أين الناخبون؟!    «لجنة المسئولية الطبية» تعتمد قرارات وإجراءات لدعم تنفيذ قانون سلامة المريض    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    أسعار الفاكهه اليوم الجمعه 5 ديسمبر 2025 فى اسواق المنيا    وزير العمل يعلن إيقاف نشاط "فاست كنترول" لإلحاق العمالة بالخارج ببني سويف    مديرية الزراعة بالشرقية تواصل جهودها لتعزيز الإنتاجية وتحقيق الأمن الغذائي    وزير الخارجية يتوجه إلى قطر للمشاركة في منتدى الدوحة    جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصف رفح وحي التفاح شرق غزة    الصين وفرنسا تؤكدان على «حل الدولتين» وتدينان الانتهاكات في فلسطين    حسام وإبراهيم حسن رفقة الدرندلي في حفل الاستقبال لمنتخبات كأس العالم بمجمع كينيدي للفنون    تحرير 123 ألف مخالفة مرورية على الطرق السريعة    توليفة فنية لكايرو كافيه بالأوبرا    القومي للمرأة ينظم ورشة بعنوان الذكاء الاصطناعي مع أو ضد العنف السيبراني    محافظ بني سويف يناقش جهود ونتائج 28 زيارة للتفتيش المالي والإداري بالمصالح الحكومية    إيران تتراجع عن المقاطعة وتعلن حضور قرعة كأس العالم 2026    قطع المياه لمدة 8 ساعات غدا السبت عن 3 قرى في بني سويف    منافس مصر.. الإمارات أغلى منتخبات بطولة كأس العرب 2025    سلوت يتحدث عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء    كيف تحصل على شهادة المخالفات المرورية الإلكترونية.. خطوة بخطوة    بعد انقطاع خدمات Cloudflare.. تعطل فى موقع Downdetector لتتبع الأعطال التقنية    «الداخلية» تواصل حملاتها لضبط الأسواق والتصدى لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    حريق مصعد عقار بطنطا وإصابة 6 أشخاص    «البريد» يكشف تفاصيل إصدار شهادة بسعر المشغولات الذهبية    وزارة العمل تقدم وظائف جديدة فى الضبعة بمرتبات تصل ل40 ألف جنيه مع إقامة كاملة بالوجبات    منى زكى: ممتنة لردود الفعل على فيلم الست وتجربة عرضه بمراكش مميزة    "قبل ساعة الاستجابة.. دعوات وأمنيات ترتفع إلى السماء في يوم الجمعة"    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    صلاح مصدق يعود للمغرب بعد فسخ عقده مع الزمالك    الفيلم اللبناني Suspension بمهرجان القاهرة للفيلم القصير بعرضه العالمي الأول    طليق بوسي تريند البشعة: لم أشارك في أي جلسات لإثبات براءتها    اليوم العالمي للتطوع يشعل طاقات الشباب 35 ألف متطوع بصندوق مكافحة الإدمان يقودون معركة الوعي ضد المخدرات في كل محافظات مصر    وسام أبو علي: نسعى للفوز على سوريا وسأبقى مع فلسطين حتى النهاية    منال عوض تؤكد: وزراء البحر المتوسط يجددون التزامهم بحماية البيئة البحرية والساحلي    الأهلي يلتقي «جمعية الأصدقاء الإيفواري» في افتتاح بطولة إفريقيا لكرة السلة سيدات    لقاءات ثنائية مكثفة لكبار قادة القوات المسلحة على هامش معرض إيديكس    محافظ كفر الشيخ: افتتاح مسجد عباد الرحمن ببيلا | صور    تحرير 32 محضر مخالفات تموينية بكفر الشيخ    العثور على جثة طفلة مجهولة الهوية بالترعة الإبراهيمية فى سمالوط بالمنيا    محافظ الجيزة: توريد 20 ماكينة غسيل كلوي ل5 مستشفيات بالمحافظة    قافلة طبية بقرية أبو عدوي في دمياط تقدم خدمات مجانية لأكثر من ألف مواطن    وكيل تعليم القاهرة تشارك بفعاليات لقاء قيادات التعليم ضمن مشروع "مدارس مرحبة ومتطورة"    جهاد حسام الدين تنضم إلى مسلسل عباس الريّس في