5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غادة جميل تبحث شفاهية وكتابية الشعر الجاهلي
نشر في صوت البلد يوم 27 - 09 - 2016

قليلة هي الدراسات الأكاديمية الجادة التي تعكف علي دراسة قضية أو مشكلة يستطيع من خلالها الباحث أو الباحثة هنا الدكتورة غادة جميل قرني في كتابها "الشفاهية والكتابية في الشعر الجاهلي .. دراسة في تأويل النص" الصادر حديثا عن دار النابغة للطباعة والنشر.
تسعي الناقدة الدكتورة غادة جميل إلى تطبيق نظرية التأليف الشفهي على الشعر الجاهلي، متسائلة هل كان الشعر الجاهلي عروضاً شفهية متنوعة لحكاية أو حكايات معينة؟ وهل كان الشاعر الجاهلي أمياً لا يعرف القراءة والكتابة؟ وهل وجود عبارات صيغية متكررة في الشعر الجاهلي تعني شفاهية هذا الشعر أم أنها تشير إلى نوع من التقاليد الأدبية للكتابة في ذلك الزمان تحمل ميراثاً شفاهياً؟
وهل مطولات الشعر الجاهلي التي تنطوي على أغراض متنوعة قد تم تأليفها وتأديتها في لحظة زمنية واحدة؟ وهل ما قدمه الباحثون، استناداً إلى نظرية التأليف الشفهي، يمكن النظر إليه بوصفه تأويلاً جديداً جديراً بالتقدير؟ ولما لا يمكن النظر إلى النص الشعري الجاهلي بوصفه نصاً كتابياً يعتمد على التبصر والتأمل والنظر وتأويله طبقاً لذلك؟
وهل الروايات المختلفة للقصائد تجعلنا نعتقد أن النص الشعري الجاهلي تم تأليفه شفاهياً أو هو وجود عائم يتخلق مع كل أداء؟ ولماذا لا نعتقد أن فكرة الراوي هي المسئولة عن الروايات المختلفة للقصائد، وهذه الفكرة لا تنفي كتابية النص ذاته؟ ولماذا لا نعتقد أن النص الجاهلي هو ممارسة كتابية تدفعنا إلى الدخول في عالم الدال ولعبته، ففاعلية الكتابة مشروطة بهذه اللعبة ومراح الدال العفوي الذي يتأبى على القولبة والمعنى الثابت والمدلول المسيج المتعالي ويستجيب إلى الإحالة النهائية والارتحال الدائم؟
وترى الدكتورة غادة جميل أن: "الشفاهية والكتابية في الشعر الجاهلي: دراسة في تأويل النص"، وهو عنوان، فيما نظن، يحمل دالين أساسيين هما: الفحص والتأويل، فأولهما يسعى إلى وضع تصورات عن طبيعة النص الشعري الجاهلي، وثانيهما يعتمد على هذه التصورات، فينهض بعملية تأويل النص. ولذلك فإن هذه الدراسة تقع في بابين يعني أولهما بعملية الفحص ويعني ثانيهما بعملية التأويل.
ويشتمل الباب الأول، المعنون ب "شفاهية وكتابية النص الشعري الجاهلي"، على فصلين، يناقش أولهما مسألة شفاهية النص الشعري الجاهلي، ويعتني بوجهة النظر التي عاينت النص الشعري الجاهلي بوصفه نصاً شفاهياً، مميزاً في البداية بين النزعة الشفاهية والنزعة الكتابية وطبيعة العلاقة بين النزعتين، ومنتقلاً بعد ذلك إلى المسألة الهومرية؛ وتأسيس ميلمان باري وألبرت لورد لنظرية التأليف الشفهي، ثم يعرض بعد ذلك دراسات المستشرقين التي طبقت نظرية التأليف الشفهي على الشعر الجاهلي، ووقف عند دراسة جيمس مونرو المعنونة ب "التأليف الشفهي في شعر ما قبل الإسلام"، ودراسة مايكل زويتلر عن: "التقليد الشفهي للشعر العربي الكلاسيكي: خصوصيته وتضميناته".
