قبل نحو عقدين ونيِّف من الزَّمان، كُنتُ قد أصغيتُ إلى الفنان نبيل البقيلي، يُوضِّحُ بحماسة رؤيويةٍ مُتقدة، مفهومه ل”الفنِّ الرَّقمي”، وذلك في سياق مُحاورة بيننا بشأن المدي الذي يُمكن للثورة الرَّقمية أنْ تبلغه في تثوير كُلٍّ من الإعلام والفن، ولا سيما منهما الصَّحافة والفن التشكيلي. ولم يكن لذاكرتي أنْ تنسى أبداً، في أيّ لحظة أو مناسبة لاحقةٍ أُثير فيهما السؤالُ نفسه، فحوى ما كانَ نبيل قد عرضه من أفكار وتبصُّرات تحوَّلت، في ذاكرتي، إلى عبارات مكثَّفة تُلخِّص رؤيته ومقاصد مسعاه الذَّاهب إلى استثمار ما جاءت به هذه الثورة، وما ستجيء به في مقبل الأيام، من برامج وتطبيقات كمبيوترية ذات صلة بالتصميم الفني والرَّسم وابتكار اللَّوحات التشكيلية، في إنجاز أعمال فنِّية إبداعية فريدة، ومتميِّزة، لأنها تعكس حساسية العصر ونبض الحياة، وتنفتحُ على ثقافة العالم عبر رسوخها العميق في ثقافة هذا الحيِّز أو ذاك من أحياز الكون الذي أُبدعت في رحابه. فضاء تقني في تلك المحاورة، قال نبيل ما خلاصته، ومؤدَّاه، أنّه لا يُمكن للبرامج والتطبيقات الكمبيوترية، مهما بلغ شأنها ومهما قدَّمت من وسائل وأدوات وأساليب أو اقترحت من مُخيِّلات رقمية تحتوي كائنات ماديَّة وثيمات وأشكال متنوِّعة وتنويعات ألوان قد لا تتناهى، أنْ تُهمِّش دور فنَّان مُبْدع، أو تلجم عطاء مخيِّلة إنسانية فريدة يتوافر عليها، ويُفعِّلها، فنانٌ خلَّاق مسكونٌ بطاقات إبداعية يُحفِّزها، ويتحفَّزُ بها، خيالٍ إنسانيٍّ طليق. وفي واقع الحال، وعلى نحو ما بيَّنت تجربة نبيل البقيلي المديدة، والمُجسَّدة في لوحاتٍ فنية تشكيلية فريدة تنتمي إلى الفنِّ الرَّقمي الذي انتمى إليه، منذ بدء البدء، فكان رائداً مرموقاً من رواده الذين شرعوا في فتح الفنِّ التشكيلي على فضاءات تقانيَّة جديدة تثريه إذْ تُسهم في توسيع آفاقه عبر تعزيز قدرته على تجسيد مخيِّلة الفنان، وتمكينه من التقاط شعرية اللحظة وتحويلها إلى “إشارة خالدة” تجسِّدها لوحاتٌ فنية “تتجاوز الحدث” وترسِّخُ دلالاته في الذَّاكرة إذْ تستجيب لحساسية العصر التي تِسٍمُها بميسمها، وترفدها بدفق حياة لا تكفَّ، أبداً، عن الحياة. وعلى الرَّغم من أنَّ فلسفةً للفنِّ الرَّقمي لم تتبلور، في حدود ما أعلم أو أعرف، على الصَّعيد العالمي بعدُ، فإنَّ الأسئلة المتعلِّقة بالثَّورة الرَّقمية، والتقانة الكمبيوترية، لم تكفَّ، ولن تكفَّ أبداً، عن مطالبة الفلسفة بالإجابة عنها، وكأني بهذه الأسئلة تفتحُ الفلسفة على فضاءاتٍ جديدة فيما هي تفتحُ الحياة الإنسانيَّة نفسها، بجميع مجالاتها وأنشطتها وأشواقها، على فضاءاتٍ أوسع وأعلى، وعلى مدارات أرحب وأسمى، وعلى ممكناتٍ عمليَّة تتجاوز نفسها إذْ تُفضي، عبر التَّفعيل والتوظيف المتواتر والمراقبة الدؤوبة لمستويات الأداء، إلى بلورة ممكنات جديدة لا تني تُفضي إلى ممكنات أجدَّ وأوسع! تلك هي ملامحُ بدايات الرؤية الفلسفية للفنِّ الرقمي التي شرعت في التّبلور في عقل ووجدان الفنان نبيل البقيلي منذُ منتصف تسعينات القرن الماضي، فما الذي رأتهُ عينُ هذا المُصمِّم الفني، والفنان التشكيلي، بعد ما يربو على عقدين ونيِّف من الزَّمان من السَّعي الفنِّي الدؤوب لتجسيد تلك الرؤية الفلسفية في لوحات فنية مُبتكرة، واقعاً متجلِّياً في تفاصيل الواقع الذي يعيشه في وطنه لبنان ، والذي يُلامسه، بأمِّ العين، في غير لبنان من بلاد العرب؟ وجوه وكوابيس فما الذي رأتهُ عين الفنان ليملي عنوان هذا الألبوم الذي ستتأمَّلهُ، الآن، عينُ المُشاهد “أحلام رؤية عين“؟ ما الذي رأتهُ هذه العينُ البصيرةُ، والمتبصِّرةُ في ما تلتقطه لتمعن في تأمُّل أعماقه، من “أحلام” أراد صاحبها أنْ يُحيلها إشاراتٍ تشكيليةً يُريد لها أن تكون خالدة في تاريخ الفن؟ لم تكن تلك، في أعمَّها الأغلب، أحلاماً وإنما هي كوابيسُ تقولُ ما اقترفه الإنسانُ بحقِّ أخيه الإنسان من جُرمٍ لن يغفره، أبداً، إنسانٌ لا يزال قابضاً على جمرة إنسانيَّته التي لا يتوخَّى الإرهابُ الأسودُ شيئاً سوى إحالتها إلى محض رمادٍ باردٍ، أو بقايا فكرةٍ مفعمة بالغُبار! فلنتأمَّل لوحات الوجوه المسكونة بآلاف مؤلفة من الوجوه التي فحَّمَتها كوابيس التَّوحش وأحالتها إلى أقنعة صَمَّاء تنبئ بنهاية الإنسان، ولنقرأ في ضوء ما نستنبطهُ من إشاراتها الخرساء والخالدة، في آن معاً، ودلالاتها المنعكسة في مرايا الجحيم البشري، ما تتأمَّله عيوننا المُبصرة، وضمائرنا اليقظة، في جميع اللوحات المؤطَّرة بين غلافي هذا الألبوم، أو لنقل هذا المعرض الفنِّي المُميَّز بوصفه تجربةً تحويل فنيٍّ لواقع كابوسيٍّ تكاد كابوسيّته المُهلكة، ووعودهُ المُستقبلية المتوارية خلف غموض كثيف مفعم بأشواق إنسانيَّة وتطلُّعاتٍ وآمال، أنْ يُعْجزا أخصبَ خيال، مهما كان ملتهباً وطليقاً، عن التقاطهما بجسارة الرؤى وبراعة الفن. …….. ناقد من فلسطين مقيم في براتشسلافا قبل نحو عقدين ونيِّف من الزَّمان، كُنتُ قد أصغيتُ إلى الفنان نبيل البقيلي، يُوضِّحُ بحماسة رؤيويةٍ مُتقدة، مفهومه ل”الفنِّ الرَّقمي”، وذلك في سياق مُحاورة بيننا بشأن المدي الذي يُمكن للثورة الرَّقمية أنْ تبلغه في تثوير كُلٍّ من الإعلام والفن، ولا سيما منهما الصَّحافة والفن التشكيلي. ولم يكن لذاكرتي أنْ تنسى أبداً، في أيّ لحظة أو مناسبة لاحقةٍ أُثير فيهما السؤالُ نفسه، فحوى ما كانَ نبيل قد عرضه من أفكار وتبصُّرات تحوَّلت، في ذاكرتي، إلى عبارات مكثَّفة تُلخِّص رؤيته ومقاصد مسعاه الذَّاهب إلى استثمار ما جاءت به هذه الثورة، وما ستجيء به في مقبل الأيام، من برامج وتطبيقات كمبيوترية ذات صلة بالتصميم الفني والرَّسم وابتكار اللَّوحات التشكيلية، في إنجاز أعمال فنِّية إبداعية فريدة، ومتميِّزة، لأنها تعكس حساسية العصر ونبض الحياة، وتنفتحُ على ثقافة العالم عبر رسوخها العميق في ثقافة هذا الحيِّز أو ذاك من أحياز الكون الذي أُبدعت في رحابه. فضاء تقني في تلك المحاورة، قال نبيل ما خلاصته، ومؤدَّاه، أنّه لا يُمكن للبرامج والتطبيقات الكمبيوترية، مهما بلغ شأنها ومهما قدَّمت من وسائل وأدوات وأساليب أو اقترحت من مُخيِّلات رقمية تحتوي كائنات ماديَّة وثيمات وأشكال متنوِّعة وتنويعات ألوان قد لا تتناهى، أنْ تُهمِّش دور فنَّان مُبْدع، أو تلجم عطاء مخيِّلة إنسانية فريدة يتوافر عليها، ويُفعِّلها، فنانٌ خلَّاق مسكونٌ بطاقات إبداعية يُحفِّزها، ويتحفَّزُ بها، خيالٍ إنسانيٍّ طليق. وفي واقع الحال، وعلى نحو ما بيَّنت تجربة نبيل البقيلي المديدة، والمُجسَّدة في