أول تعاون مع عمرو سعد    خرست ألسنتكم داخل حناجركم    تفاصيل القصة الكاملة لأزمة ميادة الحناوى وحقيقة لجوئها ل AI    طريقة عمل السردين بأكثر من طريقة بمذاق لا يقاوم    بعد إطلاق فيلم "أصلك مستقبلك".. مكتبة الإسكندرية: كل أثر هو جذر من شجرتنا الطيبة    مصر ترحب باتفاقات السلام بين الكونجو الديمقراطية ورواندا الموقعة بواشنطن    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 5 ديسمبر 2025    استشاري حساسية: المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات وتضر المناعة    إعلام إسرائيلي: انتحار ضابط في لواء جفعاتي بسبب مشكلات نفسية    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    30 دقيقة تأخير على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الجمعة 5 ديسمبر 2025    الحصر العددي لانتخابات النواب في إطسا.. مصطفى البنا يتصدر يليه حسام خليل    الأزهر للفتوي: اللجوء إلى «البَشِعَة» لإثبات الاتهام أو نفيه.. جريمة دينية    الجيش الأمريكي يعلن "ضربة دقيقة" ضد سفينة مخدرات    رئيس هيئة الدواء يختتم برنامج "Future Fighters" ويشيد بدور الطلاب في مكافحة مقاومة المضادات الحيوية وتعزيز الأمن الدوائي    ميلان يودع كأس إيطاليا على يد لاتسيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيزابيل ألليندي حول لقاء القلوب وافتراق الثقافات: الحب هو ما يعاش.. رغم استحالة المُتاح
نشر في صوت البلد يوم 18 - 09 - 2016

هكذا قصص الحب الخالدة تنطلق كشهاب أبدي لا يبهت ولا ينطفئ. لم يمت عشق إيشيمي فوكودا لألما بيلاسكو، في «العاشق الياباني» أحدث روايات إيزابيل ألليندي، حين توقف قلبه عن الخفقان بسكتة قلبية. وكذلك لن تنتهي تلك القصة الهائلة برحيل ألما الفاجع محطمةً وممزقة الأوصال بحادث سيارة مميت بعد موت إيشيمي بثلاث سنوات.
سيبقى هذا الحب خالداً عبر عشرات الرسائل التي تبادلها العاشقان على امتداد خمسين عاماً من إخفاء حبهما عن العالم، العالم الغارق في خطاياه وأكاذيبه. ستخلد ألما ذاك الحب في ما تركته من رسوم على شالات الحرير الفاخرة وفي قصر جرف البحر بسان فرانسيسكو، وبالمقابل سيفعل إيشيمي ذات الشيء في كل زهرة زرعها في فردوس الزهور واهتم بها انطلاقاً من وحي حبهما العظيم.
الحب الممنوع عليهما كيهودية في أربعينيات القرن الماضي، يتوجب عليها أن لا تفكر بغير يهودي ليكون زوجاً؛ وهو كوافد إلى أمريكا من اليابان، البلد المعادي لأمريكا زاد في تعقيد بل استحالة تحقق هذا الحب، خاصة بعد قصف بيرل هاربر حين تم عقاب اليابانيين الأمريكين بشكل جماعي عبر إرسالهم إلى معسكرات مغلقة في عدد من الصحاري الأمريكية في يوتا ونيفادا. سيموت الحب دلالياً حين تضطر ألما إلى المجازفة بحياتها والذهاب إلى المكسيك للتخلص من الجنين، حملها من إيشيمي، إذ كان ممنوعاً حتى لسيدة متزوجة أن تجهض. ناثانييل ابن عمها، صرخ بوجه صاحب العيادة القذرة في مكسيكو، لقد غيرنا رأينا سنحتفظ بالجنين، لذعره مما يمكن أن يحصل لألما بين يدي القابلة التي كانت ستقوم بالإجهاض بعد إعطاء ألما زجاجة من الروم كي تتحمل آلام التجريف. سيتزوج ناثانييل، الذي سنكتشف في نهاية الرواية بأنه مثلي، من ألما زواجاً شكلياً لحفظ ماء وجه ابنة عمه ووجه العائلة، الأمر الذي أفرح إسحق بيلاسكو، أباه، لأن ابنة أخيه ستكون بأيد أمينة ولن تغادر البيت الذي احتضنها وهي طفلة مذعورة ومهربة من احتمال الإبادة في معسكرات النازية.