وينتقل بعد ذلك إلى عرض ما قدمه الدارسون العرب حول شفاهية الشعر الجاهلي فوقف عند دراستين أولاهما: "مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي"، ل عبدالمنعم خضر الزبيدي، وثانيتهما: "الشعر والغناء في ضوء الرواية الشفوية"، ل فضل بن عمار العماري، وينتهي هذا الفصل بتقييم لنظرية التأليف الشفهي ومحاولة تطبيقها على النص الشعري الجاهلي.
أما الفصل الثاني المعنون ب "كتابية النص الشعري الجاهلي"، فإنه ينفتح بالإشارة إلى أن الجهود التي قدمها مستشرقون وعرب حول شفاهية الشعر الجاهلي لم تفحص مسألة كتابيته، وتأسست على فكرة جوهرية هي أن الشعر الجاهلي صدر عن شعراء لا يعرفون الكتابة والقراءة أو شعراء أميون، ولذلك بدأ فحص مسألة كتابية النص الشعري الجاهلي بمناقشة مصطلح "الجاهلية" وما يشير إليه من معان منتقلاً إلى مصطلح "الأمية"، ثم يعرض بعد ذلك شيوع القراءة والكتابة بين العرب في العصر الجاهلي، وفحص أدوات الكتابة وموادها والمكتوب ذاته، ونشأة الخط العربي.
وينتقل بعد ذلك إلى مناقشة طرائق التأليف الشعري التي تؤكد اختلاف لحظة التأليف الزمني عن لحظة الأداء أو القراءة، ثم يناقش بعد ذلك فكرة تخزين المكتوب أو حفظه مشيراً إلى أن فكرة المعلقات، التي تؤكد دوال الحفظ والتخزين والاستحسان، تحيل بدورها إلى دوال الكتابة.
ويناقش الفصل بعد ذلك ممارسة الشعراء للكتابة الشعرية وما تشير إليه الروايات التاريخية عن انتخاب الألفاظ وتنقيحها، منتهياً إلى أن النص الشعري الجاهلي قد تمت كتابته فعلياً، وتم إنتاجه عن طريق الكتابة وليس عن طريق التأليف الشفهي. لكن هذا لا يمنع من تسلل قوالب صياغية إلى المكتوب يمكن تعليلها بالأصل الشفاهي للنص المكتوب. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك أميين نظموا شعراً شفاهياً، لكن هذا الشعر لا يمكن أن يكون قصيدة مطولة متعددة الأغراض وإنما هو تعبير عن موقف معين يستدعي الارتجال والقول العفوي.
ويشتمل الباب الثاني المعنون ب "تأويل النص" على توطئة وثلاثة فصول، وتشير التوطئة إلى أن الفحص الذي تم في الباب الأول انتهى إلى أن النص الشعري الجاهلي قد تم إنتاجه عن طريق الكتابة، وأن النص الشعري الجاهلي لا يقع في دائرة العروض الشفاهية المتنوعة لحكاية ما تفترض تشابهاً وتكراراً في الصيغ والعبارات. وربما يبدو صحيحاً أن الشعر الجاهلي، مثله مثل أي شعر آخر، قد يقع فيه صيغ وعبارات متكررة، لكن ذلك لا يقوم دليلاً على أنه شعر قد تم إنتاجه شفاهياً، وإنما يشير إلى تقاليد معينة للكتابة الأدبية، هذه التقاليد ربما تحمل ميراثاً شفهياً.
أما الفصول الثلاثة، فقد حملت عناوين: المرأة والطلل والظعائن، والوشم، والحيوان؛ لكنها اعتمدت على وعي تأويلي وصفه بول ريكور ب "العمل في الفكر الذي ينطوي أو يتوقف على فك شفرة المعنى المختفي في المعنى الظاهر، أو كشف وفتح مستويات من المعنى المضمن في المعنى الحرفي".
ويتأسس هذا الوعي على ثلاث استراتيجيات تأويلية، أولها: النظر إلى النص الشعري الجاهلي بوصفه ممارسة كتابية، وثانيهما: تتبع الدوال في النص بما يقتضي النظر إلى دوال الطلل مقترنة بدوال المرأة والظعائن ومحيلة إلى دوال الوشم والحيوان. إن التأويل في تلك الحالة ينزع إلى لعبة الدال، فيتحرك من الأمام إلى الخلف، ويتحرك أيضاً من الخلف إلى الأمام، لكنه يظل محكوماً بانتشارية الدوال في النص، تلك الدوال، فيما أتصور، لا تكف عن الإحالة والاستدعاء لدوال أخرى لانهائية.
