بالصور.. جلسة تصوير جريئة لهدى الأتربي في أحدث ظهور    تنسيق المرحلة الثالثة 2025، قواعد التوزيع الجغرافي في الجامعات    رئيس الوفد من ضريح سعد زغلول: نستلهم الوطنية من زعماء "الأمة" الثلاثة (صور)    تكليف إبراهيم هاشم بتصريف أعمال الإدارة المركزية لحدائق الحيوان    حلوى المولد فى المجمعات |التموين: 15 سلعة بمبادرة خفض الأسعار    لإجراء تحويلات مرورية.. محافظ الجيزة يعاين عددًا من المسارات البديلة لشارع ضياء    غارة إسرائيلية تستهدف المنطقة الواقعة بين راميا وبيت ليف جنوب لبنان    حماس تشيد باستقالة وزير خارجية هولندا بعد رفض حكومته فرض عقوبات على الكيان الصهيوني    الجالية المصرية في لندن تنظم وقفة أمام سفارة مصر دعما لمؤسسات الدولة    هدف بنسبة 6.25%.. ركنيات أرسنال في عهد نيكولاس جوفر    بمشاركة حمدي فتحي.. الوكرة ينتصر على الدحيل في الدوري القطري    نبيل معلول ليلا كورة: توصلنا لاتفاق مع كهربا.. وتوقيعه للقادسية الأحد    بعثة ألعاب القوى تتألق في منافسات البطولة العربية بتونس    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس الأيام المقبلة وتحذر من ارتفاع الأمواج ونشاط للرياح    وزير التعليم العالي يوجه بحل مشكلة الطالبة عائشة أحمد وإتاحة إعادة ترتيب رغباتها عبر موقع التنسيق    أحمد جمال يسترجع ذكريات "Arab idol" على مسرح المحكى (صور)    محمد أبو شامة: التجويع في غزة جريمة مكملة للاحتلال العسكرى    «أوقاف المنيا» تعلن بدء احتفال المولد النبوي غدًا الأحد 24 أغسطس    محافظ شمال سيناء يوجه بتشغيل قسم الغسيل الكلوي للأطفال بمستشفى العريش العام    وكيل صحة شمال سيناء في جولة مفاجئة بمستشفى الشيخ زويد ويحيل المتغيبين إلى التحقيق    عشائر غزة: الصمت الدولي شراكة في جريمة الإبادة الجماعية    الأجهزة الأمنية تكشف حقيقة مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل بكفر الشيخ    رئيس جامعة طنطا يفتتح الملتقى القمي الأول للابتكار المستدام لطلاب الجامعات المصرية    أنشطة الطفل في معرض السويس الثالث للكتاب.. مساحات للإبداع وتنمية الخيال|صور    رئيس حزب حقوق الإنسان والمواطنة: نصف الشعب من الشباب وهو ما يفرض مسؤولية كبيرة على الأحزاب    هل يجوز قراءة القرآن أثناء النوم على السرير؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز الطلاق على الورق والزواج عرفي للحصول على المعاش؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تدرب قلبك على الرضا بما قسمه الله لك؟.. يسري جبر يجيب    أوقاف الدقهلية تبدأ اختبارات أفضل الأصوات في تلاوة القرآن الكريم    «بحوث الصحراء» يقدم الدعم الفني والإرشادي لمزارعي سيناء| صور    قائمة ريال مدريد لمواجهة أوفييدو في الدوري الإسباني    أحمد سامي يتظلم على قرار إيقافه وينفي ما جاء بتقرير حكم مباراة الإسماعيلي    بدر رجب: «ريبيرو» مدرب درجة ثالثة.. والأهلى الأقرب للفوز بالدورى    الجالية المصرية بهولندا: المصريون في الخارج داعمون للقيادة السياسية واستقرار الوطن    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    حصاد الأسبوع    الموظف المثالي.. تكريم قائد قطار واقعة "الشورت" للمرة الثانية - صور    زلزال بقوة 6 درجات يضرب المحيط الهادئ قبالة سواحل السلفادور وجواتيمالا    "عبد الغفار" يتابع استعدادات "المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية -3"    وزارة الصحة تقدم 314 ألف خدمة طبية مجانية عبر 143 قافلة بجميع المحافظات    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    جوندوجان وثنائي مانشستر سيتي يقتربون من الرحيل    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    استشهاد 9 فلسطينيين في قصف الاحتلال الإسرائيلي مناطق متفرقة من قطاع غزة    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    محافظ الجيزة يشدد علي التعامل الفوري مع أي متغيرات مكانية يتم رصدها واتخاذ الإجراءات القانونية    حملة مكبرة لإزالة إشغالات الباعة الجائلين والتعديات على الطريق بمدينة أبوتيج بأسيوط    مصرع وإصابة أربعة أشخاص إثر حادث تصادم بين سيارتين بأسيوط    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرد الأقصوصة عند صبحي فحماوي.. قهقهات باكية نموذجًا
نشر في صوت البلد يوم 18 - 09 - 2016

عُرف صبحي فحماوي في مدوناته السردية، بأنه يتجه إلى المراوحة كتابيًا وبنجاح لافت بين الرواية، والقصة، والأقصوصة، وهذا ليس سهلاً، حيث يتطلب هذا المنحى؛ الوعي بالكتابة الإبداعية وتقنياتها المتعلقة بهذه الأنماط النوعية.
ويبدو أن هناك حسًا شموليًا في تتبع الخيط الجيني الرابط لعوالمه المتداخلة هذه، كما يمكن ملاحظة الحميمية المتعالقة مع موضوعاته المتنوعة، والتي تستحق دراسات متجددة لما فيها من اشتغالات فكرية واجتماعية، وإيديولوجية، وغرائبية، ومنجمًا للفكر والمعرفة.
يتقن فحماوي العبور إلى فن سرد الأقصوصة، بسبب تمكنه من التقنيات المعروفة في كتابة الرواية والقصة بخاصة، ويمكن القول: إنه لا يحتفي كثيرًا بشعرية النص، حتى لا يذهب إلى تشتيت وبلبلة وعي القارئ ومرجعياته، وليبقى مشدودًا ومتمركزًا على الأحداث والشخوص واستراتيجيات النص الذي يكتب، ذلك أن شريط القصة القصيرة بعامة، والأقصوصة بشكل خاص لا يحتمل الإسهاب والتصوير البلاغي العميق، وهذا ما أكد عليه غير ناقد، فهذا (بينيفون) يُعرِّف الأقصوصة بقوله:
"الأقصوصة النثرية ذات مجال ضيق، تسرد حدثًا جديدًا غير مألوف، ونعني بالجديد حدثًا لقصة يقوم بذاته"، وهذا يتناسب مع الوعي بأن الحدث في مثل هذا اللون الكتابي يقوم على تقدم الحدث على الشخصية، لا سيما عند الوصول إلى الخاتمة، التي تتضمن مفارقة مدهشة حافزة على اللذة والمتعة، وصولاً للتأمل والتفكير فيما وراء النص، تحقيقا للمسار الإيحائي المنشود.
ومسألة أخرى تلفت الانتباه في مدونة هذا الروائي القاص، وتسجل له، وهي العودة لنظام الصيغ القارة، تلك الصيغ التي أهملها كثير من القاصين والروائيين، مع أنها تشكل ركيزة أساسية ومفتاحية لبدء السرد القصصي بشتى أنواعه، وتقوم مقام الاستهلال والعتبة، التي تهيئ نفسيًا وموضوعيًا للتلقي، وتعطي بعد الإحالة العميقة المتجاوزة للآني والممكن، وتحيل الكلام غالباً إلى مبهم وإلى ماضِ، أو إلى حالة فيها تبرئة من المسئولية تجاه الراوي العليم، وحتى تجاه من يقف خلف العمل برمته، وهو المؤلف.
هذا الروائي يعمد إلى استحضار صيغة (كان) المتعالقة تراثيا مع (كان ياما كان) في سلسلة محكياتنا التراثية، كما في التغريبة، وفي الأقصوصات التي بين أيدينا، حيث استخدم هذه الصيغة في افتتاحية قصة (جنازة)، التي بدأها بالجملة التالية: "كان موكب جنازة الزوجة يسير صامتا، وكان زوجها هو الوحيد الذي يسير ضاحكا".
وصيغة "حدثنا" كما في المقامة.. إلخ.. وقد استخدمها استهلالا لقصة تبدأ بالسياق: "حدثنا المنخَّل"، هذه العودة لمثل هذه الصيغ قصدية لديه، وتعطي نكهة عربية للقصة، إضافة لفاعلية التناص وتداخل الاجناس.
ولفتني كثير من الأقصوصات التي وردت في هذا الكتاب، وسأبدأ بأقصوصتين، بوصفهما نموذجين يشكلان مدار التعقيب هنا.
أقصوصة "تضحية": نص هذه الأقصوصة كالتالي:
"على طريق الفراعنة في التضحية بأجمل بنت للنيل، ليفيض ويروي زرعهم، قرر أهل غزة التضحية بستمائة طفل في ليلة مرعبة، وذلك للحفاظ على كرامتهم".
يعمد القاص في هذه السياقات إلى استثمار "المناص" ليؤسس لما يعرف ب "الميتا نص"، فيأخذ حدثًا من التاريخ القديم للفراعنة، يأخذ طقسية طوطمية دينية معينة، وهي اختيار أجمل فتاة يتم اختيارها لإلقائها في نيل مصر، ليعم الخير والخصب، بعد أن يتحقق للنهر المقدس فيضانه، وهنا تكمن الفنية، فهو لا يأخذ الحدث المركزي كما هو، بل يسلخ عنه معناه القبلي السابق والقار في ذهنية المتلقين، ويُجري انحرافًا سياقيًا دلاليًا عبر مخيلة القارئ، فيستبدل أمة الفراعنة بشعب غزة الفلسطيني، ويقلب الدلالة، فيفيض منسوب نهر الكرامة والشهامة، بدلا من مياه النيل، ويأتي بخبر موت وشهادة ستمائة طفل، بدل موت الفتاة، وفي ليلة مرعبة، بدلاً من يوم مقدس، ملىء بالبهجة عند الفراعنة، لكنها تصبح بهجة الموت والشهادة، التي تتفتح عند شعب غزة، لتثمر زهور الكرامة، يتم عبور الأطفال نهر الشهادة، لإحياء أرض الروح، بدل الأرض للزرعة، لتحيا أمة من خلفهم.
الراوي يعبر بهذه المشهدية، بمسرحة الحدث القوي والمركز، ويعمل على ترهين لحظات منتقاة من الواقع، هذا الترهين يمكن تمثيله خياليًا وتمثله، هو يقذف بالمشهد أمامنا لنغيب في تأملاته، وهذا المنحى ليس سهلاً، كما يبدو للوهلة الأولى، فالراوي يخرق الواقع، ولكن دون أن نتحسس هذا الاختراق بسهولة، حتى لننسى أنفسنا مع عوالم يرسمها لنا، ويسير بنا عبر الماضي والحاضر، وأحيانا يستشرف المستقبل، فيدمج التاريخي مع الواقعي مع الفلسفي، ويترك المتلقي ليجمع خيوط اللعبة السردية، ويتلذذ بها وصولاً للدلالات التي تتفتح أمامه باستمرار.
أقصوصة ومضة: نص القصة كالتالي:
"حدثني المُنخَّل اليشكري عن عشقه لهند بنت المنذر، قال:
وأحبها وتحبني ** ويحب ناقتها بعيري".
