يراكم الفنان اللبناني أيمن بعلبكي في معرضه البيروتي الجديد المعنون ب”بلو آب” ضرباته النزقة، حتى يشق طريقه إلى باطن تشعبات الهول وصولاً إلى تفكيك وفضح نزعة العدوان المتأصلة في النفس البشرية. لا زهور في لوحات الفنان وإن عكفت، كما في أعمال فنية سابقة له، على تسلق خلفيات لوحاته مدججة بورديتها الفاقعة كقهقهات رديئة انفرجت عن شفاه مهرج لوثته حمرة الدماء المهدورة. التقنية “القصوى” البادية في أعماله تبدو مُحتفية بذاتها، وبنبرتها المحتدمة التي كأنها أرادت أن تلتحم في تدفقها المحموم بحصان من نار، ليس هو إلاّ الشغل المتسارع على مساحات جدارية لا تتحمل التروي لتخرج مُعبرة عما أخذت على عاتقها التعبير عنه. استطاع أيمن بعلبكي أن يكسر جليد التعبير عن الحرب اللبنانية عبر صدق تجربته، في وقت عمد فيه فنانون لبنانيون إلى تناول الحرب اللبنانية وكأنها جزء من فولكلور يستسيغه الآخرون. لا يعني ذلك أن الفنان تناول فقط الحرب اللبنانية من خلال فكرة الارتدادات، إذ تطرق إلى العديد من الحوادث العنفية العالمية التي أسست لمنطق معاصر في الفكر السياسي حيث الإنسان، أو موته، أو عذابه، هو آخر ما يهم وإن تحلت التصريحات والمواقف العالمية حياله بشتى فنون النفاق. الأهم من ذلك أن أيمن بعلبكي ساهم في تكريس نظرية نهاية الإنسانية بشكل واقعي بحت من خلال الفن، يكفي أن تنظر إلى جدارية تتوسط صالة العرض، حيث يصور فيها الخراب في حمص السورية، أو “الخراب” فحسب، لندرك أن العدمية باتت بلا زمن ولا مكان محدد. تحيل استدارة التلال تلك وعدم انتظامها العضوي إلى حزن عميق يكاد يكون غير مؤلم لشدة “ذهنيته”، استدارة تحتضن حياة سابقة ونبضا حيويا انخفض وزال وكأن شيئا لم يكن. يبدو أن الفنان ”استفاد” من مراقبته وعيشه في بلده الحاضن لحروب واستعراضات متنوعة من العنف الدائم، إذ برع في إظهار لبنان كمُنطلق أساسي لفهم مسببات ونتائج شتى ضروب العنف التي تلقتها ولا زالت تتلقاها شعوب الشرق الأوسط، كما ردّ أيمن بعلبكي، في معرضه “الارتدادي” هذا، الصاع صاعين حين عمد إلى فضح التعتيم السقيم والصمت الجماعي على حقيقة ما جرى ويجري في لبنان. وجاء عمله أيضا كفعل كشفيّ شخصي لما تلقاه من حالات عنفيّة تعرض لها كأي لبناني، ربما ذلك هو أكثر ما مكّنه من التماهي والتعبير عن عناوين أوسع، أوسع بحجم الشرق الأوسط. أشاع الفنان في معرضه هذا أجزاء من السر “اللبناني” الذي هو أصلا مشاع، ولكن لا أحد يرغب في أن يتكلم عنه لأنه يدين الجميع، جميع اللبنانيين. ولو في لحظة واحدة سيشعر زائر المعرض بأن موضوع النسيان اللبناني قد أُقحم إقحاما، يكفي أن نرى كيف تجلى ارتدادا لفعل عنيف، كفعل إمحاء الذاكرة الجماعية، في عنف مُضاعف ليس هو إلاّ تولي شتى أنواع مجرمي الحرب اللبنانية شؤون لبنان. وإذا كانت الذاكرة الحادة هي منطلق الأفعال الانتقامية أو الارتدادات أو فضح نتائج العنف مهما ابتعدت الأسباب زمنيا عن نتائجها، فإن النسيان هو سيد الأفعال العنفية اللبنانية المعاصرة. قدم الفنان في معارضه السابقة معالم متنوعة للجحيم، هو اليوم يصور ما بعد الجحيم، نفحة صمت ساخنة تلفح كل الأعمال الموجودة بالقرب من بعضها البعض وإن تجلت في بعضها ألوان زاهية كزرقة سماء واهية تشرف على الرعب، وهو يستكين من فعله على أكوام الرماد والقتلى غير المرئيين والمنتشرين في نسغ الخراب. وبالرغم من أن الفنان بنى معرضه على منطق ترابط الأسباب بالنتائج، فإن لهول ما قدم ولتشابهه، فقدت فكرة التلاحق التاريخي وواقعية الاختلافات الجغرافية قيمتها، صار الخراب خرابا واحدا، تعددت الأسباب