ضبط شخص روج لبيع الأسلحة البيضاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالشرقية    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    استقرار سعر الدينار الأردني أمام الجنيه في البنوك المصرية    وزير البترول يستعرض إصدار قانون تحويل الثروة المعدنية إلى هيئة عامة اقتصادية    سعر الين الياباني مقابل الجنيه اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    البط والأرانب بكام؟.. أسعار الطيور البلدى اليوم فى أسواق الإسكندرية    سرايا القدس تستهدف آلية عسكرية إسرائيلية في نابلس    وزير الخارجية يعقد مشاورات مع وزير العدل والشرطة السويسري    تصعيد قاسٍ في أوكرانيا... مسيّرات وصواريخ "كينجال" ومعارك برّية متواصلة    استبعاد مفاجئ لنجم ريال مدريد من قائمة منتخب إسبانيا    هانيا الحمامي تودع بطولة الصين للاسكواش بعد الخسارة أمام لاعبة اليابان    الداخلية تكرم أبناء شهداء الشرطة المتفوقين دراسيا    صندوق مكافحة الإدمان: تقديم خدمات ل130601 مريض خلال 10 أشهر    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    تأجيل محاكمة المتهمة بتشويه وجه خطيبة طليقها بمصر القديمة ل20 نوفمبر    الخارجية: إنقاذ ثلاثة مصريين في منطقة حدودية بين تركيا واليونان    ربنا يطمنا عليك.. محمد رمضان يساند أحمد سعد بعد حادث السخنة    محمد رمضان ل أحمد سعد: ربنا يقومك بالسلامة يا صاحبي وترجع لحبايبك وجمهورك    الأعلى للثقافة: الحجز المسبق ينظم دخول المتحف الكبير ويضمن تجربة منظمة للزوار    عروض فنية وإبداعية للأطفال في ختام مشروع أهل مصر بالإسماعيلية    التأمين الصحي الشامل: 905 آلاف مواطن من غير القادرين تتولى الدولة دفع اشتراكاتهم بالكامل    الصحة تكشف ركائز تطوير منظومة السياحة العلاجية    كاف يخطر بيراميدز بموعد وحكام مباراة ريفرز النيجيري فى دوري الأبطال    الموسيقار هاني مهنا يتعرض لأزمة صحية    التعليم العالى تقرر إلغاء زيادة رسوم الخدمات لطلاب المعاهد الفنية.. تفاصيل    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    الصحة العالمية: 900 وفاة في غزة بسبب تأخر الإجلاء الطبي    محافظ الجيزة يُطلق المهرجان الرياضي الأول للكيانات الشبابية    التخطيط والتعاون الدولي تقدّم الدعم لإتمام انتخابات مجلس إدارة نادي هليوبوليس الرياضي    لاعب دورتموند يسعى للانتقال للدوري السعودي    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    استمرار رفع درجة الاستعداد القصوي للتعامل مع الطقس الغير مستقر بمطروح    «حكايات من الصين المتطورة: لقاء مع جوان هو» في أيام القاهرة لصناعة السينما| اليوم    «الطفولة والأمومة» يتدخل لإنقاذ طفلة من الاستغلال في التسول بالإسماعيلية    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    تجديد الاعتماد للمركز الدولي للتدريب بتمريض أسيوط من الجمعية الأمريكية للقلب (AHA)    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    نشرة مرور "الفجر".. انتظام مروري بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    الدفاع السورية: تشكيل لجنة تحقيق لتحديد مكان إطلاق الصواريخ على دمشق    مدفعية الاحتلال تقصف شرق مدينة غزة ومسيرة تطلق نيرانها شمال القطاع    الصحة العالمية: «الأرض في العناية المركزة».. وخبير يحذر من التزامن مع اجتماعات كوب 30    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    في غياب الدوليين.. الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة شبيبة القبائل    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلج القاهرة .. بين يقين الحدس وشكوك العقل
نشر في صوت البلد يوم 15 - 07 - 2016

"الكون إنسان كبير".. جملة من رسائل إخوان الصفا هي افتتاحية الكاتبة لنا عبد الرحمن لروايتها الصادرة حديثا عن دار آفاق "ثلج القاهرة"، وتبدو هذه الجملة الافتتاحية تستهدف خيال القارئ لتجذبه بما يتضمنه المعنى من مجاز فلسفي لنوع من الخيال يشبه الواقع كثيراً، ولكن كثيرا من الناس لا يرونه ولايشعرون به فينكرون وجوده. والجملة تستحق التوقف عندها كثيراً لعمقها ومدلولاتها الفلسفية المحفزة للتفكر والداعية للانطلاق من المجاز لتصورات على تلامس مع العالم الصوفي بكل آفاقه المفتوحة، بما في ذلك ارتداد هذا على الواقع.