يلفت الانتباه في هذه الأقصوصة تداخل جنسين أدبيين، الشعر والقص، والمتلقي يبدأ بمواجهة حكاية المنخّل الشاعر مع ابنة المنذر، ويحيله السياق إلى نص معروف شعريًا، وبالتالي يضعنا في حساسية النصوص العربية، من خلال نص معاصر وحديث، فكيف يمكن أن نحاكم أقصوصة تقع في سطرين، وتتمركز موضوعيًا على حدث الحب والعشق، وعلى جنسين أدبيين في آن، ومن سطرين فقط، فقد اعتمد القاص، قصديًا، صيغة الحكاية، المستلة من التاريخ، كما ذكرنا آنفًا "حدثني"، وهي صيغة مهمة في عالم النص المقامي، وهنا يبرز السؤال الكبير: "ما الذي يقدمه النص للمتلقين، بالجمع بين الشعر والنثر من جهة، واستثمار حركية سردية من الماضي من جهة أخرى؟".
المتأمل في أعماق النص سيتكشف له مضامين عدة كامنة، منها أن القاص تمركز على حدث العشق والحب بين الأمس واليوم، وتمثل سلوكيات من ماض سحيق وحاضر عميق، ليصل فيما يصل إليه، إلى نقد موضوعة الحب كما هي الآن، وتمارس في مجتمعات يفترض أنها حضارية، لكن الراوي يحيلنا، عند المقارنة، إلى تمثلات الأبعاد القيمية المتغيرة، عبر الزمان والمكان، إنه يقدم نقداً للواقع، عبر رؤيا عميقة من دراسة الماضي، وما فيه من خبرات، وفي الوقت نفسه قدم القاص شكلاً مختلفا، هذا النمط الكتابي يثير إشكالية الجدل الذهني، ويجعله يتخلخل ويحار، ويأخذ العبرة من الماضي والحاضر، ويرسم طريقًا في المستقبل، وقد يقصد فحماوي بذلك إلحاق الحاضر بالماضي، بهدف إشعارنا بالمسيرة الواحدة للأدب العربي، على شكل سلسلة متطورة، عبر الأجيال، وكل ذلك يتم عبر لغة تبدو بسيطة ووسيطة، وقريبة من التداول، لكنها مشحونة بحزم دلالية، تتفتح باستمرارية القراءة، والدخول في عوالم النص الداخلية، فأن تحيا النص، غير أن تعيش فيه.
لهذا يمكن القول؛ إن أقصوصات "قهقهات باكية" التي قدمها الروائي القاص صبحي فحماوي في هذا الكتاب، تظهر لنا مدى تمكنه، ودربته في كتابة هذه الأنواع من السرديات، ومدى وعيه بعوالم الكتابة.
.........
كاتب أردني - عميد كلية الآداب - جامعة جدارا
عُرف صبحي فحماوي في مدوناته السردية، بأنه يتجه إلى المراوحة كتابيًا وبنجاح لافت بين الرواية، والقصة، والأقصوصة، وهذا ليس سهلاً، حيث يتطلب هذا المنحى؛ الوعي بالكتابة الإبداعية وتقنياتها المتعلقة بهذه الأنماط النوعية.
ويبدو أن هناك حسًا شموليًا في تتبع الخيط الجيني الرابط لعوالمه المتداخلة هذه، كما يمكن ملاحظة الحميمية المتعالقة مع موضوعاته المتنوعة، والتي تستحق دراسات متجددة لما فيها من اشتغالات فكرية واجتماعية، وإيديولوجية، وغرائبية، ومنجمًا للفكر والمعرفة.
يتقن فحماوي العبور إلى فن سرد الأقصوصة، بسبب تمكنه من التقنيات المعروفة في كتابة الرواية والقصة بخاصة، ويمكن القول: إنه لا يحتفي كثيرًا بشعرية النص، حتى لا يذهب إلى تشتيت وبلبلة وعي القارئ ومرجعياته، وليبقى مشدودًا ومتمركزًا على الأحداث والشخوص واستراتيجيات النص الذي يكتب، ذلك أن شريط القصة القصيرة بعامة، والأقصوصة بشكل خاص لا يحتمل الإسهاب والتصوير البلاغي العميق، وهذا ما أكد عليه غير ناقد، فهذا (بينيفون) يُعرِّف الأقصوصة بقوله:
"الأقصوصة النثرية ذات مجال ضيق، تسرد حدثًا جديدًا غير مألوف، ونعني بالجديد حدثًا لقصة يقوم بذاته"، وهذا يتناسب مع الوعي بأن الحدث في مثل هذا اللون الكتابي يقوم على تقدم الحدث على الشخصية، لا سيما عند الوصول إلى الخاتمة، التي تتضمن مفارقة مدهشة حافزة على اللذة والمتعة، وصولاً للتأمل والتفكير فيما وراء النص، تحقيقا للمسار الإيحائي المنشود.