والموت واحد. السر المشاع يحيلنا عمل أيمن بعلبكي، حيث تتشابه صور الدمار، إلى نظرية والتر بنجامن المُنطلقة من تقنية المونتاج، لأن الفنان لا يؤرخ للكوارث بقدر ما يؤرخ صورها، تبدو اللوحات كزوبعة واحدة تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، حيث لا يستحيل أن تتقدم اللوحات/النتائج على حوادثها المُسببة. ذاكرة الفنان بكل ما “يشعّ” عنها تبدو محفورة في لاوعيه غير الآبه بالتواريخ، بقدر ما هو معنيّ بالدمار الشامل الحاصل على كل المستويات. استخدم الفنان كلمات من ضوء ووضعها بالقرب من مجموعة أعمال، نذكر منها “منطقة منزوعة الرايات”، غير أن اللوحة التي أراد أيمن بعلبكي أن يضعها في “نهاية” تسلسل أعمال المعرض هي الأكثر تعبيرا عن فكرة المعرض. اللوحة تصور “الدوم سيتي سنتر”، مبنى شديد الرمزية بالنسبة إلى ثيمة المعرض، إذ تعرض لتدمير جزئي خلال الحرب اللبنانية، لكنه لا يزال إلى اليوم صامدا وسط حركة البنيان. والأهم من ذلك هو أن مصير هذا الصرح التاريخي، المرتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة الجماعية تمّ التوافق على هدمه لصالح ناطحة سحاب لا تمت إلى تاريخ بيروت بشيء، لا بحلوها ولا بمرّها.. اختار الفنان لوحته “الأخيرة” هذه لكي تمثله، ثم زرع في وسطها كلمة من ضوء النيون: “النهاية”. المبنى يحمل أيضا اسم “البيضة” نظرا لشكله، أما اللوحة التي تصوره وكأنه في أحد أيام الشتاء المعتمة، فتذكر بلوحة لفنان آخر هو فلاديمير كوش “شروق فوق المحيط”، تظهر فيها بيضة تتكسر ضمن مشهد طبيعي لتخرج منها شمس صباحية تشرق.. من الغرب، غير أن أيمن بعلبكي هو أكثر درامية في لوحته، إذ تنبثق كلمته المُضيئة من رطوبة المبنى البيضاوي لتلقي بشعاعها الكئيب في فم الوحشة المنتشرة في اللوحة. يراكم الفنان اللبناني أيمن بعلبكي في معرضه البيروتي الجديد المعنون ب”بلو آب” ضرباته النزقة، حتى يشق طريقه إلى باطن تشعبات الهول وصولاً إلى تفكيك وفضح نزعة العدوان المتأصلة في النفس البشرية. لا زهور في لوحات الفنان وإن عكفت، كما في أعمال فنية سابقة له، على تسلق خلفيات لوحاته مدججة بورديتها الفاقعة كقهقهات رديئة انفرجت عن شفاه مهرج لوثته حمرة الدماء المهدورة. التقنية “القصوى” البادية في أعماله تبدو مُحتفية بذاتها، وبنبرتها المحتدمة التي كأنها أرادت أن تلتحم في تدفقها المحموم بحصان من نار، ليس هو إلاّ الشغل المتسارع على مساحات جدارية لا تتحمل التروي لتخرج مُعبرة عما أخذت على عاتقها التعبير عنه. استطاع أيمن بعلبكي أن يكسر جليد التعبير عن الحرب اللبنانية عبر صدق تجربته، في وقت عمد فيه فنانون لبنانيون إلى تناول الحرب اللبنانية وكأنها جزء من فولكلور يستسيغه الآخرون. لا يعني ذلك أن الفنان تناول فقط الحرب اللبنانية من خلال فكرة الارتدادات، إذ تطرق إلى العديد من الحوادث العنفية العالمية التي أسست لمنطق معاصر في الفكر السياسي حيث الإنسان، أو موته، أو عذابه، هو آخر ما يهم وإن تحلت التصريحات والمواقف العالمية حياله بشتى فنون النفاق. الأهم من ذلك أن أيمن بعلبكي ساهم في تكريس نظرية نهاية الإنسانية بشكل واقعي بحت من خلال الفن، يكفي أن تنظر إلى جدارية تتوسط صالة العرض، حيث يصور فيها الخراب في حمص السورية، أو “الخراب” فحسب، لندرك أن العدمية باتت بلا زمن ولا مكان محدد. تحيل استدارة التلال تلك وعدم انتظامها العضوي إلى حزن عميق يكاد يكون غير مؤلم لشدة “ذهنيته”، استدارة تحتضن حياة سابقة ونبضا حيويا انخفض وزال وكأن شيئا لم يكن. يبدو أن الفنان ”استفاد” من مراقبته وعيشه في بلده