5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مي وجبران.. هل كانت الأديبة الحسناء تكذب على «النبيّ» في رسائلها معه؟
نشر في صوت البلد يوم 22 - 09 - 2016

رغم ما قيل بأنّ الثق افة العربية في تاريخها ثقافة حجب وستر، إلا أن آدابها تكشف عن كونها أُمّة بوح واعتراف، سواء في شعرها أو في نثرها. ولعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المترسّلين ممن ملكوا البلاغة وقلّبوها على وجوهها للتعبير والتأثير. فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ. وقد قيل إن الرسائل هي «مخاطبة الغائب بلسان القلم»، وإنّها «ترجمان الجنان، ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد».
مي وجبران
في العصر الحديث، شرع الأدباء في عرض قصصهم والبوح بتجاربهم في الكتابة والحياة ضمن رسائل شخصية كانوا يتبادلونها بينهم ومع مجايلي عصرهم. وكانت الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران هي أشهر هذه الرسائل على الإطلاق، كما حققتها سلمى الحفار الكزبري وسهيل بشروني تحت عنوان «الشعلة الزرقاء» الذي استوحياه من تعبير جبران عن حضوره الذاتي المفارق في العالم، والموزّع بين ما هو عليه وما يصبو إليه بأشواقه وانتفاضة روحه، إذ كتب يقول «.. هل بإمكان الذات المقتبسة، وهي من الأرض، أن تحور وتغير الذات الوضعية، وهي من السماء؟ إنّ تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، وتحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر». فقد كان يتوق، من الهناك، إلى «الشعلة المقدسة» التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى درجات صفائها وسعيها للفناء في الآخر.
الأنا الغنائي وضبابيّته:
في الرسائل التي كان يبعث بها جبران خليل جبران إلى مي زيادة، يكشف عن طفولته، وارتباطه بأمّه، وأحلامه، وميوله وذكرياته، وصحّته، وأسرار نفسيته، ومشاريعه وآرائه في الأدب والروح والفنّ. وقد كان يخاطب ميّ التي شُغف بها حُبّاً، كمن يخاطب نفسه بصدق وبساطة وعفوية. والأغرب أن العلاقة «الرسائلية» بينهما توطّدت بشكل غريب ودامت زهاء عشرين عامًا من دون أن يلتقيا إلا في الضباب، وبينهما «سبعة آلاف ميل» كما قال جبران، أو «البحار المنبسطة» بتعبير ميّ.
في إحداها مؤرخة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920، يكتب جبران بخصوص نسبة تمثيل عمليه «المجنون» و«المواكب» لأناه الغنائية التي ينظر إليها متوتّرًا بين الشخصي واللاشخصي، قائلاً: «وإذا صح ظنّي أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن المجنون ليس أنا بكلّيتي». فأنا الكتابة تختلف من جهة التلفُّظ عن المؤلف المرجعي ويعرض عن صيغ حضوره كما هو، وذلك بسبب ما تنطوي عليه الكتابة نفسها من أصداء وتواريخ ومشاهدات هي نتاج بحث مأمول فيه، وليس توثيق حالات وأسماء فحسب. بيد أن جبران، والحالة هاته، يجد نفسه في «فتى الغاب» داخل المواكب، الذي يبعث بنفثات نايه الساحرة شكل حياة بديلة لإنسان نافر من قيم المدينة الجاهلة، أكثر مما يجد في «المجنون» وصراخه. وفي هذا الصدد يقول جبران: «ولكن إذا كان لا بدّ من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبتُه فما عسى يمنعك عن اتّخاذ فتى الغاب في كتاب «المواكب» لهذه الغاية بدلاً من «المجنون»؟ إن روحي يا ميّ أقرب بما لا يقاس إلى «فتى الغاب» ونغمة نايه منها إلى ‘المجنون' وصراخه» .
