تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي علوم.. مؤشرات كليات طب الأسنان 2024 بالدرجات    مؤشرات تنسيق كلية التربية 2025 في جميع المحافظات (علمي وأدبي)    تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي رياضة.. مؤشرات كليات الهندسة 2024 بالدرجات    عيار 21 الآن بعد الزيادة الجديدة.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 22 يوليو في الصاغة (تفاصيل)    رئيس وزراء الكويت يستقبل كامل الوزير لبحث التعاون الاستثماري وتوسيع الشراكة الاقتصادية    الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025    يضم 135 سفينة.. بريطانيا تفرض عقوبات جديدة على «أسطول الظل» الروسي    «الكوكى» يعدد مكاسب المصرى بعد ودية الصفاقسى.. وحسم مصير «جاد» عقب العودة من تونس    بعد رحيله عن الأهلي.. أول تعليق من كريم نيدفيد على انتقاله لسيراميكا كيلوباترا    «عصر العبودية انتهى».. مجدي عبدالغني يفتح النار على بتروجت بسبب حامد حمدان    وسام أبو على يعتذر لجمهور الأهلى: النادى منحنى أفضل عام ونصف فى حياتى    جدول امتحانات الدور الثاني 2025 في الجيزة ( صفوف النقل والشهادة الإعدادية)    تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض الهند وقبة حرارية في القاهرة والمحافظات    إصابة 9 أشخاص بحالة إعياء بعد تناولهم وجبة عشاء في فرح ب الدقهلية    جدال سابق يعكر صفو تركيزك.. توقعات برج الحمل اليوم 22 يوليو    تشرب شاي بالياسمين؟.. حكاية أحد أشهر الإفيهات الكوميدية ل عادل إمام    بمشاركة مروان موسى وعفروتو.. أحمد سعد يكشف عن بوسترات «حبيبي ياه ياه»    مصطفى كامل ل"إكسترا نيوز": راغب علامة أكد لي امتثاله لقرار النقابة والحضور لحل المشكلة    التحقيق في وفاة سيدة مسنة إثر سقوطها من الطابق السادس بمستشفى طيبة بإسنا    «مكرونة الزواج».. وصفة بسيطة يطلق عليها «Marry me chicken pasta» (الطريقة والمكونات)    وزير الشباب والرياضة: لا نتدخل في سياسات اتحاد الكرة ونتواصل دائمًا مع محمد صلاح    وزير المجالس النيابية: الرشاوي الانتخابية ممنوعة ومجرمة    البيت الأبيض: ترامب "فوجئ" بالقصف الإسرائيلي لسوريا    مصر ترحب بالبيان الصادر عن 25 دولة حول الوضع بالأراضي الفلسطينية المحتلة    ضبط طفل يقود سيارة ملاكي في الجيزة عقب تداول فيديو الواقعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي    جهود مكثفة لضبط عصابة سرقة ماكينات الري في شبرا النملة وقُرى مجاورة بطنطا    انتشال جثة ونقل مُصاب إثر سقوط سيارة نقل من معدية شرق التفريعة ببورسعيد    النائب العام يزور رئيس هيئة قضايا الدولة لتهنئته بتولّي المنصب الجديد    البحيرة.. ضبط مستودع يبيع 455 أسطوانة غاز في السوق السوداء بكفر الدوار    "تنظيم عمل المؤثرين": توصية رئيسية لدراسة ماجستير للباحث محمود أبو حبيب بجامعة عين شمس    «المالية» تكشف حقيقة إطلاق حزمة حماية اجتماعية جديدة    سقوط سيارة نقل من معدية شرق التفريعة ببورسعيد وجهود لإنقاذ مستقليها    وزير المالية: نستهدف إطلاق وثيقة