اليوم.. الفصل فى الطعون على نتيجة الدوائر المُلغاة بانتخابات النواب    تعرف علي مواعيد امتحانات الفصل الدراسى الأول لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوى بالجيزة    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الإثنين 22 ديسمبر    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يسجل 60.91 دولارًا للبرميل    بعد ارتفاعها 116%.. رئيس شعبة المعادن الثمينة يحذر من انكسار سريع لأسعار الفضة وينصح بالذهب    خبر هيفرح الملايين| اليوم.. دعوى قضائية لإقرار منحة استثنائية لأصحاب المعاشات    قوات الاحتلال الإسرائيلى تقتحم المنطقة الشرقية بنابلس    الليلة يبدأ المشوار .. منتخب مصر يفتتح مبارياته فى بطولة أمم أفريقيا بمواجهة زيمبابوي    مجموعة مصر.. جنوب أفريقيا يواجه أنجولا فى لقاء خارج التوقعات بأمم أفريقيا في السابعة اليوم    مصرع طفلة وإصابة 13 آخرين فى حادث تصادم ميكروباص وسيارة نقل بالدقهلية    الأرصاد الجوية : أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة والصغرى بالقاهرة 12 درجة    مفوضي الدولة بالإداري توصي برفض دعوى الزمالك ضد سحب أرض النادي بحدائق أكتوبر    أهالي "معصرة صاوي" يودّعون أبناءهم.. تشييع جثامين 7 صغار ضحايا "لقمة العيش" بالفيوم    عزاء الفنانة سمية الألفي بمسجد عمر مكرم اليوم    ألمانيا: تسجيل أكثر من 1000 حالة تحليق مشبوهة للمسيرات فى 2025    سلاح الجو الأمريكى يعترض طائرة فوق مقر إقامة ترامب فى فلوريدا    نيجيريا: تحرير 130 تلميذا وموظفا خطفهم مسلحون من مدرسة الشهر الماضي    التصريح بدفن جثة فتاة انتحرت بتناول قرص الغلة السام بالعدوة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد اليوم 22 ديسمبر 2025    محمود الليثي يشعل رأس السنة بحفل عالمي في فرنسا ويعيش أقوى فتراته الفنية    طريقة عمل شوربة العدس بالكريمة في خطوات بسيطة للتدفئة من البرد    بحضور أبطاله.. انطلاق العرض الخاص لفيلم «خريطة رأس السنة» في أجواء احتفالية    ويتكوف: روسيا لا تزال ملتزمة تماما بتحقيق السلام فى أوكرانيا    «المهن التمثيلية» تكشف تطورات الحالة الصحية للفنان إدوارد    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    مفوضى القضاء الإدارى: ادعاءات وجود عوائق أمام تنفيذ مشروع الزمالك قول مرسل    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد اليوم    بوتين يصف اتفاقية الحدود بين دول آسيا الوسطى ب"التاريخية"    وزير الاتصالات: مصر تقفز 47 مركزًا عالميًا بمؤشر جاهزية التحول الرقمي    السلفية والسياسة: التيه بين النص والواقع.. قراءة في التحولات الكبرى    متحدث الكهرباء: 15.5 مليار جنيه خسائر سرقات واستهلاك غير قانوني    ريهام عبد الغفور: خريطة رأس السنة محطة استثنائية في مسيرتي الفنية    أحمد العوضي: مدمنون كثير تعافوا وذهبوا للعلاج من الإدمان بعد مسلسلي «حق عرب»    بحضور عضوي مجلس إدارة الأهلي، محمود بنتايك يحتفل بزفافه على سندس أحمد سليمان    اعترافات المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء في الإسكندرية: فكرت في حرق جثته وخشيت رائحة الدخان    إخلاء عاجل لفندقين عائمين بعد تصادمهما في نهر النيل بإسنا    سائق يقتل زوج شقيقته إثر نزاع عائلي على شقة ميراث بالخانكة    خالد الغندور: توروب رفض التعاقد مع محمد عبد المنعم    لعبة في الجول – أمم