أقدار ألما العجيبة لا ترحمها، ستتعرض لنوبة صرع تفقد بسببها جنينها من حبيبها الياباني، وتغرق في كآبة تثير خوف كل من حولها لإسرافها في البكاء والكحول محاولة نسيان إخفاق أهمّ ما عاشته في حياتها، الحب الذي تذوقته بنهم وصعدت درجاته بتهور وإقدام الشجعان، ووصلت ذُرى لم تحلم بها. ألليندي تخصص فصلا كاملا لتوصيف تفاصيل ذاك الحب كما دونته ألما في يومياتها: «اكتشفت ألما مع إيشيمي الخفايا المتعددة للحب واللذة، من الهياج الشديد والعاطفة المتسرعة إلى تلك اللحظات المقدسة حيث كانا يحلقان من سعادتهما وعاطفتهما؛ ساكنين جنبا إلى جنب في السرير. ينظران بلا نهاية في عيني بعضهما مشبعين؛ وخجلين. يلمسان أعمق ما في روحيهما متخففين من كل الشكلانيات، مستلقيين معا بمنتهى الهشاشة وبمنتهى النشوة. لا يتمكنا من التمييز بين السعادة والحزن بين أعجوبة الحياة وبين إغواء الموت اللذيذ؛ هنا معاً حيث لن يفترقا أبداً معزولين عن العالم بسحر الحب».
ستتجاهل ألما أصواتا تصرخ في داخلها تدعوها للعودة لأن تكون حذرة، منبهة إياها من العواقب. عاشا فقط لكل نهار التقيا فيه لم يكن هناك أمس ولا غد، كانا هما فقط في الغرفة الوسخة ذات النوافذ الكثيرة والأغطية المهترئة. كانا هناك منذ قبلة الشوق على باب الغرفة وقبل أن يغلقاها حتى، هناك صعدت رغباتهما؛ يخلعان ثيابهما التي تكومت حيث وقعت.
جسدان عاريان ومرتعشان؛ كلاهما يشرب حموضة ورائحة وحرارة الآخر؛ ملمس الجلد والشعر؛ عظمة أن يضيعا في نشوتهما حتى ينطفأا فيجددا رغبتهما من جديد… كل منهما غائب في حضن الآخر. يتبادلان الضحك والنكات والأسرار الهامسة ؛ ويتجولان معا في هذا الكون البديع للذة.
كشفت أصابع إيشيمي الموهوبة والتي تحيي النبتة الميتة وتصلح الساعة دون النظر إليها، طبيعة ألما المتمردة والجائعة. كانت جريئة، كان متردداً، كانت صاخبة أثناء وصولها ذروتها، كان يضع يده على فمها. صاغت سلسلة من العبارات الرومانسية الطرية والتواقة والشهوانية والبذيئة التي همست بها في أذنه أو كتبتها في مراسلاتها العاجلة بينما احتفظ هو بطبيعته المتحفظة المرتبطة بشخصيته وثقافته. منحت ألما نفسها متعة الحب اللاواعية. استغربت عدم انتباه الآخرين للمعان بشرتها، لسوادِ لُب عينيها ولخفة خطواتها وتراخي صوتها، الطاقة الحارقة التي لم ولن تستطيع التحكم بها.
كتبت في يومياتها بأنها كانت تعوم بإحساس من فقاعات المياه المعدنية على جلدها، ما جعل أسفل جسدها مقشعراً من اللذة. كانت واثقة بأن قلبها سينفجر مثل بالون منفوخ، هذا القلب الكبير والممتلئ بإيشيمي فقط حيث بدا العالم كله بعيداً وضبابياً. تنبيهاته للاهتمام بها، ورعاية النباتات، عبارات الحب التي همس لها بها باليابانية لأنها بدت غير حقيقية بالانكليزية، عن دهشته وإعجابه برسومها وتصميماتها لتقليد فيرا نيومان، عدم توقفه ولو للحظة ليتحسر على أنه وبرغم موهبته في الرسم وعمله المتواصل في حديقة الزهور لم يتمكن إلا قليلاً من الرسم في بعض الساعات المتاحة، قبل أن تأتي إلى عالمه وتأخذ كل الوقت وتأخذ كل الهواء، وبأن حاجتها لتشعر أنها محبوبة لا تُشبع.