لوحاتٍ فنية تشكيلية فريدة تنتمي إلى الفنِّ الرَّقمي الذي انتمى إليه، منذ بدء البدء، فكان رائداً مرموقاً من رواده الذين شرعوا في فتح الفنِّ التشكيلي على فضاءات تقانيَّة جديدة تثريه إذْ تُسهم في توسيع آفاقه عبر تعزيز قدرته على تجسيد مخيِّلة الفنان، وتمكينه من التقاط شعرية اللحظة وتحويلها إلى “إشارة خالدة” تجسِّدها لوحاتٌ فنية “تتجاوز الحدث” وترسِّخُ دلالاته في الذَّاكرة إذْ تستجيب لحساسية العصر التي تِسٍمُها بميسمها، وترفدها بدفق حياة لا تكفَّ، أبداً، عن الحياة. وعلى الرَّغم من أنَّ فلسفةً للفنِّ الرَّقمي لم تتبلور، في حدود ما أعلم أو أعرف، على الصَّعيد العالمي بعدُ، فإنَّ الأسئلة المتعلِّقة بالثَّورة الرَّقمية، والتقانة الكمبيوترية، لم تكفَّ، ولن تكفَّ أبداً، عن مطالبة الفلسفة بالإجابة عنها، وكأني بهذه الأسئلة تفتحُ الفلسفة على فضاءاتٍ جديدة فيما هي تفتحُ الحياة الإنسانيَّة نفسها، بجميع مجالاتها وأنشطتها وأشواقها، على فضاءاتٍ أوسع وأعلى، وعلى مدارات أرحب وأسمى، وعلى ممكناتٍ عمليَّة تتجاوز نفسها إذْ تُفضي، عبر التَّفعيل والتوظيف المتواتر والمراقبة الدؤوبة لمستويات الأداء، إلى بلورة ممكنات جديدة لا تني تُفضي إلى ممكنات أجدَّ وأوسع! تلك هي ملامحُ بدايات الرؤية الفلسفية للفنِّ الرقمي التي شرعت في التّبلور في عقل ووجدان الفنان نبيل البقيلي منذُ منتصف تسعينات القرن الماضي، فما الذي رأتهُ عينُ هذا المُصمِّم الفني، والفنان التشكيلي، بعد ما يربو على عقدين ونيِّف من الزَّمان من السَّعي الفنِّي الدؤوب لتجسيد تلك الرؤية الفلسفية في لوحات فنية مُبتكرة، واقعاً متجلِّياً في تفاصيل الواقع الذي يعيشه في وطنه لبنان ، والذي يُلامسه، بأمِّ العين، في غير لبنان من بلاد العرب؟ وجوه وكوابيس فما الذي رأتهُ عين الفنان ليملي عنوان هذا الألبوم الذي ستتأمَّلهُ، الآن، عينُ المُشاهد “أحلام رؤية عين“؟ ما الذي رأتهُ هذه العينُ البصيرةُ، والمتبصِّرةُ في ما تلتقطه لتمعن في تأمُّل أعماقه، من “أحلام” أراد صاحبها أنْ يُحيلها إشاراتٍ تشكيليةً يُريد لها أن تكون خالدة في تاريخ الفن؟ لم تكن تلك، في أعمَّها الأغلب، أحلاماً وإنما هي كوابيسُ تقولُ ما اقترفه الإنسانُ بحقِّ أخيه الإنسان من جُرمٍ لن يغفره، أبداً، إنسانٌ لا يزال قابضاً على جمرة إنسانيَّته التي لا يتوخَّى الإرهابُ الأسودُ شيئاً سوى إحالتها إلى محض رمادٍ باردٍ، أو بقايا فكرةٍ مفعمة بالغُبار! فلنتأمَّل لوحات الوجوه المسكونة بآلاف مؤلفة من الوجوه التي فحَّمَتها كوابيس التَّوحش وأحالتها إلى أقنعة صَمَّاء تنبئ بنهاية الإنسان، ولنقرأ في ضوء ما نستنبطهُ من إشاراتها الخرساء والخالدة، في آن معاً، ودلالاتها المنعكسة في مرايا الجحيم البشري، ما تتأمَّله عيوننا المُبصرة، وضمائرنا اليقظة، في جميع اللوحات المؤطَّرة بين غلافي هذا الألبوم، أو لنقل هذا المعرض الفنِّي المُميَّز بوصفه تجربةً تحويل فنيٍّ لواقع كابوسيٍّ تكاد كابوسيّته المُهلكة، ووعودهُ المُستقبلية المتوارية خلف غموض كثيف مفعم بأشواق إنسانيَّة وتطلُّعاتٍ وآمال، أنْ يُعْجزا أخصبَ خيال، مهما كان ملتهباً وطليقاً، عن التقاطهما بجسارة الرؤى وبراعة الفن. …….. ناقد من فلسطين مقيم في براتشسلافا