الأونروا: يجب تغيير سياسة المنع الكامل لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره المغربي    اتجاه لقبول استقالة ثنائي اتحاد تنس الطاولة    تشكيل بايرن ميونيخ ضد لايبزيج في الدوري الألماني    795 مليون جنيه في قبضة الداخلية.. كواليس أكبر ضربة لعصابات المخدرات بالإسماعيلية    مبيعات روكي الغلابة تصل إلى 261 ألف تذكرة منذ طرحه    من واشنطن إلى آسيا| تداعيات الرسوم الأمريكية على الاستثمار العالمي    محافظ سوهاج: إزالة 1402 حالة تعدي على أملاك الدولة والأراضي الزراعية والمتغيرات المكانية    50 لاعبا في بطولة الجمهورية للشطرنج لذوي الهمم المؤهلة لأولمبياد 2025    مؤتمر إيدي هاو: موقف إيزاك خاسر للجميع.. ومن المؤسف أننا في هذا الوضع    «التعليم العالي»: بدء قبول طلاب الشهادات المعادلة بمكتب التنسيق غدًا    حملات مكثفة.. ضبط 162 سائقًا بسبب تعاطي المخدرات أثناء القيادة    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سيارة على الطريق الغربي بالفيوم    «الاستراتيجي للفكر والحوار»: اللقاء بين الرئيس السيسي وبن سلمان يعكس عمق التنسيق بين البلدين    إقبال جماهيري على معرض السويس الثالث للكتاب    بالصور.. نقل القطع الأثرية المكتشفة تحت مياه أبو قير إلى المسرح اليوناني الروماني بالإسكندرية    نائب وزير الصحة يتفقد منشآت طبية بدمياط ويشيد بأداء مستشفى الحميات    تسجيل مركز قصر العيني للأبحاث السريرية رسميا بالمجلس الأعلى لمراجعة أخلاقيات البحوث الطبية الإكلينيكية    حلاوة المولد، طريقة عمل "الشكلمة" فى البيت بمكونات بسيطة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    نائب محافظ الفيوم يُكرم المشاركين في البرنامج التدريبي "العمليات التصميمية وإعداد مستندات الطرح"    افتتاح مسجدين بمركزي مغاغة وأبوقرقاص في المنيا    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    العين مرآة العقل.. وهذه العلامة قد تكشف مرضًا عقليًا أو اضطراب نفسي    من أوائل الثانوية بمحافظة شمال سيناء.. وفاة الطالبة شروق المسلمانى    محافظ مطروح يستقبل رئيس جامعة الازهر لافتتاح مقر لكلية البنات الأزهرية    وزير الري: التكنولوجيا تلعب دورا محوريا في إدارة المياه والتنبؤ بمخاطر المناخ    رئيسة حكومة إيطاليا: قرار إسرائيل احتلال غزة يفاقم الأزمة الإنسانية فى القطاع    غدير ماتت من سوء التغذية..التجويع الإسرائيلي لغزة يقتل رضيع عمرها 5 شهور    عائلات المحتجزين: ندعو لوقفة احتجاجية قبالة مقر نتنياهو    رئيس مدينة طهطا يتفقد مصابي حادث انهيار منزل بقرية الشيخ مسعود بسوهاج    القبض على عاطل يدير ورشة لتصنيع الأسلحة البيضاء    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    *لليوم الثاني.. خدمة Premium الجديدة بقطارات السكة الحديد "كاملة العدد"    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي يعلن قوام لجنة تحكيم الدورة ال32    ثائرٌ يكتُب    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    محمود ناجي يدير مباراة السنغال وأوغندا في ربع نهائي أمم افريقيا للمحليين    الحبس عامين ل تارك صلاة الجمعة بماليزيا.. أحمد كريمة يوضح الرأي الشرعي    «التسامح والرضا».. وصفة للسعادة تدوم مدى الحياة    ناشئو وناشئات الطائرة يتوجهون إلى تونس بحثًا عن التتويج الإفريقي    ناقد رياضي: بن رمضان اللاعب الأكثر ثباتًا في الأهلي.. ومواجهة المحلة صعبة    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    تهيئة نفسية وروتين منظم.. نصائح هامة للأطفال قبل العودة إلى المدارس    أستاذ بالأزهر: مبدأ "ضل رجل ولا ضل حيطة" ضيّع حياة كثير من البنات    غدًا.. إعلان نتيجة التقديم لرياض أطفال والصف الأول الابتدائي