"ثلج القاهرة" رواية ذات تيمة نادرة لصعوبة الحصول على تفاصيلها التى تشبه نسيجاً من العلاقات الإنسانية المتشابكة ما بين الواقع والخيال فمعظم أحداث الرواية تقع على أرض الغيب حيث جازفت الكاتبة بجرأة الولوج لتلك المنطقة الغامضة من العالم حيث لا قوانين حاكمة بالضرورة ولا وحدة زمن أو معايير متعارف عليها للقياس.
أطلقت الكاتبة خيالها متماهياً مع بعض الحقائق غير المؤكدة عن الحيوات السابقة، وسلكت على صفحات روايتها الرابعة رحلة موغلة فى الخصوصية لتصور المسافة المقطوعة ما بين عالم الواقع وعالم الغيب بلغة رشيقة ومدهشة في بلاغة الدلالة خاصة في حكاية "نورجهان"، إذ رغم الفصول المقتضبة تتضح معالم حكايتها بشكل واضح، رغم أنها تقع في زمن غير موجود، ومكان يتشابه تحديده ولا يمكن الجزم به؛ حيث قام المعمار الأساسي للرواية على حياة "بشرى المنحدرة من أب مصري وأم سورية وتعود إلى مصر مع أمها بعد وفاة الأب بعد حياتها سنوات صباها الأول في دمشق، وفي القاهرة يكون عليها مواجهة الحياة وحيدة بعد موت الأم بأشهر قليلة، لكن وسط هذه الأحداث الواقعية ثمة حكاية أخرى تسير بالتوازي مع واقع بشري، وهي حكاية "الأميرة نورجهان حكمت" تبصرها بشرى في مخيلتها ولا تملك لها تفسيرا، لنقرأ ما يلي: "لم تكن بشرى تحكي عن الحياة الأخرى التي تراها، أو تعيشها، لن يصدقها أحد لو حكت قصة امرأة تشبهها، لكنها لا تعرف من تكون، ولا تتمكن إلا من تلمس حكايتها عن بعد، بلا قدرة على الاقتراب الكافي الذي يضمن معرفة الحقيقة. عبر ظلال الواقع، وفي لحظات خيال ما قبل الإغفاء، تطل في ذاكرتها ساحة بيت كبير، ضخم، من طابقين، توجد في مقدمة البيت مساحة شاسعة مرصوفة برخام أبيض، ويفصلها عن الشارع بوابة رئيسية كبيرة من الحديد المشغول بالنحاس. ترى بشرى في قلب ذاكرتها بنتًا صغيرة، في العاشرة من عمرها، تركض في البستان، تُضفر شعرها في جديلة طويلة خلف ظهرها، تلعب مع فتاة أخرى وصبي، جميعهم كانوا يلعبون الاستغماية خلف شجرة الموز العريضة".
جمعت رواية "ثلج القاهرة" ثلاث حيوات لثلاث شخصيات (بشرى، نورجان، سولاي) وإن بدت حكاية سولاي هي الأقصر ولم تشغل سوى مساحة عابرة في النص. لكن الحيوات الثلاث تجمعهن معاً نفس الروح التى انتقلت عبر الزمن من (سولاي) الراقصة الغجرية إلى (بشرى) رسامة الجرافيك عابرة بجسد الأميرة (نورجهان) الشاعرة وعازفة العود .. كلهن ذوات ملكات وروح واحدة مبدعة.