ستحملُ ألما وتنجبُ من ناثانييل وحيدها لاري وستمارس حياتها كمصصمة رسوم للملابس والشالات، وسيتابع ناثانييل حياته كمحامٍ لامع في سان فرانسيسكو، فيقضي ساعات عمل أطول في المكتب كي يصل متعباً ومنهكاً بما يكفي كي يتجنب تفاصيل أسئلة واستهجان أمه: لِمَ ينام هو وألما في غرفتين مستقلتين؟ سيعهد ناثانييل وألما بتربية وحيدهما لجديه إسحق وليليان، المهمة التي أشاعت سعادة وهناءة في السنوات الأخيرة من حياة إسحق بيلاسكو الذي يورث عائلته امبراطورية مال وأعمال وسمعة. عاشت ألما كي تنسى ما كان يتجذر في داخلها طوال حياتها الطويلة والحافلة. مرت سبعون عاماً منذ أن عرفت إيشيمي. لم تحب أحداً سواه رغم محاولاتها الكثيرة والمجنونة أن تزيحه من وعيها كأنها كانت تغذيه لينمو أكثر، كطقس تعبد في القرى اليابانية التي سارت فيها أسابيع طويلة في رحلة خاصة لتعلّم التخطيط بالحبر الصيني على الحرير. في كل مكان كانت تعثر على أثر لإيشيمي الذي قضى سنوات في التنسك كي ينسى أيضاً. يكتب لها في رسالة تعود إلى تموز (يوليو) 1969: «لا مفر من حبنا ألما، لطالما عرفتُ هذا دوماً بالرغم من أنني قاومته لسنوات وحاولت مسحكِ من ذهني متيقناً بأنني لا أستطيع أن أزيحك من قلبي. حين غادرتني دون إعطاء أي سبب يمكنني فهمه شعرت بالخيانة المريرة. لكن وفي أول رحلة لي إلى اليابان توفر لدي الوقت لأهدأ والقبول في النهاية بأني قد خسرتك في هذه الحياة. توقفتُ عن تخميناتي اليائسة لما يمكن أن ينهي ما كان بيننا. فقدتُ أي أمل بأن يجمعنا القدر من جديد؛ الآن بعد انقطاع أربعة عشر عاماً أفكر بك كل يوم؛ أتفهم جيداً بأننا لا يمكن أن نكون زوجاً وزوجة أبداً ولكن لا يمكن أن نتنازل عما نشعره تجاه بعضنا بهذه القوة والكثافة .أدعوكِ للعيش في حبنا كمن يسكن فقاعة، محميةً من أشواك الحياة ومحفوظة من أي أذى لبقية عُمرينا وما بعد الموت. إنها مسؤوليتنا للحفاظ على حبنا إلى الأبد».
«العاشق الياباني» رواية مكتوبة بقلم امرأة لها ملايين الأرواح والقلوب، وعابرة للثقافات تنقل الحكايات العادية عبر سير نزلاء «بيت القبّرة»، وهو دار رعاية في سان فرانسيسكو. كل حكاية هي سلة حكايات تتنوع في مشهديتها ودلالاتها، من قصص غرام عادية إلى عذابات مراهقة هاربة من جحيم قصة ابتزاز جنسي لها كطفلة من قبل زوج أمها المدمن، إلى ملحمة ألما بيلاسكو والتي احتلت سيرتها مجمل الكتاب. تصوّر ألليندي بإتقان جراح نقل أعضاء بشرية، لتبدو روايتها فيلماً يمكن مشاهدته دون شاشة، بكل الأبعاد، ويخال للقارئ بأن ذاك الشخص لا يمكن أن يسرد حكايته إلا كما روتها الكاتبة.
عبر حكايات الأبطال نمرُ على الهولوكوست بشكل عابر ومختصر ودون مبالغة، فالجزء المرتبط بطفولة ألما يبقى شبه غامض لها بعد أن تصبح شابة تكاد لا تذكر شيئاً عن الزمن الممتد قبل ترحيلها برحلة بحرية من لندن إلى سان فرانسيسكو سنة 1939. مضت عقود على تلك الهجرة حتى اقتنعت ألما بأنها لن ترى والديها أبداً، بعد أن قضيا في أحد معسكرات الإبادة. ستزور مع زوجها ناثانييل مقبرة ظُنت أن رفات والديها فيها قرب وارسو.
