدلة عن النموذج الكولنيالي، بذريعة توحيد الأمم عبر مؤسسات دولية، كالاتحاد الأوربي، أو البلدان المطلة على المحيط الهادي، أو جامعة الدول العربية، وحينا آخر بتقسيم المجتمع إلى دويلات مجتمعية أصغر، كإقليم الباسك، كيبيك الكندية، كوسوفو وغيرها، هذا بالإضافة إلى تلك العوارض التي تلاحق مجتمعات متعددة الثقافات: أعمال شغب، جرائم سياسية، عمليات إرهابية.
في عصر ينطوي على هكذا مشكلات سياسية وإثنية، لا بد أن تكون فكرة الهوية الشخصية أو المجتمعية شديدة الاضطراب بل خاضعة لآثار التشظي.
التعريفات تحتوي وتقصي في الوقت ذاته، ولكن ماذا عن الآخر، ذاك الذي نعيش إلى جواره، أو الذي يقبع في مكان آخر بعيد؟ كيف يمضي التفاعل معه بتعريف أنفسنا وتعريفه؟ بمعنى كيف يمكن لنا تحديد هويتنا وهوية من حولنا، أو لماذا نحن معا؟
ذلك ما يعاينه الكاتب والروائي الأرجنتيني (كندي الجنسية) ألبرتو مانغويل (مواليد 1948)، في كتابه " مدينة الكلمات"، ترجمة يزن الحاج، دار الساقي، 2016، عبر ما اعتبره "مجموعة أسئلة بدلا من سؤال وحيد، سلسلة ملاحظات بدلا من محاجّة"، والتي جاءت في شكل خمس محاضرات ألقيت ضمن "محاضرات ماسي" التي ألقاها عام 2007، والتي تنطوي على ثيمة أساسية تتعلق ب"العيش المشترك".
يذكر مانغويل في نقاشه مع الكاتب الكندي رونالد رايت، أنه فكر في أن يطلق سؤال "لماذا نحن معا؟" عنوانا لمحاضراته، وكان رد الكاتب "وهل هناك بديل آخر؟".
كان ثمة نهجا مختلفا في محاضراته تلك، كونها اعتمدت القصص، لأنها لا تنتظر إجابات قاطعة -عكس المعادلات العلمية- بل ستبقى بمثابة أسئلة، مصاغة بكلمات الآخرين، وبأثر ممارسة مستمدة من القراءة في كتبهم، خاصة رواياتهم، حكاياتهم وقصصهم، يقول مانغويل “انظُر إلى ما يقوله الكتاب، فربما تخبركَ الكتب والقصص عن مفاتيح سرية للقلبِ البشري".
ربما لا يخلو الأمر من الحيرة بل هو اعتراف بها، ذلك ما يستدعي استحضار العديد من الأسئلة المضافة: كيف يمكن إيجاد الهوية بالكلمات، بوصفها أداة نتواصل بها في فهمنا للعالم؟ ما هو دور الراوي في مثل هذا المسعى؟ كيف تساعدنا القصص على إدراك أنفسنا وتصور الآخرين، وهل بإمكانها أن تمنح هوية لمجتمع بأكمله؟ هل يمكن للقصص أن تغيرنا وتغير العالم الذي نعيشه؟
مفاتيح سرية للقلب البشري
كاسندرا، الكاهنة الإغريقية التي وهبها الإله أبولو نعمة التنبؤ شرط ألّا يصدقها أحد، جاء اسمها استعارة لمحاضرة أولى في الكتاب عنوانها "صوت كاسندرا". يبين الكاتب، في البداية، أن فكرة اللغة بوصفها أداة تعبير مشتركة تصوغ وتسمي الواقع أثناء تشكله، مازالت فكرة صالحة حتى هذا اليوم. وهي اللغة ذاتها التي ظهرت قبل خمسة آلاف عام، أداة مشتركة مكّنت الرجال والنساء من أن تصبح مرجعياتهم متماثلة، وأن تكون كلماتهم قادرة على أن تكشف هذا الواقع المدرك. في سنوات العالم الأولى، بدت اللغة وكأنها تمثل الزمان والمكان معا، ومن هنا كانت الكتابة السومرية رموزا توصّف أحداث الواقع.