السياسات الضريبية قبل نهاية 2025    ماذا قال عن بيان الاتحاد الفلسطيني؟.. وسام أبو علي يعتذر لجماهير الأهلي    احتفالية وطنية بمكتبة القاهرة الكبرى تروي مسيرة المجد والاستقلال في عيون أدبائها    نجم الزمالك السابق ينتقد اعتذار وسام أبو علي للأهلي    عمر كمال: استفدنا بشكل كبير من ودية الملعب التونسي.. وجاهزون لتحديات الموسم المقبل    رسميا.. افتتاح وحدة مناظير أورام النساء بمستشفى 15 مايو التخصصي    كريم فؤاد: نسيت الإصابة تماما.. وهذا ما أركز عليه الآن    راغب علامة: منعي من الغناء في مصر قرار قاس.. وواقعة المعجبة عفوية    صور| اتفاقية بين الجامعة الألمانية بالقاهرة وغرفة الصناعة العربية الألمانية لدعم التعليم    الشباب العربى فى العصر الرقمى    ولي عهد الكويت يشيد بحكمة الرئيس السيسي وبالدور المصري الداعم لمختلف القضايا العربية    رئيس هيئة الدواء المصرية يوقّع مذكرة تفاهم مع وكالة تنظيم الأدوية السنغالية    فعالية ثقافية لذوى الهمم بمتحف طنطا    وزير الصحة يتفقد مشروعات تطوير مستشفيي الأورام والتل الكبير بالإسماعيلية    هل أرباح السوشيال ميديا حلال أم حرام؟.. الدكتور أسامة قابيل يجيب    رمضان عبدالمعز: اللسان مفتاح النجاة أو الهلاك يوم القيامة    وزير الخارجية: مصر مستعدة لتطوير تعاونها مع مفوضية الإيكواس في تدريب قوة لمكافحة الإرهاب    هل النية شرط لصحة الوضوء؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ملتقى أزهري يكشف عن مظاهر الإعجاز في حديث القرآن عن الليل والنهار    هل يجوز عمل عقيقة واحدة ل3 أطفال؟.. أمين الفتوى يجيب    أول ولادة لطفل شمعي من الدرجة المتوسطة بمستشفى سنورس المركزي بالفيوم    المعارضة ليس لها مكان…انتخابات مجلس شيوخ السيسي "متفصلة بالمقاس" لعصابة العسكر    تفاصيل اختطاف قوة إسرائيلية لمدير المستشفيات الميدانية في غزة    النفط والضرائب والسوق السوداء.. ثلاثية الحوثيين لإدارة اقتصاد الظل    أوكرانيا: مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين في أحدث الهجمات الروسية    الجيش الإسرائيلي يحرق منازل بمخيم نور شمس ويواصل عمليات الهدم في مخيم طولكرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هاشم شفيق يستحضر أرواح الأشياء
نشر في صوت البلد يوم 20 - 02 - 2016

منذُ ديوانه الأول «قصائد أليفة» الذي أصدره في بغداد عام 1978، بدا هاشم شفيق متمسَّكاً بأرض شعرية تزخر باللقى المطروحة السهلة والممتنعة، ليعلن عن نفسه شاعراً أرضياً، حليفاً للطبيعة، شغوفاً باليومي، قصائده ذات شؤون مرئية، موجزة بصفاء، ومتسمة بالألفة وبساطة التأليف، والعناية بالمألوف، وصولاً إلى دواوينه التي قاربت اليوم العشرين كتاباً شعرياً. اعتنى خلالها بالكتابة عن منسيات وجمادات وأدوات، وصف مِهناً وحِرفاً شتى، محتذياً حذو شعراء يوميين في التراث العربي، وتعضيداً لطريقته ترجم مختارات من شعر ريتسوس، على رغم وجود ترجمات سابقة لهذا الشاعر الأكثر تأثيراً في الشعراء الذين جمعوا بين الاتجاه اليساري سياسياً، والاحتفاء بالعادي شعرياً.