والرواية تكشف عن تأثر الكاتبة بالفلسفات الشرقية، حيث القدر الأكبر الذي نالته الرواية من خلاصة تلك الثقافات هو ما تعلق بعلوم ما وراء الطبيعة كالتصوف والكارما (الكارما: تعني دورة السبب والنتيجة، وهو قانون التعويض أو الحساب لإعادة التوازن الكوني على أثر الاختلال الذي سببه الفاعل فنتائج اليوم قد تكون في الغد أسباباً وهكذا). وتناسخ الأرواح والذي تعتقد بعض الجماعات والقبائل به، وأيضاً بعض علماء عصرنا الحديث، ورغم هذا يظل موقف النص غامضا ويرتكز على مقاربة الفكرة إبداعيا، ويتم طرح الحيوات السابقة في أفكار البطلة (بشرى) ما بين يقين الحدس وشكوك العقل.
• الثلج والنار
أما "ثلج القاهرة" فهو العنوان الذى أشارت إليه الكاتبة فى أكثر من موضع، ويحضر بدلالاته في الرواية وكان أدقها وأقربها للأحداث هو أن هذا التعبير يرمز إلى "لحظة مفارقة الروح للجسد والتي تجمع المتناقضين، الاحساس بالحياة كوعي لكل ما يدور مصَاحباً بالعجز عن الفعل والحركة"، فالقاهرة في الواقع على عكس الحلم الثلجي ل (بشرى) – وتلك هي المفارقة – عبارة عن قدر كبير يغلي وبداخله الناس، فالحلم المتكرر بالقاهرة التي يغمرها ثلج أبيض و(بشرى) تركض على أرض مغطاة بالبياض ثم تأكل نتفاً من الثلج فتتجمد وتصير تمثالاً ربما للإيحاء ببرودة المشاعر أيضاً والتي كادت تختفي بعد زحف الماديات على كل شيء في المدن والذي بدا أكثر وضوحاً في القاهرة وربما يرمز الثلج لنوع من التطهر كما ذكرت (بشرى) بموضع آخر من الرواية بأن "القاهرة تحتاج لثلج يغطيها تماماً ثلج يوازن الأشياء لتعود لطبيعتها، ثلج يخفف من حرارة الناس ويذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة ليحل مكانها لون أبيض ناصع وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه".
وفقت الكاتبة في اختيار بداية للرواية مكثفة ومباشرة مصاغة بتميز من احترف استخدام اللغة تماماً لتعلن (نورجهان) بلا ألغاز عن نفسها باعتبارها وعي الروح المتنقلة أنها ليست على قيد الحياة وأنها مدفونة ببستان قصر كانت هي آخر من بقي فيه وآخر من رحل عنه، كما وفقت في ختام الرواية بتوضيح سبب إلحاح (نورجهان) على (بشرى) بأنها لا تملك العودة للوراء حيث كانت تسكن جسد الغجرية (سولاي) فقررت أن توجه رسائلها الذهنية والروحية ل (بشرى) لتحثها أن تسير بعمق نحو (الآن) وتبدد عنها الحزن الذى يحجب كل بصيرة عن الغد ويجعلها عاجزة عن التحرك للأمام.
وباستخدام بعض الإلغاز أحياناً يبدو للقارئ أن (بشرى) هى مفتاح تلك الروح من البداية؛ ولكن ما إن يتوغل فى دراما الأحداث المجدولة باحتراف مبدعة حتى يكتشف أن مفتاح تلك الروح هي (نورجهان) التى تمثل الوعى الكامل وحلقة الوصل ما بين (سولاي) الجسد الذي سكنته الروح من زمن بعيد وبين (بشرى) الجسد الذي تسكنه حالياً ويتعذب فوق عذابات حياته الواقعية بعذابات من سكنت أجسادهم من قبل.
نجد في الرواية أيضاً أن الكاتبة لم تكن محايدة في الوصف، فالتفاصيل الدقيقة سمة أساسية وواضحة فلا يفوتها وصف تجعيدة أوخط بوجه أو حتى خيط بثوب وستار نافذة أو ذرة تراب بمكان ويرجع ذلك لمَلكة أنثوية بالأساس وتلك المَلكة كانت فى أحيان أخرى تبدو كقيد عند رسم ملامح وانفعالات الشخوص من الرجال فكانت الكاتبة تتوغل بحذر شديد عند تجسيدها لأحدهم في حين استفاضت بتدقيق الملامح النفسية للشخصيات النسائية لتصبح ثرية ومفعمة بالحياة. وكنت أود لو وزعت الكاتبة موهبتها على شخوص الرواية جميعاً واختصت بذلك شخصية قاتل (نورجهان) ليتضح كشخصية غامضة ولكن بتميُّز أعلى يترك أثراً واضحاً كطعنة قاتل مأجور إذ أنه كان سبباً أساسياً في توالي الأحداث ونقطة ارتكاز لانطلاق الخط الدرامي للرواية، وبدا ذلك أيضاً عندما وظفت الكاتبة الرسائل المتبادلة بين (بشرى) و(صافي) لتنبئ بالقرب الشديد بينهما لدرجة لا تكاد معها التمييز أنهما شخصان لولا توقيع أحدهما على رسالته، حيث اتسمت لغة الرسائل بنعومة الأنثى حتى وإن كان موضوعها ذا طابع فلسفي متأمل فيما وراء الطبيعة.