ومسألة أخرى تلفت الانتباه في مدونة هذا الروائي القاص، وتسجل له، وهي العودة لنظام الصيغ القارة، تلك الصيغ التي أهملها كثير من القاصين والروائيين، مع أنها تشكل ركيزة أساسية ومفتاحية لبدء السرد القصصي بشتى أنواعه، وتقوم مقام الاستهلال والعتبة، التي تهيئ نفسيًا وموضوعيًا للتلقي، وتعطي بعد الإحالة العميقة المتجاوزة للآني والممكن، وتحيل الكلام غالباً إلى مبهم وإلى ماضِ، أو إلى حالة فيها تبرئة من المسئولية تجاه الراوي العليم، وحتى تجاه من يقف خلف العمل برمته، وهو المؤلف.
هذا الروائي يعمد إلى استحضار صيغة (كان) المتعالقة تراثيا مع (كان ياما كان) في سلسلة محكياتنا التراثية، كما في التغريبة، وفي الأقصوصات التي بين أيدينا، حيث استخدم هذه الصيغة في افتتاحية قصة (جنازة)، التي بدأها بالجملة التالية: "كان موكب جنازة الزوجة يسير صامتا، وكان زوجها هو الوحيد الذي يسير ضاحكا".
وصيغة "حدثنا" كما في المقامة.. إلخ.. وقد استخدمها استهلالا لقصة تبدأ بالسياق: "حدثنا المنخَّل"، هذه العودة لمثل هذه الصيغ قصدية لديه، وتعطي نكهة عربية للقصة، إضافة لفاعلية التناص وتداخل الاجناس.
ولفتني كثير من الأقصوصات التي وردت في هذا الكتاب، وسأبدأ بأقصوصتين، بوصفهما نموذجين يشكلان مدار التعقيب هنا.
أقصوصة "تضحية": نص هذه الأقصوصة كالتالي:
"على طريق الفراعنة في التضحية بأجمل بنت للنيل، ليفيض ويروي زرعهم، قرر أهل غزة التضحية بستمائة طفل في ليلة مرعبة، وذلك للحفاظ على كرامتهم".
يعمد القاص في هذه السياقات إلى استثمار "المناص" ليؤسس لما يعرف ب "الميتا نص"، فيأخذ حدثًا من التاريخ القديم للفراعنة، يأخذ طقسية طوطمية دينية معينة، وهي اختيار أجمل فتاة يتم اختيارها لإلقائها في نيل مصر، ليعم الخير والخصب، بعد أن يتحقق للنهر المقدس فيضانه، وهنا تكمن الفنية، فهو لا يأخذ الحدث المركزي كما هو، بل يسلخ عنه معناه القبلي السابق والقار في ذهنية المتلقين، ويُجري انحرافًا سياقيًا دلاليًا عبر مخيلة القارئ، فيستبدل أمة الفراعنة بشعب غزة الفلسطيني، ويقلب الدلالة، فيفيض منسوب نهر الكرامة والشهامة، بدلا من مياه النيل، ويأتي بخبر موت وشهادة ستمائة طفل، بدل موت الفتاة، وفي ليلة مرعبة، بدلاً من يوم مقدس، ملىء بالبهجة عند الفراعنة، لكنها تصبح بهجة الموت والشهادة، التي تتفتح عند شعب غزة، لتثمر زهور الكرامة، يتم عبور الأطفال نهر الشهادة، لإحياء أرض الروح، بدل الأرض للزرعة، لتحيا أمة من خلفهم.
