وزيرتا البيئة والتنمية المحلية تتابعان عمل منظومة المخلفات الصلبة في المحافظات    إيلون ماسك ينتقد مشروع قانون في أجندة ترامب التشريعية    نجم الأهلي السابق: سيناريو إنبي 2003 لن يتكرر مرة أخرى    ارتفاع ضحايا حادث السادات بالمنوفية إلى 3 وفيات    موعد أذان مغرب الأربعاء 1 من ذي الحجة 2025.. وأهم أعمال العشر الأوائل    تنظيم 4 قوافل طبية بالشرقية لدعم غير القادرين بالقرى والمناطق النائية    زيارة أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الألمانية بالقاهرة للعاصمة برلين    البوستر الرسمي لفيلم "عائشة لا تستطيع الطيران" ضمن الأفضل بجوائز لوسيول    مصر تتوج ب 6 ميداليات في البطولة الأفريقية للسامبو    الزمالك يُعلن انتهاء موسم أحمد الجفالي    «التخطيط» تعلن حصول قرية «الحصص» بالدقهلية على شهادة «ترشيد» للمجتمعات الريفية الخضراء    كالاس: يجب توقف إسرائيل عن استهداف المدنيين ومنع إدخال المساعدات    ديو جديد مع الشامي.. هل تُفيد الديوتوهات المتكررة تامر حسني جماهيريا    لوكهيد مارتن تكشف مفاتيح بناء قبة ترامب الذهبية.. وتصفها ب"رؤية رائعة"    «الخطيب مش هيوافق».. كيف تفاعلت جماهير الأهلي مع أنباء اقتراب كريستيانو؟    تقارير تكشف.. لماذا رفض دي بروين عرضين من الدوري الإنجليزي؟    الحزمة الأولى من مبادرة التسهيلات الضريبية.. مجلس الوزراء يوافق على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على العقارات المبنية.. التعديلات تستهدف تخفيف الأعباء الضريبية مراعاة للبعدين الاجتماعي والاقتصادي    مصرع شخص أسفل عجلات قطار في بني سويف    ابتعد أيها الفاشل، قارئة شفاة تكشف سر صفع ماكرون على الطائرة    مسئول أوروبي يتوقع انتهاء المحادثات مع مصر لتحديد شرائح قرض ال4 مليارات يورو أواخر يونيو    تيتة نوال خفة دم مش طبيعية.. وفاة جدة وئام مجدي تحزن متابعيها    هيئة فلسطينية: فرض النزوح القسرى واستخدام التجويع فى غزة جريمة حرب    طارق يحيي: لن ينصلح حال الزمالك إلا بالتعاقد مع لاعبين سوبر    رومانو: تاه يخضع للفحص الطبي تمهيدًا للانتقال إلى بايرن ميونخ    طريقة عمل الموزة الضاني في الفرن لغداء فاخر    في 24 ساعة فقط- 3 مشروبات تنقي جسمك من السموم    حرام شرعًا وغير أخلاقي.. «الإفتاء» توضح حكم التصوير مع المتوفى أو المحتضر    الرقابة المالية: التأمين البحري يؤدي دور محوري في تعزيز التجارة الدولية    أكاديمية الشرطة تُنظم الاجتماع الخامس لرؤساء إدارات التدريب بأجهزة الشرطة بالدول الأفريقية "الأفريبول" بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولى GIZ    زيارات ميدانية ل«نساء من ذهب» بالأقصر    اسكواش - تتويج عسل ونوران جوهر بلقب بالم هيلز المفتوحة    اليونيفيل: أي تدخّل في أنشطة جنودنا غير مقبول ويتعارض مع التزامات لبنان    نسرين أسامة أنور عكاشة ل«البوابة نيوز»: مفتقد نصيحة والدي وطريقته البسيطة.. وأعماله تقدم رسائل واضحة ومواكبة للعصر    الحكومة تطرح 4 آلاف سيارة تاكسي وربع نقل للشباب بدون جمارك وضرائب    سليمة القوى العقلية .. أسباب رفض دعوى حجر على الدكتورة نوال الدجوي    الإعدام لمتهم والسجن المشدد 15 عامًا لآخر