يعترف جبران على نحو يرتقي بذاته تخييليًّا، بأنّ حياته مضاعفة موزّعةٌ بين حياة بشرية عادية وحياة خيالية يصرفها «في مكان قصيّ هادئ مهيب مسحور لا يحدّه مكان ولا زمان»؛ إذ يعود منه شخصاً آخر، غريباً، «شاعراً بيدٍ شبيهةٍ بالضباب». هنا، يميّز جبران بين الخيال والكذب، أو بالأحرى لا يشتطُّ في التخيُّل إلى حد الكذب على النفس، بل هو نتاج لخبرة الحياة التي تُغذّي التجربة الذاتية حسّياً وكيانيّاً على نحو قد تتراسل معه الحواس بما يُشبه «نشيداً غنائيّاً».
لكن رؤية جبران تتأثّر، بشكل لا يتعافى منه، من هذه الحدّية المفارقة التي تأخذ شكل تشظٍّ للذات يتحوّل إلى ضبابٍ يرى فيه حقيقته، وغيريّته الملتبسة، فيظلّ الوجود لُغْزاً هُلاميّاً غير لفظي: «أنا ضبابٌ يا مي. أنا ضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يتحد وإياها (…) ومصيبتي أن هذا الضباب، وهو حقيقتي، يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائلٍ يقول: لست وحدك. نحن اثنان. أنا أعرف من أنت».
هذه «الضبابية» قد تلبّست حياة جبران، وداخلت خطاباته التي كتبها إلى ميّ؛ فلم يصرح بحبّه لها أو يتخذ نحوها قراراً جادّاً، وهو ما أثمر «سوء التفاهم» بينهما، وأشعر ميّ نفسها مع الوقت بالإحباط والانتظار القاتل.
كلما أمعنا في مضمون الرسائل وصيغه التلفُّظية من وقت لآخر، ازددنا اقتناعًا بأن جبران كان واقعًا تحت نزعة صوفية؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يظلَّ خلال هذه الفترة كُلّها يتحرق نحو امرأةٍ لم يرها ويشغف بها حُبًّا، ويتخطى من أجلها حدود الزمان والمكان والحواس إلى عالم آخر تتحد فيه قوة الوجود، بل إنّه كان يجد في هذا الشغف الذي تحمّله فوق ما تطيقه جارحته، عزاءً له عن لقيا «الهناك» المستحيلة وترياقًا لروحه المعذبة: «… الأفضل أن نبقى هنا، هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوّق حتى يُدنينا الشوق من قلب الله».
عدا هذه النزعة التي تبحث عن حقيقة الذات في عالمٍ ضبابيٍّ، قد يكون التكوين النفساني لجبران، والمتأثر باعتلال صحته منذ مطلع شبابه وابتلائه بموت أمّه ورفض ماري هاسكل الزواج منه وبعاده عن الشرق، سببًا آخر في أن يصبغ الرسائل بصبغة صوفية يكتنفها الكثير من الضباب.
هل أحبت ميّ «المجنون»؟
ولكن هل أحبّت مي صاحبها جبران الذي لم تَلْتَقِهِ ولو مرّةً واحدة؟ أم أنّها كانت تداري عاطفته الصادقة وتُجيّشها بكبريائها وتغنُّجها الباهر، ومن ثمّة قد تكون تكذب عليه؟
إذا علمنا بأنّ مي صارت لها شهرة واسعة بعد افتتاح صالونها الأدبي، وكان لجاذبيّة شخصيتها سطوة أكبر، ولها رسائل أخرى مع مشاهير أدباء عصرها، بمن فيهم أمين الريحاني وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، فإنّ افتراضاً يقول بأنّ مي كانت تبحث عن شهرة مأمولة وذيوع صيت شخصي من وراء هؤلاء المشاهير الذين صار بذكرهم الشرق والغرب، يمكن أن يفرض نفسه؛ إلا أن هذا الافتراض مردود عليه بافتراضٍ آخر هو أن ميّ حرصت على إخفاء علاقتها بجبران إلا من بعض المقرَّبين منها، وأبقتها سرًّا دفينًا حتى يوم موته.