الكاتب مانغويل يستعين بنتاج وحياة الروائي الألماني، الفريد دوبلن، والذي يصفه بكونه أعظم روائيي القرن العشرين. وكانت موضوعات كتاباته الأساسية تدور حول فكرة الهوية المتغيرة في القرن العشرين.
كتب هذا الروائي في الخمسينات مؤلفاته الأبرز، مبينا الإساءة التي تعرض لها المعنى في ظل الرايخ الثالث. اللغة حسب دوبلن، لا تعيد حكاية الماضي بل تتصوّره، إنها بمعنى ما " ترغم الواقع على إظهار نفسه، تنقّب في أعماقه، وتعرض المواقف الجوهرية، الكبيرة والصغيرة من الوضع البشري"، وتسمح لنا فعليا بمعرفة لِمَ نحن معا، هي أيضا صيغة من صيغ حب الآخر.
وكما يذكر دوبلن، ستكون القصص عندئذ وسيلة تسجيل لتجاربنا وتجارب الآخرين، تمنح صيغا سردية لذاكرتنا، تعلمنا ألا ننسى، ومعها ستكون المكتبات مخازن تلك الذاكرة. القصص تساعد بتنويرنا وتبيان الطريق لنا، بتغذية وعينا، وهي إدراك للمشترك ما بيننا والآخرين، فيما الكلمات ستدافع عنا بالتأكيد.
الخوف من الآخر هو الخوف من أنفسنا
كان الشعراء الأيرلنديون في العصور الوسطى يحمون حقول القمح والشعير، بإلقاء الشعر في الحقول التي احتلتها القوارض، تلك القصائد التي ستدفع الجرذان إلى الموت.. نعم، فعبر الكلمة يصوغ المبدعون الأشياء، ويمنحونها هويتها الجوهرية.
لكن المبدعين يعانون لعنة كاسندرا، وهي عزوف الآخرين عن الإنصات لهم وتصديق حكاياتهم. كانت كاسندرا تصوغ رؤيتها للعالم بحساسية تختلف عما يرغب فيه أبناء مدينتها الطرواديون، وكان واجبها أيضا أن تبوح لا أن تقنع، وكأي عرّاف لا بد لها من لغة مشتركة، لكنها تبقى غامضة.
يؤكد مانغويل على أن من مزايا القصص أن تسرد الوقائع دونما إجابات حاسمة، أو إطلاق افتراضات غير قابلة للنقاش، أو حتى تقديم تصنيفات للآخرين، أي بجعل الواقع الثقيل شفافا عند سرده عبر القصص.
تقر القصص كذلك بأن الآخر يمكننا من الوجود على نحو أفضل، ولعلّ ملحمة غلغامش خير مثال على ذلك. القصة الأسطورية المكتوبة باللهجة الأكادية في الألفية الثانية قبل الميلاد، المستندة إلى أصل سومري قديم، تحكي عن قصة مغامرة ملك مدينة أوروك غلغامش، والتي تبدأ من لحظة صداقة أنكيدو الرجل البري، قليل المعرفة ببشريته، حيث سيواجهان معا الأخطار التي تهدد المدينة.
كان ذلك دالاّ على أن الحياة ليست فردانية تماما، بل هي قائمة بحضور الآخر، وقد تتضاءل بغيابه. بعد موت أنكيدو سيعرف الملك أنّ صديقه كان جزءا من هويته، و لم يعد باستطاعته تحقيق أفعال مجيدة.
يبقى تاريخ القصص تاريخ ثنائيات، الصديقان، العاشقان، العدوّان، المعلم والتلميذ، تلك التي تكمل بعضها البعض أو تعارض بعضها البعض.
كانت فكرة الآخر التي تم اكتشافها في أوروبا في القرن ال19 ، جراء الخوف من بدايات العصر الصناعي وتأثيره كما تصوروه على إنسانيتنا، هي السر المجهول، الباعث على دوافع شتى لاكتشافه.
في روايتي "الدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون، و"صورة دوريان غري" لأوسكار وايلد، في تلك الروايتين يتضح أن الخوف من الآخر هو الخوف من أنفسنا، الخوف المتأصل من أن اكتشاف ذواتنا، يستلزم طرح الهوية غير المكتشفة بعد، وذلك عبر نفي الآخر، خارج أسوار المدينة.