في ديوانه الجديد «كتاب الأشياء» (دار بلومزبري - مؤسسة قطر للنشر) يمعن الشاعر المقيم في لندن في التنسُّك بأرضه الشعرية عبر مصادقة الأشياء المهجورة، في دأب على ترسيخ خصوصيته تلك وإن بشيء من التطرُّف، فعندما يخصَّ الشاعر كلاً من: الجورب والحذاء، ورباط الحذاء، ومغرفة الطعام، وزرّ القميص، والدعسوقة، واليعسوب، بل حتى الطحالب وذروق العصافير! وسواها الكثير، بقصائد كاملة فإنَّ هذه الأغراض النادرة في الشعر الحديث ستبدو لوهلة أمراً يبعث على الاستغراب، ولكن مع تجربة شاعر نعتناها بأنها أرضية، سيغدو الأمر أقلَّ غرابة، فهو يمضي أيامه في التنقيب عن لقى مهملة على قارعة الطريق يمرّ بها الآخرون فيستخفُّون بها، بينما يميل هو إلى الرفق بها وكأنَّ لها أرواحاً يخبرنا عنها بمنتهى الطفولة، مؤكداً أنّ الشاعر يبقى طفلاً عصياً على أن يكبر! إنه أشبه بالطفل المتوحِّد، عبر تلك الشعائرية النمطية المقدَّسة مع ألعابه، بينما يستغرق الشاعر هنا مع أشيائه منقطعاً عن الجميع في عزلة ذهبية!
فهو لا ينفك يذكِّرنا بأنه ما زال، ومنذ أربعة عقود، أميناً لميلاد شاعر «قصائد أليفة» ويربِّيه بعناية فائقة تحيلنا على تلك الجرعات المحدَّدة والمنظمة للحياة، التي ردَّدها السيد بروفروك في قصيدة إليوت: «لقد قستُ حياتي بملاعق القهوة!». إلا أن هاشم شفيق يؤرخ هنا لحياته بمعجم رمزي للأشياء، في كتابة تندرج في سياق فلسفة ما بعد الحداثة، أعني تلك التماثلية والتشابهية التي ألغت الحدود التقليدية بين الأجناس والأنواع، ليس بين المذكَّر والمؤنث، وإنما حتى بين الإنسان والشيء، حيثُ يغدو الشيء اختزالاً للإنسان، ويحلُّ مفهوم الجندر مزاحماً للمفهوم التقليدي للجنس. ومن هنا اهتمامها بكشف الواقع، بعيداً عن موروثات الأدب الرفيع، وبهاء موضوعاته، لتجعل البساطة بديلاً للتعقيد.
وإذا كانت فلسفة ما بعد الحداثة إحدى نتائج الانهيارات السياسية وهزيمة اليسار، فإن الأمر عند الشاعر أشبه بلعبة نَرْد خاسرة في كلّ الأحوال: «لعبْتُ النَّردَ مع الماضي/ فخسرتُ الحاضِر/ ثمَّ لعبتُ مَعَ الحاضِرِ/ فخسرتُ المستقبلَ والأَبْعَد"

تعاويذ من الماضي
تحت وطأة هذه الخسارات المتعددة الأبعاد، يلجأ الشاعر إلى تشييد تاريخ شخصي آخر من خلال الأشياء. فالأحداث والتحولات الكبرى تتراجع لمصلحة منعطفات تخلقها التفاصيل والأشياء بتلك القوَّة الغامضة الكامنة في العاديَّات، وبينما يبدو في الظاهر أنه يكتب سيرتها، فإنها، في الجوهر، حشود من الرموز الصغيرة تحيط به بدل البشر لتصبح أشخاصاً في سيرته الشخصية وتمدُّه بالتفاصيل الدقيقة. يقول في قصيدة «منشار»: كنتُ صَغِيراً وأحبُّ صَدَى الْمِنْشَارِ الذاهب في الأخشاب/ أمَّا الآنَ/ حليفُ الظلِّ أنا حَليفُ الشَّجَرات» هذا الانحياز لتاريخ الأشياء، والانقطاع البيِّن للشاعر عن الإنسان، لا يعني أن شاعر «أقمار منزلية» يكتب أدباً شيئياً، لكنه يستحضر تلك الأشياء كما لو انه درويش روحاني يستحضر أرواح الموتى ليندب من خلالها ماضياً مضى، مستعيداً تلك الطقوس الأسطورية السومرية التي كانت تهتمُّ بدفن المتعلقات الشخصية للميت إلى جانبه في القبر، لأنه سيحتاج إليها في رحلته نحو العالم الآخر! فالعالمان ليسا منفصلين، لكنّ صاحب «نوافذنا نوافذهم» يعيد إحياءها في عالمه الآخر: المنفى ليحتفي بها ويحتمي بديمومتها في الذاكرة وهو يرفعها تعويذةً ضد النسيان، لهذا كان المعجم الشيئي لدى شاعرنا أكثر من مجرد تعاريف للمبهمات والنكرات اللفظية، بل لاستنطاق الرمز الكامن في تلك الجمادات، فيوغل في تبجيلها وينفخ فيها الروح بل يؤسطرها أحياناً، وقد يتطرف في منحها سحراً غامضاً إلى حد أن يجعلها طواطم شخصية لعالمه، ليتدرج معها في رواية سيرته مؤرخاً لها بتعاقبية صورها ورموزها في حياته، فالطفولة دولاب هواء: «كنَّا أطفالاً في دُولابٍ خَشَبِيِّ نَتَطاير». وكذا الحال مع «خرز اللعب الملوَّنة» و«الطاحونة» و«البالونات» وحتى «الرضَّاعة»: «حينَ أكونُ غَداً طِفْلاً، لنْ أستخدِمَ رضاعاتِ حليبٍ/ بلْ ألجأُ في الأغساقِ إلى حَلَماتِ غُيومٍ/».
هذه الميول الفيتيشية نحو الطبيعة، في معادل دلالي مع الأنثى تعززها فيتيشية أخرى نحو الأشياء: «هذا كيسٌ ورقيٌّ/ فيهِ تفَّاحٌ وأجاصٌ أتشمَّمُه/ في الحالِ أراني/ أتمشَّى في غاباتٍ تتعسَّل»، على أن هذه النزعة هي امتدادٌ يمكن إحالته على ما قرأناه من تجارب سابقة للشاعر، وبخاصة في ديوانه «غزل عربي». فحين يتكلَّف الشاعر بمغازلة المرأة، لا من خلال جسدها، وصورتها، والمحتجب من كيانها، بل عبر زينتها وبلاغة تبرُّجها، وهي الفحوى الأساسية في تلك المجموعة، فإنه يشير إلى نزعة فيتيشية ذكورية، وتوثين رمزي للجسد، أكثر مما يؤكد رومنطيقية تقليدية.
إضافة إلى الطفولة، ثمة أشياء أخرى يؤرخ بها للمراهقة حيث سترة مثقوبة الجيوب، تصبح بيتاً! والبنطلون الممزَّق الذي يصف فتوقه بالجروح، والكُرَة التي أصبحت لعبة القتلة، والقُوري «إبريق الشاي» يستخدمه بلهجته المحلية لأنها أكثر التصاقاً بالطفولة وبالذكرى ف: «الشايُ أبٌ رمزيٌّ للناسِ بِبلدِتِنا». وهكذا فهي ليست حياة الأشياء وحدها، وإنما حياته هو أيضاً مكتوبة حتَّى بمطرقة الحدَّاد: «عندَ أخي حدَّاداً كنتُ/ وحجمي كانَ بِحجْمِ السنْدَان»، وصولاً إلى الشباب حيث: الطبل في التظاهرات، والقناع في الاحتفالات، والحزام عندما كان جزءاً من الأناقة، حتى يصل إلى مقتنيات الكهولة: العدسة، الفنجان، المعطف، المصعد.
