"قومي حقوق الإنسان": غرفة عمليات إعلامية لمتابعة انتخابات الشيوخ 2025    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    جنوب سيناء تستعد لانتخابات الشيوخ ب15 مقرًا و18 لجنة فرعية    انخفاض الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    أوكرانيا تستهدف بنية تحتية روسية في موجة جديدة من الهجمات بالطائرات المسيرة    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    جوردون يتعاطف مع إيزاك: الناس تنسى أنك إنسان في هذا السيناريو    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    هايد بارك ترعى بطولة العالم للاسكواش للناشئين 2025 تحت 19 عامًا    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    قرار عاجل من النيابة بشأن البلوجر "أم سجدة"    مشاجرة دامية بين عاملَي كافتيريتين في سوهاج والمحافظة تُغلق المحلين    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    عمرو دياب يوجه كلمة ل عمرو مصطفى ويشكره خلال حفل العلمين (تفاصيل)    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    "100 يوم صحة" تُقدم أكثر من 26 مليون خدمة مجانية خلال 17 يومًا    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم ب الشرقية    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات لعام 2024-2025    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مدبولي يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات بمجلس الوزراء خلال يوليو 2025    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    ابحث عن طريقة لزيادة دخلك.. توقعات برج الحمل في أغسطس 2025    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    "صحة غزة": شاحنات تحمل أدوية ومستلزمات طبية ستدخل القطاع اليوم عبر منظمة الصحة العالمية    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    وفاة والد معتمد جمال مدرب الزمالك السابق    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" المُحسّنات البديعية " في الرواية العربية: بهارات لتعويض السطحية
نشر في صوت البلد يوم 31 - 08 - 2016

لدى الفنان الهولندي، بيتر بروغل الأكبر لوحة بعنوان «الأعمى يقود الأعمى»، نجد مساحة من التّأمل في حدود الاتباع، وتمثيل حال الرّواية العربية أو الكتابة الروائية المعاصرة التي بدأت أشبه بتبني أنماط من الكتابة التي تفتقد للرؤية، خصوصاً أن الرّواية العربية المعاصرة باتت ضرباً من السّير في دروب الاستجابة لأنظمة التّعبير، من خلال تكريس أنظمة من المضامين السّردية المضمونة التأثير أو الرّائجة، مع قدر ضئيل من الاستجابة لمغامرات فنيّة تتصل بالتشكيل السّردي.
ليس هنالك من نموذج أو وصفة خاصة يمكن أن تجعل من رواية ما متميزة، مع أنّ ثمة محاولات لوضع توصيفات للكتابة الروائية كالتي وضعها إ.م فورستر وكونديرا وكولن ولسون وغيرهم. مع ذلك، ليس هنالك سوى السّعي المحموم للكتابة التي تبحث عن أفقها الخاص والحميمي، وأي ارتهانات للبحث عن إضافات أو وصايا تكفل لرواية ما بأن تكون فعلاً إبداعياً متميزاً لن يكون إلا أقرب إلى حالة اجتراح كارثة بحيث تتحول الرّواية إلى مسخ حقيقي.
ولعل الكتابة العربية على غير نموذج، لم تكن شائعة، وإن وجد البعض منها، غير أن التّأثُّر كان قدراً حتميّا ميّز الرواية العربية من نشأتها إلى يومنا هذا. الروائيون الرّواد كتبوا أعمالهم في ضوء التّأثر بالكتابة الغربية «تقنياً» حيث كانت التّرجمة مدخلاً لتلمس التّشكيل الروائي. القيم والمضامين أكثر قرباً من البيئة العربية التي كانت تخضع لمخاضات معيّنة، لكن منطق المعالجة، والأفكار كان أكثر نضجاً وحقيقية.