إفريقيا.. شوت في الجول واكسب البطولة بمنتخبك المفضل    عماد الدين أديب: ترامب ونتنياهو لا يطيقان بعضهما    بيان عاجل من المتحدث العسكري ينفي صحة وثائق متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي| تفاصيل    أبناؤنا أمانة.. أوقاف بورسعيد تطلق خارطة طريق لحماية النشء من (مسجد لطفي)| صور    دوميط كامل: الدول المتقدمة تُقدّم حماية البيئة على المكاسب الاقتصادية مهما بلغت    تعرف على جوائز الدورة ال7 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي للفيلم القصير    أستاذ بالأزهر يوضح فضائل شهر رجب ومكانته في ميزان الشرع    تصعيد ديموقراطي ضد ترامب بسبب وثائق إبستين المثيرة للجدل    الصحة توضح آليات التعامل مع المراكز الطبية الخاصة المخالفة    عصام الحضرى: مصر فى مجموعة صعبة.. والشناوى سيكون أساسيا أمام زيمبابوى    تامر النحاس: سعر حامد حمدان لن يقل عن 50 مليونا وصعب ديانج يروح بيراميدز    هاني البحيري: يد الله امتدت لتنقذ أمي من أزمتها الصحية    نجاح عملية معقدة لتشوه شديد بالعمود الفقرى بمستشفى جامعة كفر الشيخ    بدون تدخل جراحى.. استخراج 34 مسمارا من معدة مريضة بمستشفى كفر الشيخ العام    سلوكيات خاطئة تسبب الإصابة بالفشل الكلوي    دعاء أول يوم في شهر رجب.. يزيد البركة والرزق    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    بعد رؤية هلال رجب.. ما هو موعد شهر شعبان ؟    الإفتاء: الدعاء في أول ليلة من رجب مستحب ومرجو القبول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد خليفة : «الموت عمل شاق» رحلة وداعية لسوريا القمع
نشر في صوت البلد يوم 10 - 09 - 2016

يستمرّ الروائي السوري الحائز جائزة نجيب محفوظ، في النبش والنحت في العائلة السورية كمؤسسة لها سلطتها وأخلاقياتها ونظامها، في روايته «الموت عمل شاق» الصادرة حديثاً عن دار نوفل في بيروت ودار العين في مصر، المتقاطعة أحداثها مع الواقع السوري المؤلم لا بل الكابوسي.
تلك العائلة شكّلت على يبدو هاجساً في أعمال خالد خليفة، ليس فقط في روايته الأخيرة بل في «مديح الكراهية» الصادرة في 2002، وفي مسلسلاته الدرامية منذ كتب «سيرة آل الجلالي» في العام 2000. كأن خليفة يهجي فكرة العائلة التي قد تمثّل الدولة أو النظام السياسي أو النظام الجماعي، خصوصاً لناحية المقاربة بين ظاهرها الخارجي بصورته الجميلة المتحّدة وباطنها المتفكّك.
أجري هذا الحوار مع خالد خليفة المصرّ على البقاء في دمشقه التي يعشق، رغم كل الدمار والموت وتردي الحياة فيها، للحديث عن الرواية التي تعكس الحياة المأسوية في مسقط رأسه.
- تحضر فكرة العائلة في روايتك هذه كما في رواية «لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة»: لماذا التركيز على هذا الحضور؟ علماً أن العائلة لديك تمثل حالاً من التفكك والاختلاف حتى لتبدو قريباً من مقولة جان بول سارتر رائد الوجودية في هجائه فكرة العائلة؟
نعم دوماً العائلة تشكل بالنسبة لي موضوعاً رئيسياً ومازالت تأسرني تلك العلاقة القائمة على الفرض، وضرورات التكيف مع هذه القرابات. من المعروف بأن الكائن لا يختار عائلته، لكنه يستطيع اختيار حياته بعيداً عنها لو أراد. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، العائلة تنتج شكلها وسلطتها وأخلاقياتها التي لم تتفكك حتى الآن، وفي مجتمعات تشبهنا تعتبر العائلة والموقف منها الناظم الرئيسي للأخلاق.