بالأزهر| الرابط هنا    الأمن أولًا.. إدارة ترامب تعتزم مراجعة شاملة لتأشيرات 55 مليون أجنبي    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    النصر يستعيد نجمه قبل نهائي السوبر    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    صفات برج الأسد الخفية .. يجمع بين القوه والدراما    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    ضبط المتهمين بالتسول واستغلال الأطفال أسفل كوبري بالجيزة    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يصوّر الاستشراق الجديد العرب والمسلمين؟
نشر في صوت البلد يوم 13 - 10 - 2016

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح الإسلام، والعرب والمسلمون كذلك، محطَّ اهتمام وسائل الإعلام في الغرب لأسباب تتعلَّقُ، كما لا يخفى، بما حدث عام 1973 من وقف تزويد البلدان الغربية بالنفط من الدول العربية، إثر اندلاع حرب تشرين (أكتوبر) 1973. وعلى هامش هذا الاهتمام السياسي – الاقتصادي – الإعلامي بالإسلام، ومعتنقيه، بدأ تحوُّلٌ ملحوظ في الدراسات التي تهتمُّ بهذه المنطقة من العالم، بحيث بدأ كثيرٌ من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون في الدراسات العربية والإسلامية يهجرون اختصاصاتهم ويلتحقون بما يُسمَّى «دراسات المناطق» Area Studies بسبب صعود أهميَّة الشرق الأوسط وزيادة عدد الأقسام في الجامعات الغربية التي تُدرِّس المساقات الخاصة بالمنطقة، وكذلك زيادة الطلب على الخبراء القادرين على تقديم معرفة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي لوزارات الخارجية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث والاستشارات، وبيوت الخبرة، في الغرب عامَّةً وأميركا خاصَّةً.
وقد برهنت الأحداث اللاحقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، على أهميّة الإسلام في التفكير الغربي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما ساهم تصاعد الظاهرة الإسلامية، بأطيافها المختلفة التي تتدرَّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولاً إلى طيفها الجهاديِّ العنيف، في زيادة الاهتمام بالإسلام، لا كدين أو ظاهرة سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية، واقتصادية، وكذلك ديموغرافية تهدد أوروبا بسبب تزايد أعداد المسلمين فيها فقط، بل وبصورة أساسية كظاهرة عولميَّة يمكن من خلالها ابتناء عدو جديد، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهكذا، تمَّ في السياسة والإعلام الغربيين، بناءُ كتلة سياسية – أيديولوجية جديدة في مواجهة الغرب، تتكوَّن من أطياف متباينة، وربما متناحرة، من التيارات والشِّيَع والأحزاب والدول الإسلامية، لتحلَّ محلَّ الكتلة الشيوعيَّة التي تفككت ولم تعد تهدد الديموقراطية الغربية.
وقد انخرط في التنظير لظاهرة الإسلام، وكتلته الحضاريَّة، كعدو مستقبليٍّ للغرب وكتلته الحضارية، خبراءُ في السياسة وعلماء اجتماع وعلماء نفس متخصصون في علم نفس الجماعات البشرية، ومستشرقون سابقون، ومختصون في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وصحافيون...، واضعين نُصبَ أعينهم الهدفَ الأساسيَّ للقوة الإمبريالية الأميركية، القطبِ الأوحد المهيمن على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية. ويتمثَّل هذا الهدف في إيجاد بديل لصيغة الحرب الباردة التي ساهمت في تكتيل الغرب، وكذلك الدول التي تدور في فلكه، حول الغرب الديموقراطي القادر على حماية البشرية من خطر الشيوعية. ومن الواضح أن الأمر ذاته يصحُّ قوله الآن بخصوص إيجاد تحالفٍ عالمي واسع ضد ظاهرة الإرهاب «الإسلامي»، والكتلة الحضارية الإسلامية التي تسعى إلى اجتياح الغرب أولاً، والعالم ثانياً، في موجة جديدة من حروب الجهاد!