وثالثها: يتعلق بالنماذج التي تم تأويلها في الفصول الثلاثة، فهذه النماذج لم تقف فقط عند شعراء مشهورين، وإنما تجاوزت ذلك إلى شعراء مهمشين أو شعراء لم تسلط عليهم الأضواء النقدية بطريقة كافية أو شعراء القبائل. إن التأويل يتعامل مع منتخب من الشعراء يشبه إلى حد كبير منتخب الأصمعيات أو المفضليات أو غيرها. ويجب الانتباه أن الفصول على الرغم من أنها حملت عناوين محددة، فإنها تأولت مفردات متنوعة مثل الحكمة والفخر والرحلة والهجاء وغير ذلك. إن التأويل يجول في القصيدة من الأمام إلى الخلف، ويتحرك من الخلف إلى الأمام، ويستدعي دوال لكي يتم تأويل دوال أخرى.
بقيت نقطة أخيرة وهي تتعلق بالمنهج المستخدم في هذه الدراسة، فإنه يعتمد على مفهومين أساسيين هما الفحص والتأويل، ولقد استدعى المفهوم الأول أطروحات النقد الشارح من حيث إنها أطروحات تقوم بعملية "فحص النظريات والمقاربات النصية للمعنى النصي، وعلاقة الكاتب والقارئ بالنص، والمعيار الذي يتم بمقتضاه الحكم على النصوص والصناعات الثقافية الأخرى"، أما المفهوم الثاني فإنه استدعى أطروحات تفكيكية في المقام الأول، وهي أطروحات تتأسس على لعبة الدال أو الدال العائم الذي يظل في حالة من البحث المستمر عن مدلوله، وإن وجده يتحول إلى دال جديد وسلسلة لانهائية من الدوال. إن التأويل في تلك الحالة محكوم بانتشارية الدوال ومراحها العفوي الذي يتأبى على القولبة والمعنى الثابت.
قليلة هي الدراسات الأكاديمية الجادة التي تعكف علي دراسة قضية أو مشكلة يستطيع من خلالها الباحث أو الباحثة هنا الدكتورة غادة جميل قرني في كتابها "الشفاهية والكتابية في الشعر الجاهلي .. دراسة في تأويل النص" الصادر حديثا عن دار النابغة للطباعة والنشر.
تسعي الناقدة الدكتورة غادة جميل إلى تطبيق نظرية التأليف الشفهي على الشعر الجاهلي، متسائلة هل كان الشعر الجاهلي عروضاً شفهية متنوعة لحكاية أو حكايات معينة؟ وهل كان الشاعر الجاهلي أمياً لا يعرف القراءة والكتابة؟ وهل وجود عبارات صيغية متكررة في الشعر الجاهلي تعني شفاهية هذا الشعر أم أنها تشير إلى نوع من التقاليد الأدبية للكتابة في ذلك الزمان تحمل ميراثاً شفاهياً؟
وهل مطولات الشعر الجاهلي التي تنطوي على أغراض متنوعة قد تم تأليفها وتأديتها في لحظة زمنية واحدة؟ وهل ما قدمه الباحثون، استناداً إلى نظرية التأليف الشفهي، يمكن النظر إليه بوصفه تأويلاً جديداً جديراً بالتقدير؟ ولما لا يمكن النظر إلى النص الشعري الجاهلي بوصفه نصاً كتابياً يعتمد على التبصر والتأمل والنظر وتأويله طبقاً لذلك؟
وهل الروايات المختلفة للقصائد تجعلنا نعتقد أن النص الشعري الجاهلي تم تأليفه شفاهياً أو هو وجود عائم يتخلق مع كل أداء؟ ولماذا لا نعتقد أن فكرة الراوي هي المسئولة عن الروايات المختلفة للقصائد، وهذه الفكرة لا تنفي كتابية النص ذاته؟ ولماذا لا نعتقد أن النص الجاهلي هو ممارسة كتابية تدفعنا إلى الدخول في عالم الدال ولعبته، ففاعلية الكتابة مشروطة بهذه اللعبة ومراح الدال العفوي الذي يتأبى على القولبة والمعنى الثابت والمدلول المسيج المتعالي ويستجيب إلى الإحالة النهائية والارتحال الدائم؟
وترى الدكتورة غادة جميل أن: "الشفاهية والكتابية في الشعر الجاهلي: دراسة في تأويل النص"، وهو عنوان، فيما نظن، يحمل دالين أساسيين هما: الفحص والتأويل، فأولهما يسعى إلى وضع تصورات عن طبيعة النص الشعري الجاهلي، وثانيهما يعتمد على هذه التصورات، فينهض بعملية تأويل النص. ولذلك فإن هذه الدراسة تقع في بابين يعني أولهما بعملية الفحص ويعني ثانيهما بعملية التأويل.