لكنّ طفولة الحواس لا تغيب في أي من تلك المراحل التي يؤرخ لها بالأشياء، فهذه المرئيات الصغيرة يزجُّها في مهمَّات كبرى. ف «الصابونة» يريد أن يغسل بها صدأ الهلال في السماء والدم في الأرض، والمسمار لتصليب الحياة وتعليق صورة الذكرى، أما الممحاة، فليمحي بها كل ما حوله لكي يبقى وحيداً! في أقصى تعبير ممكن عن الفن البدائي للإنسان القديم المذعور مما حوله، كما أن لهذه الأشياء قوة على الإيذاء وربما الافتراس كملقط الغسيل، الذي ينهش كتف القميص.

بين الصناعة والبداهة
وفي المسافة الصعبة ببين المعاني المطروحة في الطريق، على رأي الجاحظ، والمعنى الآخر للمعنى حيث الشعر في جانبه الفنِّي مجاز واستعارة وكناية وتشبيه، ينجح شاعر ديوان «على الطريق» ببلاغة الحواس في اجتياز الاختبار الصعب بين الصناعة والبداهة، بين غوايات المتاح والمرئي وسهولة العثور عليه، وبين وضعه في المختبر النفسي لتنقيته وتطهيره وخلق مادة أخرى منه، وهكذا يصبح الشاعر الرائي مع هاشم مرتبطاً بالرؤية البصرية الحسية، لا بالرؤيا التنبؤية الحدسية، بمعنى أنه يرى حقيقة يختفي خلفها المجاز، وليس مجازاً متناسلاً عن مجاز آخر. وهو بهذا شاعرُ تَبْيِينٍ أكثر منه شاعر بيانٍ بلاغي، لذا من الصعب البحث عن قصيدة طويلة في أجوائه الشعرية تلك، فهو لا يديم النظر للسماء ولا للبعيد، بل للمهمل والعادي المحذوف، لهذا يشكر رباط الحذاء لأنه يجعله ينحني ويرى الأرض وما تحتها! وربما يركع لالتقاط «البراغي» من التراب ككنوز مدفونة، بينما لا يرى في العَلَم الذي يرفرف في الأعالي سوى رمز قبيح للحروب والعساكر والانقلابات. هو شعر مديح وهجاء من خلال الأشياء، فالشاعر يمدح خفَّة الفلِّين ويتمنَّى لو كانت بلاده فلِّينةً ليحملها بعناءٍ أقل.
لا تتأتى أهمية قصائد «كتاب الأشياء» من براعة جملتها الشعرية وعلاقات مفرداتها الداخلية والبلاغية التي لا تفصح عن شغل بياني، بل من القدرة على التقاط الشاعر لموضوعه الشخصي، من حكاية قديمة ومطروحة. هي حكاية علاقة الإنسان، بل حواسه بالأشياء، بلغة صافية الإيجاز تشفُّ عن مكنونها، وتفصح عن مظانها، بعناية وتدبير واضحين يجعلانها تندرج في سياق بلاغة السهل الممتع وليس الممتنع فحسب. أنها قصائد الحواس النشطة، حيث تتداخل فيها العناصر في شكل لافت.
منذُ ديوانه الأول «قصائد أليفة» الذي أصدره في بغداد عام 1978، بدا هاشم شفيق متمسَّكاً بأرض شعرية تزخر باللقى المطروحة السهلة والممتنعة، ليعلن عن نفسه شاعراً أرضياً، حليفاً للطبيعة، شغوفاً باليومي، قصائده ذات شؤون مرئية، موجزة بصفاء، ومتسمة بالألفة وبساطة التأليف، والعناية بالمألوف، وصولاً إلى دواوينه التي قاربت اليوم العشرين كتاباً شعرياً. اعتنى خلالها بالكتابة عن منسيات وجمادات وأدوات، وصف مِهناً وحِرفاً شتى، محتذياً حذو شعراء يوميين في التراث العربي، وتعضيداً لطريقته ترجم مختارات من شعر ريتسوس، على رغم وجود ترجمات سابقة لهذا الشاعر الأكثر تأثيراً في الشعراء الذين جمعوا بين الاتجاه اليساري سياسياً، والاحتفاء بالعادي شعرياً.