ب«خلية داعش قنا»    5 أهداف مهمة لمبادرة الرواد الرقميون.. تعرف عليها    الاتحاد الأوروبي يعتمد رسمياً إجراءات قانونية لرفع العقوبات عن سوريا    «بيت الزكاة والصدقات» يصرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الإعانة الشهرية غدًا الخميس    في أول أيام الشهر.. تعرف على أفضل الأعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة    الاتحاد الأوروبي: يجب عدم تسييس أو عسكرة المساعدات الإنسانية إلى غزة    حملة أمنية تضبط 400 قطعة سلاح وذخيرة خلال 24 ساعة    ألف جنيه انخفاضا في سعر الأرز للطن خلال أسبوع.. الشعبة توضح السبب    نائب وزير الصحة تشارك فى جلسة نقاشية حول "الاستثمار فى صحة المرأة"    تفاصيل الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من "حقوق السوربون" بجامعة القاهرة    وداعاً تيتة نوال.. انهيار وبكاء أثناء تشييع جنازة جدة وئام مجدى    روبوت ينظم المرور بشوارع العاصمة.. خبير مرورى يكشف تفاصيل التجربة الجديدة.. فيديو    لمواجهة الفكر المتشدد.. "أوقاف الفيوم" تنظم دروسًا منهجية للواعظات    إقبال كثيف على المراجعات النهائية المجانية لطلاب الثانوية العامة ببورسعيد    وزير التعليم العالي يترأس اجتماع مجلس الجامعات الأهلية ويوجه بسرعة إعلان نتائج الامتحانات    وزير التعليم: 98 ألف فصل جديد وتوسّع في التكنولوجيا التطبيقية    نائب وزير الصحة: إنشاء معهد فنى صحى بنظام السنتين فى قنا    وزير الثقافة: ملتزمون بتوفير بنية تحتية ثقافية تليق بالمواطن المصري    وزير الخارجية يتوجه إلى المغرب لبحث تطوير العلاقات    قرار من «العمل» بشأن التقديم على بعض الوظائف القيادية داخل الوزارة    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق مخزن بلاستيك بالخانكة| صور    وزير الأوقاف يهنئ الشعب المصري والأمة العربية بحلول شهر ذي الحجة    ألم في المعدة.. حظ برج الدلو اليوم 28 مايو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يصوّر الاستشراق الجديد العرب والمسلمين؟
نشر في صوت البلد يوم 13 - 10 - 2016

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح الإسلام، والعرب والمسلمون كذلك، محطَّ اهتمام وسائل الإعلام في الغرب لأسباب تتعلَّقُ، كما لا يخفى، بما حدث عام 1973 من وقف تزويد البلدان الغربية بالنفط من الدول العربية، إثر اندلاع حرب تشرين (أكتوبر) 1973. وعلى هامش هذا الاهتمام السياسي – الاقتصادي – الإعلامي بالإسلام، ومعتنقيه، بدأ تحوُّلٌ ملحوظ في الدراسات التي تهتمُّ بهذه المنطقة من العالم، بحيث بدأ كثيرٌ من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون في الدراسات العربية والإسلامية يهجرون اختصاصاتهم ويلتحقون بما يُسمَّى «دراسات المناطق» Area Studies بسبب صعود أهميَّة الشرق الأوسط وزيادة عدد الأقسام في الجامعات الغربية التي تُدرِّس المساقات الخاصة بالمنطقة، وكذلك زيادة الطلب على الخبراء القادرين على تقديم معرفة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي لوزارات الخارجية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث والاستشارات، وبيوت الخبرة، في الغرب عامَّةً وأميركا خاصَّةً.