ألما، الطفلة التي نمت على يقين بأنها تفقد كل من تحبه، تعلمت أيضاً أن لا تبكي ولا تظهر انفعالاتها حتى حين تحطمت عظامها في الحادث المميت وحقنوها بمخدر يكفي لتنويم حصان. ظلت متيقظة، تردد بهدوء اسم إيشيمي، قبل أن تغادر بهدوء العالم الذي حرمها أغلى ما تمنت عيشه: حب حياتها.
«العاشق الياباني» قصائد حب خالدة، بقلم امرأة بارعة في الكتابة عن الحب.
هكذا قصص الحب الخالدة تنطلق كشهاب أبدي لا يبهت ولا ينطفئ. لم يمت عشق إيشيمي فوكودا لألما بيلاسكو، في «العاشق الياباني» أحدث روايات إيزابيل ألليندي، حين توقف قلبه عن الخفقان بسكتة قلبية. وكذلك لن تنتهي تلك القصة الهائلة برحيل ألما الفاجع محطمةً وممزقة الأوصال بحادث سيارة مميت بعد موت إيشيمي بثلاث سنوات.
سيبقى هذا الحب خالداً عبر عشرات الرسائل التي تبادلها العاشقان على امتداد خمسين عاماً من إخفاء حبهما عن العالم، العالم الغارق في خطاياه وأكاذيبه. ستخلد ألما ذاك الحب في ما تركته من رسوم على شالات الحرير الفاخرة وفي قصر جرف البحر بسان فرانسيسكو، وبالمقابل سيفعل إيشيمي ذات الشيء في كل زهرة زرعها في فردوس الزهور واهتم بها انطلاقاً من وحي حبهما العظيم.
الحب الممنوع عليهما كيهودية في أربعينيات القرن الماضي، يتوجب عليها أن لا تفكر بغير يهودي ليكون زوجاً؛ وهو كوافد إلى أمريكا من اليابان، البلد المعادي لأمريكا زاد في تعقيد بل استحالة تحقق هذا الحب، خاصة بعد قصف بيرل هاربر حين تم عقاب اليابانيين الأمريكين بشكل جماعي عبر إرسالهم إلى معسكرات مغلقة في عدد من الصحاري الأمريكية في يوتا ونيفادا. سيموت الحب دلالياً حين تضطر ألما إلى المجازفة بحياتها والذهاب إلى المكسيك للتخلص من الجنين، حملها من إيشيمي، إذ كان ممنوعاً حتى لسيدة متزوجة أن تجهض. ناثانييل ابن عمها، صرخ بوجه صاحب العيادة القذرة في مكسيكو، لقد غيرنا رأينا سنحتفظ بالجنين، لذعره مما يمكن أن يحصل لألما بين يدي القابلة التي كانت ستقوم بالإجهاض بعد إعطاء ألما زجاجة من الروم كي تتحمل آلام التجريف. سيتزوج ناثانييل، الذي سنكتشف في نهاية الرواية بأنه مثلي، من ألما زواجاً شكلياً لحفظ ماء وجه ابنة عمه ووجه العائلة، الأمر الذي أفرح إسحق بيلاسكو، أباه، لأن ابنة أخيه ستكون بأيد أمينة ولن تغادر البيت الذي احتضنها وهي طفلة مذعورة ومهربة من احتمال الإبادة في معسكرات النازية.
أقدار ألما العجيبة لا ترحمها، ستتعرض لنوبة صرع تفقد بسببها جنينها من حبيبها الياباني، وتغرق في كآبة تثير خوف كل من حولها لإسرافها في البكاء والكحول محاولة نسيان إخفاق أهمّ ما عاشته في حياتها، الحب الذي تذوقته بنهم وصعدت درجاته بتهور وإقدام الشجعان، ووصلت ذُرى لم تحلم بها. ألليندي تخصص فصلا كاملا لتوصيف تفاصيل ذاك الحب كما دونته ألما في يومياتها: «اكتشفت ألما مع إيشيمي الخفايا المتعددة للحب واللذة، من الهياج الشديد والعاطفة المتسرعة إلى تلك اللحظات المقدسة حيث كانا يحلقان من سعادتهما وعاطفتهما؛ ساكنين جنبا إلى جنب في السرير. ينظران بلا نهاية في عيني بعضهما مشبعين؛ وخجلين. يلمسان أعمق ما في روحيهما متخففين من كل الشكلانيات، مستلقيين معا بمنتهى الهشاشة وبمنتهى النشوة. لا يتمكنا من التمييز بين السعادة والحزن بين أعجوبة الحياة وبين إغواء الموت اللذيذ؛ هنا معاً حيث لن يفترقا أبداً معزولين عن العالم بسحر الحب».