الراوي يعبر بهذه المشهدية، بمسرحة الحدث القوي والمركز، ويعمل على ترهين لحظات منتقاة من الواقع، هذا الترهين يمكن تمثيله خياليًا وتمثله، هو يقذف بالمشهد أمامنا لنغيب في تأملاته، وهذا المنحى ليس سهلاً، كما يبدو للوهلة الأولى، فالراوي يخرق الواقع، ولكن دون أن نتحسس هذا الاختراق بسهولة، حتى لننسى أنفسنا مع عوالم يرسمها لنا، ويسير بنا عبر الماضي والحاضر، وأحيانا يستشرف المستقبل، فيدمج التاريخي مع الواقعي مع الفلسفي، ويترك المتلقي ليجمع خيوط اللعبة السردية، ويتلذذ بها وصولاً للدلالات التي تتفتح أمامه باستمرار.
أقصوصة ومضة: نص القصة كالتالي:
"حدثني المُنخَّل اليشكري عن عشقه لهند بنت المنذر، قال:
وأحبها وتحبني ** ويحب ناقتها بعيري".
يلفت الانتباه في هذه الأقصوصة تداخل جنسين أدبيين، الشعر والقص، والمتلقي يبدأ بمواجهة حكاية المنخّل الشاعر مع ابنة المنذر، ويحيله السياق إلى نص معروف شعريًا، وبالتالي يضعنا في حساسية النصوص العربية، من خلال نص معاصر وحديث، فكيف يمكن أن نحاكم أقصوصة تقع في سطرين، وتتمركز موضوعيًا على حدث الحب والعشق، وعلى جنسين أدبيين في آن، ومن سطرين فقط، فقد اعتمد القاص، قصديًا، صيغة الحكاية، المستلة من التاريخ، كما ذكرنا آنفًا "حدثني"، وهي صيغة مهمة في عالم النص المقامي، وهنا يبرز السؤال الكبير: "ما الذي يقدمه النص للمتلقين، بالجمع بين الشعر والنثر من جهة، واستثمار حركية سردية من الماضي من جهة أخرى؟".
المتأمل في أعماق النص سيتكشف له مضامين عدة كامنة، منها أن القاص تمركز على حدث العشق والحب بين الأمس واليوم، وتمثل سلوكيات من ماض سحيق وحاضر عميق، ليصل فيما يصل إليه، إلى نقد موضوعة الحب كما هي الآن، وتمارس في مجتمعات يفترض أنها حضارية، لكن الراوي يحيلنا، عند المقارنة، إلى تمثلات الأبعاد القيمية المتغيرة، عبر الزمان والمكان، إنه يقدم نقداً للواقع، عبر رؤيا عميقة من دراسة الماضي، وما فيه من خبرات، وفي الوقت نفسه قدم القاص شكلاً مختلفا، هذا النمط الكتابي يثير إشكالية الجدل الذهني، ويجعله يتخلخل ويحار، ويأخذ العبرة من الماضي والحاضر، ويرسم طريقًا في المستقبل، وقد يقصد فحماوي بذلك إلحاق الحاضر بالماضي، بهدف إشعارنا بالمسيرة الواحدة للأدب العربي، على شكل سلسلة متطورة، عبر الأجيال، وكل ذلك يتم عبر لغة تبدو بسيطة ووسيطة، وقريبة من التداول، لكنها مشحونة بحزم دلالية، تتفتح باستمرارية القراءة، والدخول في عوالم النص الداخلية، فأن تحيا النص، غير أن تعيش فيه.
لهذا يمكن القول؛ إن أقصوصات "قهقهات باكية" التي قدمها الروائي القاص صبحي فحماوي في هذا الكتاب، تظهر لنا مدى تمكنه، ودربته في كتابة هذه الأنواع من السرديات، ومدى وعيه بعوالم الكتابة.
.........
كاتب أردني - عميد كلية الآداب - جامعة جدارا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.