وقد برهنت الأحداث اللاحقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، على أهميّة الإسلام في التفكير الغربي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما ساهم تصاعد الظاهرة الإسلامية، بأطيافها المختلفة التي تتدرَّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولاً إلى طيفها الجهاديِّ العنيف، في زيادة الاهتمام بالإسلام، لا كدين أو ظاهرة سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية، واقتصادية، وكذلك ديموغرافية تهدد أوروبا بسبب تزايد أعداد المسلمين فيها فقط، بل وبصورة أساسية كظاهرة عولميَّة يمكن من خلالها ابتناء عدو جديد، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهكذا، تمَّ في السياسة والإعلام الغربيين، بناءُ كتلة سياسية – أيديولوجية جديدة في مواجهة الغرب، تتكوَّن من أطياف متباينة، وربما متناحرة، من التيارات والشِّيَع والأحزاب والدول الإسلامية، لتحلَّ محلَّ الكتلة الشيوعيَّة التي تفككت ولم تعد تهدد الديموقراطية الغربية.
وقد انخرط في التنظير لظاهرة الإسلام، وكتلته الحضاريَّة، كعدو مستقبليٍّ للغرب وكتلته الحضارية، خبراءُ في السياسة وعلماء اجتماع وعلماء نفس متخصصون في علم نفس الجماعات البشرية، ومستشرقون سابقون، ومختصون في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وصحافيون...، واضعين نُصبَ أعينهم الهدفَ الأساسيَّ للقوة الإمبريالية الأميركية، القطبِ الأوحد المهيمن على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية. ويتمثَّل هذا الهدف في إيجاد بديل لصيغة الحرب الباردة التي ساهمت في تكتيل الغرب، وكذلك الدول التي تدور في فلكه، حول الغرب الديموقراطي القادر على حماية البشرية من خطر الشيوعية. ومن الواضح أن الأمر ذاته يصحُّ قوله الآن بخصوص إيجاد تحالفٍ عالمي واسع ضد ظاهرة الإرهاب «الإسلامي»، والكتلة الحضارية الإسلامية التي تسعى إلى اجتياح الغرب أولاً، والعالم ثانياً، في موجة جديدة من حروب الجهاد!
في ضوء هذا التصور الاستراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب، يمكن فهم ما كتبه المستشرق البريطاني- الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون، وكذلك حائز نوبل للآداب عام 2001 ف. س. نايبول (رغم كونه مولودًا في الكاريبي من أصولٍ هندية)، عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب وعلى العالم، فبالرغم من اختلاف الخلفيات المعرفية، والتخصصات، والدوافع والتحيزات، والأصول العرقية، والانتماءات الحضارية والثقافية، فإن الصورة التي يبنونها للإسلام والمسلمين والعرب متقاربة، وهي صورة نمطية متحدّرة من الرؤى الاستشراقية القديمة ذاتها، صورة الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمُّه الطغيان، وهو أدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديموقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان. يُضافُ إلى هذه الصفات النمطيَّة التي نقع عليها عامَّةً في الميراث الاستشراقي، صفاتُ الحسد والبغض والحقد ورغبة الغرب الذي هزم الإسلام والمسلمين في الانتقام بعد أن كان في الماضي خاضعًا ومهيمَنًا عليه ومحكومًا من العرب والمسلمين.
لكن إذا كان المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيديولوجية على المعرفة العلمية والموضوعيَّة، لأن المطلوب هو أن تقود «المعرفة» التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب. ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، كان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروِّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية بين العرب والمسلمين. وهو ما أدى، كما نعرف، إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي.