الاطّلاع على الأعمال الغربية شكل للروائيين العرب في ذلك الزمن قدراً من التّأمل في كيفية نسج الرّواية كي تكون أقرب إلى الصّدق الفني والموضوعي. التصقت الأعمال الأولى في ذاكرة القرّاء، لناحية تكريس الشّكل الروائي في الأفق المحلي. في ذلك العصر كانت الإشكاليات والقضايا المجتمعية غير محسومة،ثمة بحث عن أفق ما، فضلاً عن أن الاطلاع على الآداب والرّوايات الغربية، سواء أكانت من الأدب الروسي أو الأمريكي والفرنسي والألماني كان محدوداً، خصوصاً من قبل القراء الذين كانت تقتصر معرفتهم على عدد قليل منها. فعملية الترجمة والنشر اتسما بطابع انتقائي؛ فأي نقل، أو تأثر على مستوى المضمون والأسلوب لم يكن ليظهر ويلاحظ من قبل الجمهور. إذا وجد بعض التأثُّر فقد كان يخضع لأفعال من التّأمل والتعديل بهدف الاستجابة للنبض الجديد لعالم غير قريب الصلة بالكتابة الروائية، كما أنه يمكن أن يدخل في طور التأسيس والتأصيل لكتابة روائية عربية. تكمن إشكالية الرّواية المعاصرة بأن جزءاً كبيراً منها ارتهن لفضاءات وأمزجة روائية عالمية، باتت مكشوفة للكل، مثل تلك الرّوايات التي ترتهن للطقس الغرائبي. هذا النوع فشلت الرّواية العربية في إنتاج نماذج أصيلة فيه. ثمة فقط نسخ مكررة من الأجواء العالمية، مع مضامين عربية مُتهالكة، وهذا ينسحب على الطّقوس الروائية التي بحثت عن تشكيلات لعوالم السّحرية الواقعية. وكذلك، الرّوايات التي بحثت عن عوالم بوليسية وفضاءات الأديرة والكنائس، أو في اختبار الموروث التاريخي والديني العربي.
يلاحظ أن كل ما سبق كان للأسف ظاهر التّأثُّر، وضحل المعالجة، ويمثل دلالة على عقم المخيلة العربية في اصطياد خصوصية بلداننا. لا شك في أن أعمال كل من دان بروان وإيكو وماركيز وكويلو كانت الأكثر تأثيراً في تشكيل الرواية المعاصرة التي استهلكت الجهد القرائي للقراء العرب، الذين سرعان ما يواجهون أجواء اختبروها في روايات عالمية. وبذلك، فلا إضافات حقيقية مما يصيب القارئ العربي بالإحباط، ولربما العزوف عن قراءة الرواية التي تبدو في حلقة من حلقات النسخ والتكرار لمواصفات الرّوايات العالمية الناجحة التي يطلع عليها غالباً بعض الروائيين، مترجمة أو بلغاتها الأصلية، متناسين أن القارئ أصبح قادراً على الاطلاع على هذه الروايات من خلال الترجمة أيضاً، أو من خلال قراءتها في لغاتها الأم.
لقد باتت الكتابة الروائية العربية المعاصرة تستجيب لما يمكن أن نستعيره اصطلاحياً من الموروث الشّعري العربي بالمحسنات البديعية التي تستهدف تحقيق قدر من القيم الجمالية للإبداع والتفرد في الصّوغ الشعري. في السّياق السّردي ظهر ما يمكن أن نطلق عليه المحسنات السّردية أو الرّوائية، فالروائي المعاصر محاصر بعالم عربي محدود الحرية، ولهذا سعى إلى توفير عدد من المحسنات السّردية، التي تتبدى عبر توفير قدر غير قليل من الوصف الحسي القائم على الجنس، الذي يبرز كحالة لتضمين الرّواية قدراً من الإثارة القرائية والرغبة في الاستهلاك لأجواء محفّزة لاستكمال القراءة. هذا المحسن لم يكن ليضيف شيئا في نسيج الرواية على مستوى المضمون أو الشّكل، هو بهارات كتابية.
وهذا ينسحب حتى على الاستراتيجيات والتشكيل السردي الذي يسعى إلى توفير حبكات سردية بوليسية ساذجة، أو اختلاق فضاءات لا تستجيب أو لا تتسق والبيئة العربية. باتت طبيعيةً لدى بعض الروائيين العرب، معادلة الاكتفاء بتوفير نقاشات حول قضايا كالحجاب والإرهاب والهوية والهجرة والأقليات والمرأة والاستعمار والموروث التاريخي لخلق رواية رائجة، وتستدعي الانتباه العالمي من خلال ترجمة منسقة استجابة للحالة وللجو الشائع هذه الأيام. لكن تفتقر هذه الرويات القدرة على الولوج إلى النفس الإنسانية، وتوصيف المجتمعات العربية وتناقضها، وأيضاً للعمق في مناقشة الإشكاليات والأفكار، أو حتى توفيرها.