تتساءل الكاتبة: "هل صحيح ما يرد في النصوص الهندية القديمة عن حقيقة (الكارما) التي تحكم الحياة؟ وهل الكارما قانون قاسٍ لا يرحم أم في أعماقه تفاؤل يشي بعدالة الكون ونظامه؟"
تساؤل فلسفي أعقبته الكاتبة بحكاية قديمة انتهت بأسئلة فلسفية أخرى عن القدر والروح والأجساد وما من إجابات تقيد خيال القارئ؛ بل تتيح له مساحة يستخدم فيها قناعاته الفكرية ورصيد ثقافاته ومعتقداته ليصل لإجابة ذات بصمة خاصة به، وكإسقاط على واقع اجتماعي وسياسي طرحت الكاتبة أيضاً من حين لآخر التساؤلات بأنحاء صفحات الرواية لتضع أطراف أصابعك على طرف للإجابات فإن كان بك شغف للمعرفة فحتماً ستقبض عليها وتنهل منها وكان أشد تساؤلاتها على نفسي حيرة وحزناً لعمقه وغور إجاباته كجرح هو "هل تحتاج المدن إلى النار أو الثلج كي تتطهر؟".
"الكون إنسان كبير".. جملة من رسائل إخوان الصفا هي افتتاحية الكاتبة لنا عبد الرحمن لروايتها الصادرة حديثا عن دار آفاق "ثلج القاهرة"، وتبدو هذه الجملة الافتتاحية تستهدف خيال القارئ لتجذبه بما يتضمنه المعنى من مجاز فلسفي لنوع من الخيال يشبه الواقع كثيراً، ولكن كثيرا من الناس لا يرونه ولايشعرون به فينكرون وجوده. والجملة تستحق التوقف عندها كثيراً لعمقها ومدلولاتها الفلسفية المحفزة للتفكر والداعية للانطلاق من المجاز لتصورات على تلامس مع العالم الصوفي بكل آفاقه المفتوحة، بما في ذلك ارتداد هذا على الواقع.
"ثلج القاهرة" رواية ذات تيمة نادرة لصعوبة الحصول على تفاصيلها التى تشبه نسيجاً من العلاقات الإنسانية المتشابكة ما بين الواقع والخيال فمعظم أحداث الرواية تقع على أرض الغيب حيث جازفت الكاتبة بجرأة الولوج لتلك المنطقة الغامضة من العالم حيث لا قوانين حاكمة بالضرورة ولا وحدة زمن أو معايير متعارف عليها للقياس.