في ديوانه الجديد «كتاب الأشياء» (دار بلومزبري - مؤسسة قطر للنشر) يمعن الشاعر المقيم في لندن في التنسُّك بأرضه الشعرية عبر مصادقة الأشياء المهجورة، في دأب على ترسيخ خصوصيته تلك وإن بشيء من التطرُّف، فعندما يخصَّ الشاعر كلاً من: الجورب والحذاء، ورباط الحذاء، ومغرفة الطعام، وزرّ القميص، والدعسوقة، واليعسوب، بل حتى الطحالب وذروق العصافير! وسواها الكثير، بقصائد كاملة فإنَّ هذه الأغراض النادرة في الشعر الحديث ستبدو لوهلة أمراً يبعث على الاستغراب، ولكن مع تجربة شاعر نعتناها بأنها أرضية، سيغدو الأمر أقلَّ غرابة، فهو يمضي أيامه في التنقيب عن لقى مهملة على قارعة الطريق يمرّ بها الآخرون فيستخفُّون بها، بينما يميل هو إلى الرفق بها وكأنَّ لها أرواحاً يخبرنا عنها بمنتهى الطفولة، مؤكداً أنّ الشاعر يبقى طفلاً عصياً على أن يكبر! إنه أشبه بالطفل المتوحِّد، عبر تلك الشعائرية النمطية المقدَّسة مع ألعابه، بينما يستغرق الشاعر هنا مع أشيائه منقطعاً عن الجميع في عزلة ذهبية!
فهو لا ينفك يذكِّرنا بأنه ما زال، ومنذ أربعة عقود، أميناً لميلاد شاعر «قصائد أليفة» ويربِّيه بعناية فائقة تحيلنا على تلك الجرعات المحدَّدة والمنظمة للحياة، التي ردَّدها السيد بروفروك في قصيدة إليوت: «لقد قستُ حياتي بملاعق القهوة!». إلا أن هاشم شفيق يؤرخ هنا لحياته بمعجم رمزي للأشياء، في كتابة تندرج في سياق فلسفة ما بعد الحداثة، أعني تلك التماثلية والتشابهية التي ألغت الحدود التقليدية بين الأجناس والأنواع، ليس بين المذكَّر والمؤنث، وإنما حتى بين الإنسان والشيء، حيثُ يغدو الشيء اختزالاً للإنسان، ويحلُّ مفهوم الجندر مزاحماً للمفهوم التقليدي للجنس. ومن هنا اهتمامها بكشف الواقع، بعيداً عن موروثات الأدب الرفيع، وبهاء موضوعاته، لتجعل البساطة بديلاً للتعقيد.