انقسامات
- يمكن أن يقال إن العائلة لديك هي مجموعة أفراد منقسمين على بعضهم كما في الرواية الجديدة، لكن ما جمعهم هنا هو جثة الأب ومسيرة تشييعه من الشام الى بلدة العنابية؟ هل باتت الجثة هي التي تجمع العائلة؟
من مكان آخر أنا لا أرى العائلة شرّاً مطلقاً، والعائلات المثالية أو السعيدة لا تعني الكتابة. وفي الحقيقة غالبية عائلاتنا منقسمة على ذاتها، ولديها الكثير من المخفي، لذلك عائلة عبد اللطيف في رواية «الموت عمل شاق» كانت تشبه الكثير من العائلات التي أعرفها أنا شخصياً.
وهذه الانقسامات هي جزء من الحقيقة التي ترعب المجتمع العربي، بِأنه لا يمكن تجاهل الفرد ككتلة مستقلة بذاتها، لكن هذا الاعتراف سيدمر الكثير من الأفكار التي تقوم عليها كل أساسات النفاق في المجتمع العربي، ومنها بالتأكيد مؤسسات دينية وسياسية ومنظومات أخلاقية تحكم ما زالت تتحكم في المجتمع.وجثة الأب كما رأينا في «الموت عمل شاق» هي الشيء الوحيد الذي يجمع هذه العائلة، نعم كما الكثير من اللحظات التي نراها يومياً ولكننا لا نبوح بها، عائلات بأكملها لا تجتمع إلا في مثل هذه المناسبات.
الحرب ومتغيراتها
- حتى هذه الجثة، جثة الأب عبد اللطيف يصادرها حاجز الأمن أي سلطة الدولة، ولا خلاص لها إلا عبر دفع المال الذي يدل على الفساد المستشري حتى في الحرب وعلى الاتجار بالجثث. هل أردت أن تقول إن لعنة القدر باتت تلاحق الجثث أيضاً؟
في الحرب كل شيء يتغير ويختلف، حتى الجثث تتغير قيمتها ودلالاتها، وما حدث في سوريا عبر السنوات الخمس الماضية جعلت من الصعب إخبار العالم كل شيء عما حدث. عشرات آلاف الجثث لم تجد مكاناً لدفنها بشكل لائق، القبور الجماعية، والجثث التي تركت في العراء... إنها لعنة الحرب.
أما الدفن بعيداً عن مسقط الرأس فحدّثي ولا حرج... محظوظ من دفن في مقبرة عائلته بعزاء كامل، والفساد هو جزء من الحرب، لكنه ليس طارئاً، النظام عرف عنه بأنه شجع على الفساد المنظم، والممنهج.
هويات قاتلة
- خلال المسيرة التي تقوم بها السيارة التي تحمل جثة الأب، يواجه الأبناء حواجز طائفية تدقق في الهويات وما تحمل من دلالات دينية أو مذهبية. هل أردت أن تقول إن الهوية تسقط عندما تصبح هوية قاتلة بحسب مقولة أمين معلوف في كتابه «هويات قاتلة»؟
بالتأكيد الهوية الوطنية تسقط حين تحلّ محلها الهويات الضيقة أو القاتلة، وهذه الهويات القاتلة على حدّ تعبير معلوف أصبحت جزءاً أساسياً من هذه الحرب. وهي في الحقيقة استُخدمت أبشع استخدام للتغطية عن وجه الثورة الحقيقية التي فجرها السوريون في الأشهر الأولى من العام 2011. وهذا الاحتماء بالهويات الضيقة.