ستتجاهل ألما أصواتا تصرخ في داخلها تدعوها للعودة لأن تكون حذرة، منبهة إياها من العواقب. عاشا فقط لكل نهار التقيا فيه لم يكن هناك أمس ولا غد، كانا هما فقط في الغرفة الوسخة ذات النوافذ الكثيرة والأغطية المهترئة. كانا هناك منذ قبلة الشوق على باب الغرفة وقبل أن يغلقاها حتى، هناك صعدت رغباتهما؛ يخلعان ثيابهما التي تكومت حيث وقعت.
جسدان عاريان ومرتعشان؛ كلاهما يشرب حموضة ورائحة وحرارة الآخر؛ ملمس الجلد والشعر؛ عظمة أن يضيعا في نشوتهما حتى ينطفأا فيجددا رغبتهما من جديد… كل منهما غائب في حضن الآخر. يتبادلان الضحك والنكات والأسرار الهامسة ؛ ويتجولان معا في هذا الكون البديع للذة.
كشفت أصابع إيشيمي الموهوبة والتي تحيي النبتة الميتة وتصلح الساعة دون النظر إليها، طبيعة ألما المتمردة والجائعة. كانت جريئة، كان متردداً، كانت صاخبة أثناء وصولها ذروتها، كان يضع يده على فمها. صاغت سلسلة من العبارات الرومانسية الطرية والتواقة والشهوانية والبذيئة التي همست بها في أذنه أو كتبتها في مراسلاتها العاجلة بينما احتفظ هو بطبيعته المتحفظة المرتبطة بشخصيته وثقافته. منحت ألما نفسها متعة الحب اللاواعية. استغربت عدم انتباه الآخرين للمعان بشرتها، لسوادِ لُب عينيها ولخفة خطواتها وتراخي صوتها، الطاقة الحارقة التي لم ولن تستطيع التحكم بها.
كتبت في يومياتها بأنها كانت تعوم بإحساس من فقاعات المياه المعدنية على جلدها، ما جعل أسفل جسدها مقشعراً من اللذة. كانت واثقة بأن قلبها سينفجر مثل بالون منفوخ، هذا القلب الكبير والممتلئ بإيشيمي فقط حيث بدا العالم كله بعيداً وضبابياً. تنبيهاته للاهتمام بها، ورعاية النباتات، عبارات الحب التي همس لها بها باليابانية لأنها بدت غير حقيقية بالانكليزية، عن دهشته وإعجابه برسومها وتصميماتها لتقليد فيرا نيومان، عدم توقفه ولو للحظة ليتحسر على أنه وبرغم موهبته في الرسم وعمله المتواصل في حديقة الزهور لم يتمكن إلا قليلاً من الرسم في بعض الساعات المتاحة، قبل أن تأتي إلى عالمه وتأخذ كل الوقت وتأخذ كل الهواء، وبأن حاجتها لتشعر أنها محبوبة لا تُشبع.