وإذا كانت فلسفة ما بعد الحداثة إحدى نتائج الانهيارات السياسية وهزيمة اليسار، فإن الأمر عند الشاعر أشبه بلعبة نَرْد خاسرة في كلّ الأحوال: «لعبْتُ النَّردَ مع الماضي/ فخسرتُ الحاضِر/ ثمَّ لعبتُ مَعَ الحاضِرِ/ فخسرتُ المستقبلَ والأَبْعَد"

تعاويذ من الماضي
تحت وطأة هذه الخسارات المتعددة الأبعاد، يلجأ الشاعر إلى تشييد تاريخ شخصي آخر من خلال الأشياء. فالأحداث والتحولات الكبرى تتراجع لمصلحة منعطفات تخلقها التفاصيل والأشياء بتلك القوَّة الغامضة الكامنة في العاديَّات، وبينما يبدو في الظاهر أنه يكتب سيرتها، فإنها، في الجوهر، حشود من الرموز الصغيرة تحيط به بدل البشر لتصبح أشخاصاً في سيرته الشخصية وتمدُّه بالتفاصيل الدقيقة. يقول في قصيدة «منشار»: كنتُ صَغِيراً وأحبُّ صَدَى الْمِنْشَارِ الذاهب في الأخشاب/ أمَّا الآنَ/ حليفُ الظلِّ أنا حَليفُ الشَّجَرات» هذا الانحياز لتاريخ الأشياء، والانقطاع البيِّن للشاعر عن الإنسان، لا يعني أن شاعر «أقمار منزلية» يكتب أدباً شيئياً، لكنه يستحضر تلك الأشياء كما لو انه درويش روحاني يستحضر أرواح الموتى ليندب من خلالها ماضياً مضى، مستعيداً تلك الطقوس الأسطورية السومرية التي كانت تهتمُّ بدفن المتعلقات الشخصية للميت إلى جانبه في القبر، لأنه سيحتاج إليها في رحلته نحو العالم الآخر! فالعالمان ليسا منفصلين، لكنّ صاحب «نوافذنا نوافذهم» يعيد إحياءها في عالمه الآخر: المنفى ليحتفي بها ويحتمي بديمومتها في الذاكرة وهو يرفعها تعويذةً ضد النسيان، لهذا كان المعجم الشيئي لدى شاعرنا أكثر من مجرد تعاريف للمبهمات والنكرات اللفظية، بل لاستنطاق الرمز الكامن في تلك الجمادات، فيوغل في تبجيلها وينفخ فيها الروح بل يؤسطرها أحياناً، وقد يتطرف في منحها سحراً غامضاً إلى حد أن يجعلها طواطم شخصية لعالمه، ليتدرج معها في رواية سيرته مؤرخاً لها بتعاقبية صورها ورموزها في حياته، فالطفولة دولاب هواء: «كنَّا أطفالاً في دُولابٍ خَشَبِيِّ نَتَطاير». وكذا الحال مع «خرز اللعب الملوَّنة» و«الطاحونة» و«البالونات» وحتى «الرضَّاعة»: «حينَ أكونُ غَداً طِفْلاً، لنْ أستخدِمَ رضاعاتِ حليبٍ/ بلْ ألجأُ في الأغساقِ إلى حَلَماتِ غُيومٍ/».
هذه الميول الفيتيشية نحو الطبيعة، في معادل دلالي مع الأنثى تعززها فيتيشية أخرى نحو الأشياء: «هذا كيسٌ ورقيٌّ/ فيهِ تفَّاحٌ وأجاصٌ أتشمَّمُه/ في الحالِ أراني/ أتمشَّى في غاباتٍ تتعسَّل»، على أن هذه النزعة هي امتدادٌ يمكن إحالته على ما قرأناه من تجارب سابقة للشاعر، وبخاصة في ديوانه «غزل عربي». فحين يتكلَّف الشاعر بمغازلة المرأة، لا من خلال جسدها، وصورتها، والمحتجب من كيانها، بل عبر زينتها وبلاغة تبرُّجها، وهي الفحوى الأساسية في تلك المجموعة، فإنه يشير إلى نزعة فيتيشية ذكورية، وتوثين رمزي للجسد، أكثر مما يؤكد رومنطيقية تقليدية.