في ضوء هذا التصور الاستراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب، يمكن فهم ما كتبه المستشرق البريطاني- الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون، وكذلك حائز نوبل للآداب عام 2001 ف. س. نايبول (رغم كونه مولودًا في الكاريبي من أصولٍ هندية)، عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب وعلى العالم، فبالرغم من اختلاف الخلفيات المعرفية، والتخصصات، والدوافع والتحيزات، والأصول العرقية، والانتماءات الحضارية والثقافية، فإن الصورة التي يبنونها للإسلام والمسلمين والعرب متقاربة، وهي صورة نمطية متحدّرة من الرؤى الاستشراقية القديمة ذاتها، صورة الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمُّه الطغيان، وهو أدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديموقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان. يُضافُ إلى هذه الصفات النمطيَّة التي نقع عليها عامَّةً في الميراث الاستشراقي، صفاتُ الحسد والبغض والحقد ورغبة الغرب الذي هزم الإسلام والمسلمين في الانتقام بعد أن كان في الماضي خاضعًا ومهيمَنًا عليه ومحكومًا من العرب والمسلمين.
لكن إذا كان المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيديولوجية على المعرفة العلمية والموضوعيَّة، لأن المطلوب هو أن تقود «المعرفة» التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب. ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، كان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروِّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية بين العرب والمسلمين. وهو ما أدى، كما نعرف، إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي.
إن الاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، دون السعي إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية (وينطبق هذا الكلام على ما كتبه مؤرخ مثل برنارد لويس خلال العقدين الماضيين على الأقلّ). وجوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق، المتحوّل والمتسرب في ثنايا دراسات المناطق والاهتمامات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها كقطب عالمي وحيد وأوحد. ويمكن أن نفسر دور كل من هنتنغتون ولويس في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، أي بدءًا من ظهور مقالة لويس «جذور السخط الإسلامي» (1990) في مجلة الأتلانتيك مَنثلي الأميركية ومقالة هنتنغتون «صراع الحضارات» في مجلة الفورين أفيرز الأميركية (1993)، انطلاقًا من رغبة صانع القرار الأميركي، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعود قوة المحافظين الجدد في أميركا أثناء فترة حكم جورج بوش الأب، في التزوُّد بنموذج نظري لبناء استراتيجية صراع جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.
ونحن نعثر في نموذجي برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، اللذين وُلد النموذج الثاني منهما من صُلب الأول، على الخطوط البارزة لفكرة الحرب على الإرهاب التي تبنتها أميركا، والغرب، ومعظم دول العالم، في زمن حكم الجمهوريين وحتى في زمن الديموقراطيين، وصولاً إلى إدارة أوباما. صحيحٌ أن الآثار الناتجة عن أحداث الربيع العربي، بصعود الإسلام السياسي ثمَّ دخول العالم العربي مرحلةً من الحروب الإثنيّة والطائفية والمذهبية، وصعود ظاهرة الإسلام الجهاديّ العنيف ممثَّلاً بالدولة الإسلامية (داعش)، قد وفَّرت تبريرًا لتجييش العالم من أجل الحرب على الإرهاب، لكن من الواضح أن الآثار العملية للنموذج النظري، الذي بناه كلٌّ من لويس وهنتنغتون لصناعة عدو ديني - حضاري – ثقافي، مستمرةٌ حتى الآن، حتى بعد اضمحلال قوة المحافظين الجدد في السياسة الأميركية. إن كلام رجال السياسة الغربيين، وعلى رأسهم باراك أوباما وزعماء الدول الأوروبية، عن كون الحرب على الإرهاب لا تستهدف الإسلام والمسلمين بل الإرهابيين (الذين يدَّعون أنهم يمثلون الإسلام) هو مجرد مراوغات سياسية وكلام دبلوماسي لا يعكس ما يتمُّ فعله على الأرض في الحقيقة. ما يحدث الآن هو نوعٌ من شَيْطَنَة الإسلام واتهام الدين وأتباعه بالإرهاب.
لقد برر الاستشراقُ القديم للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بتمثيله الشرق المتخلف غير العقلاني في مقابل صورة الغرب العقلاني المتحضر، احتلالَ هذا الشرق من أجل تحضيره ونقله من وهدة التخلف إلى ذرى الحضارة الغربية. كما يعطي ما أسميه هنا «الاستشراق الجديد» الإمبراطوريةَ الأميركية الحجةَ بضرورة شنِّ حربٍ عالميةٍ لا هوادة فيها على الإرهاب بغض النظر عن الضحايا الذين يسقطون بالعشرات، والمئات، في كلِّ لحظة. إن صانع القرار في الماضي، كما في الحاضر، يجد بين يديه المسوغات النظرية التي تمكنه من تبرير ما يفعله على جبهة السياسة وفي ميدان المعركة: أبيدوا المتوحشين جميعًا Exterminate All The Brutes، كما يحدث في رواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد.