لكن ملحمة غلغامش تقول العكس، لا يمكن أن تكون كاملا، إلا بعد اتحادك مع الآخر. أثناء هذه المشاركة سيصون كل منا فردانيته في شكل يمنحه التحرر من الانحياز، وهو ما يحتاجه العالم المعاصر متعدد الوجوه.
يذكر المؤلف في محاضرته الثالثة التي أسماها "أحجار بابل"، أن خلط اللغات في بابل كان عقابا إلهيا لهؤلاء الذين بنوها، حتى يعجز كل منهم عن فهم ما يقوله الآخر، جراء طموحهم الجنوني إلى غزو مملكة الإله كما تذكره الأسطورة التوراتية، إذ قاتل بعضهم البعض، بعد أن تناسوا أنهم كانوا يحتفظون بلغة واحدة قبل طموحهم. يخلص الكاتب إلى أن الفشل في التصور الصحيح للمختلف، هو من أسباب النزاعات التي يشهدها العالم في كل مكان اليوم.
تنطوي هذه الفكرة في بعدها الآخر، على كون اللغة تنبّه إلى إيجاد وسيلة مشتركة للتواصل ومعرفة الآخر، أي بجعل أنفسنا مفهومين، كي نكسر لعنة بابل.
تبقى للغة قدرة محاسبة قوية، حتى للقصص المتشكلة من كلمات، والمنقولة عبرها، فالقصص ليست نتاج تجارب من خلال اللغة، بل هي نتاج اللغة التي تروى بها، وهي السرديات التي تتأصل عند كل بوح.
كل قصة جيدة هي هوية فردية ومجتمعية، حينما يمنح الحكي وظيفة التعبير بإحالة التجارب الشخصية إلى أن تكون معنى جماعيا مشتركا، بذلك تكون القصص ملكا للجماعات التي تصونها. في المجتمعات غير المدنية، والتي لا تحيل تدفقاتها الإبداعية إلى وحدات ثابتة، راسخة في كتب مطبوعة، مثلا، تتغير القصص كي تحافظ على تدفق الذاكرة، أي أنها تنتمي إلى الزمن لا إلى نفسها، فما يروى ليس سوى القصة التي قيلت الآن.
في محاضرته "كتب دون كيشوت"، مستعيرا اسم الرواية التي أصبحت من أكثر الكتب رواجا في العالم، وباتت قصة أسبانيا الرائعة، وأسطورتها التخيليّة -كما هي رمزها الثقافي- يعين ثرفانتس مؤلفها، عبر حكاياتها الغريبة، تنبّه إلى أنّ ما نعتبره أجنبيا ليس سوى أنفسنا وقد حكم عليها بالمنفى.
القصص تنبئنا بالنهايات السعيدة
دون كيشوت وحامل درعه سانشو، شخصيتان متعارضتان، لكنهما سيتحولان عبر هذه القصة إلى مرآتين نبيلتين تعكس إحداهما الأخرى.
يذكر مانغويل أننا نتمنى دائما عالما أفضل وأكثر سعادة، لكننا في الوقت ذاته نحمّل شرورنا، على نحو ما، الجار، الآخر الدخيل، الخارجي المتربص بنا خارج الأسوار.
لذا تنفتح قصص غلغامش، أو دون كيشوت أو غيرهما من القصص على أفق آخر للمعنى، هو ليس ذلك الأفق الدوغمائي الذي تقره السلطة، هادفة من خلاله إلى منع رواية القصص الحقيقية، بل ذلك الأفق الذي يصوغه الأدب، بلغته الملتبسة، المفتوحة، القادرة على الإثراء على نحو غير نهائي، وفي كون ما ينتج هو بمثابة أفق مفتوح غير مغلق، وغير حاسم، حيث يتأمل الأدب فيما هو أكثر من البدايات.
تقول لنا القصص إن عالمنا الأفضل، السعيد، يقع خارج متناولنا، وعلينا السعي لبلوغه. هذه القصص لا تحمينا، لكنها يمكن أن تنبئنا بما قد يحدث، وتدعونا كي نكون يقظين، تمنحنا طرقا كي نبقى أحياء، معا، على هذه الأرض المنتهكة. القصص هي من تسمي تجاربنا، وتوعدنا بالنهايات السعيدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.