إضافة إلى الطفولة، ثمة أشياء أخرى يؤرخ بها للمراهقة حيث سترة مثقوبة الجيوب، تصبح بيتاً! والبنطلون الممزَّق الذي يصف فتوقه بالجروح، والكُرَة التي أصبحت لعبة القتلة، والقُوري «إبريق الشاي» يستخدمه بلهجته المحلية لأنها أكثر التصاقاً بالطفولة وبالذكرى ف: «الشايُ أبٌ رمزيٌّ للناسِ بِبلدِتِنا». وهكذا فهي ليست حياة الأشياء وحدها، وإنما حياته هو أيضاً مكتوبة حتَّى بمطرقة الحدَّاد: «عندَ أخي حدَّاداً كنتُ/ وحجمي كانَ بِحجْمِ السنْدَان»، وصولاً إلى الشباب حيث: الطبل في التظاهرات، والقناع في الاحتفالات، والحزام عندما كان جزءاً من الأناقة، حتى يصل إلى مقتنيات الكهولة: العدسة، الفنجان، المعطف، المصعد.
لكنّ طفولة الحواس لا تغيب في أي من تلك المراحل التي يؤرخ لها بالأشياء، فهذه المرئيات الصغيرة يزجُّها في مهمَّات كبرى. ف «الصابونة» يريد أن يغسل بها صدأ الهلال في السماء والدم في الأرض، والمسمار لتصليب الحياة وتعليق صورة الذكرى، أما الممحاة، فليمحي بها كل ما حوله لكي يبقى وحيداً! في أقصى تعبير ممكن عن الفن البدائي للإنسان القديم المذعور مما حوله، كما أن لهذه الأشياء قوة على الإيذاء وربما الافتراس كملقط الغسيل، الذي ينهش كتف القميص.

بين الصناعة والبداهة
وفي المسافة الصعبة ببين المعاني المطروحة في الطريق، على رأي الجاحظ، والمعنى الآخر للمعنى حيث الشعر في جانبه الفنِّي مجاز واستعارة وكناية وتشبيه، ينجح شاعر ديوان «على الطريق» ببلاغة الحواس في اجتياز الاختبار الصعب بين الصناعة والبداهة، بين غوايات المتاح والمرئي وسهولة العثور عليه، وبين وضعه في المختبر النفسي لتنقيته وتطهيره وخلق مادة أخرى منه، وهكذا يصبح الشاعر الرائي مع هاشم مرتبطاً بالرؤية البصرية الحسية، لا بالرؤيا التنبؤية الحدسية، بمعنى أنه يرى حقيقة يختفي خلفها المجاز، وليس مجازاً متناسلاً عن مجاز آخر. وهو بهذا شاعرُ تَبْيِينٍ أكثر منه شاعر بيانٍ بلاغي، لذا من الصعب البحث عن قصيدة طويلة في أجوائه الشعرية تلك، فهو لا يديم النظر للسماء ولا للبعيد، بل للمهمل والعادي المحذوف، لهذا يشكر رباط الحذاء لأنه يجعله ينحني ويرى الأرض وما تحتها! وربما يركع لالتقاط «البراغي» من التراب ككنوز مدفونة، بينما لا يرى في العَلَم الذي يرفرف في الأعالي سوى رمز قبيح للحروب والعساكر والانقلابات. هو شعر مديح وهجاء من خلال الأشياء، فالشاعر يمدح خفَّة الفلِّين ويتمنَّى لو كانت بلاده فلِّينةً ليحملها بعناءٍ أقل.
لا تتأتى أهمية قصائد «كتاب الأشياء» من براعة جملتها الشعرية وعلاقات مفرداتها الداخلية والبلاغية التي لا تفصح عن شغل بياني، بل من القدرة على التقاط الشاعر لموضوعه الشخصي، من حكاية قديمة ومطروحة. هي حكاية علاقة الإنسان، بل حواسه بالأشياء، بلغة صافية الإيجاز تشفُّ عن مكنونها، وتفصح عن مظانها، بعناية وتدبير واضحين يجعلانها تندرج في سياق بلاغة السهل الممتع وليس الممتنع فحسب. أنها قصائد الحواس النشطة، حيث تتداخل فيها العناصر في شكل لافت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.