- لم تكن الحال في سوريا سابقاً تدل بوضوح على أن الهوية السورية ستقع في شرك الكراهية والحقد. هل كانت الطائفية مثل جمر تحت الرماد حتى هبّت ما أن سنح لها انفجار الأحقاد؟
لا أعتقد بأن الطائفية وحتى هذه اللحظة جزء من الحياة السورية، إنها شيء طارئ في ظرف طارئ، وستنتهي مع توقف الحرب وإيجاد حل حقيقي لهذه الكارثة.وما نراه هو جزء من مشهد إعلامي يجري الترويج له لأهداف لا تعني عموم السوريين لا من قريب ولا من بعيد، حتى وإن كانت جزءاً من صراع إقليمي يجري مباركته عالمياً من دول كبرى صاحبة نفوذ، ويلبي احتياجات دول ذات نفوذ إقليمي تريد الحفاظ على أنظمتها ومشروعها الإقليمي.
هذه الصورة الكبرى لن تجدي نفعاً مع السوريين. أما المتطرفون الذين وجدوا في هذه الحرب فضاءً رحباً لأفكارهم، ومن يريد فهم السوريين عليه ألا يتجاهل تاريخها القريب والتعايش المشترك بين كل الأفكار والديانات والطوائف والقوميات والثقافات.
رحلة وداعية
- بينما كنت اقرأ الرواية تخيلت أن تشييع الأب لم يكن إلا رحلة وداعية لسوريا التي سقطت مع سقوط الأب. هل هو تشييع لسوريا حقاً؟
رحلة وداعية لسوريا القديمة بكل رموزها القومية والوطنية والسياسية والاجتماعية، برموز الحزب الحاكم وتاريخه عبر خمسين عاماً الذي طبع البلاد بطابعه، كما هي رحلة وداعية لسوريا القمع المتواصل الذي لم يتوقف، بهذا المعنى من الممكن قراءة دلالات الرواية.
- ما يدفعني الى الكلام عن هذه الرواية هو النتاج المهم الذي تابعناه في المرحلة الأخيرة وبرزت فيه أسماء مهمة كانت وراء صعوده من أمثال: خالد خليفة وفواز حداد وروزا ياسين حسن ومصطفى خليفة ونبيل سليمان وسواهم. كيف تقيّم هذه التجارب الجديدة في سياق الحركة الروائية السورية؟
ما ذكرت من أسماء روائيين وروائيات هم اليوم من أفضل التجارب بالإضافة إلى آخرين لم تذكرهم أمثال سمر يزبك وخليل صويلح وآخرون كثر بدأوا الآن في تلمس مشروعهم الفني وبالتأكيد سنرى بعد سنوات مقبلة لغة وسرد جديدين.
- نرى في رواياتك عامة مشاهد ولغة دراميتين، وفي «الموت عمل شاق» تكثّفت الصورة الدرامية لدرجة بتنا معها نشعر أننا في فيلم سينمائي. ما المثير والحماسي أكثر في الكتابة، المسلسل أم الرواية؟
بالتأكيد بالنسبة لي تبقى كتابة الرواية هي الكتابة الأكثر عمقاً، في الدراما هناك عوامل كثيرة تلعب دور نجاح أو فشل العمل، تعرفين بأن الدراما هي فن جماعي تخضع إلى مقاييس مختلفة يلعب التسويق والرقابة فيها دوراً رئيسياً. بينما الرواية فن أكثر حرية وعمقاً، وأنا ما زلت أميل إلى اعتباره فني الرئيسي الذي يحتاج مني إلى كل وقتي.
رواية ألم جماعي وثّقت هواجس الحب والموت والخوف
تصوّر عائلة خالد خليفة من خلال رواية «الموت عمل شاق» الواقع السوري اليوم، ما بعد الثورة وما بعد بعد الثورة، أي بعدما أصبحت سوريا مقبرة جماعية محظوظ من يحظى فيها بمأتم مهيب، وبعدما سقطت الهوية الوطنية.