.........

* من مقدمة كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم في بيروت.
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح الإسلام، والعرب والمسلمون كذلك، محطَّ اهتمام وسائل الإعلام في الغرب لأسباب تتعلَّقُ، كما لا يخفى، بما حدث عام 1973 من وقف تزويد البلدان الغربية بالنفط من الدول العربية، إثر اندلاع حرب تشرين (أكتوبر) 1973. وعلى هامش هذا الاهتمام السياسي – الاقتصادي – الإعلامي بالإسلام، ومعتنقيه، بدأ تحوُّلٌ ملحوظ في الدراسات التي تهتمُّ بهذه المنطقة من العالم، بحيث بدأ كثيرٌ من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون في الدراسات العربية والإسلامية يهجرون اختصاصاتهم ويلتحقون بما يُسمَّى «دراسات المناطق» Area Studies بسبب صعود أهميَّة الشرق الأوسط وزيادة عدد الأقسام في الجامعات الغربية التي تُدرِّس المساقات الخاصة بالمنطقة، وكذلك زيادة الطلب على الخبراء القادرين على تقديم معرفة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي لوزارات الخارجية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث والاستشارات، وبيوت الخبرة، في الغرب عامَّةً وأميركا خاصَّةً.
وقد برهنت الأحداث اللاحقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، على أهميّة الإسلام في التفكير الغربي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما ساهم تصاعد الظاهرة الإسلامية، بأطيافها المختلفة التي تتدرَّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولاً إلى طيفها الجهاديِّ العنيف، في زيادة الاهتمام بالإسلام، لا كدين أو ظاهرة سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية، واقتصادية، وكذلك ديموغرافية تهدد أوروبا بسبب تزايد أعداد المسلمين فيها فقط، بل وبصورة أساسية كظاهرة عولميَّة يمكن من خلالها ابتناء عدو جديد، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهكذا، تمَّ في السياسة والإعلام الغربيين، بناءُ كتلة سياسية – أيديولوجية جديدة في مواجهة الغرب، تتكوَّن من أطياف متباينة، وربما متناحرة، من التيارات والشِّيَع والأحزاب والدول الإسلامية، لتحلَّ محلَّ الكتلة الشيوعيَّة التي تفككت ولم تعد تهدد الديموقراطية الغربية.
وقد انخرط في التنظير لظاهرة الإسلام، وكتلته الحضاريَّة، كعدو مستقبليٍّ للغرب وكتلته الحضارية، خبراءُ في السياسة وعلماء اجتماع وعلماء نفس متخصصون في علم نفس الجماعات البشرية، ومستشرقون سابقون، ومختصون في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وصحافيون...، واضعين نُصبَ أعينهم الهدفَ الأساسيَّ للقوة الإمبريالية الأميركية، القطبِ الأوحد المهيمن على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية. ويتمثَّل هذا الهدف في إيجاد بديل لصيغة الحرب الباردة التي ساهمت في تكتيل الغرب، وكذلك الدول التي تدور في فلكه، حول الغرب الديموقراطي القادر على حماية البشرية من خطر الشيوعية. ومن الواضح أن الأمر ذاته يصحُّ قوله الآن بخصوص إيجاد تحالفٍ عالمي واسع ضد ظاهرة الإرهاب «الإسلامي»، والكتلة الحضارية الإسلامية التي تسعى إلى اجتياح الغرب أولاً، والعالم ثانياً، في موجة جديدة من حروب الجهاد!
في ضوء هذا التصور الاستراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب، يمكن فهم ما كتبه المستشرق البريطاني- الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون، وكذلك حائز نوبل للآداب عام 2001 ف. س. نايبول (رغم كونه مولودًا في الكاريبي من أصولٍ هندية)، عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب وعلى العالم، فبالرغم من اختلاف الخلفيات المعرفية، والتخصصات، والدوافع والتحيزات، والأصول العرقية، والانتماءات الحضارية والثقافية، فإن الصورة التي يبنونها للإسلام والمسلمين والعرب متقاربة، وهي صورة نمطية متحدّرة من الرؤى الاستشراقية القديمة ذاتها، صورة الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمُّه الطغيان، وهو أدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديموقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان. يُضافُ إلى هذه الصفات النمطيَّة التي نقع عليها عامَّةً في الميراث الاستشراقي، صفاتُ الحسد والبغض والحقد ورغبة الغرب الذي هزم الإسلام والمسلمين في الانتقام بعد أن كان في الماضي خاضعًا ومهيمَنًا عليه ومحكومًا من العرب والمسلمين.