إن الاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، دون السعي إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية (وينطبق هذا الكلام على ما كتبه مؤرخ مثل برنارد لويس خلال العقدين الماضيين على الأقلّ). وجوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق، المتحوّل والمتسرب في ثنايا دراسات المناطق والاهتمامات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها كقطب عالمي وحيد وأوحد. ويمكن أن نفسر دور كل من هنتنغتون ولويس في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، أي بدءًا من ظهور مقالة لويس «جذور السخط الإسلامي» (1990) في مجلة الأتلانتيك مَنثلي الأميركية ومقالة هنتنغتون «صراع الحضارات» في مجلة الفورين أفيرز الأميركية (1993)، انطلاقًا من رغبة صانع القرار الأميركي، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعود قوة المحافظين الجدد في أميركا أثناء فترة حكم جورج بوش الأب، في التزوُّد بنموذج نظري لبناء استراتيجية صراع جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.
ونحن نعثر في نموذجي برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، اللذين وُلد النموذج الثاني منهما من صُلب الأول، على الخطوط البارزة لفكرة الحرب على الإرهاب التي تبنتها أميركا، والغرب، ومعظم دول العالم، في زمن حكم الجمهوريين وحتى في زمن الديموقراطيين، وصولاً إلى إدارة أوباما. صحيحٌ أن الآثار الناتجة عن أحداث الربيع العربي، بصعود الإسلام السياسي ثمَّ دخول العالم العربي مرحلةً من الحروب الإثنيّة والطائفية والمذهبية، وصعود ظاهرة الإسلام الجهاديّ العنيف ممثَّلاً بالدولة الإسلامية (داعش)، قد وفَّرت تبريرًا لتجييش العالم من أجل الحرب على الإرهاب، لكن من الواضح أن الآثار العملية للنموذج النظري، الذي بناه كلٌّ من لويس وهنتنغتون لصناعة عدو ديني - حضاري – ثقافي، مستمرةٌ حتى الآن، حتى بعد اضمحلال قوة المحافظين الجدد في السياسة الأميركية. إن كلام رجال السياسة الغربيين، وعلى رأسهم باراك أوباما وزعماء الدول الأوروبية، عن كون الحرب على الإرهاب لا تستهدف الإسلام والمسلمين بل الإرهابيين (الذين يدَّعون أنهم يمثلون الإسلام) هو مجرد مراوغات سياسية وكلام دبلوماسي لا يعكس ما يتمُّ فعله على الأرض في الحقيقة. ما يحدث الآن هو نوعٌ من شَيْطَنَة الإسلام واتهام الدين وأتباعه بالإرهاب.
لقد برر الاستشراقُ القديم للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بتمثيله الشرق المتخلف غير العقلاني في مقابل صورة الغرب العقلاني المتحضر، احتلالَ هذا الشرق من أجل تحضيره ونقله من وهدة التخلف إلى ذرى الحضارة الغربية. كما يعطي ما أسميه هنا «الاستشراق الجديد» الإمبراطوريةَ الأميركية الحجةَ بضرورة شنِّ حربٍ عالميةٍ لا هوادة فيها على الإرهاب بغض النظر عن الضحايا الذين يسقطون بالعشرات، والمئات، في كلِّ لحظة. إن صانع القرار في الماضي، كما في الحاضر، يجد بين يديه المسوغات النظرية التي تمكنه من تبرير ما يفعله على جبهة السياسة وفي ميدان المعركة: أبيدوا المتوحشين جميعًا Exterminate All The Brutes، كما يحدث في رواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد.
.........

* من مقدمة كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم في بيروت.