الحاضن لحروب واستعراضات متنوعة من العنف الدائم، إذ برع في إظهار لبنان كمُنطلق أساسي لفهم مسببات ونتائج شتى ضروب العنف التي تلقتها ولا زالت تتلقاها شعوب الشرق الأوسط، كما ردّ أيمن بعلبكي، في معرضه “الارتدادي” هذا، الصاع صاعين حين عمد إلى فضح التعتيم السقيم والصمت الجماعي على حقيقة ما جرى ويجري في لبنان. وجاء عمله أيضا كفعل كشفيّ شخصي لما تلقاه من حالات عنفيّة تعرض لها كأي لبناني، ربما ذلك هو أكثر ما مكّنه من التماهي والتعبير عن عناوين أوسع، أوسع بحجم الشرق الأوسط. أشاع الفنان في معرضه هذا أجزاء من السر “اللبناني” الذي هو أصلا مشاع، ولكن لا أحد يرغب في أن يتكلم عنه لأنه يدين الجميع، جميع اللبنانيين. ولو في لحظة واحدة سيشعر زائر المعرض بأن موضوع النسيان اللبناني قد أُقحم إقحاما، يكفي أن نرى كيف تجلى ارتدادا لفعل عنيف، كفعل إمحاء الذاكرة الجماعية، في عنف مُضاعف ليس هو إلاّ تولي شتى أنواع مجرمي الحرب اللبنانية شؤون لبنان. وإذا كانت الذاكرة الحادة هي منطلق الأفعال الانتقامية أو الارتدادات أو فضح نتائج العنف مهما ابتعدت الأسباب زمنيا عن نتائجها، فإن النسيان هو سيد الأفعال العنفية اللبنانية المعاصرة. قدم الفنان في معارضه السابقة معالم متنوعة للجحيم، هو اليوم يصور ما بعد الجحيم، نفحة صمت ساخنة تلفح كل الأعمال الموجودة بالقرب من بعضها البعض وإن تجلت في بعضها ألوان زاهية كزرقة سماء واهية تشرف على الرعب، وهو يستكين من فعله على أكوام الرماد والقتلى غير المرئيين والمنتشرين في نسغ الخراب. وبالرغم من أن الفنان بنى معرضه على منطق ترابط الأسباب بالنتائج، فإن لهول ما قدم ولتشابهه، فقدت فكرة التلاحق التاريخي وواقعية الاختلافات الجغرافية قيمتها، صار الخراب خرابا واحدا، تعددت الأسباب والموت واحد. السر المشاع يحيلنا عمل أيمن بعلبكي، حيث تتشابه صور الدمار، إلى نظرية والتر بنجامن المُنطلقة من تقنية المونتاج، لأن الفنان لا يؤرخ للكوارث بقدر ما يؤرخ صورها، تبدو اللوحات كزوبعة واحدة تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، حيث لا يستحيل أن تتقدم اللوحات/النتائج على حوادثها المُسببة. ذاكرة الفنان بكل ما “يشعّ” عنها تبدو محفورة في لاوعيه غير الآبه بالتواريخ، بقدر ما هو معنيّ بالدمار الشامل الحاصل على كل المستويات. استخدم الفنان كلمات من ضوء ووضعها بالقرب من مجموعة أعمال، نذكر منها “منطقة منزوعة الرايات”، غير أن اللوحة التي أراد أيمن بعلبكي أن يضعها في “نهاية” تسلسل أعمال المعرض هي الأكثر تعبيرا عن فكرة المعرض. اللوحة تصور “الدوم سيتي سنتر”، مبنى شديد الرمزية بالنسبة إلى ثيمة المعرض، إذ تعرض لتدمير جزئي خلال الحرب اللبنانية، لكنه لا يزال إلى اليوم صامدا وسط حركة البنيان. والأهم من ذلك هو أن مصير هذا الصرح التاريخي، المرتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة الجماعية تمّ التوافق على هدمه لصالح ناطحة سحاب لا تمت إلى تاريخ بيروت بشيء، لا بحلوها ولا بمرّها.. اختار الفنان لوحته “الأخيرة” هذه لكي تمثله، ثم زرع في وسطها كلمة من ضوء النيون: “النهاية”. المبنى يحمل أيضا اسم “البيضة” نظرا لشكله، أما اللوحة التي تصوره وكأنه في أحد أيام الشتاء المعتمة، فتذكر بلوحة لفنان آخر هو فلاديمير كوش “شروق فوق المحيط”، تظهر فيها بيضة تتكسر ضمن مشهد طبيعي لتخرج منها شمس صباحية تشرق.. من الغرب، غير أن أيمن بعلبكي هو أكثر درامية في لوحته، إذ تنبثق كلمته المُضيئة من رطوبة المبنى البيضاوي لتلقي بشعاعها الكئيب في فم الوحشة المنتشرة في اللوحة.