وإذا عدنا إلى كرونولوجيا العلاقة بين جبران ومي، فإنها لم تنشأ دفعة واحدة، بل توثّقت مع الوقت وتطورت من التحفظ إلى التودد. فجبران نفسه تدرجت لهجة رسائله من الإعجاب إلى بوح الصداقة الحميمة فالحبّ، وكانت هذه الرسائل تستحوذ عليها لغة التلميح والتورية، بحيث لم يكن يسمي الأسماء والمشاعر بأسمائها. كما أن مي بدت في رسائلها له متحفّظةً كما يظهر من لغتها ولهجة أسلوبها؛ إذ تردّدت في الإعراب عن مشاعرها المكبوتة، وكانت لا تطلق قلمها يجري على سجيّته، فحصرت موضوعاتها في ما هو فكري وأدبي يتخلله الإعجاب بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني. ولم يكن جبران ينظر إلى ما تكتبه بعين الرضا، حتى كتب إليها: «أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية». إلا أنّه في ما بعد، أي بعد حوالي إثنتي عشرة سنة، وبعد الذي لامسته من شغف جبران وتعلُّقه بها على نحو صادق وشفّاف نتلمسه من مناداته إيّاها بقوله: «صغيرتي المباركة، صغيرتي المحبوبة». أخذت مي ترتاح له، وتبدد شكوكها في عواطفه نحوها، وتعلن بعاطفة الحب له وخشيتها على اعتلال صحته، كما أخذت تحدثه عن أمور شخصية كقصّ شَعرها مثلًا.
بيد أنها، مع ذلك، كانت تعلن حُبّها بخوف غير مفهوم. ففي إحدى هذه الرسائل المؤرخة ب(15/1/1924)، كتبت مي: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنّك محبوبي، وأني أخاف من الحب». وقد يرجع الأمر إلى إسراف مي في كبت مشاعرها ونزوعها إلى التشاؤم والاكتئاب، وهو ما سبب لها الشقاء في حُبّها لجبران، أو بالأحرى في حُبّه لها، أكثر من الفرح الظاهر به. حتى أنّ هذه الرسائل نفسها لم تنشأ على وتيرة واحدة، فقد تخللتها سلسلة جفاء وفتور وقطيعة تدوم العامين، وكان أكثرها من طرف ميّ «الخائفة» في مقابل جبران «المسترسل» ولكن بضبابيّة مخيفة. ولكن، مرة أخرى، هل أحبت مي جبران؟ كان أنور المعداوي قد كتب في مجلة الآداب (نيسان/ أبريل 1953) ناعتًا ميّ ب(الشاذّة)، وشاكًّا في أن تكون قد أحبت جبران، إذ قال: «والحقيقة التي قتلها الدارسون المسرعون هي أن عاطفة ‘الأنوثة في ميّ لم تتجه يوماً إلى جبران». ففي نظره، ظلت مي محايدة لا تحرّكها «شهية» الأنوثة ليس مع جبران فحسب، بل مع غيره ممن لم تنقصهم الرجولة؛ لأنها ببساطة لم «تتذوّق» الحب.
وأيًّا يكن، فإنّنا اليوم لا يمكن أن نقرأ العلاقة بين جبران ومي إلا في ضوء الرسائل التي تبادلاها، بما تنطوي عليه من تلفُّظات في غاية الخطورة بلغ شرَرُها روحيهما معًا، مع ما في هذه التلفُّظات من أوجه الشعر والبلاغة وفنون التواصل أو الكياسة وخلافها. وربّما كان الرسالة أخطر من الواقع الذي لم يتمَّ لهما ولو مرّةً واحدة، فمات جبران على أسرار «الضباب». وأما ميّ فإنّها لما علمت بموته (1931)، ألمَّ بها انهيار عصبي ودخلت مستشفى الأمراض العقلية غرقت كهولة مقيتة قبل الأوان، وعاشت بلا زواج إخلاصًا لحبها الوحيد الضائع، فكانت السنوات العشر التي أعقبت موته أسوأ سنين حياتها على الإطلاق؛ إذ قضتها الآنسة مي امرأةً مفجوعة ويائسة حتى ذوى جمالها تمامًا. ولكن يكفي أنّ حبّ مي قد ألهم جبران البدائع في أخصب مراحل عطائه الأدبي والفني من جهة، وأن يكشف لقرائه الكثيرين عبر كل الأزمنة معطيات نفيسة عن طفولته وذكرياته ومشاريعه ونزعاته وآرائه الأدبية والفكرية في هذه الرسائل، بل ويودعها ريشة رسوماته الفريدة.