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح الإسلام، والعرب والمسلمون كذلك، محطَّ اهتمام وسائل الإعلام في الغرب لأسباب تتعلَّقُ، كما لا يخفى، بما حدث عام 1973 من وقف تزويد البلدان الغربية بالنفط من الدول العربية، إثر اندلاع حرب تشرين (أكتوبر) 1973. وعلى هامش هذا الاهتمام السياسي – الاقتصادي – الإعلامي بالإسلام، ومعتنقيه، بدأ تحوُّلٌ ملحوظ في الدراسات التي تهتمُّ بهذه المنطقة من العالم، بحيث بدأ كثيرٌ من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون في الدراسات العربية والإسلامية يهجرون اختصاصاتهم ويلتحقون بما يُسمَّى «دراسات المناطق» Area Studies بسبب صعود أهميَّة الشرق الأوسط وزيادة عدد الأقسام في الجامعات الغربية التي تُدرِّس المساقات الخاصة بالمنطقة، وكذلك زيادة الطلب على الخبراء القادرين على تقديم معرفة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي لوزارات الخارجية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث والاستشارات، وبيوت الخبرة، في الغرب عامَّةً وأميركا خاصَّةً.
وقد برهنت الأحداث اللاحقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، على أهميّة الإسلام في التفكير الغربي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما ساهم تصاعد الظاهرة الإسلامية، بأطيافها المختلفة التي تتدرَّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولاً إلى طيفها الجهاديِّ العنيف، في زيادة الاهتمام بالإسلام، لا كدين أو ظاهرة سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية، واقتصادية، وكذلك ديموغرافية تهدد أوروبا بسبب تزايد أعداد المسلمين فيها فقط، بل وبصورة أساسية كظاهرة عولميَّة يمكن من خلالها ابتناء عدو جديد، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهكذا، تمَّ في السياسة والإعلام الغربيين، بناءُ كتلة سياسية – أيديولوجية جديدة في مواجهة الغرب، تتكوَّن من أطياف متباينة، وربما متناحرة، من التيارات والشِّيَع والأحزاب والدول الإسلامية، لتحلَّ محلَّ الكتلة الشيوعيَّة التي تفككت ولم تعد تهدد الديموقراطية الغربية.
وقد انخرط في التنظير لظاهرة الإسلام، وكتلته الحضاريَّة، كعدو مستقبليٍّ للغرب وكتلته الحضارية، خبراءُ في السياسة وعلماء اجتماع وعلماء نفس متخصصون في علم نفس الجماعات البشرية، ومستشرقون سابقون، ومختصون في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وصحافيون...، واضعين نُصبَ أعينهم الهدفَ الأساسيَّ للقوة الإمبريالية الأميركية، القطبِ الأوحد المهيمن على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية. ويتمثَّل هذا الهدف في إيجاد بديل لصيغة الحرب الباردة التي ساهمت في تكتيل الغرب، وكذلك الدول التي تدور في فلكه، حول الغرب الديموقراطي القادر على حماية البشرية من خطر الشيوعية. ومن الواضح أن الأمر ذاته يصحُّ قوله الآن بخصوص إيجاد تحالفٍ عالمي واسع ضد ظاهرة الإرهاب «الإسلامي»، والكتلة الحضارية الإسلامية التي تسعى إلى اجتياح الغرب أولاً، والعالم ثانياً، في موجة جديدة من حروب الجهاد!
في ضوء هذا التصور الاستراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب، يمكن فهم ما كتبه المستشرق البريطاني- الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون، وكذلك حائز نوبل للآداب عام 2001 ف. س. نايبول (رغم كونه مولودًا في الكاريبي من أصولٍ هندية)، عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب وعلى العالم، فبالرغم من اختلاف الخلفيات المعرفية، والتخصصات، والدوافع والتحيزات، والأصول العرقية، والانتماءات الحضارية والثقافية، فإن الصورة التي يبنونها للإسلام والمسلمين والعرب متقاربة، وهي صورة نمطية متحدّرة من الرؤى الاستشراقية القديمة ذاتها، صورة الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمُّه الطغيان، وهو أدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديموقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان. يُضافُ إلى هذه الصفات النمطيَّة التي نقع عليها عامَّةً في الميراث الاستشراقي، صفاتُ الحسد والبغض والحقد ورغبة الغرب الذي هزم الإسلام والمسلمين في الانتقام بعد أن كان في الماضي خاضعًا ومهيمَنًا عليه ومحكومًا من العرب والمسلمين.