ويشتمل الباب الأول، المعنون ب "شفاهية وكتابية النص الشعري الجاهلي"، على فصلين، يناقش أولهما مسألة شفاهية النص الشعري الجاهلي، ويعتني بوجهة النظر التي عاينت النص الشعري الجاهلي بوصفه نصاً شفاهياً، مميزاً في البداية بين النزعة الشفاهية والنزعة الكتابية وطبيعة العلاقة بين النزعتين، ومنتقلاً بعد ذلك إلى المسألة الهومرية؛ وتأسيس ميلمان باري وألبرت لورد لنظرية التأليف الشفهي، ثم يعرض بعد ذلك دراسات المستشرقين التي طبقت نظرية التأليف الشفهي على الشعر الجاهلي، ووقف عند دراسة جيمس مونرو المعنونة ب "التأليف الشفهي في شعر ما قبل الإسلام"، ودراسة مايكل زويتلر عن: "التقليد الشفهي للشعر العربي الكلاسيكي: خصوصيته وتضميناته".
وينتقل بعد ذلك إلى عرض ما قدمه الدارسون العرب حول شفاهية الشعر الجاهلي فوقف عند دراستين أولاهما: "مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي"، ل عبدالمنعم خضر الزبيدي، وثانيتهما: "الشعر والغناء في ضوء الرواية الشفوية"، ل فضل بن عمار العماري، وينتهي هذا الفصل بتقييم لنظرية التأليف الشفهي ومحاولة تطبيقها على النص الشعري الجاهلي.
أما الفصل الثاني المعنون ب "كتابية النص الشعري الجاهلي"، فإنه ينفتح بالإشارة إلى أن الجهود التي قدمها مستشرقون وعرب حول شفاهية الشعر الجاهلي لم تفحص مسألة كتابيته، وتأسست على فكرة جوهرية هي أن الشعر الجاهلي صدر عن شعراء لا يعرفون الكتابة والقراءة أو شعراء أميون، ولذلك بدأ فحص مسألة كتابية النص الشعري الجاهلي بمناقشة مصطلح "الجاهلية" وما يشير إليه من معان منتقلاً إلى مصطلح "الأمية"، ثم يعرض بعد ذلك شيوع القراءة والكتابة بين العرب في العصر الجاهلي، وفحص أدوات الكتابة وموادها والمكتوب ذاته، ونشأة الخط العربي.
وينتقل بعد ذلك إلى مناقشة طرائق التأليف الشعري التي تؤكد اختلاف لحظة التأليف الزمني عن لحظة الأداء أو القراءة، ثم يناقش بعد ذلك فكرة تخزين المكتوب أو حفظه مشيراً إلى أن فكرة المعلقات، التي تؤكد دوال الحفظ والتخزين والاستحسان، تحيل بدورها إلى دوال الكتابة.
ويناقش الفصل بعد ذلك ممارسة الشعراء للكتابة الشعرية وما تشير إليه الروايات التاريخية عن انتخاب الألفاظ وتنقيحها، منتهياً إلى أن النص الشعري الجاهلي قد تمت كتابته فعلياً، وتم إنتاجه عن طريق الكتابة وليس عن طريق التأليف الشفهي. لكن هذا لا يمنع من تسلل قوالب صياغية إلى المكتوب يمكن تعليلها بالأصل الشفاهي للنص المكتوب. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك أميين نظموا شعراً شفاهياً، لكن هذا الشعر لا يمكن أن يكون قصيدة مطولة متعددة الأغراض وإنما هو تعبير عن موقف معين يستدعي الارتجال والقول العفوي.