رغم ما قيل بأنّ الثق افة العربية في تاريخها ثقافة حجب وستر، إلا أن آدابها تكشف عن كونها أُمّة بوح واعتراف، سواء في شعرها أو في نثرها. ولعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المترسّلين ممن ملكوا البلاغة وقلّبوها على وجوهها للتعبير والتأثير. فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ. وقد قيل إن الرسائل هي «مخاطبة الغائب بلسان القلم»، وإنّها «ترجمان الجنان، ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد».
مي وجبران
في العصر الحديث، شرع الأدباء في عرض قصصهم والبوح بتجاربهم في الكتابة والحياة ضمن رسائل شخصية كانوا يتبادلونها بينهم ومع مجايلي عصرهم. وكانت الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران هي أشهر هذه الرسائل على الإطلاق، كما حققتها سلمى الحفار الكزبري وسهيل بشروني تحت عنوان «الشعلة الزرقاء» الذي استوحياه من تعبير جبران عن حضوره الذاتي المفارق في العالم، والموزّع بين ما هو عليه وما يصبو إليه بأشواقه وانتفاضة روحه، إذ كتب يقول «.. هل بإمكان الذات المقتبسة، وهي من الأرض، أن تحور وتغير الذات الوضعية، وهي من السماء؟ إنّ تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، وتحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر». فقد كان يتوق، من الهناك، إلى «الشعلة المقدسة» التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى درجات صفائها وسعيها للفناء في الآخر.
الأنا الغنائي وضبابيّته:
في الرسائل التي كان يبعث بها جبران خليل جبران إلى مي زيادة، يكشف عن طفولته، وارتباطه بأمّه، وأحلامه، وميوله وذكرياته، وصحّته، وأسرار نفسيته، ومشاريعه وآرائه في الأدب والروح والفنّ. وقد كان يخاطب ميّ التي شُغف بها حُبّاً، كمن يخاطب نفسه بصدق وبساطة وعفوية. والأغرب أن العلاقة «الرسائلية» بينهما توطّدت بشكل غريب ودامت زهاء عشرين عامًا من دون أن يلتقيا إلا في الضباب، وبينهما «سبعة آلاف ميل» كما قال جبران، أو «البحار المنبسطة» بتعبير ميّ.
في إحداها مؤرخة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920، يكتب جبران بخصوص نسبة تمثيل عمليه «المجنون» و«المواكب» لأناه الغنائية التي ينظر إليها متوتّرًا بين الشخصي واللاشخصي، قائلاً: «وإذا صح ظنّي أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن المجنون ليس أنا بكلّيتي». فأنا الكتابة تختلف من جهة التلفُّظ عن المؤلف المرجعي ويعرض عن صيغ حضوره كما هو، وذلك بسبب ما تنطوي عليه الكتابة نفسها من أصداء وتواريخ ومشاهدات هي نتاج بحث مأمول فيه، وليس توثيق حالات وأسماء فحسب. بيد أن جبران، والحالة هاته، يجد نفسه في «فتى الغاب» داخل المواكب، الذي يبعث بنفثات نايه الساحرة شكل حياة بديلة لإنسان نافر من قيم المدينة الجاهلة، أكثر مما يجد في «المجنون» وصراخه. وفي هذا الصدد يقول جبران: «ولكن إذا كان لا بدّ من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبتُه فما عسى يمنعك عن اتّخاذ فتى الغاب في كتاب «المواكب» لهذه الغاية بدلاً من «المجنون»؟ إن روحي يا ميّ أقرب بما لا يقاس إلى «فتى الغاب» ونغمة نايه منها إلى ‘المجنون' وصراخه» .
يعترف جبران على نحو يرتقي بذاته تخييليًّا، بأنّ حياته مضاعفة موزّعةٌ بين حياة بشرية عادية وحياة خيالية يصرفها «في مكان قصيّ هادئ مهيب مسحور لا يحدّه مكان ولا زمان»؛ إذ يعود منه شخصاً آخر، غريباً، «شاعراً بيدٍ شبيهةٍ بالضباب». هنا، يميّز جبران بين الخيال والكذب، أو بالأحرى لا يشتطُّ في التخيُّل إلى حد الكذب على النفس، بل هو نتاج لخبرة الحياة التي تُغذّي التجربة الذاتية حسّياً وكيانيّاً على نحو قد تتراسل معه الحواس بما يُشبه «نشيداً غنائيّاً».