على كل حال، الكاتب الجريء الذي رفع صوته ضدّ الظلم والديكتاتورية قبل أن تتلاقح نواة الثورة السورية، اعتاد توثيق المراحل التاريخية المفصلية في حياة هذا البلد وهذا الشعب، من خلال أعماله الأدبية سابقاً كرواية «مديح الكراهية» التي تحدثت عن مرحلة ثمانينيات القرن الماضي والصدام بين الإخوان المسلمين والسلطات وكيف حصلت التغيرات في المجتمع السوري على وقع تلك المرحلة.
إذن خالد خليفة ابن حلب المفجوعة، هو روائي الواقع غير المحسوم، لذا كتب ليس فقط عن الموت الآني، بل الموت المستمرّ باسم الوطن والحزب الواحد، الموت الذي عانى منه السوريون تحت الحكم الجائر. إنها رواية عن الحب والموت والخوف.
زمن وكوابيس
تبدأ الرواية بمشهد درامي محكم وقوي، حيث تجتمع العائلة في السيارة سالكة رحلة دفن جثّة الأب الذي أوصى بدفنه في مسقط رأسه العنابية. حواجز كثيرة سيكون على هذه العائلة اجتيازها على الأرض لتنفيذ وصيّة الأب بدفنه في تراب قريته، وحواجز أخرى نفسيّة بين الأحياء الثلاثة، اجتيازها ليس أقلّ صعوبة.
من الشام «دمشق» إلى العنابيّة هو زمن الرواية أو الكابوس الذي يعيشه أولاد عبداللطيف الثلاثة حسين وبلبل وفاطمة، حيث تلتهب البلاد في نيران الحرب ولا قيمة لحياة أي إنسان فيها.
خلال الرحلة، سنرى استمرار سقوط القتلى طوال الطريق المقسمة بحواجز كثيرة، وكل واحد منها محكوم من جهة مختلفة. هكذا، يصير اسمك المكتوب على هويتك تهمةً قاتلة، عبر طائفية مقنّعة، تنتظر فقط اللحظة المناسبة لتظهر إلى يبدو الألم والأذى قد لحقا بمدن عديدة وهكذا تبدو «س» على هيئة أكثر من 20 بلدة بالمعاناة نفسها: دوما، حرستا، داريا، الزبداني مثالاً، وكلها تقع على المسافة نفسها تقريباً من دمشق ومتشابهات في نواحٍ كثيرة أهمّها الألم المُشترك. هذا الألم الذي بُنيت عليه الرواية، يتصاعد مع تقدّم الرحلة وحيث تتحول الجنازة والجثة الى سلعة لا بد من دفع رسومها كي تمرّ.
ثم يحجز ضابط النظام هويّات الجميع، ف«لن تمر البضاعة من دون رسوم»، وهو ما يُحزن «بلبل وهو يرى كيف تحوّلت جثة أبيه إلى بضاعة «كفحم النرجيلة وصناديق البندورة وأكياس البصل».
إضاءة
خالد خليفة روائي وكاتب سيناريو سوري ولد في حلب 1964 جذبت روايته «مديح الكراهية» اهتمام وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، ووصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى في عام 2008. من مؤلفاته «حارس الخديعة» 1993، و«دفاتر القرباط» 2000، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013.
يستمرّ الروائي السوري الحائز جائزة نجيب محفوظ، في النبش والنحت في العائلة السورية كمؤسسة لها سلطتها وأخلاقياتها ونظامها، في روايته «الموت عمل شاق» الصادرة حديثاً عن دار نوفل في بيروت ودار العين في مصر، المتقاطعة أحداثها مع الواقع السوري المؤلم لا بل الكابوسي.
تلك العائلة شكّلت على يبدو هاجساً في أعمال خالد خليفة، ليس فقط في روايته الأخيرة بل في «مديح الكراهية» الصادرة في 2002، وفي مسلسلاته الدرامية منذ كتب «سيرة آل الجلالي» في العام 2000. كأن خليفة يهجي فكرة العائلة التي قد تمثّل الدولة أو النظام السياسي أو النظام الجماعي، خصوصاً لناحية المقاربة بين ظاهرها الخارجي بصورته الجميلة المتحّدة وباطنها المتفكّك.