أطلقت الكاتبة خيالها متماهياً مع بعض الحقائق غير المؤكدة عن الحيوات السابقة، وسلكت على صفحات روايتها الرابعة رحلة موغلة فى الخصوصية لتصور المسافة المقطوعة ما بين عالم الواقع وعالم الغيب بلغة رشيقة ومدهشة في بلاغة الدلالة خاصة في حكاية "نورجهان"، إذ رغم الفصول المقتضبة تتضح معالم حكايتها بشكل واضح، رغم أنها تقع في زمن غير موجود، ومكان يتشابه تحديده ولا يمكن الجزم به؛ حيث قام المعمار الأساسي للرواية على حياة "بشرى المنحدرة من أب مصري وأم سورية وتعود إلى مصر مع أمها بعد وفاة الأب بعد حياتها سنوات صباها الأول في دمشق، وفي القاهرة يكون عليها مواجهة الحياة وحيدة بعد موت الأم بأشهر قليلة، لكن وسط هذه الأحداث الواقعية ثمة حكاية أخرى تسير بالتوازي مع واقع بشري، وهي حكاية "الأميرة نورجهان حكمت" تبصرها بشرى في مخيلتها ولا تملك لها تفسيرا، لنقرأ ما يلي: "لم تكن بشرى تحكي عن الحياة الأخرى التي تراها، أو تعيشها، لن يصدقها أحد لو حكت قصة امرأة تشبهها، لكنها لا تعرف من تكون، ولا تتمكن إلا من تلمس حكايتها عن بعد، بلا قدرة على الاقتراب الكافي الذي يضمن معرفة الحقيقة. عبر ظلال الواقع، وفي لحظات خيال ما قبل الإغفاء، تطل في ذاكرتها ساحة بيت كبير، ضخم، من طابقين، توجد في مقدمة البيت مساحة شاسعة مرصوفة برخام أبيض، ويفصلها عن الشارع بوابة رئيسية كبيرة من الحديد المشغول بالنحاس. ترى بشرى في قلب ذاكرتها بنتًا صغيرة، في العاشرة من عمرها، تركض في البستان، تُضفر شعرها في جديلة طويلة خلف ظهرها، تلعب مع فتاة أخرى وصبي، جميعهم كانوا يلعبون الاستغماية خلف شجرة الموز العريضة".
جمعت رواية "ثلج القاهرة" ثلاث حيوات لثلاث شخصيات (بشرى، نورجان، سولاي) وإن بدت حكاية سولاي هي الأقصر ولم تشغل سوى مساحة عابرة في النص. لكن الحيوات الثلاث تجمعهن معاً نفس الروح التى انتقلت عبر الزمن من (سولاي) الراقصة الغجرية إلى (بشرى) رسامة الجرافيك عابرة بجسد الأميرة (نورجهان) الشاعرة وعازفة العود .. كلهن ذوات ملكات وروح واحدة مبدعة.
والرواية تكشف عن تأثر الكاتبة بالفلسفات الشرقية، حيث القدر الأكبر الذي نالته الرواية من خلاصة تلك الثقافات هو ما تعلق بعلوم ما وراء الطبيعة كالتصوف والكارما (الكارما: تعني دورة السبب والنتيجة، وهو قانون التعويض أو الحساب لإعادة التوازن الكوني على أثر الاختلال الذي سببه الفاعل فنتائج اليوم قد تكون في الغد أسباباً وهكذا). وتناسخ الأرواح والذي تعتقد بعض الجماعات والقبائل به، وأيضاً بعض علماء عصرنا الحديث، ورغم هذا يظل موقف النص غامضا ويرتكز على مقاربة الفكرة إبداعيا، ويتم طرح الحيوات السابقة في أفكار البطلة (بشرى) ما بين يقين الحدس وشكوك العقل.
• الثلج والنار
أما "ثلج القاهرة" فهو العنوان الذى أشارت إليه الكاتبة فى أكثر من موضع، ويحضر بدلالاته في الرواية وكان أدقها وأقربها للأحداث هو أن هذا التعبير يرمز إلى "لحظة مفارقة الروح للجسد والتي تجمع المتناقضين، الاحساس بالحياة كوعي لكل ما يدور مصَاحباً بالعجز عن الفعل والحركة"، فالقاهرة في الواقع على عكس الحلم الثلجي ل (بشرى) – وتلك هي المفارقة – عبارة عن قدر كبير يغلي وبداخله الناس، فالحلم المتكرر بالقاهرة التي يغمرها ثلج أبيض و(بشرى) تركض على أرض مغطاة بالبياض ثم تأكل نتفاً من الثلج فتتجمد وتصير تمثالاً ربما للإيحاء ببرودة المشاعر أيضاً والتي كادت تختفي بعد زحف الماديات على كل شيء في المدن والذي بدا أكثر وضوحاً في القاهرة وربما يرمز الثلج لنوع من التطهر كما ذكرت (بشرى) بموضع آخر من الرواية بأن "القاهرة تحتاج لثلج يغطيها تماماً ثلج يوازن الأشياء لتعود لطبيعتها، ثلج يخفف من حرارة الناس ويذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة ليحل مكانها لون أبيض ناصع وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه".