ويشتمل الباب الثاني المعنون ب "تأويل النص" على توطئة وثلاثة فصول، وتشير التوطئة إلى أن الفحص الذي تم في الباب الأول انتهى إلى أن النص الشعري الجاهلي قد تم إنتاجه عن طريق الكتابة، وأن النص الشعري الجاهلي لا يقع في دائرة العروض الشفاهية المتنوعة لحكاية ما تفترض تشابهاً وتكراراً في الصيغ والعبارات. وربما يبدو صحيحاً أن الشعر الجاهلي، مثله مثل أي شعر آخر، قد يقع فيه صيغ وعبارات متكررة، لكن ذلك لا يقوم دليلاً على أنه شعر قد تم إنتاجه شفاهياً، وإنما يشير إلى تقاليد معينة للكتابة الأدبية، هذه التقاليد ربما تحمل ميراثاً شفهياً.
أما الفصول الثلاثة، فقد حملت عناوين: المرأة والطلل والظعائن، والوشم، والحيوان؛ لكنها اعتمدت على وعي تأويلي وصفه بول ريكور ب "العمل في الفكر الذي ينطوي أو يتوقف على فك شفرة المعنى المختفي في المعنى الظاهر، أو كشف وفتح مستويات من المعنى المضمن في المعنى الحرفي".
ويتأسس هذا الوعي على ثلاث استراتيجيات تأويلية، أولها: النظر إلى النص الشعري الجاهلي بوصفه ممارسة كتابية، وثانيهما: تتبع الدوال في النص بما يقتضي النظر إلى دوال الطلل مقترنة بدوال المرأة والظعائن ومحيلة إلى دوال الوشم والحيوان. إن التأويل في تلك الحالة ينزع إلى لعبة الدال، فيتحرك من الأمام إلى الخلف، ويتحرك أيضاً من الخلف إلى الأمام، لكنه يظل محكوماً بانتشارية الدوال في النص، تلك الدوال، فيما أتصور، لا تكف عن الإحالة والاستدعاء لدوال أخرى لانهائية.
وثالثها: يتعلق بالنماذج التي تم تأويلها في الفصول الثلاثة، فهذه النماذج لم تقف فقط عند شعراء مشهورين، وإنما تجاوزت ذلك إلى شعراء مهمشين أو شعراء لم تسلط عليهم الأضواء النقدية بطريقة كافية أو شعراء القبائل. إن التأويل يتعامل مع منتخب من الشعراء يشبه إلى حد كبير منتخب الأصمعيات أو المفضليات أو غيرها. ويجب الانتباه أن الفصول على الرغم من أنها حملت عناوين محددة، فإنها تأولت مفردات متنوعة مثل الحكمة والفخر والرحلة والهجاء وغير ذلك. إن التأويل يجول في القصيدة من الأمام إلى الخلف، ويتحرك من الخلف إلى الأمام، ويستدعي دوال لكي يتم تأويل دوال أخرى.
بقيت نقطة أخيرة وهي تتعلق بالمنهج المستخدم في هذه الدراسة، فإنه يعتمد على مفهومين أساسيين هما الفحص والتأويل، ولقد استدعى المفهوم الأول أطروحات النقد الشارح من حيث إنها أطروحات تقوم بعملية "فحص النظريات والمقاربات النصية للمعنى النصي، وعلاقة الكاتب والقارئ بالنص، والمعيار الذي يتم بمقتضاه الحكم على النصوص والصناعات الثقافية الأخرى"، أما المفهوم الثاني فإنه استدعى أطروحات تفكيكية في المقام الأول، وهي أطروحات تتأسس على لعبة الدال أو الدال العائم الذي يظل في حالة من البحث المستمر عن مدلوله، وإن وجده يتحول إلى دال جديد وسلسلة لانهائية من الدوال. إن التأويل في تلك الحالة محكوم بانتشارية الدوال ومراحها العفوي الذي يتأبى على القولبة والمعنى الثابت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.