أجري هذا الحوار مع خالد خليفة المصرّ على البقاء في دمشقه التي يعشق، رغم كل الدمار والموت وتردي الحياة فيها، للحديث عن الرواية التي تعكس الحياة المأسوية في مسقط رأسه.
- تحضر فكرة العائلة في روايتك هذه كما في رواية «لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة»: لماذا التركيز على هذا الحضور؟ علماً أن العائلة لديك تمثل حالاً من التفكك والاختلاف حتى لتبدو قريباً من مقولة جان بول سارتر رائد الوجودية في هجائه فكرة العائلة؟
نعم دوماً العائلة تشكل بالنسبة لي موضوعاً رئيسياً ومازالت تأسرني تلك العلاقة القائمة على الفرض، وضرورات التكيف مع هذه القرابات. من المعروف بأن الكائن لا يختار عائلته، لكنه يستطيع اختيار حياته بعيداً عنها لو أراد. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، العائلة تنتج شكلها وسلطتها وأخلاقياتها التي لم تتفكك حتى الآن، وفي مجتمعات تشبهنا تعتبر العائلة والموقف منها الناظم الرئيسي للأخلاق.
انقسامات
- يمكن أن يقال إن العائلة لديك هي مجموعة أفراد منقسمين على بعضهم كما في الرواية الجديدة، لكن ما جمعهم هنا هو جثة الأب ومسيرة تشييعه من الشام الى بلدة العنابية؟ هل باتت الجثة هي التي تجمع العائلة؟
من مكان آخر أنا لا أرى العائلة شرّاً مطلقاً، والعائلات المثالية أو السعيدة لا تعني الكتابة. وفي الحقيقة غالبية عائلاتنا منقسمة على ذاتها، ولديها الكثير من المخفي، لذلك عائلة عبد اللطيف في رواية «الموت عمل شاق» كانت تشبه الكثير من العائلات التي أعرفها أنا شخصياً.
وهذه الانقسامات هي جزء من الحقيقة التي ترعب المجتمع العربي، بِأنه لا يمكن تجاهل الفرد ككتلة مستقلة بذاتها، لكن هذا الاعتراف سيدمر الكثير من الأفكار التي تقوم عليها كل أساسات النفاق في المجتمع العربي، ومنها بالتأكيد مؤسسات دينية وسياسية ومنظومات أخلاقية تحكم ما زالت تتحكم في المجتمع.وجثة الأب كما رأينا في «الموت عمل شاق» هي الشيء الوحيد الذي يجمع هذه العائلة، نعم كما الكثير من اللحظات التي نراها يومياً ولكننا لا نبوح بها، عائلات بأكملها لا تجتمع إلا في مثل هذه المناسبات.
الحرب ومتغيراتها
- حتى هذه الجثة، جثة الأب عبد اللطيف يصادرها حاجز الأمن أي سلطة الدولة، ولا خلاص لها إلا عبر دفع المال الذي يدل على الفساد المستشري حتى في الحرب وعلى الاتجار بالجثث. هل أردت أن تقول إن لعنة القدر باتت تلاحق الجثث أيضاً؟
في الحرب كل شيء يتغير ويختلف، حتى الجثث تتغير قيمتها ودلالاتها، وما حدث في سوريا عبر السنوات الخمس الماضية جعلت من الصعب إخبار العالم كل شيء عما حدث. عشرات آلاف الجثث لم تجد مكاناً لدفنها بشكل لائق، القبور الجماعية، والجثث التي تركت في العراء... إنها لعنة الحرب.
أما الدفن بعيداً عن مسقط الرأس فحدّثي ولا حرج... محظوظ من دفن في مقبرة عائلته بعزاء كامل، والفساد هو جزء من الحرب، لكنه ليس طارئاً، النظام عرف عنه بأنه شجع على الفساد المنظم، والممنهج.