هناك نهج يبدو مهيمناً على الكتابة العربية، فتوصيف إشكالية المرأة العربية في المجتمع الذكوري مثلاً، يتحقق من خلال تمثيلات تطال المرأة أو تصويرها للثورة على التقاليد المجتمعية عبر إخضاعها لأكبر قدر من الحرية، والتحلل القيمي.
ولعل هذا طرح ساذج لا يبدو قريب الصلة بالقدرة على الاكتناه المعمّق لمثل هذه القضية في الثقافة العربية، وهذا ينسحب على الكثير من الحبكات السّردية التي لا تسعى إلا لإعادة إنتاج مقولات سردية سابقة أو عالمية.
لا شك أن المشكلة لا تتعلق بالمضامين فحسب بمقدار ما تتعلق بالمقاربة السردية، وعدم القدرة على اختلاق متخيل حقيقي وأصيل.
لقد أسهمت الثقافة العربية الرسمية، والعوالم الافتراضية، وتجارية النشر المتاحة في تكريس كتابات لا تمت إلى الإبداع والأصالة بشيء، ما أسهم في توفير قدر غير قليل من الكتابة العربية المتردية التي باتت أقرب إلى كتابة تتصل بتجارب ذاتية لأشخاص يفتقدون للعمق والمعرفة. شاعت كتابات الثرثرة بوصفها أعمالا روائية مهمة، بالإضافة إلى كتابات تهدف إلى ملامسة الشّعور الديني عبر نماذج تصف تجارب السّجن والقمع السياسي لمجموعة دينية ما. ثمة توجهاً للكتابة عن أي شيء، وبأي شيء من النسق اللغوي عبر مجموعة من المفردات التي تكاد تتكرر في أكثر من (300) صفحة من دون الاستجابة لأسلوبية وإيقاع العالم الروائي.
الرّواية العربية في نشأتها على أيدي الرواد والجيل الثاني استطاعت أن تخلق عالما روائيا حقيقياً، وإن كان في بعض الأحيان قلقاً، وينطوي على استنساخ لعوامل ونماذج متعالية، ولكنها مع ذلك كان أقرب إلى التعمق في إشكاليات الذات، وممارسة اكتناه فكري ونفسي واجتماعي عميق للأزمات التي تحيط بالمجتمع.
أما في هذا الزمن، فجزء غير قليل من الكتابة أضحى يخضع لاشتراطات لا تبدو قريبة الصلة بقيم الأفكار وعمقها، علاوة على افتقاد الاحتراف الكتابي القائم على قيم الفن واللغة، ولهذا يسارع إلى اللجوء إلى توفير أكبر قدر من المحسنات والبهارات السّردية، مع أقل قدر من العمق والتشكيل الفني، فقد بات يكفي أن تتمكن من الكتابة بتشكيلها البدائي لتصبح روائياً.
....
كاتب فلسطيني أردني
لدى الفنان الهولندي، بيتر بروغل الأكبر لوحة بعنوان «الأعمى يقود الأعمى»، نجد مساحة من التّأمل في حدود الاتباع، وتمثيل حال الرّواية العربية أو الكتابة الروائية المعاصرة التي بدأت أشبه بتبني أنماط من الكتابة التي تفتقد للرؤية، خصوصاً أن الرّواية العربية المعاصرة باتت ضرباً من السّير في دروب الاستجابة لأنظمة التّعبير، من خلال تكريس أنظمة من المضامين السّردية المضمونة التأثير أو الرّائجة، مع قدر ضئيل من الاستجابة لمغامرات فنيّة تتصل بالتشكيل السّردي.
ليس هنالك من نموذج أو وصفة خاصة يمكن أن تجعل من رواية ما متميزة، مع أنّ ثمة محاولات لوضع توصيفات للكتابة الروائية كالتي وضعها إ.م فورستر وكونديرا وكولن ولسون وغيرهم. مع ذلك، ليس هنالك سوى السّعي المحموم للكتابة التي تبحث عن أفقها الخاص والحميمي، وأي ارتهانات للبحث عن إضافات أو وصايا تكفل لرواية ما بأن تكون فعلاً إبداعياً متميزاً لن يكون إلا أقرب إلى حالة اجتراح كارثة بحيث تتحول الرّواية إلى مسخ حقيقي.