لكن رؤية جبران تتأثّر، بشكل لا يتعافى منه، من هذه الحدّية المفارقة التي تأخذ شكل تشظٍّ للذات يتحوّل إلى ضبابٍ يرى فيه حقيقته، وغيريّته الملتبسة، فيظلّ الوجود لُغْزاً هُلاميّاً غير لفظي: «أنا ضبابٌ يا مي. أنا ضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يتحد وإياها (…) ومصيبتي أن هذا الضباب، وهو حقيقتي، يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائلٍ يقول: لست وحدك. نحن اثنان. أنا أعرف من أنت».
هذه «الضبابية» قد تلبّست حياة جبران، وداخلت خطاباته التي كتبها إلى ميّ؛ فلم يصرح بحبّه لها أو يتخذ نحوها قراراً جادّاً، وهو ما أثمر «سوء التفاهم» بينهما، وأشعر ميّ نفسها مع الوقت بالإحباط والانتظار القاتل.
كلما أمعنا في مضمون الرسائل وصيغه التلفُّظية من وقت لآخر، ازددنا اقتناعًا بأن جبران كان واقعًا تحت نزعة صوفية؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يظلَّ خلال هذه الفترة كُلّها يتحرق نحو امرأةٍ لم يرها ويشغف بها حُبًّا، ويتخطى من أجلها حدود الزمان والمكان والحواس إلى عالم آخر تتحد فيه قوة الوجود، بل إنّه كان يجد في هذا الشغف الذي تحمّله فوق ما تطيقه جارحته، عزاءً له عن لقيا «الهناك» المستحيلة وترياقًا لروحه المعذبة: «… الأفضل أن نبقى هنا، هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوّق حتى يُدنينا الشوق من قلب الله».
عدا هذه النزعة التي تبحث عن حقيقة الذات في عالمٍ ضبابيٍّ، قد يكون التكوين النفساني لجبران، والمتأثر باعتلال صحته منذ مطلع شبابه وابتلائه بموت أمّه ورفض ماري هاسكل الزواج منه وبعاده عن الشرق، سببًا آخر في أن يصبغ الرسائل بصبغة صوفية يكتنفها الكثير من الضباب.
هل أحبت ميّ «المجنون»؟
ولكن هل أحبّت مي صاحبها جبران الذي لم تَلْتَقِهِ ولو مرّةً واحدة؟ أم أنّها كانت تداري عاطفته الصادقة وتُجيّشها بكبريائها وتغنُّجها الباهر، ومن ثمّة قد تكون تكذب عليه؟
إذا علمنا بأنّ مي صارت لها شهرة واسعة بعد افتتاح صالونها الأدبي، وكان لجاذبيّة شخصيتها سطوة أكبر، ولها رسائل أخرى مع مشاهير أدباء عصرها، بمن فيهم أمين الريحاني وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، فإنّ افتراضاً يقول بأنّ مي كانت تبحث عن شهرة مأمولة وذيوع صيت شخصي من وراء هؤلاء المشاهير الذين صار بذكرهم الشرق والغرب، يمكن أن يفرض نفسه؛ إلا أن هذا الافتراض مردود عليه بافتراضٍ آخر هو أن ميّ حرصت على إخفاء علاقتها بجبران إلا من بعض المقرَّبين منها، وأبقتها سرًّا دفينًا حتى يوم موته.