هويات قاتلة
- خلال المسيرة التي تقوم بها السيارة التي تحمل جثة الأب، يواجه الأبناء حواجز طائفية تدقق في الهويات وما تحمل من دلالات دينية أو مذهبية. هل أردت أن تقول إن الهوية تسقط عندما تصبح هوية قاتلة بحسب مقولة أمين معلوف في كتابه «هويات قاتلة»؟
بالتأكيد الهوية الوطنية تسقط حين تحلّ محلها الهويات الضيقة أو القاتلة، وهذه الهويات القاتلة على حدّ تعبير معلوف أصبحت جزءاً أساسياً من هذه الحرب. وهي في الحقيقة استُخدمت أبشع استخدام للتغطية عن وجه الثورة الحقيقية التي فجرها السوريون في الأشهر الأولى من العام 2011. وهذا الاحتماء بالهويات الضيقة.
- لم تكن الحال في سوريا سابقاً تدل بوضوح على أن الهوية السورية ستقع في شرك الكراهية والحقد. هل كانت الطائفية مثل جمر تحت الرماد حتى هبّت ما أن سنح لها انفجار الأحقاد؟
لا أعتقد بأن الطائفية وحتى هذه اللحظة جزء من الحياة السورية، إنها شيء طارئ في ظرف طارئ، وستنتهي مع توقف الحرب وإيجاد حل حقيقي لهذه الكارثة.وما نراه هو جزء من مشهد إعلامي يجري الترويج له لأهداف لا تعني عموم السوريين لا من قريب ولا من بعيد، حتى وإن كانت جزءاً من صراع إقليمي يجري مباركته عالمياً من دول كبرى صاحبة نفوذ، ويلبي احتياجات دول ذات نفوذ إقليمي تريد الحفاظ على أنظمتها ومشروعها الإقليمي.
هذه الصورة الكبرى لن تجدي نفعاً مع السوريين. أما المتطرفون الذين وجدوا في هذه الحرب فضاءً رحباً لأفكارهم، ومن يريد فهم السوريين عليه ألا يتجاهل تاريخها القريب والتعايش المشترك بين كل الأفكار والديانات والطوائف والقوميات والثقافات.
رحلة وداعية
- بينما كنت اقرأ الرواية تخيلت أن تشييع الأب لم يكن إلا رحلة وداعية لسوريا التي سقطت مع سقوط الأب. هل هو تشييع لسوريا حقاً؟
رحلة وداعية لسوريا القديمة بكل رموزها القومية والوطنية والسياسية والاجتماعية، برموز الحزب الحاكم وتاريخه عبر خمسين عاماً الذي طبع البلاد بطابعه، كما هي رحلة وداعية لسوريا القمع المتواصل الذي لم يتوقف، بهذا المعنى من الممكن قراءة دلالات الرواية.
- ما يدفعني الى الكلام عن هذه الرواية هو النتاج المهم الذي تابعناه في المرحلة الأخيرة وبرزت فيه أسماء مهمة كانت وراء صعوده من أمثال: خالد خليفة وفواز حداد وروزا ياسين حسن ومصطفى خليفة ونبيل سليمان وسواهم. كيف تقيّم هذه التجارب الجديدة في سياق الحركة الروائية السورية؟
ما ذكرت من أسماء روائيين وروائيات هم اليوم من أفضل التجارب بالإضافة إلى آخرين لم تذكرهم أمثال سمر يزبك وخليل صويلح وآخرون كثر بدأوا الآن في تلمس مشروعهم الفني وبالتأكيد سنرى بعد سنوات مقبلة لغة وسرد جديدين.
- نرى في رواياتك عامة مشاهد ولغة دراميتين، وفي «الموت عمل شاق» تكثّفت الصورة الدرامية لدرجة بتنا معها نشعر أننا في فيلم سينمائي. ما المثير والحماسي أكثر في الكتابة، المسلسل أم الرواية؟
بالتأكيد بالنسبة لي تبقى كتابة الرواية هي الكتابة الأكثر عمقاً، في الدراما هناك عوامل كثيرة تلعب دور نجاح أو فشل العمل، تعرفين بأن الدراما هي فن جماعي تخضع إلى مقاييس مختلفة يلعب التسويق والرقابة فيها دوراً رئيسياً. بينما الرواية فن أكثر حرية وعمقاً، وأنا ما زلت أميل إلى اعتباره فني الرئيسي الذي يحتاج مني إلى كل وقتي.