وفقت الكاتبة في اختيار بداية للرواية مكثفة ومباشرة مصاغة بتميز من احترف استخدام اللغة تماماً لتعلن (نورجهان) بلا ألغاز عن نفسها باعتبارها وعي الروح المتنقلة أنها ليست على قيد الحياة وأنها مدفونة ببستان قصر كانت هي آخر من بقي فيه وآخر من رحل عنه، كما وفقت في ختام الرواية بتوضيح سبب إلحاح (نورجهان) على (بشرى) بأنها لا تملك العودة للوراء حيث كانت تسكن جسد الغجرية (سولاي) فقررت أن توجه رسائلها الذهنية والروحية ل (بشرى) لتحثها أن تسير بعمق نحو (الآن) وتبدد عنها الحزن الذى يحجب كل بصيرة عن الغد ويجعلها عاجزة عن التحرك للأمام.
وباستخدام بعض الإلغاز أحياناً يبدو للقارئ أن (بشرى) هى مفتاح تلك الروح من البداية؛ ولكن ما إن يتوغل فى دراما الأحداث المجدولة باحتراف مبدعة حتى يكتشف أن مفتاح تلك الروح هي (نورجهان) التى تمثل الوعى الكامل وحلقة الوصل ما بين (سولاي) الجسد الذي سكنته الروح من زمن بعيد وبين (بشرى) الجسد الذي تسكنه حالياً ويتعذب فوق عذابات حياته الواقعية بعذابات من سكنت أجسادهم من قبل.
نجد في الرواية أيضاً أن الكاتبة لم تكن محايدة في الوصف، فالتفاصيل الدقيقة سمة أساسية وواضحة فلا يفوتها وصف تجعيدة أوخط بوجه أو حتى خيط بثوب وستار نافذة أو ذرة تراب بمكان ويرجع ذلك لمَلكة أنثوية بالأساس وتلك المَلكة كانت فى أحيان أخرى تبدو كقيد عند رسم ملامح وانفعالات الشخوص من الرجال فكانت الكاتبة تتوغل بحذر شديد عند تجسيدها لأحدهم في حين استفاضت بتدقيق الملامح النفسية للشخصيات النسائية لتصبح ثرية ومفعمة بالحياة. وكنت أود لو وزعت الكاتبة موهبتها على شخوص الرواية جميعاً واختصت بذلك شخصية قاتل (نورجهان) ليتضح كشخصية غامضة ولكن بتميُّز أعلى يترك أثراً واضحاً كطعنة قاتل مأجور إذ أنه كان سبباً أساسياً في توالي الأحداث ونقطة ارتكاز لانطلاق الخط الدرامي للرواية، وبدا ذلك أيضاً عندما وظفت الكاتبة الرسائل المتبادلة بين (بشرى) و(صافي) لتنبئ بالقرب الشديد بينهما لدرجة لا تكاد معها التمييز أنهما شخصان لولا توقيع أحدهما على رسالته، حيث اتسمت لغة الرسائل بنعومة الأنثى حتى وإن كان موضوعها ذا طابع فلسفي متأمل فيما وراء الطبيعة.
تتساءل الكاتبة: "هل صحيح ما يرد في النصوص الهندية القديمة عن حقيقة (الكارما) التي تحكم الحياة؟ وهل الكارما قانون قاسٍ لا يرحم أم في أعماقه تفاؤل يشي بعدالة الكون ونظامه؟"
تساؤل فلسفي أعقبته الكاتبة بحكاية قديمة انتهت بأسئلة فلسفية أخرى عن القدر والروح والأجساد وما من إجابات تقيد خيال القارئ؛ بل تتيح له مساحة يستخدم فيها قناعاته الفكرية ورصيد ثقافاته ومعتقداته ليصل لإجابة ذات بصمة خاصة به، وكإسقاط على واقع اجتماعي وسياسي طرحت الكاتبة أيضاً من حين لآخر التساؤلات بأنحاء صفحات الرواية لتضع أطراف أصابعك على طرف للإجابات فإن كان بك شغف للمعرفة فحتماً ستقبض عليها وتنهل منها وكان أشد تساؤلاتها على نفسي حيرة وحزناً لعمقه وغور إجاباته كجرح هو "هل تحتاج المدن إلى النار أو الثلج كي تتطهر؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.