لكن إذا كان المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيديولوجية على المعرفة العلمية والموضوعيَّة، لأن المطلوب هو أن تقود «المعرفة» التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب. ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، كان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروِّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية بين العرب والمسلمين. وهو ما أدى، كما نعرف، إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي.
إن الاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، دون السعي إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية (وينطبق هذا الكلام على ما كتبه مؤرخ مثل برنارد لويس خلال العقدين الماضيين على الأقلّ). وجوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق، المتحوّل والمتسرب في ثنايا دراسات المناطق والاهتمامات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها كقطب عالمي وحيد وأوحد. ويمكن أن نفسر دور كل من هنتنغتون ولويس في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، أي بدءًا من ظهور مقالة لويس «جذور السخط الإسلامي» (1990) في مجلة الأتلانتيك مَنثلي الأميركية ومقالة هنتنغتون «صراع الحضارات» في مجلة الفورين أفيرز الأميركية (1993)، انطلاقًا من رغبة صانع القرار الأميركي، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعود قوة المحافظين الجدد في أميركا أثناء فترة حكم جورج بوش الأب، في التزوُّد بنموذج نظري لبناء استراتيجية صراع جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.
ونحن نعثر في نموذجي برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، اللذين وُلد النموذج الثاني منهما من صُلب الأول، على الخطوط البارزة لفكرة الحرب على الإرهاب التي تبنتها أميركا، والغرب، ومعظم دول العالم، في زمن حكم الجمهوريين وحتى في زمن الديموقراطيين، وصولاً إلى إدارة أوباما. صحيحٌ أن الآثار الناتجة عن أحداث الربيع العربي، بصعود الإسلام السياسي ثمَّ دخول العالم العربي مرحلةً من الحروب الإثنيّة والطائفية والمذهبية، وصعود ظاهرة الإسلام الجهاديّ العنيف ممثَّلاً بالدولة الإسلامية (داعش)، قد وفَّرت تبريرًا لتجييش العالم من أجل الحرب على الإرهاب، لكن من الواضح أن الآثار العملية للنموذج النظري، الذي بناه كلٌّ من لويس وهنتنغتون لصناعة عدو ديني - حضاري – ثقافي، مستمرةٌ حتى الآن، حتى بعد اضمحلال قوة المحافظين الجدد في السياسة الأميركية. إن كلام رجال السياسة الغربيين، وعلى رأسهم باراك أوباما وزعماء الدول الأوروبية، عن كون الحرب على الإرهاب لا تستهدف الإسلام والمسلمين بل الإرهابيين (الذين يدَّعون أنهم يمثلون الإسلام) هو مجرد مراوغات سياسية وكلام دبلوماسي لا يعكس ما يتمُّ فعله على الأرض في الحقيقة. ما يحدث الآن هو نوعٌ من شَيْطَنَة الإسلام واتهام الدين وأتباعه بالإرهاب.
لقد برر الاستشراقُ القديم للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بتمثيله الشرق المتخلف غير العقلاني في مقابل صورة الغرب العقلاني المتحضر، احتلالَ هذا الشرق من أجل تحضيره ونقله من وهدة التخلف إلى ذرى الحضارة الغربية. كما يعطي ما أسميه هنا «الاستشراق الجديد» الإمبراطوريةَ الأميركية الحجةَ بضرورة شنِّ حربٍ عالميةٍ لا هوادة فيها على الإرهاب بغض النظر عن الضحايا الذين يسقطون بالعشرات، والمئات، في كلِّ لحظة. إن صانع القرار في الماضي، كما في الحاضر، يجد بين يديه المسوغات النظرية التي تمكنه من تبرير ما يفعله على جبهة السياسة وفي ميدان المعركة: أبيدوا المتوحشين جميعًا Exterminate All The Brutes، كما يحدث في رواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد.
.........

* من مقدمة كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.