وإذا عدنا إلى كرونولوجيا العلاقة بين جبران ومي، فإنها لم تنشأ دفعة واحدة، بل توثّقت مع الوقت وتطورت من التحفظ إلى التودد. فجبران نفسه تدرجت لهجة رسائله من الإعجاب إلى بوح الصداقة الحميمة فالحبّ، وكانت هذه الرسائل تستحوذ عليها لغة التلميح والتورية، بحيث لم يكن يسمي الأسماء والمشاعر بأسمائها. كما أن مي بدت في رسائلها له متحفّظةً كما يظهر من لغتها ولهجة أسلوبها؛ إذ تردّدت في الإعراب عن مشاعرها المكبوتة، وكانت لا تطلق قلمها يجري على سجيّته، فحصرت موضوعاتها في ما هو فكري وأدبي يتخلله الإعجاب بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني. ولم يكن جبران ينظر إلى ما تكتبه بعين الرضا، حتى كتب إليها: «أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية». إلا أنّه في ما بعد، أي بعد حوالي إثنتي عشرة سنة، وبعد الذي لامسته من شغف جبران وتعلُّقه بها على نحو صادق وشفّاف نتلمسه من مناداته إيّاها بقوله: «صغيرتي المباركة، صغيرتي المحبوبة». أخذت مي ترتاح له، وتبدد شكوكها في عواطفه نحوها، وتعلن بعاطفة الحب له وخشيتها على اعتلال صحته، كما أخذت تحدثه عن أمور شخصية كقصّ شَعرها مثلًا.
بيد أنها، مع ذلك، كانت تعلن حُبّها بخوف غير مفهوم. ففي إحدى هذه الرسائل المؤرخة ب(15/1/1924)، كتبت مي: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنّك محبوبي، وأني أخاف من الحب». وقد يرجع الأمر إلى إسراف مي في كبت مشاعرها ونزوعها إلى التشاؤم والاكتئاب، وهو ما سبب لها الشقاء في حُبّها لجبران، أو بالأحرى في حُبّه لها، أكثر من الفرح الظاهر به. حتى أنّ هذه الرسائل نفسها لم تنشأ على وتيرة واحدة، فقد تخللتها سلسلة جفاء وفتور وقطيعة تدوم العامين، وكان أكثرها من طرف ميّ «الخائفة» في مقابل جبران «المسترسل» ولكن بضبابيّة مخيفة. ولكن، مرة أخرى، هل أحبت مي جبران؟ كان أنور المعداوي قد كتب في مجلة الآداب (نيسان/ أبريل 1953) ناعتًا ميّ ب(الشاذّة)، وشاكًّا في أن تكون قد أحبت جبران، إذ قال: «والحقيقة التي قتلها الدارسون المسرعون هي أن عاطفة ‘الأنوثة في ميّ لم تتجه يوماً إلى جبران». ففي نظره، ظلت مي محايدة لا تحرّكها «شهية» الأنوثة ليس مع جبران فحسب، بل مع غيره ممن لم تنقصهم الرجولة؛ لأنها ببساطة لم «تتذوّق» الحب.
وأيًّا يكن، فإنّنا اليوم لا يمكن أن نقرأ العلاقة بين جبران ومي إلا في ضوء الرسائل التي تبادلاها، بما تنطوي عليه من تلفُّظات في غاية الخطورة بلغ شرَرُها روحيهما معًا، مع ما في هذه التلفُّظات من أوجه الشعر والبلاغة وفنون التواصل أو الكياسة وخلافها. وربّما كان الرسالة أخطر من الواقع الذي لم يتمَّ لهما ولو مرّةً واحدة، فمات جبران على أسرار «الضباب». وأما ميّ فإنّها لما علمت بموته (1931)، ألمَّ بها انهيار عصبي ودخلت مستشفى الأمراض العقلية غرقت كهولة مقيتة قبل الأوان، وعاشت بلا زواج إخلاصًا لحبها الوحيد الضائع، فكانت السنوات العشر التي أعقبت موته أسوأ سنين حياتها على الإطلاق؛ إذ قضتها الآنسة مي امرأةً مفجوعة ويائسة حتى ذوى جمالها تمامًا. ولكن يكفي أنّ حبّ مي قد ألهم جبران البدائع في أخصب مراحل عطائه الأدبي والفني من جهة، وأن يكشف لقرائه الكثيرين عبر كل الأزمنة معطيات نفيسة عن طفولته وذكرياته ومشاريعه ونزعاته وآرائه الأدبية والفكرية في هذه الرسائل، بل ويودعها ريشة رسوماته الفريدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.