لكن إذا كان المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيديولوجية على المعرفة العلمية والموضوعيَّة، لأن المطلوب هو أن تقود «المعرفة» التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب. ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، كان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروِّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية بين العرب والمسلمين. وهو ما أدى، كما نعرف، إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي.
إن الاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، دون السعي إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية (وينطبق هذا الكلام على ما كتبه مؤرخ مثل برنارد لويس خلال العقدين الماضيين على الأقلّ). وجوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق، المتحوّل والمتسرب في ثنايا دراسات المناطق والاهتمامات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها كقطب عالمي وحيد وأوحد. ويمكن أن نفسر دور كل من هنتنغتون ولويس في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، أي بدءًا من ظهور مقالة لويس «جذور السخط الإسلامي» (1990) في مجلة الأتلانتيك مَنثلي الأميركية ومقالة هنتنغتون «صراع الحضارات» في مجلة الفورين أفيرز الأميركية (1993)، انطلاقًا من رغبة صانع القرار الأميركي، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعود قوة المحافظين الجدد في أميركا أثناء فترة حكم جورج بوش الأب، في التزوُّد بنموذج نظري لبناء استراتيجية صراع جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.
ونحن نعثر في نموذجي برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، اللذين وُلد النموذج الثاني منهما من صُلب الأول، على الخطوط البارزة لفكرة الحرب على الإرهاب التي تبنتها أميركا، والغرب، ومعظم دول العالم، في زمن حكم الجمهوريين وحتى في زمن الديموقراطيين، وصولاً إلى إدارة أوباما. صحيحٌ أن الآثار الناتجة عن أحداث الربيع العربي، بصعود الإسلام السياسي ثمَّ دخول العالم العربي مرحلةً من الحروب الإثنيّة والطائفية والمذهبية، وصعود ظاهرة الإسلام الجهاديّ العنيف ممثَّلاً بالدولة الإسلامية (داعش)، قد وفَّرت تبريرًا لتجييش العالم من أجل الحرب على الإرهاب، لكن من الواضح أن الآثار العملية للنموذج النظري، الذي بناه كلٌّ من لويس وهنتنغتون لصناعة عدو ديني - حضاري – ثقافي، مستمرةٌ حتى الآن، حتى بعد اضمحلال قوة المحافظين الجدد في السياسة الأميركية. إن كلام رجال السياسة الغربيين، وعلى رأسهم باراك أوباما وزعماء الدول الأوروبية، عن كون الحرب على الإرهاب لا تستهدف الإسلام والمسلمين بل الإرهابيين (الذين يدَّعون أنهم يمثلون الإسلام) هو مجرد مراوغات سياسية وكلام دبلوماسي لا يعكس ما يتمُّ فعله على الأرض في الحقيقة. ما يحدث الآن هو نوعٌ من شَيْطَنَة الإسلام واتهام الدين وأتباعه بالإرهاب.
لقد برر الاستشراقُ القديم للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بتمثيله الشرق المتخلف غير العقلاني في مقابل صورة الغرب العقلاني المتحضر، احتلالَ هذا الشرق من أجل تحضيره ونقله من وهدة التخلف إلى ذرى الحضارة الغربية. كما يعطي ما أسميه هنا «الاستشراق الجديد» الإمبراطوريةَ الأميركية الحجةَ بضرورة شنِّ حربٍ عالميةٍ لا هوادة فيها على الإرهاب بغض النظر عن الضحايا الذين يسقطون بالعشرات، والمئات، في كلِّ لحظة. إن صانع القرار في الماضي، كما في الحاضر، يجد بين يديه المسوغات النظرية التي تمكنه من تبرير ما يفعله على جبهة السياسة وفي ميدان المعركة: أبيدوا المتوحشين جميعًا Exterminate All The Brutes، كما يحدث في رواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد.
.........

* من مقدمة كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.