ولعل الكتابة العربية على غير نموذج، لم تكن شائعة، وإن وجد البعض منها، غير أن التّأثُّر كان قدراً حتميّا ميّز الرواية العربية من نشأتها إلى يومنا هذا. الروائيون الرّواد كتبوا أعمالهم في ضوء التّأثر بالكتابة الغربية «تقنياً» حيث كانت التّرجمة مدخلاً لتلمس التّشكيل الروائي. القيم والمضامين أكثر قرباً من البيئة العربية التي كانت تخضع لمخاضات معيّنة، لكن منطق المعالجة، والأفكار كان أكثر نضجاً وحقيقية.
الاطّلاع على الأعمال الغربية شكل للروائيين العرب في ذلك الزمن قدراً من التّأمل في كيفية نسج الرّواية كي تكون أقرب إلى الصّدق الفني والموضوعي. التصقت الأعمال الأولى في ذاكرة القرّاء، لناحية تكريس الشّكل الروائي في الأفق المحلي. في ذلك العصر كانت الإشكاليات والقضايا المجتمعية غير محسومة،ثمة بحث عن أفق ما، فضلاً عن أن الاطلاع على الآداب والرّوايات الغربية، سواء أكانت من الأدب الروسي أو الأمريكي والفرنسي والألماني كان محدوداً، خصوصاً من قبل القراء الذين كانت تقتصر معرفتهم على عدد قليل منها. فعملية الترجمة والنشر اتسما بطابع انتقائي؛ فأي نقل، أو تأثر على مستوى المضمون والأسلوب لم يكن ليظهر ويلاحظ من قبل الجمهور. إذا وجد بعض التأثُّر فقد كان يخضع لأفعال من التّأمل والتعديل بهدف الاستجابة للنبض الجديد لعالم غير قريب الصلة بالكتابة الروائية، كما أنه يمكن أن يدخل في طور التأسيس والتأصيل لكتابة روائية عربية. تكمن إشكالية الرّواية المعاصرة بأن جزءاً كبيراً منها ارتهن لفضاءات وأمزجة روائية عالمية، باتت مكشوفة للكل، مثل تلك الرّوايات التي ترتهن للطقس الغرائبي. هذا النوع فشلت الرّواية العربية في إنتاج نماذج أصيلة فيه. ثمة فقط نسخ مكررة من الأجواء العالمية، مع مضامين عربية مُتهالكة، وهذا ينسحب على الطّقوس الروائية التي بحثت عن تشكيلات لعوالم السّحرية الواقعية. وكذلك، الرّوايات التي بحثت عن عوالم بوليسية وفضاءات الأديرة والكنائس، أو في اختبار الموروث التاريخي والديني العربي.
يلاحظ أن كل ما سبق كان للأسف ظاهر التّأثُّر، وضحل المعالجة، ويمثل دلالة على عقم المخيلة العربية في اصطياد خصوصية بلداننا. لا شك في أن أعمال كل من دان بروان وإيكو وماركيز وكويلو كانت الأكثر تأثيراً في تشكيل الرواية المعاصرة التي استهلكت الجهد القرائي للقراء العرب، الذين سرعان ما يواجهون أجواء اختبروها في روايات عالمية. وبذلك، فلا إضافات حقيقية مما يصيب القارئ العربي بالإحباط، ولربما العزوف عن قراءة الرواية التي تبدو في حلقة من حلقات النسخ والتكرار لمواصفات الرّوايات العالمية الناجحة التي يطلع عليها غالباً بعض الروائيين، مترجمة أو بلغاتها الأصلية، متناسين أن القارئ أصبح قادراً على الاطلاع على هذه الروايات من خلال الترجمة أيضاً، أو من خلال قراءتها في لغاتها الأم.