ستحملُ ألما وتنجبُ من ناثانييل وحيدها لاري وستمارس حياتها كمصصمة رسوم للملابس والشالات، وسيتابع ناثانييل حياته كمحامٍ لامع في سان فرانسيسكو، فيقضي ساعات عمل أطول في المكتب كي يصل متعباً ومنهكاً بما يكفي كي يتجنب تفاصيل أسئلة واستهجان أمه: لِمَ ينام هو وألما في غرفتين مستقلتين؟ سيعهد ناثانييل وألما بتربية وحيدهما لجديه إسحق وليليان، المهمة التي أشاعت سعادة وهناءة في السنوات الأخيرة من حياة إسحق بيلاسكو الذي يورث عائلته امبراطورية مال وأعمال وسمعة. عاشت ألما كي تنسى ما كان يتجذر في داخلها طوال حياتها الطويلة والحافلة. مرت سبعون عاماً منذ أن عرفت إيشيمي. لم تحب أحداً سواه رغم محاولاتها الكثيرة والمجنونة أن تزيحه من وعيها كأنها كانت تغذيه لينمو أكثر، كطقس تعبد في القرى اليابانية التي سارت فيها أسابيع طويلة في رحلة خاصة لتعلّم التخطيط بالحبر الصيني على الحرير. في كل مكان كانت تعثر على أثر لإيشيمي الذي قضى سنوات في التنسك كي ينسى أيضاً. يكتب لها في رسالة تعود إلى تموز (يوليو) 1969: «لا مفر من حبنا ألما، لطالما عرفتُ هذا دوماً بالرغم من أنني قاومته لسنوات وحاولت مسحكِ من ذهني متيقناً بأنني لا أستطيع أن أزيحك من قلبي. حين غادرتني دون إعطاء أي سبب يمكنني فهمه شعرت بالخيانة المريرة. لكن وفي أول رحلة لي إلى اليابان توفر لدي الوقت لأهدأ والقبول في النهاية بأني قد خسرتك في هذه الحياة. توقفتُ عن تخميناتي اليائسة لما يمكن أن ينهي ما كان بيننا. فقدتُ أي أمل بأن يجمعنا القدر من جديد؛ الآن بعد انقطاع أربعة عشر عاماً أفكر بك كل يوم؛ أتفهم جيداً بأننا لا يمكن أن نكون زوجاً وزوجة أبداً ولكن لا يمكن أن نتنازل عما نشعره تجاه بعضنا بهذه القوة والكثافة .أدعوكِ للعيش في حبنا كمن يسكن فقاعة، محميةً من أشواك الحياة ومحفوظة من أي أذى لبقية عُمرينا وما بعد الموت. إنها مسؤوليتنا للحفاظ على حبنا إلى الأبد».
«العاشق الياباني» رواية مكتوبة بقلم امرأة لها ملايين الأرواح والقلوب، وعابرة للثقافات تنقل الحكايات العادية عبر سير نزلاء «بيت القبّرة»، وهو دار رعاية في سان فرانسيسكو. كل حكاية هي سلة حكايات تتنوع في مشهديتها ودلالاتها، من قصص غرام عادية إلى عذابات مراهقة هاربة من جحيم قصة ابتزاز جنسي لها كطفلة من قبل زوج أمها المدمن، إلى ملحمة ألما بيلاسكو والتي احتلت سيرتها مجمل الكتاب. تصوّر ألليندي بإتقان جراح نقل أعضاء بشرية، لتبدو روايتها فيلماً يمكن مشاهدته دون شاشة، بكل الأبعاد، ويخال للقارئ بأن ذاك الشخص لا يمكن أن يسرد حكايته إلا كما روتها الكاتبة.
عبر حكايات الأبطال نمرُ على الهولوكوست بشكل عابر ومختصر ودون مبالغة، فالجزء المرتبط بطفولة ألما يبقى شبه غامض لها بعد أن تصبح شابة تكاد لا تذكر شيئاً عن الزمن الممتد قبل ترحيلها برحلة بحرية من لندن إلى سان فرانسيسكو سنة 1939. مضت عقود على تلك الهجرة حتى اقتنعت ألما بأنها لن ترى والديها أبداً، بعد أن قضيا في أحد معسكرات الإبادة. ستزور مع زوجها ناثانييل مقبرة ظُنت أن رفات والديها فيها قرب وارسو.
ألما، الطفلة التي نمت على يقين بأنها تفقد كل من تحبه، تعلمت أيضاً أن لا تبكي ولا تظهر انفعالاتها حتى حين تحطمت عظامها في الحادث المميت وحقنوها بمخدر يكفي لتنويم حصان. ظلت متيقظة، تردد بهدوء اسم إيشيمي، قبل أن تغادر بهدوء العالم الذي حرمها أغلى ما تمنت عيشه: حب حياتها.
«العاشق الياباني» قصائد حب خالدة، بقلم امرأة بارعة في الكتابة عن الحب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.