رواية ألم جماعي وثّقت هواجس الحب والموت والخوف
تصوّر عائلة خالد خليفة من خلال رواية «الموت عمل شاق» الواقع السوري اليوم، ما بعد الثورة وما بعد بعد الثورة، أي بعدما أصبحت سوريا مقبرة جماعية محظوظ من يحظى فيها بمأتم مهيب، وبعدما سقطت الهوية الوطنية.
على كل حال، الكاتب الجريء الذي رفع صوته ضدّ الظلم والديكتاتورية قبل أن تتلاقح نواة الثورة السورية، اعتاد توثيق المراحل التاريخية المفصلية في حياة هذا البلد وهذا الشعب، من خلال أعماله الأدبية سابقاً كرواية «مديح الكراهية» التي تحدثت عن مرحلة ثمانينيات القرن الماضي والصدام بين الإخوان المسلمين والسلطات وكيف حصلت التغيرات في المجتمع السوري على وقع تلك المرحلة.
إذن خالد خليفة ابن حلب المفجوعة، هو روائي الواقع غير المحسوم، لذا كتب ليس فقط عن الموت الآني، بل الموت المستمرّ باسم الوطن والحزب الواحد، الموت الذي عانى منه السوريون تحت الحكم الجائر. إنها رواية عن الحب والموت والخوف.
زمن وكوابيس
تبدأ الرواية بمشهد درامي محكم وقوي، حيث تجتمع العائلة في السيارة سالكة رحلة دفن جثّة الأب الذي أوصى بدفنه في مسقط رأسه العنابية. حواجز كثيرة سيكون على هذه العائلة اجتيازها على الأرض لتنفيذ وصيّة الأب بدفنه في تراب قريته، وحواجز أخرى نفسيّة بين الأحياء الثلاثة، اجتيازها ليس أقلّ صعوبة.
من الشام «دمشق» إلى العنابيّة هو زمن الرواية أو الكابوس الذي يعيشه أولاد عبداللطيف الثلاثة حسين وبلبل وفاطمة، حيث تلتهب البلاد في نيران الحرب ولا قيمة لحياة أي إنسان فيها.
خلال الرحلة، سنرى استمرار سقوط القتلى طوال الطريق المقسمة بحواجز كثيرة، وكل واحد منها محكوم من جهة مختلفة. هكذا، يصير اسمك المكتوب على هويتك تهمةً قاتلة، عبر طائفية مقنّعة، تنتظر فقط اللحظة المناسبة لتظهر إلى يبدو الألم والأذى قد لحقا بمدن عديدة وهكذا تبدو «س» على هيئة أكثر من 20 بلدة بالمعاناة نفسها: دوما، حرستا، داريا، الزبداني مثالاً، وكلها تقع على المسافة نفسها تقريباً من دمشق ومتشابهات في نواحٍ كثيرة أهمّها الألم المُشترك. هذا الألم الذي بُنيت عليه الرواية، يتصاعد مع تقدّم الرحلة وحيث تتحول الجنازة والجثة الى سلعة لا بد من دفع رسومها كي تمرّ.
ثم يحجز ضابط النظام هويّات الجميع، ف«لن تمر البضاعة من دون رسوم»، وهو ما يُحزن «بلبل وهو يرى كيف تحوّلت جثة أبيه إلى بضاعة «كفحم النرجيلة وصناديق البندورة وأكياس البصل».
إضاءة
خالد خليفة روائي وكاتب سيناريو سوري ولد في حلب 1964 جذبت روايته «مديح الكراهية» اهتمام وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، ووصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى في عام 2008. من مؤلفاته «حارس الخديعة» 1993، و«دفاتر القرباط» 2000، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.