لقد باتت الكتابة الروائية العربية المعاصرة تستجيب لما يمكن أن نستعيره اصطلاحياً من الموروث الشّعري العربي بالمحسنات البديعية التي تستهدف تحقيق قدر من القيم الجمالية للإبداع والتفرد في الصّوغ الشعري. في السّياق السّردي ظهر ما يمكن أن نطلق عليه المحسنات السّردية أو الرّوائية، فالروائي المعاصر محاصر بعالم عربي محدود الحرية، ولهذا سعى إلى توفير عدد من المحسنات السّردية، التي تتبدى عبر توفير قدر غير قليل من الوصف الحسي القائم على الجنس، الذي يبرز كحالة لتضمين الرّواية قدراً من الإثارة القرائية والرغبة في الاستهلاك لأجواء محفّزة لاستكمال القراءة. هذا المحسن لم يكن ليضيف شيئا في نسيج الرواية على مستوى المضمون أو الشّكل، هو بهارات كتابية.
وهذا ينسحب حتى على الاستراتيجيات والتشكيل السردي الذي يسعى إلى توفير حبكات سردية بوليسية ساذجة، أو اختلاق فضاءات لا تستجيب أو لا تتسق والبيئة العربية. باتت طبيعيةً لدى بعض الروائيين العرب، معادلة الاكتفاء بتوفير نقاشات حول قضايا كالحجاب والإرهاب والهوية والهجرة والأقليات والمرأة والاستعمار والموروث التاريخي لخلق رواية رائجة، وتستدعي الانتباه العالمي من خلال ترجمة منسقة استجابة للحالة وللجو الشائع هذه الأيام. لكن تفتقر هذه الرويات القدرة على الولوج إلى النفس الإنسانية، وتوصيف المجتمعات العربية وتناقضها، وأيضاً للعمق في مناقشة الإشكاليات والأفكار، أو حتى توفيرها.
هناك نهج يبدو مهيمناً على الكتابة العربية، فتوصيف إشكالية المرأة العربية في المجتمع الذكوري مثلاً، يتحقق من خلال تمثيلات تطال المرأة أو تصويرها للثورة على التقاليد المجتمعية عبر إخضاعها لأكبر قدر من الحرية، والتحلل القيمي.
ولعل هذا طرح ساذج لا يبدو قريب الصلة بالقدرة على الاكتناه المعمّق لمثل هذه القضية في الثقافة العربية، وهذا ينسحب على الكثير من الحبكات السّردية التي لا تسعى إلا لإعادة إنتاج مقولات سردية سابقة أو عالمية.
لا شك أن المشكلة لا تتعلق بالمضامين فحسب بمقدار ما تتعلق بالمقاربة السردية، وعدم القدرة على اختلاق متخيل حقيقي وأصيل.
لقد أسهمت الثقافة العربية الرسمية، والعوالم الافتراضية، وتجارية النشر المتاحة في تكريس كتابات لا تمت إلى الإبداع والأصالة بشيء، ما أسهم في توفير قدر غير قليل من الكتابة العربية المتردية التي باتت أقرب إلى كتابة تتصل بتجارب ذاتية لأشخاص يفتقدون للعمق والمعرفة. شاعت كتابات الثرثرة بوصفها أعمالا روائية مهمة، بالإضافة إلى كتابات تهدف إلى ملامسة الشّعور الديني عبر نماذج تصف تجارب السّجن والقمع السياسي لمجموعة دينية ما. ثمة توجهاً للكتابة عن أي شيء، وبأي شيء من النسق اللغوي عبر مجموعة من المفردات التي تكاد تتكرر في أكثر من (300) صفحة من دون الاستجابة لأسلوبية وإيقاع العالم الروائي.
الرّواية العربية في نشأتها على أيدي الرواد والجيل الثاني استطاعت أن تخلق عالما روائيا حقيقياً، وإن كان في بعض الأحيان قلقاً، وينطوي على استنساخ لعوامل ونماذج متعالية، ولكنها مع ذلك كان أقرب إلى التعمق في إشكاليات الذات، وممارسة اكتناه فكري ونفسي واجتماعي عميق للأزمات التي تحيط بالمجتمع.
أما في هذا الزمن، فجزء غير قليل من الكتابة أضحى يخضع لاشتراطات لا تبدو قريبة الصلة بقيم الأفكار وعمقها، علاوة على افتقاد الاحتراف الكتابي القائم على قيم الفن واللغة، ولهذا يسارع إلى اللجوء إلى توفير أكبر قدر من المحسنات والبهارات السّردية، مع أقل قدر من العمق والتشكيل الفني، فقد بات يكفي أن تتمكن من الكتابة بتشكيلها البدائي لتصبح روائياً.
....
كاتب فلسطيني أردني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.